مقاصد سورة يونس
مدة
قراءة المادة :
35 دقائق
.
نور البيان في مقاصد سور القرآن "سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
(10) سورة يونس
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ واحدٌ لا يشاركه غيره، لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريكٌ في الملك، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وخليله، كان بشراً كاملاً كمال البشرية، بلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، ونصح لأمته، وكشفت الله به الغمة عن عباده، وجاهد عليه الصلاة والسلام في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربنا وتسليماته على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة عباد الله، لا زلنا مع سلسلة حديثنا المباركة حول مقاصد سور القرآن الكريم نتعرف من خلالها على سور القرآن سورةً سورة، نتعرف على اسمها، وعلى نزولها، وعلى موضوعاتها، وهدفها، ومناسبتها لما قبلها وما بعدها، وآخر ما كنا معه هو سورة براءة، والتي يقال لها أيضاً سورة التوبة فيما ورد عن السلف رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وبعدها ننتقل بفضل الله تعالى وتوفيقه إلى سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا هو اسم السورة، سماها الله تعالى باسم نبيه يونس الذي هو ذو النون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد اشتركت معها في هذه التسمية أو مثلها ثلاث سورٍ أخرى فبعدها سورة هود، وبعدهما سورة يوسف، وبعدهم سورة إبراهيم، الأربعة كل واحدةٍ باسم نبيٍّ من الأنبياء السابقين على نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل السور الأربعة بدأها الله تعالى بدايةً واحدة، ببعض الحروف الهجائية المفردة ﴿ الر ﴾ [يونس: 1]، فهذه اسمها يونس، وكلمة يونس في اللغة العربية مأخوذة من الوَنَس وهو الأنس وإزالة الوحشة[1]، والسورة تركز على معنى الألوهية والعبودية، ألوهية الله وحده لا شريك له، وعبودية الكل لله وحده لا شريك له، وهذا هو أعظم أُنسٍ يعرفه الإنسان، أو تعيشه الإنسانية حين تصل إلى درجة العبودية لله وحده لا شريك له، حين تتخذ الله إلهاً واحداً ولا تشرك به شيئا، فيحصل لها بذلك أعظم الأُنْس، فكانت هذه التسمية باسم ذلك النبي، كانت هذه التسمية على هذه السورة بهذا المعنى كانت لها دلالةٌ عظيمة ومناسبة كريمة، وقد اختصت وانفردت هذه السورة بذكر خبرٍ عن قوم يونس عليه السلام لم يُذكر في سورة أخرى، وذلك أن يونس عليه السلام حين دعا قومه إلى الإسلام لله فلم يجيبوه من أول مرة، غضب عليهم وذهب مغضباً وتعجل بطلب العذاب، وتركهم وانصرف، فلما دعا وهو نبيٌ استجاب الله دعوته وأنزل العذاب، فلما رأى القوم العذاب لاموا أنفسهم واستحدثوا إيمانهم بالله عز وجل رغم أن يونس تركهم، فكافأهم الله على ذلك بأن رفع عنهم العذاب وكشفه، وأعاد لهم يونس بعد معاتبةٍ لطيفة بين الله وبين يونس، أذن الله أن يُلقى في البحر وأن يبتلعه الحوت، وأن يقضي فترةً في الظلمات، ثم أخرجه الله في الصحراء حيث لفظه الحوت ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145] أي مريض، شفاه الله تعالى وطبَّبه، ثم أعاده إلى قومه وزادهم بركةً وعدداً وكانوا مؤمنين صالحين، ومن الشأن أن من جاءه العذاب بعد رفضه للإيمان لو آمن وقد رأى العذاب أتاه فإن الله لا يقبل منه الإيمان، لأن الوقت قد مر، لكن لما كان يونس قد تعجل العذاب ولم يصبر على قومه كما ينبغي، والقوم راجعوا أنفسهم وآمنوا تاب الله عليهم وعفا عنهم ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ ﴾ [يونس: 98] هكذا يقول الله تعالى في سورة يونس ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98] أي أطال الله في عمرهم ولم يقض عليهم بالعذاب، فكانت هذه خاصية لقوم يونس لأنهم لم يأخذوا فرصتهم كاملة ولا فترتهم بكاملها حيث استعجل لهم العذاب نبي الله يونس عليه السلام، ولذلك كان الله يصبِّر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم كثيراً على كفار قومه وكفرهم وعنادهم وصلفهم وجحودهم، فصبر عليهم عليه الصلاة والسلام ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]، هكذا التزم النبي عليه الصلاة والسلام بأمر الله تبارك وتعالى، فنأخذ من اسم هذه السورة أن الأُنْس العظيم يكون بعبوديتنا لله تبارك وتعالى دون غيره.
أما عن نزول السورة في مكة أو المدينة قبل الهجرة أو بعدها، فإنها في قول جمهور المفسرين سورة مكية، أي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، في الزمان المكي[2]، ولذلك فإن موضوعاتها كموضوعات السور المكية وهي سورٌ كثيرة في القرآن الكريم، إلا أنها تشابهت في الركائز التي تركز عليها، وفي الأساسات التي تؤسسها في النفس البشرية، وفي تصورات البشر، غير أن كل سورة لها شخصيتها في عرض هذه الأسس، وفي تقديم هذه الثوابت، التصوّر الصحيح عن الإله الحق، من هو؟ وكيف نتخذ إلهاً؟ هذا أمرٌ كان قد تاهت فيه عقول البشر وضلت ضلالاً بعيداً، فجاء القرآن في مكة مركّزاً تركيزاً عظيماً على هذا المحور، حتى يبيّنه للناس، فبيّن القرآن في مكة أنّ الله تعالى لا مثيل له، أنّ الله تعالى هو ربّ النعمة كلها ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، إذاً من خلق ويرزق ويحيي ويميت وبيده الأمر كله سبحانه وتعالى هو الجدير بالألوهية دون غيره، هو الجدير بالألوهية والحقيق بالعبادة، ولما لم يكن له مثيلٌ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11] إذاً لا يُتخذ معه إلهٌ آخر، فليعبد وحده لا شريك له، وتلخيص ذلك في قول العبد: لا إله إلا الله، ولها ركنٌ ثانٍ وهو محمدٌ رسول الله، هذا النبي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم الذي لم يجرِّب عليه الناس كذباً قط، لم يكذب على واحدٍ من الناس لا يُعقل أن يكذب على الله بعد ذلك، جاء بعد سنّ الأربعين وأعلن نبوته ورسالته، فكان ولابد من تصديقه فهو الصادق، وكان ولا بد من اتباعه فهو الأمين، لن يخوننا ولن يلبِّس علينا ولن يغرر بنا ولن يفتتنا عن أمرٍ حقٍّ، عليه الصلاة والسلام، فتركز السورة كذلك على هذا المحور الثاني، وكل رسول لابد له من رسالة يبلغها لقومه، ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت القرآن الكريم، وما يشرحه ويفسره من السنة النبوية المطهرة، فكان ولابد أن يؤمن الناس بالقرآن، وأن يعلموا أن هذا هو كلام الله، يبلغه عنه باللفظ وبالنص رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأن السنة النبوية المطهرة هي كذلك وحيٌ من الله ولكنه وحيٌ بالمعنى، يعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه هو وبلفظه هو، فليؤخذ كلامه أيضاً لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فركزت السور النازلة في مكة على هذا الأساس الثالث وهو القرآن والسنة، ووجوب اتباعهما، وأن طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام إنما هي باتباع القرآن والانقياد للسنة المشرفة، وجاء هذا الرسول صلى الله عليه وسلم كالأنبياء والرسل السابقين يحذر الله بهم أقوامهم من شدة يوم القيامة، من وقفة الحساب، من الميزان والصراط، يحذرهم من النار والعذاب، ويبشر من أطاع بالجنة والنعيم في الدنيا والآخرة، لذلك كان ولابد أيضاً من الإيمان والتصديق بالركيزة الرابعة وهي اليوم الآخر.
تناولت السورة - سورة يونس - تناولت هذه الركائز الأربعة كغيرها من السور المكية تناولاً عظيماً وعرضاً جميلاً، تخلّل هذه الركائز الأربعة وكان بينها وبين بعضها حديثٌ عن عظمة الله في خلق هذا الكون، حتى يصدق الناس أنه إله، فقد خلق كذا، وجعل لكم كذا، وصنع لكم كذا، إذاً حقاً هو إله، كما تخللها حديثٌ عن الأمم السابقة الذين كفروا بدين ربهم وخالفوا رسلهم، حتى تعلم الأمة جزاءها إذا خالفت أو إن خالفت رسولها محمداً صلى الله عليه وسلم، وتعلم مكافأتها إذا هي اتبعت نبيها وهدي ربها سبحانه وتعالى، فجاء حديثٌ في السورة عن بعض الأمم السابقة وما وقع لهم من أقدار الله تبارك وتعالى، وسننه التي تمضي دون تخلُّف، وتتحقق في كل أمة بل في كل إنسان.
تخلل ذلك أيضاً حديثٌ عن نعم الله تبارك وتعالى في الدنيا وأن الدنيا وما فيها من نعم إنما هي وسيلة للآخرة، ومرحلةٌ منتهية ليس لها البقاء، ليصحح الله تعالى للناس تصوّرهم عن الدنيا، أنها باقية وأنها دائمة ﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾ [الهمزة: 3] يظن هذا ويزعم هذا، ولكن لا خلود في الدنيا، الدنيا سريعةٌ تمر بسرعة وتنتهي إلى نهاية وينقضي أجلها وتنتهي بالموت، لينتقل الناس إلى الدار الآخرة، فكان في السورة حديثٌ عن الدنيا والحياة فيها وتصوّر الناس عنها، حيث كان تصوّراً خطأً وفهماً سقيماً.
هذه نظرةٌ عامة لموضوعات السورة، أما هدفها فقد برق ولمع ونحن نتكلم عن اسمها، قلنا قبل ذلك - ونعرف دائماً لما بعد ذلك إن شاء الله - إن هدف السورة يعني تلك الجملة التي نلخص فيها السورة، تلك الرسالة القصيرة التي يبعثها الله تعالى من عموم هذه السورة إلى الناس، بهذا الاسم والعنوان المخصوص، بهذه البداية وبهذه النهاية، من خلال اسم السورة ومن خلال بدايتها ونهايتها نستطيع أن نتعرف على هدف السورة، ما هدفها؟ وأهم موضوعٍ فيها؟ اسم السورة يونس - كما عرفنا - وهو من الوَنس والأنس، والأُنْس هو إزالة الوحشة، إنسانٌ خائف فتقف بجواره وتهدهد عليه وتطمئنه، تطمئنه وتشد من أزره؛ لا تخف أنا معك، أنا صاحبك، أنا أخوك، أنا قريبك، أنا معينك، لا تخف أنا وأنت على الحلوة والمرة - كما يقال - فهذه كلمة تنعش قلبه، وتبرق في عينيه بالأمل، فيرى الدنيا حلوةً جميلةً، يرى سنداً يسنده، ومعيناً يعينه، هذا هو الأُنس.
أول السورة يقول الله تبارك وتعالى فيه: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [يونس: 1]، وآخر آيةٍ في السورة يقول الله تعالى فيها ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، إذاً كأن مجمل السورة يقول اتبع آيات الكتاب الحكيم - وهي القرآن - واصبر على ما يصيبك في سبيل ذلك فإن الطريق إلى الجنة صعب، وإن الجنة عروسٌ غالية المهر، فاصبر، اتبع آيات ربك الحكيمة، واصبر على ما يصيبك في طريق ذلك، حتى يحكم الله وسيكون حكمه بالخير والنصرة والعزة لمن اتبع آياته، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، وإن في ذلك لعظيم الأُنس وإزالة الوحشة من الدنيا، حتى وإن كنت وحدك سيؤانسك ربك، وما بالك حين يؤانسك ربك، قد يغيب عنك أنيسك، قد يتأخر عنك، قد يتخلف عنك، قد يخلو بك ولا يساعدك، ولا يؤازرك، أما الله تبارك وتعالى فلا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغيب، ودائماً هو حاضرٌ مع خلقه ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، الله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد، طالما وعد بأن يؤانسك سيؤانسك، وانظر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول له: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَ ﴾ [الضحى: 1 - 3]، كان في موقفٍ تأخر عنه فيه جبريل، وكان قد وعده بالنزول فتأخر عن موعده، فانشغل النبي عليه الصلاة والسلام حتى ظن في نفسه الظنون أن الله تعالى هجره، وأن الله تعالى تركه، ورفع النبوة منه، ولن ينزلها عليها، ماذا هنالك؟ ماذا فعلت؟ ماذا أفعل؟ كيف أرجع إلى الله وأسترد الوحي من جديد؟ من شدة الانشغال والنظر والانتظار تعب النبي عليه الصلاة والسلام ووجع ومرض ليلةً أو ليلتين، فمرت به امرأة عمه أم جميل قبحها الله زوج أبو لهب لعنة الله عليه، فرأته في هذه الحالة السقيمة فأرادت أن تشمت فيه، قالت له كلاماً ظاهره المجاملة والمؤانسة ولكنه كان شماتةً وفهمها النبي عليه الصلاة والسلام، قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك[3]، هذا ما كان وحياً ولا ملكاً هذا كان شيطاناً وتركك وانصرف، أنت الآن معافى، قالتها شماتةً في النبي عليه الصلاة والسلام، ما باله من تأخر جبريل وتخلفه عنه، ما باله من ألمه ووجعه، ما باله من مواجهة الناس بغير نبوية بعد ذلك، ما باله ولا أنيس له، ما باله وامرأة عمه تشمت فيه، جوٌ كئيب من الوحشة أصاب قلب النبي صلى الله عليه وسلم، في هذه الوحشة الشديدة ينزل الله عليه آيات تسليه وتسري عنه وتذهب عنه هذه الوحشة وتحل مكانها أنساً عظيماً بالله ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَ ﴾ [الضحى: 1 - 5]، مظهر الأُنس هنا حين تجد الله تبارك وتعالى يقول ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3] لم يقل ما ودعك الله، ما ودعك الرب، إنما سمى نفسه رباً بدلاً من الله، لأن كلمة الله مخيفة ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2]، أما كلمة رب ففيها الرعاية والرباية والإنعام والإكرام والرحمة، تشع بهذه الأنوار اللطيفة، ثم يضيف الله اسمه "رب" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم "ربك"، ليشعره أنني ربك وكأنه ليس رب شيء آخر، ربوبيتي كلها بإنعامها ورحمتها وإكرامها لك يا محمد عليه الصلاة والسلام، إشعارٌ بالأنس والقرب، ويكررها الله تعالى مرةً أخرى ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]، أيضاً هنا ربك وهنا ربك وأنا ربك، وطالما أنا ربك فلا تخش شيئاً، ولا تبأس ولا تيأس، عاد الوحي ونزل جبريل عليه السلام بهذه الكلمات الحانية برحمة الله العظيم على قلب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فأنس بها أنساً عظيماً.
أحبتي في الله في السورة - لأنها سورة مكية كما سبق أن قلت - فيها حديثٌ عظيمٌ عن الألوهية، وعن عبودية الناس والخلق له، ذلك لأن الأنيس هو الله سبحانه وتعالى أعظم أنيس، أعظم أنيس هو الله، قادرٌ على كل شيء، مالكٌ لكل شيء، عنده خزائن كل شيء، لا يحول بينه وبين فعله أو إرادته شيء، بل هو يحول بين المرء وقلبه، فيعلم مرادي قبل أريده، ويعلم كلامي قبل أن أتكلم به، يحول بين المرء وقلبه، فأي أُنْسٍ هذا، وأعظم ما يكون هذا الأنس على أعظم ما تكون العبودية لله، كلما تعبدت لله بطاعته وتعظيمه وإكرام رسوله صلى الله عليه وسلم بالاتباع، وتعظيم كلامه بالقراءة والحفظ والعمل، وتعظيم شعائره، وعظيم دينه، كلما حققت العبودية بالطاعة الكاملة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كلما كان الأُنس لديك أعظم، وترى ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي))[4] الطائفة هي العدد القليل، قد يكون واحداً، قد يكون عدداً أكثر بقليل (( طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي وعد الله))، طائفة قليلةٌ في العدد ولكنها لا تزال يعني ستبقى على الحق ظاهرين أي ظاهرين منتصرين مطمئنين، وليس النصر بالسلاح فقط بل الثبات في الدنيا، الاستخلاف، اطمئنان القلب، عدم الخوف والقلق، معناها عظيم، فهؤلاء ظاهرين على الحق لا يضرهم شيء مما حولهم، سواءٌ الذين يخاصمونهم ويواجهونهم، ولا من إخوانهم الذين يخذلونهم ويتخلوا عنهم، حتى يأتي وعد الله، لله أمرٌ ينهيه، لله نتيجةٌ يحققها في وقتٍ معين، في مناسبةٍ معينة، لأناسٍ مخصوصين، فانتظر ولا تيأس، انتظر ولا تيأس ففرج الله قريب، طالما هو آتٍ ففرجه قريبٌ سبحانه وتعالى، فمهما كان الإنسان قليلاً في عدده ولكنه عابدٌ لربه، معترفٌ ومقرٌّ بألوهية الله تبارك وتعالى، موحدٌ لله، فالله أنيسه وسيظهره على الحق ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
أحبتي في الله، إذاً الأُنس العظيم - من خلال هذه السورة - أن تكون عبداً لله وأن تعبد الله وحده لا شريك له، ومن خالف ذلك فإنه يخشى كل شيء، ولعلنا نرى في حياة الكافرين ذلك، فإنهم رغم نوالهم ويدهم تطول كل شيء في الدنيا يريدونه، إلا أنهم خائفون خوفاً مرعباً، غير مطمئنين على أنفسهم ولا على حياتهم، ولا على أموالهم، فالله تعالى جعل الرعب في قلوبهم، والجبن في نفوسهم، حياتهم غير مطمئنة، غير آمنة، ويعبر عن ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى في منتهى البلاغة: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]، ليس الضنك ضيق المال، إنما هو ضيق الحياة كلها، تضيق عليه نفسه، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، ولذلك يعجل بالانتحار وبقتل نفسه ويظن بأنه بذلك سيستريح ولا يدري ما ينتظره عند الله من عذابٍ اليم، فإنه ينتقل بغبائه من ضيق في الدنيا إلى عذابٍ دائمٍ في الآخرة، ولو أدرك حقيقة الأمر لتحمل ضيق الحياة الدنيا أيسر عليه من غمسةٍ واحدةٍ في نار جهنم، نعوذ بالله منها.
هذه السورة أحبتي الكرام ترتبط مع ما قبلها من سورة التوبة برباطٍ وثيق، وأعتذر عن الخطأ الذي جرى في عقد المناسبة بين سورة التوبة في الخطبة السابقة وقلت بين سورة هود، وأسأل الله تعالى أن يعفو عن خطئنا، لكن السورة التالية بعدها كما تعلمون هي سورة يونس، وبينهما تناسبٌ عجيب، ذلك أن الله تعالى قال في آخر سورة براءة: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، امتنانٌ من الله بالنعمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن كان هو رسول هذه الأمة بصفاته العظيمة وببشريته الكاملة، في أول سورة يونس في الآية الثالثة منها ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2]، كأن سورة التوبة تُسْلم القارئ إلى سورة يونس، امتنانٌ بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأول سورة يونس يقول الله فيها ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾ [يونس: 2]يعني أي أن الناس تعجبوا أن يأتي القرآن والوحي على رجل منهم، ولا يصلح غير ذلك، ما كان صالحاً أن يبعث الله لهم رسولاً من الملائكة، ولا رسولاً من الجن، إنما الحكمة البالغة الرشيدة أن يكون رسول البشر بشراً مثلهم ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وهناك شبهٌ بين آخر سورة التوبة وآخر سورة يونس، فإن في آخر سورة التوبة ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، وفي آخر سورة يونس يقول الله تعالى ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [يونس: 108]، إذاً رسولٌ من أنفسكم هو الحق، ومعه الحق ﴿ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ [يونس: 108، 109] وليس هذا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط بل له بدايةً ولنا بعد ذلك بالتبع للأمة كلها ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، فسورة التوبة مع سورة يونس متواصلة متناسقة، ثم من سورة يونس إلى سورة هود فإن بينهما تناسباً عظيماً فسورة هود - كما سنعرف إن شاء الله - سورةٌ مكية أيضاً، فبينها وبين سورة يونس تشابهاً عظيماً، ومن أدقه وألطفه حتى نعيش مع سورة هود إن شاء الله، فإن سورة يونس تقدم للناس حقيقة العقيدة الإسلامية، تحققها وتبينها وتفصلها وتناقش أمر الجاهليات وقوانين الجاهليات وأنها اعتقادات باطلة وقوانين باطلة لا تقيم حياةً كريمةً للإنسانية، ثم تأتي سورة هود لتبين واقع العقيدة الإسلامية في حياة الناس في الأرض، وواقع الجاهلية وأثرها على حياة الناس على مر الأجيال في البشرية السابقة، كأنه تطبيقٌ لما في سورة يونس.
هذا ما رزق الله تعالى في هذا الموضوع، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيه النفع النافع لنا والمقرب لنا من ربنا سبحانه وتعالى، والدافع لنا إلى العمل الصالح، إن ربنا هو الرحمن الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، إن واقع المسلمين اليوم وما يحدث في غزة على وجه الخصوص من بين أحداث كثيرة مؤلمة أيضاً ولا تقل بشاعة، إن هذا الواقع فعلاً مؤلمٌ للنفس مقلقٌ للقلب، أمورٌ لا تقرها أديان سماوية ولا أرضية، لا تقرها إنسانيةٌ ولا آدمية، لا يقرها حسٌ سليم، ولا عقلٌ سليم، ولا ذوق، ولا تقدير، يكفي أنها حروبٌ تنشأ وقتلٌ دامٌ، مذابح في شهرٍ حرام، كان أهل الجاهلية الأول الكفار عباد الأحجار، كانوا لا يحاربون في هذه الشهور وإن كانت الحرب طلاَّبة وإن كانت الحرب غلاَّبة، كانوا يتركون القتال في الأشهر الحُرُم، رغم أنهم بغير دين، لكن ورثوا تعظيم هذه الأشهر الحُرُم فكانوا يحرمونها، وإذا اضطروا إلى القتال فيها فكانوا يكفِّرون عن ذلك، يحرمون شهراً مكان الشهر من الأشهر الأخرى، ويزيدون عليه عشرة أيام فيصير الشهر عندهم أربعين يوماً، يزيدون على الشهر الذي يحرمونه عشرة أيام كفارةً أنهم حرموا شهراً مكان شهر، كفارة على أنهم بدلوا نظام الله في الكون، بل في الشعر الذي وصلهم، فكان أهل الجاهلية الأولى أحكم وأعقل بكثير من كثير من همج الناس في هذه الأيام، نعم إن الأحداث مؤلمة، نعم إن الصمت الرهيب مؤلم، نعم إن الألم لا حدود له، ولكن ماذا نفعل، ديننا يعلمنا، ديننا يجعلنا نضحك وسط هذه الأحداث ضحكة فرح وسعادة بما يجري، قد نبدو أننا جُننا حين نضحك في وسط الأحزان والأتراح، يبدو أننا من شدة الألم فقدنا صوابنا، لا والله بل قال الله في القرآن ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾[التوبة: 52] قتلنا أو بقينا وانتصروا فنحن على خير، المسلمون على خير دائماً، أولئك الذين يقتلون وبغير ذنب شهداء عند الله كما نحتسبهم والله حسيبهم، ونسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء، فهؤلاء تحت الهدم وتحت النار وقتلٌ واعتداء شهداء عند الله تبارك وتعالى، وقد قال تعالى ما تحفظون ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [آل عمران: 169، 170] هكذا، ثم إن الذين يُفلتون من الموت بتقدير الله وتبقى حياتهم وتستمر يُمَحِّصهم الله تعالى، ينقيهم، يوقظهم، يجعلهم رجالاً أطفالاً صغار يشبون على رجولة عظيمة، يفهم قضيته، عرف عدوه، تميز أمامه الصديق من العدو، حتى لا يضع يده في يد عدو يلبس له ثوباً أبيض، أو يظهر له بمظهر مزيف، عرف عدوة من صديقه، عرف أخاه من ابن عمه، عرف هذا من ذاك، فهذه نعمة ينعم الله بها على من بقيت حياتهم، كذلك يظهر إخواني، من الذي يؤانسني في وحشتي؟ من الذي يقف بجانبي؟ ومن الذي يتخلى عني؟ فيعرف الإنسان المسلم الصادق الذي يناصره ولو من بعيد، ويعرف المسلم المتخاذل وربما المنافق الذي يتخلى عني ولو من قريب، كل هذه حقائق يوضحها الله تبارك وتعالى، يمحِّص المؤمنين ويمحق الكافرين، ويزداد الذين كفروا إثماً وذنباً يستحقون به عقوبةً شديدةً من الله، يريد الله أن يشدد عذابهم، يريد الله أن يشدد عقابهم، فبماذا يعذبهم؟ لابد أن ييسر لهم العسرى التي يريدونها فيرتكبون آثاماً كثيرة فيستحقون العذاب الأليم الشديد.
فاصبروا، اصبروا ولكن عليكم بالدعاء، لا تتباطئوا فيه، ولا تقعدوا عنه، ولا تنسوه، لا تقيدوه بالصلوات فقط، ندعو بعد الركوع الأخير في كل صلاة فريضة، بل اجعلوه في كل أوقاتكم، لا تنسوا هذا الأمر فإنه يغطي على طعامنا وشرابنا وشهواتنا، إنه حاضرٌ دائماً في حسنا وذهننا، فكل ما ذكرناه دعونا لإخواننا دعوةً من القلب، دعوة بحس، دعوةً بشعور، واعرفوا نعمة ربكم عليكم حيث تعيشون في بلد آمن وفي جو آمن، غيركم فزع والله من عليكم بالأمن، فتوبوا إلى الله عودة إلى الله، أكثروا من ذكر الله وعبادة الله شكراً له على نعمة الأمن فهي نعمة عظيمة لا يعطيها إلا الله، ولا يسلبها إلا الله سبحانه وتعالى، المؤمن آمنٌ بالله خائفٌ بغير الله، حين نتخلى عن الله فكل شيء يخيفنا، حين نخاف من الله وحده يؤمننا الله تعالى من كل شيء، وقد جاء هذا في معنى بعض الأحاديث القدسية.
لذلك أحبتي ينبغي أن نتعامل مع مجريات الأمور والأحداث تعاملاً حكيماً لا هَوَج فيه، ولا ثورة فيه تعود علينا بشر مما نحن فيه فإن هذه سنن الله في خلقه، نصر نبينا عليه الصلاة والسلام في غزوة بدرٍ نصراً عزيزاً مؤزراً مخالفاً للقوانين المادية في الحرب، كما عرفنا ذلك من خلال سورة الأنفال ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، وفي الغزوة التالية غزوة أُحُد هزم المسلمون وبتقدير الله بسبب أفعالهم هم حينما خالفوا أمر قائدهم، الرماة الذي كانوا يحرسون الجيش من خلفه ومن ورائه حتى لا يغير عليهم العدو من حيث لا يشعرون، حين رأوا علامات النصر ترتفع في الميدان قالوا انتصرنا وانتهى الأمر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لا تبرحوا هذا المكان مهما كان الأمر حتى أصرفكم عنه، فحينما رأوا النصر قد لاح في الأفق ظنوا أن الأمر قد انتهى على هذا، فنزلوا ليأخذوا الغنائم وليقتلوا من قتلوا من الكفار وليسلبوا ما يسلبون وهكذا، فكانت الدائرة عليهم، جاءهم جيش من جيوش الكفار من خلفهم وألحق بهم الهزيمة حتى أصيب النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، شج وجهه الشريف وكرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وما كان لأحدٍ أن يصل إليه، وقتل عمه وحبيبه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه[5].
وهكذا كانت الأحداث على خلاف ما كانوا يتوقعون، فمرةً لنا ومرةً علينا هكذا الدنيا، الحرب سجال وكان الصحابة رضي الله عنهم يواجهون أعدائهم بهذا، حين يعيَّرون بأنهم غلبوا يقولون الحرب سجال يومٌ لنا ويومٌ علينا، وهكذا، هذا شأن الدنيا ليس انتصاراً دائماً بل ينبغي أن نعرف أن الانتصار ليس بالسلاح فقط، بل نحن المسلمين حينما ننتصر بالسلاح والقوة ونهزم عدونا وندحره فهذا نصر وهو من عد الله لا بأيدينا، وحينما نهزم من عدونا بالسلاح والقوة، فهو أقوى منا مادياً، فهو يحارب من أجل عقيدة ونحن لا نحارب من أجل عقيدة، هناك خللٌ معين فينا أصابنا بتلك الهزيمة، ولكننا لم نُهزم، لكننا بهذه الهزيمة منتصرون لأننا ما وطئنا موطئاً، ما دسنا على مكان، ولا تغبرت أقدامنا، ولا أطلقنا طلقة، ولا أصبنا بإصابة إلا كُتب لنا بذلك كله عملٌ صالح، كما ذكر الله تعالى في القرآن، كل حركةٍ في الجهاد في سبيل الله فهي في ميزان حسنات المجاهد المسلم، سواءٌ نصره الله سبحانه وتعالى بالقوة، أو هُزم ورجع وارتد على دبره، فهو أيضاً مرفوع القدر عند الله تبارك وتعالى، وكل هذه الإصابات في ميزان الحسنات والدنيا بأي شكلٍ ستنتهي بالموت، وتنقضي بالموت، إن من مات شهيداً فقد أعد الله له خاتمةً حسنة، فهذا نستبشر معه له، ولكن من بقي يا ترى كيف يموت؟ وكيف تأتيه الخواتيم؟ ينبغي أن يظل قلقاً، ومن لم يجاهد ومن لم يستشهد إنما يلعب ويلهو، هذا يا حسرةً عليه، يا لهفة القلب عليه، يا حزن النفس عليه، متى يفيق؟ ومتى ينتبه؟ وماذا يقول لربه؟ وماذا يعتذر به عند الله تبارك وتعالى؟ وهل يقبل الله عذره؟ ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14، 15]، فلنتعامل مع الأحداث تعاملاً حكيماً كما أرشدنا ديننا الحكيم العظيم.
نسأل الله تبارك وتعالى في هذا الموقف العظيم، وهذا المشهد الكريم وقلوبنا متألمة، ونفوسنا متطلعة إلى نصرٍ عظيم، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر جندنا، اللهم انصر إخواننا، اللهم انصر إخواننا، اللهم عجل بنصرهم يا رب العالمين، اللهم أسعد قلوبنا وأسماعنا بخبرٍ عظيم تنصر به عبادك المؤمنين، وتُذل به الكفر والكافرين، اللهم إنا ندرأ بك في نحور عدونا، ونعوذ بك من شرورهم يا رب العالمين، اللهم أهلكم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ربنا إنا مغلوبون فانتصر، ربنا إنا مغلوبون فانتصر، اللهم ارفع الغُمة عن الأمة، اللهم ارفع الغمة عن الأمة، واكتب العزة لأهل غزة، ومن أعزها يا رب العالمين، اللهم اخذل الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين، بحولك وقوتك يا قوي يا متين، اللهم إنهم لا يعجزونك في الأرض ولا في السماء، اللهم إن ظننا بك أنك أنت القوي المتين، هذا اسمك وهذا وصفك وأنت على كل شيء قدير، اللهم عجِّل بنصر إخواننا، انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً مؤزرًا، ارفع رايتي الحق والدين، بحولك يا قوي يا متين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147]، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم..
وأقم الصلاة.
[1] لم أعثر عليه، وانظر لمعنى الونس: المعجم الوسيط (1/ 29).
[2] سورة يونس هل هي مكية أو مدنية؟ المشهور أنها مكية، وعن ابن عباس روايتان، فتقدم في الآثار السابقة عنه أنها مكية، وأخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عنه، ومن طريق ابن جريج، عن عطاء عنه، ومن طريق خصيف، عن مجاهد، عن ابن الزبير.
وأخرج من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أنها مدنية، ويؤيد المشهور ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولًا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فأنزل الله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾ [يونس: 2].
أهـ الإتقان، للسيوطي: (1 /64).
[3] أخرجه البخاري (4667)، من حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه ولفظه: "قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1 - 3]".
وقال الحافظ تحته: "والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في [ص: 581] ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته.
وقد أوضحت ذلك في التعبير ولله الحمد.
ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول والضحى شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره، وتكلم المشركون: فنزل جبريل بسورة والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله انتهى.
وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدة والله أعلم".
أهـ الفتح (8 /710 - 711).
[4] أخرجه مسلم (1920).
[5] انظر: السيرة النبوية - عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد الصلابي: (ص470 - 504).