علو الهمة [11]


الحلقة مفرغة

العلم أشرف من المال

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد انتهينا من الكلام في علو همة السلف ومن تبعهم من الخلف في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونتكلم اليوم في علو همة السلف الصالح في طلب العلم.

العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأنفع ما كتبه واقتناه الكاتب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لـكميل بن زياد : احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، يعني العمل يزيده وينميه، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وفنائه.

وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.

الحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مزية وكرامة من الله سبحانه وتعالى هو حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، وليس مقصودنا هنا: أن نتكلم في فضائل العلم أو في الحث على العلم، فذاك حديث كثر فيه الكلام والتصوير؛ إنما مقصودنا: لفت الأنظار إلى القوة العملية، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا فخدموا الدين ونشروا العلم.

كلام ابن الجوزي في الحث على طلب العلم

يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: تأملت عجباً وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، يعني: أن الراحة لا تنال بالراحة، وإنما الراحة تنال على جسر من التعب، فكلما ازداد خطر الشيء وقيمته ووزنه كلما صعب الحصول عليه وتناوله.

يقول: فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة.

لا شك أن العلم أشرف ما يحصل عليه الإنسان، وأشرف مأرب يتطلع إلى تحصيله، فبالتالي لا يمكن أن ينال إلا بأشد التعب والجهد والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس، والهريسة في اصطلاح السلف ليست الهريسة بالمصطلح المصري، وهي هذه الحلويات، وإنما كانت الهريسة عبارة عن أكل فيه توابل كثيرة جداً. هذا معنى الهريسة عندهم.

فما استطاع هذا الطالب أبداً خلال سنوات طويلة أن يضحي بلحظة أو ساعة أو وقت من الدرس في سبيل أن يحصل هذه الشهوة! قبل ثلاث سنين أو أربع تفاجأت أن الشوارع خاوية، وكأنه فرض حضر التجول في المدينة، ثم دخلت المسجد لإلقاء درس تفسير القرآن فوجدت المسجد يكاد يكون خاوياً إلا من عدد قليل جداً من الأخوة، فظننت أنه حصل أمر خطير حتى تغيب طلبة العلم عن مجلس القرآن ومجلس الذكر، ثم علمت أن سبب ذلك مباراة كرة قدم دولية!

فحينما نقارن أحوالنا بأحوال السلف نعرف خطورة الوضع الذي نحن فيه، وبعدنا عن منهج السلف الذي ندعيه ونزعم الانتساب إليه.

كلام ابن القيم في الحث على طلب العلم

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك: فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا فما دام طلبك نفيساً فلابد من أن تبذل ثمناً نفيساً. ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد من أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي، وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر. يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ومن طمحت همته إلى الأمور العالية فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب فحينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا على أنه كان لعباً، على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة). فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم. وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف. أي: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها. فمالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية ولا نفعل ذلك للجنة؟! السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليخص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.

كلام الشافعي وابن هشام في الحث على طلب العلم

يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وقد كان أهل العلم رحمهم الله تعالى يلاقون المصاعب والشدائد في تحصيلهم للعلم.

الإمام ابن هشام النحوي صاحب كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب وقطر الندى وبل الصدى نصح طلبة العلم بالصبر على مشاق العلم والتحصيل، إذ هو شرط في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول رحمه الله:

ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل

ومن لم يذل النفس في طلب العلى يسيراً يعش دهراً طويلاً أخا ذل

فيقطع السفر ويصل الإنسان إلى البلد الذي يسافر إليه بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق، ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده؟!

الجد بالجد والحرمان في الكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل

فعليك يا طالب العلم أن تجد في التحصيل فإن الأمر كما قال ابن الجنيد : ما طلب أحد شيئاً بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كله نال بعضه، فعلى طالب العلم أن يحرص على علو الهمة في طلب العلم.

الغيرة على الوقت أن ينفق في غير فائدة

من خصائص استشعار طالب العلم العالي الهمة: الغيرة على الوقت، فإنه يغار على الوقت، ويمكن أن يضحي بالمال لكن لا يضحي بوقته، ولا يجلس إلا إلى من يستفيد منه، أما جلسات الأنس والسمر والمزاح واللعب واللهو فلا يعرفها طالب العلم الكبير الهمة.

فأبرز خصائص طالب العلم الجاد في طلبه أن يغار على وقته أن يضيع في غير ما يقربه إلى الله، ويحصل فيه العلم، وعنده بجانب الغيرة على الوقت عزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، أي: تمر الأيام ومع ذلك عزمه لا تنال منه الأيام ضعفاً أو فتوراً. إنما يظل كالصارم القاطع الصقيل.

وعنده حرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طائحة، فطالب العلم شره ونهم، وشهيته منتبهة جداً وحريصة جداً على أن يغترف من العلم، يشرب من بحور العلم ولا يروى؛ لأنه يشتاق إلى المزيد، فلا يقنع بحد محدود، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة، كيف لا وقد شغلت نفسه بالحق فأشغلها عن الباطل؟

فأعظم ما يعصم الإنسان من آفات اللسان واللغو والباطل أن يشتغل بالأمور الجادة؛ لأن الإنسان لا يقع في الغيبة والنميمة وهذه الآفات من الجدل والمراء والرياء وغير ذلك إلا نتيجة الفراغ، فإن هذه أعراض مرض الفراغ والبطالة، أما إذا بادر بشغل نفسه بالحق فإنها بذلك تنشغل عن الباطل.

كان حال سلف الأمة في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيبة استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا ما يدهش العقول، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، فهيا نطالع أحوالهم لنقتدي بهديهم، ونسير على سننهم.

يقول الشاعر:

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد

ويقول الآخر في نفس هذا المعنى وهو التشوق إلى مطالعة أحوال وسير السلف الصالح حتى تستنهض الهمم الراقدة:

كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

كلام ابن القيم في الحث على طالب العلم

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك:

فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا

ما دام طلبك نفيساً لابد أن تبذل ثمناً نفيساً.

ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر.

يقول الشاعر:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

ومن طمحت همته إلى الأمور العالية، فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها؛ أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة، هو يجد في الدنيا التعب والمشقة والسهر وهجر الراحة والملذات، ثم إذا به حين يعاين الثمرة في الآخرة يكون حاله- كما قيل:

وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب

فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب

حينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا أنه كان لعباً على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة.

فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.

قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم، وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.

فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح

ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، يعني: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها.

مالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية، ولا نفعل ذلك للجنة؟

السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد انتهينا من الكلام في علو همة السلف ومن تبعهم من الخلف في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونتكلم اليوم في علو همة السلف الصالح في طلب العلم.

العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأنفع ما كتبه واقتناه الكاتب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لـكميل بن زياد : احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، يعني العمل يزيده وينميه، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وفنائه.

وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.

الحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مزية وكرامة من الله سبحانه وتعالى هو حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، وليس مقصودنا هنا: أن نتكلم في فضائل العلم أو في الحث على العلم، فذاك حديث كثر فيه الكلام والتصوير؛ إنما مقصودنا: لفت الأنظار إلى القوة العملية، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا فخدموا الدين ونشروا العلم.

يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: تأملت عجباً وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، يعني: أن الراحة لا تنال بالراحة، وإنما الراحة تنال على جسر من التعب، فكلما ازداد خطر الشيء وقيمته ووزنه كلما صعب الحصول عليه وتناوله.

يقول: فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة.

لا شك أن العلم أشرف ما يحصل عليه الإنسان، وأشرف مأرب يتطلع إلى تحصيله، فبالتالي لا يمكن أن ينال إلا بأشد التعب والجهد والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس، والهريسة في اصطلاح السلف ليست الهريسة بالمصطلح المصري، وهي هذه الحلويات، وإنما كانت الهريسة عبارة عن أكل فيه توابل كثيرة جداً. هذا معنى الهريسة عندهم.

فما استطاع هذا الطالب أبداً خلال سنوات طويلة أن يضحي بلحظة أو ساعة أو وقت من الدرس في سبيل أن يحصل هذه الشهوة! قبل ثلاث سنين أو أربع تفاجأت أن الشوارع خاوية، وكأنه فرض حضر التجول في المدينة، ثم دخلت المسجد لإلقاء درس تفسير القرآن فوجدت المسجد يكاد يكون خاوياً إلا من عدد قليل جداً من الأخوة، فظننت أنه حصل أمر خطير حتى تغيب طلبة العلم عن مجلس القرآن ومجلس الذكر، ثم علمت أن سبب ذلك مباراة كرة قدم دولية!

فحينما نقارن أحوالنا بأحوال السلف نعرف خطورة الوضع الذي نحن فيه، وبعدنا عن منهج السلف الذي ندعيه ونزعم الانتساب إليه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك: فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا فما دام طلبك نفيساً فلابد من أن تبذل ثمناً نفيساً. ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد من أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي، وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر. يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ومن طمحت همته إلى الأمور العالية فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب فحينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا على أنه كان لعباً، على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة). فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم. وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف. أي: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها. فمالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية ولا نفعل ذلك للجنة؟! السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليخص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وقد كان أهل العلم رحمهم الله تعالى يلاقون المصاعب والشدائد في تحصيلهم للعلم.

الإمام ابن هشام النحوي صاحب كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب وقطر الندى وبل الصدى نصح طلبة العلم بالصبر على مشاق العلم والتحصيل، إذ هو شرط في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول رحمه الله:

ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل

ومن لم يذل النفس في طلب العلى يسيراً يعش دهراً طويلاً أخا ذل

فيقطع السفر ويصل الإنسان إلى البلد الذي يسافر إليه بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق، ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده؟!

الجد بالجد والحرمان في الكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل

فعليك يا طالب العلم أن تجد في التحصيل فإن الأمر كما قال ابن الجنيد : ما طلب أحد شيئاً بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كله نال بعضه، فعلى طالب العلم أن يحرص على علو الهمة في طلب العلم.

من خصائص استشعار طالب العلم العالي الهمة: الغيرة على الوقت، فإنه يغار على الوقت، ويمكن أن يضحي بالمال لكن لا يضحي بوقته، ولا يجلس إلا إلى من يستفيد منه، أما جلسات الأنس والسمر والمزاح واللعب واللهو فلا يعرفها طالب العلم الكبير الهمة.

فأبرز خصائص طالب العلم الجاد في طلبه أن يغار على وقته أن يضيع في غير ما يقربه إلى الله، ويحصل فيه العلم، وعنده بجانب الغيرة على الوقت عزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، أي: تمر الأيام ومع ذلك عزمه لا تنال منه الأيام ضعفاً أو فتوراً. إنما يظل كالصارم القاطع الصقيل.

وعنده حرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طائحة، فطالب العلم شره ونهم، وشهيته منتبهة جداً وحريصة جداً على أن يغترف من العلم، يشرب من بحور العلم ولا يروى؛ لأنه يشتاق إلى المزيد، فلا يقنع بحد محدود، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة، كيف لا وقد شغلت نفسه بالحق فأشغلها عن الباطل؟

فأعظم ما يعصم الإنسان من آفات اللسان واللغو والباطل أن يشتغل بالأمور الجادة؛ لأن الإنسان لا يقع في الغيبة والنميمة وهذه الآفات من الجدل والمراء والرياء وغير ذلك إلا نتيجة الفراغ، فإن هذه أعراض مرض الفراغ والبطالة، أما إذا بادر بشغل نفسه بالحق فإنها بذلك تنشغل عن الباطل.

كان حال سلف الأمة في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيبة استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا ما يدهش العقول، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، فهيا نطالع أحوالهم لنقتدي بهديهم، ونسير على سننهم.

يقول الشاعر:

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد

ويقول الآخر في نفس هذا المعنى وهو التشوق إلى مطالعة أحوال وسير السلف الصالح حتى تستنهض الهمم الراقدة:

كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك:

فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا

ما دام طلبك نفيساً لابد أن تبذل ثمناً نفيساً.

ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر.

يقول الشاعر:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

ومن طمحت همته إلى الأمور العالية، فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها؛ أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة، هو يجد في الدنيا التعب والمشقة والسهر وهجر الراحة والملذات، ثم إذا به حين يعاين الثمرة في الآخرة يكون حاله- كما قيل:

وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب

فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب

حينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا أنه كان لعباً على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة.

فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.

قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم، وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.

فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح

ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، يعني: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها.

مالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية، ولا نفعل ذلك للجنة؟

السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2479 استماع
علو الهمة [8] 2441 استماع
علو الهمة [6] 2260 استماع
علو الهمة [7] 2162 استماع
علو الهمة [9] 2043 استماع
علو الهمة [5] 1907 استماع
علو الهمة [16] 1823 استماع
علو الهمة [15] 1791 استماع
علو الهمة [3] 1653 استماع
علو الهمة [17] 1634 استماع