دور الخطباء في المجتمع
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
ظهرت في الآونة الأخيرة وجهات نظر في بعض عالمنا الإسلامي تؤيد فكرة إقامة دور للمسنين تقوم برعايتهم والعناية بهم، وجزء من هؤلاء المسنين ربما كان من الأمهات اللائي أنفقن ما أنفقن في سبيل رعاية وتربية الأولاد ذكورًا وإناثًا بقدر ما أوتين من القدرة على التربية والرعاية.ويقول البعض: إنه ليس من الضرورة أن تكون دور المسنين لأولئكم الذين رزقوا بالأولاد، وإنما هي دور ترعى هؤلاء الذين لم يبقَ لهم في المجتمع إلا اللجوء إلى مؤسسات اجتماعية يبحثون فيها عن الستر والصون، وأعلم أن هناك شيخًا ضريرًا مسنًّا تقطعت به الأسباب المادية، ولكنه كان قوي العلاقة مع الله سبحانه وتعالى فيرزقه تعالى من يقدم إليه من مكان بعيد ويحمله معه في منزله وبين أولاده ويتردد به على الأطباء والمستشفيات، ولسان حال هذا الشيخ يلهج بالدعاء لابن الحلال حتى توفاه الله، فما خسر صاحبنا شيئًا، بل لعله فاز فوزًا لا يقدر بالجهد الذي بذله في سبيل العناية بهذا الشيخ الكبير.
وهذا هو منطلقنا في هذا المجتمع بخاصة وفي المجتمع المسلم عمومًا تجاه المسنين، ومنهم الأمهات، ومرة أخرى لن أعمد في هذا الحديث لأبين فضل الأم وما ورد في مقامها من آيات وأحاديث وأقوال للعلماء، فتلكم مهمة مؤكدة، فلقد درسنا في السنوات الأولى من الابتدائية: "كل ما في البيت عندي..
لا يفي أمي الجزاء".. ولا أدري هل لا تزال هذه القطعة في كتاب "المحفوظات" أم لا؟
ومرة أخرى كذلك أضع الأئمة والخطباء ورجال العلم مجالًا للحديث فيما يتعلق بموقف المجتمع عمومًا من الأم وموقف الأبناء - ذكورًا وإناثًا - منها، ولا بد من التأكيد هنا على هذا القانون العجيب في حياة الأمم الذي اختصر في عبارة جميلة: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، وقد ذكره العامة بعبارة أخرى، مؤداها أن المرء إذا عمل للآخرين عملًا سيعمل له الآخرون كما هذا العمل، (ما سويت سوي بك)، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الآخرون هم بأنفسهم مَن تلقوا المعاملة من الشخص، فالذي يعق والديه مثلًا يعقه أبناؤه، وتتردد قصص عربية وشعبية تؤيد هذا التعادل.
والرجال عمومًا أكثر خوفًا من العقوق لأمهاتهم؛ نظرًا لارتباطهم بزوجاتهم، ونظرًا لما يحصل من عدم انسجام بين الأم التي تتوقع شيئًا من الانتباه الأكثر من ابنها فِلذة كبدها، وبين الزوجة التي تشعر أن أم زوجها تنافسها في حبه في كثير من الأحيان وفي كثير من المواقف، كل ذلكم يمكن أن يتطور ويصل إلى حدود غير مرغوب فيها، إن لم يكن للوازع الديني أثر في هذه العلاقة، ولم يكن للابن " الزوج " أثر في توضيح العلاقة بينه وبين والدته وبينه وبين زوجه.
والأم حتمًا هي العامل المؤثر الأول في العلاقة، وتبقى مؤثرات أخرى تحدد العلاقة بين الأم وأبنائها، قد تكون علاقة الزوج بزوجته أو بأبنائه، أو بهما معًا، كما أن عامل الشباب لدى الأبناء له أثره على هذه العلاقة التي أوجبها الدين الحنيف حيال الأم حتى يتزوج الابن ويرزق بالأبناء، حينذاك يمكن أن يكون إدراكه أكثر واقعية، وقد يتجاهل البعض الآخر أن يكون هناك علاقة، ولعلنا سمعنا بما قيل من أن واجب الأم يتوقف عندما يصل الابن إلى درجة يستطيع فيها أن يعتمد على نفسه، ولنلاحظ أن هناك إيحاءً من قبل كثير من منظري علوم الاجتماع في الغرب وفي الشرق بأن ما تقوم به الأم إنما هو واجب عليها تجاه أبنائها، ولكننا قد لا نلحظ بالمقابل أي إيحاء بأن ما يجب أن يقوم به الأبناء تجاه أمهاتهم إنما هو من واجباتهم تجاه هذه الأمهات.
كيف يستطيع الخطباء ورجال العلم أن يركزوا فكرة "البر" بالوالدين في المجتمع؟ هل العصر يفرض أسلوبًا آخر أو شكلًا آخر من أشكال ترسيخ فكرة البر؟ هل يكفي أن يقف الخطباء ورجال العلم من موقف الأبناء من أمهاتهم موقف المدافع؟ فيبينون فضل الأم وما يجب لها من حقوق على أبنائها مع التعرض من قريب أو بعيد للمجتمعات الأخرى التي كثرت فيها مؤسسات رعاية المسنين، فأصبح المسنون آلة أو أداة ووسيلة للرزق، بل وللتجربة، وأصبح المسنون مجالًا للإيحاء بالمنَّة عندما تربت على أكتافهم الممرضة أو الاختصاصية الاجتماعية أو تتبسط معهم مديرة الدار، إن أمثلة العقوق كثيرة جدًّا، صبغت بأصباغ مختلفة، ولكن الجوهر واحد ينصب في مفهوم العقوق، وللعقوق جزاؤه عاجلًا وآجلًا، ولعل من المطلوب تبيانه أن الحياة - المؤقتة - لا يمكن أن تصفو لشخص ما دام يمارس في حياته طرقًا تتنافى أو تتعارض مع سنة هذه الحياة ومع سنة الله في تسيير هذا الكون.
ولا يريد أن يصل المرء إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين إنما هي دليل صريح على كثرة العقوق في المجتمع، والذي يبدو أن المرء يكن أن يصل إلى هذا الافتراض وهو مطمئن، بل وربما ذهب إلى أكثر من هذا، بحيث يصل إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين في بلاد الغرب والشرق إنما هي سبب في كثرة النوائب والنوازل التي تحل بتلك المجتمعات على مستوى الأفراد والجماعات، ولعل الخطباء ورجال العلم يستطيعون الربط بين هذا وذاك، كما استطاعوا الربط بين قلة المطر والإحجام عن دفع الزكاة ، وكما استطاعوا الربط بين قدرة الخالق سبحانه وتعالى وبين النوازل الأخرى التي تحل بالعالم بالأمس واليوم وربما غدًا، بدلًا من التفسير المادي "العلمي" لهذه النوازل، وذلكم أيضًا مفهوم عام يحتاج إلى وقفة أخرى تناقش فيها فكرة "التفسير العلمي" عندما يراد به تفسيرًا ماديًّا للظواهر في مقابل التفسير الديني لها، وكأن هناك فصلًا قويًّا بين التفسير العلمي والتفسير الديني، بينما القدرة الإلهية هي الأساس المكين لكل مكتسبات الإنسان في هذا الكون، ولعقوق الوالدين أثر كبير في الوصول إلى تفسير النوازل.
إن مسؤولية العلماء والخطباء لا تتوقف عند ذكر الدليل، ولكنها تتطلب من هؤلاء الذين رضُوا بحمل هذه الأمانة أن يدخلوا إلى العقول والقلوب، فيرسخوا المفاهيم الإسلامية التي شملت وتشمل كل شيء، ولهذا الهدف مقوماته التي تعين على الوصول إليه، منها: قدرة الخطيب على الإحاطة الكاملة بعلوم الدين ومستجدات الحياة، وكان الله في عون الجميع!
___________________________________________
الكاتب: أ.
د.
علي بن إبراهيم النملة