علو الهمة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندخرها عدة لنا: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين، ورضي الله عن صحابته الأبرار الذين قاموا بحق صحبته، وحفظ شريعته، وتبليغ دينه إلى سائر أمته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس. أما بعد: ففي قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمة وعلماً، ونوراً وهداية، فحكموا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات أفريقيا وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعتهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم الأنموذج الفريد والمثال الأعلى للبشرية؛ باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانوا طرائق قدداً لا نظام ولا قوام، ولا علم ولا شريعة، فقطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقة صارخة وقوة دافعة. وكانوا يدركون بكل دقة معالم الطريق، وكأن معهم خارطة مفصلة أودعوها قوتهم العلمية، وكان الوقود الذي يتزودون به هو القوة العملية، فهذان هما سر عظمة المسلمين، وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: العلم والإرادة، أو القوة العلمية والقوة العملية. أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك والسياسات والأموال والأقلام، فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علم مخراق لاعب، وقلب بلا علم حركة عابث، والعلم مسلط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شيء من ذلك على العلم. ولن نعرض في هذه السلسلة التي نشرع فيها -بإذن الله- إلى ذكر فضائل العلم، فما أكثر ما تحدث المتحدثون عن العلم! وكم صنف المتقدم والمتأخر في شرفه والحث عليه! لكن المقصود الآن التنبيه على الشق الثاني من مكامن القوة في هذه الأمة، والذي بدونه لن تنهض من كبوتها، سواء على مستوى الجماعات أو الأفراد، ألا وهو قسيم العلم وشريكه في صناعة المجد وإحياء الأمة، ألا وهو القوة العلمية أو الإرادة أو الهمة، فما هي الهمة التي نعبر بها عن القوة العلمية التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الزمان في كل أحوالنا، سواء كانت أحوال الدين أو أحوال الدنيا، أحوال الأمة أو أحوال الأفراد.

فالهمة مأخوذة من الهم، والهم هو: ما هم به من أمر ليفعل، والهمة هي: الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فتكون همة عالية وهمة سافلة، وفي المصباح: الهمة بالكسر هي: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال له: همة عالية.

وقيل: علو الهمة هو: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني: أن الهمة العالية هي عبارة عن نشدان الكمال الممكن، فالإنسان لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء، ولا يصبو إلا إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال، وينظر إلى كل ما دون هذا الكمال نظرة استصغار.

فإذاً: علو الهمة هو: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وقيل: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. وهذا التعريف الأخير ذكره الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وقال في شرح معناه: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلاً- تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.

يعني: أن صاحب الهمة العالية دائماً يصبو إلى كل ما أمكنه من الكمالات كما ذكرنا، فيأنف ويستنكف أن يكون في حالة من أحوال التقصير مادام هذا التقصير يمكن دفعه عن النفس. والنبوة ليست كفية، بل النبوة وهبية، يعني: أن الله سبحانه وتعالى يصطفي من رسله من يشاء، لكن يقول: لو فرضنا أن النبوة تنال بالكف لم يجز لعالي الهمة أن يقنع بالولاية، أي: لم يجز لعالي الهمة أن يرضى بأن يكون فقط ولياً دون أن يرقى إلى مرتبة النبوة، يقول: أو تصور أن يكون -مثلاً- خليفة لم يصبح أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكاً -يعني: من الملائكة- لم يصلح له أن يرضى أن يكون بشراً.

والمقصود من علو الهمة: أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل.

إذاً: نشدان الكمال الممكن يدخل في باقته الوصول إلى الكمال واستصغار كلما دون ذلك.

ويقول الجرجاني في التعريفات: الهم هو: عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، سواءً كان هذا الهم هماً بخير أم هماً بشر.

أما الهمة فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: والهمة: فعلة من الهم، والهم هو: مبدأ الإرادة. أي: أن بداية الإرادة هم، ولكنه خص الهمة بنهاية الإرادة، فالهمة هي: التعبير عن نهاية وقمة وأعلى الإرادة، فأولها الهم، وآخرها وأعلاها الهمة، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها.

يقول الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في بعض الآثار الإلهية: قول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته، قال: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب.

فعوام الناس مقاييسهم أن قيمة الإنسان هي ما يحسنه، أما الخواص فإنهم يقولون: قيمة الإنسان ما يصبو إليه، وما يطمح إليه، وما يطلبه، فقيمة المرء همته ومطلبه.

وقال صاحب المنازل: الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، يعني: ينبعث قلبه نحو المقصود ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع إلى طلب الكمال.

والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تبارك وتعالى طلباً صادقاً خالصاً محظاً، فتلك هي الهمة العالية التي لا يقدر صاحبها على المهلة، ولا يستطيع أن يؤجل أو أن يرضى بما هو دون ذلك، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق. والله تعالى أعلم.

وقال أيضاً: علو الهمة: ألا تقف دون الله، يعني: أن أعلى الهمة ألا تريد إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو أعلى وأشرف مطلوب، فمن طلب ما دون الله كانت همته غير عالية؛ فالهمة العالية لا تقف دون الله سبحانه وتعالى، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخفيفة الفانية.

فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان؛ فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها. قال أحد الصالحين: همتك تحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال.

وعن عبيد الله بن زياد بن ضبيان قال: كان لي خال من كلب كان يقول لي: يا عبيد ! هم؛ فإن الهمة نصف المروءة.

وقد بين الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى كيف أن الهمة مولودة مع الآدمي، يعني: أن كل إنسان يولد بهذه الهمة، يقول رحمه الله: وما تقف همة إلا لخساستها، يعني: المفترض في الهمة أنها تظل تطلب طلباً معيناً، فتحققه، ثم تصبو إلى ما هو أعلى، فإذا أنجزته تصبو إلى ما هو أعلى ... وهكذا.

فالهمة لا تعرف السكون أبداً، بل دائماً تتطلع إلى ما هو أعلى وأسمى، فإذا وقفت فهذه علامة خساستها وخبث طبع صاحبها.

يقول: وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فاسأل المنعم أو كسلاً فاسأل الموفق؛ فلن تنال خيراً إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه ثم مضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟

وقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، يعني: أنه قد يعتريها ويطرأ عليها قصور بسبب العجز أو الكسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، يعني: إذا حصل للإنسان فتور في همته فدواؤه أن ينبهها، ويوقظها بعد الرقود، بأن يذكرها ويسألها: رضى من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه، فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغتاري قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، كل وثب حتى يأخذ مكانه في الصف الجهادي، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه.

وكان هذا الرجل واقفاً، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد -يعني: غزوة أو موقعة- كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله! لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم، أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره، قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم، أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله! ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة. رحمه الله تعالى.

فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما.

فالمرء لابد له من همة تسيره وتهديه، وعلم يبصره ويهديه، كما أشرنا من قبل، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، أي: العلم والإرادة، فمثلاً: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى دابة أو سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية، أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث؛ لتحصيل هذا المقصود.

قال الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذي جعله سبباً موصلاً لهم إليه، عهد الله سبحانه وتعالى عهداً لآدم وذريته، هذا العهد متى التزم به يعوضه الله أفضل مما فقده آدم عليه السلام، فهو العهد الذي جعله سبباً موصلاًً لهم إليه، وطريقاً واضحاً بين الدلالة عليه، من تمسك به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شقي وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه أبداً إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف، فتحه عليه.

هذا تشبيه آخر للعلم والإرادة، فالإرادة هي الباب، ومفتاح الباب هو العلم، يعني: لابد من الاثنين معاً، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، ولا يخيب إنسان ولا تفوته السعادة إلا بتقصير في جانب من هذين الجانبين، أو من أحدهما؛ إما ألا يكون له علم بها، كأن يجهل مراتب الآخرة والغايات العليا، فإذا كان يجهل هذه الفضائل فكيف سيتحرك إليها؟ وكيف سينبعث قلبه في طلبها؟ فإن كل إنسان إما ألا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها، لكن لا تنهض همته إليها، فعنده علم، لكن ليس عنده همة وقوة إرادة، وقد يكون عالماً بها ولكن لا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام، راعياً مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، والسلامة فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله. أي: كمال الإرادة بحسب كمال الغاية أو المراد الذي تطلبه، فكلما طلبت مطلباً أشرف وأعظم كلما كانت إرادتك أشرف وأكمل.

قال: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه، كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها، ولا حياة له إلا بها.

وهذه قاعدة معروفة، يعني: أن شرف العلم حسب شرف المعلوم، فهل دراسة علم الحشرات -مثلاً- مثل دراسة الطب البشري الجواب: لا، ولا شك أن صحة البشر أهم وأخطر من الحشرات؛ فلذلك هذا العلم يكون أشرف من ذلك، وهكذا مراتب العلوم تتفاوت بحسب المعلوم، وشرف العلم بشرف المعلوم، ولذلك كانت أشرف العلوم على الإطلاق هي علوم الدين، فهي أشرف من علوم الدنيا بلا شك، وعلوم الدنيا أشرفها علم الطب؛ لأن الطب هو أشرف مطالب الدنيا، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو صحته وعافيته، لكن علوم الدين أشرف من كل علوم الدنيا، ثم علوم الدين تتفاضل فيما بينها بحسب العلم الذي تؤدي إليه، فهناك علوم هي عبارة عن وسائل فقط، كالنحو والتجويد والمصطلح وأصول الفقه ونحوها، فهذه علوم خادمة لعلوم الدين.

ثم هناك علوم أشرف، وهي العلوم المخدومة كالتوحيد، وكالتفسير، وكالفقه، ثم أشرف هذه العلوم المخدومة على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه هو العلم الذي يعرفنا بالله، ويعلمنا صفات الله سبحانه وتعالى وحق الله علينا، فبالتالي كان أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ولا معلوم أشرف من معرفة الله سبحانه وتعالى.

يقول: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها، أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسمى والحظ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعياً، وأقامه على هذا الطريق هادياً، وجعله واسطة بينه وبين الأنام، وداعياً لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحد منهم سعياً إلا أن يكون مبتدئاً منه، ومنتهياً إليه صلى الله عليه وسلم.

ثم تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على أقسام الناس من حيث القوتين: العلمية والعملية، فالناس يتفاوتون، ولا يخرج أحد من هذا التفصيل، يقول رحمه الله: وكمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فالمعرفة هذه قوة علمية، والإيثار هذه قوة عملية، ولذلك جاء في الأثر: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه)؛ لأنه ممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن لا يتبعه، كاليهود الذين كانوا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون صفاته، ويجزمون بأنه رسول الله، لكنهم لم يرزقوا ولم يلهموا ولم يوفقوا إلى اتباعه والانقياد لشريعته.

فإذاً: الأمر الأول: معرفة الحق. الأمر الثاني: اتباع الحق، وإيثاره على ما عداه؛ لأن الإنسان قد يعرف الحق، ولكن يؤثر عليه ما عداه، كما في هذا الأثر، وهو ينسب إلى أبي بكر : (اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه)؛ لأنه ممكن أن الإنسان يزين له سوء عمله، فيرى الباطل في صور مزينة، فيزين له سوء عمله، ويحسب أنه على شيء، كعامة ملاحدة هذا الزمان الآن من الإعلاميين والصحفيين الذين اغتروا بكثرتهم وصوتهم العالي، وكيف أنهم يتكلمون وكأنهم أصحاب حق، وكلهم جزماً مبطلون وأهل ضلال ومعاداة لدين الله سبحانه وتعالى، فهذا من تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم.

فهؤلاء يرون الباطل حقاً، وتراهم مستعدين أن يقاتلوا في سبيل هذا الباطل، وأن يبذلوا النفس والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن أراه الله الحق حقاً ثم رزقه اتباعه وإيثاره، وأراه الباطل باطلاً ورزقه اجتنابه، فهؤلاء هم الذين رزقوا علماً، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهؤلاء هم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). فكونهم آمنوا هذا من التصديق، وهذه قوة علمية، وكونهم عملوا الصالحات هذه هي القوة العملية، وقال عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، ولا يخرج منها لأنه مقتنع بها، ويرى أنها هي الحق الذي ليس شيء بعد.

فحياة القلب تنال بالعزيمة، وبالنور يرزق الفرقان بين الحق والباطل.

أقسام الناس في العلم والإرادة

يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]. (الأَيْدِي) هي: القوة، (وَالأَبْصَارِ) هي العلم فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار هي البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام.

إذاً: أكمل الناس من رزقه الله الأمرين: كمال الهمة الإرادة وكمال العلم، وأشرف الأقسام هو القسم الذي ذكرناه آنفاً، أي: الذين مدحهم الله بقوله: (( أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ )). فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى.

القسم الثاني: عكس هؤلاء، وكل إنسان على وجه الأرض هو واحد من هذه الأقسام الأربعة، فالقسم الثاني عكس الفريق الأول، يعني: لا بصيرة، ولا همة، لا علم ولا عمل، فعكس الفريق الأول هم من لا بصيرة لهم في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشرار.

القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، لكن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من هذا المؤمن الضعيف، فهذا عنده بصيرة بالحق، لكنه ضعيف في همته، ولا قوة له على تنفيذ هذا الحق.

القسم الرابع: عكس هذا، له قوة وعزيمة وهمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء سمرة، وكل بيضاء شحمة، ويحسب الورم شحماً، والدواء النافع سماً؛ لأنه ليس عنده علم وبصيرة في الدين.

وليس في هذه الثلاثة الأقسام من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، فهذا فقط هو الذي يصلح أن يكون إماماً في دين الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]. فأخبر سبحانه وتعالى أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى من جملة الخاسرين، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أقسم في سورة العصر بالعصر الذي هو زمن سعي الرابحين والخاسرين؛ لأن العصر هو الزمن والدهر الذي هو عبارة عن رأس المال، والناس عبارة عن سوق يتنافسون فيه، ثم في النهاية حينما ينفض هذا السوق -وما أسرع ما ينتهي العصر إذا أتى المغرب- يظهر بعد ذلك الخاسر من الرابح، فأقسم الله سبحانه وتعالى -وقوله الحق وقسمه الصدق- أن كل الناس في خسر، وإذا قلنا كلمة (كل الناس) فيبقى أن كل الناس في حال خسر، وضياع إلا الذين ذكروا في هذه السورة الكريمة.

قال عز وجل: وَالْعَصْرِ [العصر:1] * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]. أي: إن كل إنسان لفي خسر إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]. فوصفوا بالقوة العلمية والقوة العملية، بالعلم والهمة أو الإرادة، فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها وعوارضها ومعاسرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المسالك والمخاوف والمعاقب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم.

فارقهم في أنه عنده علم، لكن اجتمع مع هؤلاء الجهال في تخلفه عن نصرة الحق، كما يقول الشاعر:

فليس يزيح الكفر رأي مسدد إذا هو لم يؤنف يرمي مسدد

يقول: وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله، ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، يعني: أننا نجد عند رجل الهمة الحركية في الحركة وفي العمل، وعنده همة من الناحية العملية، لكن ليس عنده بصيرة، فبالتالي نجده إذا تعرض لبدعة أو شبهات لا يستطيع أن يرد جواباً، ويتبلبل، وربما يهتز إيمانه، ويخر صريعاً لهذه الشبهات بسبب غياب القوة العلمية.

فمثلاً: نجد إنساناً يعمل في الربا وفي البنوك، وهو مقتنع، وعنده القوة العلمية، ويفهم جيداً جداً أن الربا محرم، وأن هذا الكسب حرام، وأن الوعيد فيه كذا وكذا ... إلى آخر هذا الكلام، لكن لا تجد عنده القوة العملية التي تجعله يحاول أن يتخلص ويخرج من هذا الوحل، فعنده قوة علمية، لكن ليس عنده الهمة.

وهكذا الذي يتحدث عن مضار التدخين، ويحاضر محاضرات طويلة، وإذا فتحت معه الكلام في التدخين، تجده يقول: المضرة في كذا وكذا وكذا، لكن هل عنده الهمة في أن يقلع عن هذه العادة السيئة؟! فأغلب الناس تجد عنده البصر بالضرر، لكن ليس عنده القوة العملية.

فهذه أمثلة لتوضيح الموضوع، فالقسم الثاني هذا يكون عنده همة وحركة وسعي ودأب، لكن ليس عنده بصيرة في الدين، فيكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما أن الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف، السالكين على غير طريق العلم، حيث نلاحظ في الصوفية -إلا من شاء الله- أن هذا الصفة تكاد تكون صفة سائدة، فأحدهم شديد الجهل بالعلم الشرعي، وعنده الهمة العالية في التعبد أو في الحركة والسعي والدأب والأذكار والأوراد وغير ذلك، لكن لا على بصيرة، وبالتالي يسهل أن يقع صريعاً للبدع والشبهات والضلالات.

يقول: على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده.

ويقولون: الكلمة الفضيعة، كل شيخ له طريقة في الشريعة والواحد منهم يمكن أن يخالف شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ... إلى غير ذلك مما يناله بوجده وذوقه وإلهاماته وكشوفاته، ويحتجون بفعل الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام.

وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، من لبس معين، وكشف رأس، أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين، وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان، وهناك طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، وكلها ناشئة عن ضعف البصيرة في الدين، مع وجود الهمة العملية.

يقول شيخ الإسلام ابن القيم : فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم، وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة لهم بالرب، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله سبحانه وتعالى، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد.

ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، يعني: أن الطريق إلى النجاة وإلى الله سبحانه وتعالى فيه كثير من القواطع، ولولا القواطع لكان هذا الطريق مزدحماً بالسالكين الذين يقصدونه، لكن فيه كثيراً من القواطع، سواء كانت قواطع من داخل النفس، أو قواطع من قطاع الطريق الذين ينبثون على جنبات الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ويقطعون الطريق على خلق الله، ويصدونهم عن السير إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول: ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت -كما قيل- سيف، فإن قطعته، وإلا قطعك، فإذا كان السير ضعيفاً، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق.

يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]. (الأَيْدِي) هي: القوة، (وَالأَبْصَارِ) هي العلم فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار هي البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام.

إذاً: أكمل الناس من رزقه الله الأمرين: كمال الهمة الإرادة وكمال العلم، وأشرف الأقسام هو القسم الذي ذكرناه آنفاً، أي: الذين مدحهم الله بقوله: (( أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ )). فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى.

القسم الثاني: عكس هؤلاء، وكل إنسان على وجه الأرض هو واحد من هذه الأقسام الأربعة، فالقسم الثاني عكس الفريق الأول، يعني: لا بصيرة، ولا همة، لا علم ولا عمل، فعكس الفريق الأول هم من لا بصيرة لهم في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشرار.

القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، لكن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من هذا المؤمن الضعيف، فهذا عنده بصيرة بالحق، لكنه ضعيف في همته، ولا قوة له على تنفيذ هذا الحق.

القسم الرابع: عكس هذا، له قوة وعزيمة وهمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء سمرة، وكل بيضاء شحمة، ويحسب الورم شحماً، والدواء النافع سماً؛ لأنه ليس عنده علم وبصيرة في الدين.

وليس في هذه الثلاثة الأقسام من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، فهذا فقط هو الذي يصلح أن يكون إماماً في دين الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]. فأخبر سبحانه وتعالى أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى من جملة الخاسرين، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أقسم في سورة العصر بالعصر الذي هو زمن سعي الرابحين والخاسرين؛ لأن العصر هو الزمن والدهر الذي هو عبارة عن رأس المال، والناس عبارة عن سوق يتنافسون فيه، ثم في النهاية حينما ينفض هذا السوق -وما أسرع ما ينتهي العصر إذا أتى المغرب- يظهر بعد ذلك الخاسر من الرابح، فأقسم الله سبحانه وتعالى -وقوله الحق وقسمه الصدق- أن كل الناس في خسر، وإذا قلنا كلمة (كل الناس) فيبقى أن كل الناس في حال خسر، وضياع إلا الذين ذكروا في هذه السورة الكريمة.

قال عز وجل: وَالْعَصْرِ [العصر:1] * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]. أي: إن كل إنسان لفي خسر إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]. فوصفوا بالقوة العلمية والقوة العملية، بالعلم والهمة أو الإرادة، فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها وعوارضها ومعاسرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المسالك والمخاوف والمعاقب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم.

فارقهم في أنه عنده علم، لكن اجتمع مع هؤلاء الجهال في تخلفه عن نصرة الحق، كما يقول الشاعر:

فليس يزيح الكفر رأي مسدد إذا هو لم يؤنف يرمي مسدد

يقول: وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله، ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، يعني: أننا نجد عند رجل الهمة الحركية في الحركة وفي العمل، وعنده همة من الناحية العملية، لكن ليس عنده بصيرة، فبالتالي نجده إذا تعرض لبدعة أو شبهات لا يستطيع أن يرد جواباً، ويتبلبل، وربما يهتز إيمانه، ويخر صريعاً لهذه الشبهات بسبب غياب القوة العلمية.

فمثلاً: نجد إنساناً يعمل في الربا وفي البنوك، وهو مقتنع، وعنده القوة العلمية، ويفهم جيداً جداً أن الربا محرم، وأن هذا الكسب حرام، وأن الوعيد فيه كذا وكذا ... إلى آخر هذا الكلام، لكن لا تجد عنده القوة العملية التي تجعله يحاول أن يتخلص ويخرج من هذا الوحل، فعنده قوة علمية، لكن ليس عنده الهمة.

وهكذا الذي يتحدث عن مضار التدخين، ويحاضر محاضرات طويلة، وإذا فتحت معه الكلام في التدخين، تجده يقول: المضرة في كذا وكذا وكذا، لكن هل عنده الهمة في أن يقلع عن هذه العادة السيئة؟! فأغلب الناس تجد عنده البصر بالضرر، لكن ليس عنده القوة العملية.

فهذه أمثلة لتوضيح الموضوع، فالقسم الثاني هذا يكون عنده همة وحركة وسعي ودأب، لكن ليس عنده بصيرة في الدين، فيكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما أن الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف، السالكين على غير طريق العلم، حيث نلاحظ في الصوفية -إلا من شاء الله- أن هذا الصفة تكاد تكون صفة سائدة، فأحدهم شديد الجهل بالعلم الشرعي، وعنده الهمة العالية في التعبد أو في الحركة والسعي والدأب والأذكار والأوراد وغير ذلك، لكن لا على بصيرة، وبالتالي يسهل أن يقع صريعاً للبدع والشبهات والضلالات.

يقول: على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده.

ويقولون: الكلمة الفضيعة، كل شيخ له طريقة في الشريعة والواحد منهم يمكن أن يخالف شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ... إلى غير ذلك مما يناله بوجده وذوقه وإلهاماته وكشوفاته، ويحتجون بفعل الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام.

وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، من لبس معين، وكشف رأس، أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين، وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان، وهناك طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، وكلها ناشئة عن ضعف البصيرة في الدين، مع وجود الهمة العملية.

يقول شيخ الإسلام ابن القيم : فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم، وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة لهم بالرب، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله سبحانه وتعالى، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد.

ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، يعني: أن الطريق إلى النجاة وإلى الله سبحانه وتعالى فيه كثير من القواطع، ولولا القواطع لكان هذا الطريق مزدحماً بالسالكين الذين يقصدونه، لكن فيه كثيراً من القواطع، سواء كانت قواطع من داخل النفس، أو قواطع من قطاع الطريق الذين ينبثون على جنبات الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ويقطعون الطريق على خلق الله، ويصدونهم عن السير إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول: ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت -كما قيل- سيف، فإن قطعته، وإلا قطعك، فإذا كان السير ضعيفاً، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق.

بعد ذلك نتكلم عن الهمة باعتبار محلها، فالهمة عمل قلبي، منبعها ومصدرها ومحلها هو القلب، فبما أن الهمة محلها القلب، وبما أن القلب لا سلطان لأحد عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق طليقة من القيود التي تكبل الأجسام. يعني: لو كان إنسان مكبلاً بأشد أنواع القيود، فهل معنى ذلك أنه إذا كبل جسده يمكن أن تكبل همته إذا كان هو في الأصل عالي الهمة؟

الجواب: لا؛ فحتى لو كبل جسده فهمته تنصرف إلى أعلى المقامات، فالهمة لا يستطيع أحد تقييدها، حتى ولو كبل الجسد كله عضواً عضواً، فهي تحلق حتى ولو كان صاحبها في هذه القيود، يقول الشاعر:

إن يسلب القوم العداء ملكي وتسلمني الدموع

فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع

ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة -وهذه كلمة أود أن تحفظوها حفظاً؛ لأنها كلمة في غاية البلاغة وغاية الصدق في التعبير- يقول: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. أي: لو أن إنساناً يحمل شعلة من النار، ويحاول أن يجعل هذا اللهب يمضي إلى أسفل هل يستطيع ذلك؟ الجواب: لا، فحتى لو هبط بالشعلة نفسها إلى أسفل، فالنار تأبى إلا ارتفاعاً، فكذلك صاحب الهمة، يمكن أن تقع الضغوط على بدنه وعلى جوارحه، أما قلبه فلا يمكن، بل يسمو إلى أعلى المقامات.

وهناك أمر آخر من خواص الهمة، وهو أن همة المؤمن أبلغ من عمله؛ فالإنسان يحصل بالهمة أموراً عظيمة جداً لا يستطيع أن يحصلها بعمله، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. فهذا ثواب الهمة وقال صلى الله عليه وسلم: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، أي: ينال منازل الشهداء وإن مات على فراشه بصدق الهمة.

وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد ثم أدركه الموت: قد أوقع الله أجره على قدر نيته.

وقال صلى الله عليه وسلم في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه: إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر.

فهؤلاء همتهم موجودة، لكن وجد عائق أعاقهم عن الخروج؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فبالهمة نالوا الثواب، وشركوهم في الأجر.

وقال صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه. قوله: ما من امرئ تكون له صلاة بليل، يعني: أن عادته أن يقوم الليل، وقوله: فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه، أي: أنه أثيب بهمته وبنيته، فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب بعلو همته وطهارة قلبه وقوة يقينه وشدة إخلاصه، وفي ذلك قيل:

من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء في الأول؟

وما أحسن قول الشاعر مخاطباً الحجيج وقد انطلقوا للحج:

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا

فالمؤمن ما دامت عنده الهمة فهو يطمع في أن ينال نفس الثواب، وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية، كما بين ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: سبق درهم مائة ألف درهم. فدرهم واحد سبق مائة ألف، يعني: أن رجلاً تصدق بدرهم، ورجلاً آخر تصدق بمائة ألف درهم، فالذي تصدق بدرهم نال ثواباً أعظم من ثواب الذي تصدق بمائة ألف درهم، فما الذي أوجد هذا الفرق بينهما؟ إنها الهمة، والتفاوت في الهمة، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: سبق درهم مائة ألف، قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف، يعني: أن الرجل الأول عنده درهمان، فاستبقى لنفسه درهماً واحداً، وأنفق شطر ما يملك، يعني: أن هذا أخذ شطر ماله فتصدق به لله، ولا شك أن هذه همة عالية، وأما الآخر فعنده مال كثير جداً، فأخذ عينة من ماله من عرضه ومن جانب الثروة الطائلة وسحب كمية فطلعت مائة ألف درهم، فتصدق بها، فالتفاوت الذي حصل بينهما إنما كان بسبب يعني الهمة.

أيضاً بما أن الهمة في القلب فقوة المؤمن تكون في قلبة بصفة أساسية، يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره).

فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل، يوافق فيه الإسلام الإحسان، فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان موفياً لكل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال: لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئاً من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.

والرسول عليه الصلاة والسلام بلا شك هو المثل الأعلى للبشرية كلها، ولم يطأ الحصى ولم يوجد على ظهر الأرض من هو أكمل من رسول الله عليه الصلاة والسلام في أي خصلة من خصاله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو النموذج الأكمل للبشر أجمعين، بما فيهم الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع إلى كمال القوة العلمية كمال القوة العملية، فمع علمه صلى الله عليه وسلم بالله على أكمل الأحوال أيضاً كان أكمل الناس إرادة، فكان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويجاهد، ويخالط الناس، ثم هو متزوج، ومات عن تسع نسوة، فكان يدير هذه البيوت ويقودها، ويدير أمة ويبني رسالة، ويبلغ العالمين، وكل هذه الأشياء لم يقصر صلى الله عليه وسلم بترك أي وارد من هذه الواردات، فصلى الله عليه وآله وسلم.

إن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين صلاته وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة لا يأتي إلا من نقصان الشعور والإحساس، أو من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفها دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها؛ فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياتهم، كما قيل:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

الردى: أي الهلاك.

وتكدح فيما سوف تنكر غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم

غبه: عاقبته.

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم

وهنا نناقش موضوعاً مهماً، وهو أن كثيراً من الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما السبب في أن كثيراً من الناس يطلبون الأدنى والأخس من الأمور؟ السبب الذي يجعل كثيراً من الناس يطلبون الأدنى من الأمور ويقصدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً: فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمة، فكلما صح العلم وانتفى الجهل وصحت العزيمة وعظمت الهمة، طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همه لقمة يسد بها جوعته، وشربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته، وهذا هو المذهب الرديء، بل هذا مذهب كان منتقصاً حتى بين أهل الجاهلية؛ فأهل الجاهلية أنفسهم كانوا يذمون من يعيش من أجل هذه المقاصد. وفي مثل هؤلاء يقول حاتم الطائي -وقد أدرك الإسلام ولم يسلم- ومع ذلك يقول في ذم هذا الذي يعيش من أجل هذه المقاصد السفلية-: لحا الله صعلوكاً مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهما قوله: (لحا الله صعلوكاً) يعني: قبح الله صعلوكاً، والمقصود به هنا الفقير. وقوله: (مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً)، يعني: لا يعيش إلا من أجل الملابس ومن أجل الطعام. وقوله: (يرى الخمص تعذيباً) يعني: يرى خلو البطن تعذيباً. وقوله: (وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهماً)، يعني ينام قرير العين؛ لأنه نائم وهو شبعان، وقوله: (مبهماً) يعني: خالياً. ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا، كحال طرفة بن العبد ، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: مطعم شهي، وملبس دفيء، ومركب وطيء. يعني: سهل. وقال طرفة أيضاً مبيناً غايته من الحياة: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي الجد هنا: الحظ والبخت، أي أنه يحلف بالحظ. وقوله: (لم أحفل) يعني: لم أهتم، (متى قام عودي) جمع عائد، من العيادة. فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد العاذلات جمع عاذلة، والعذل هو الملامة، وكميت: اسم من أسماء الخمر، يعني: أنه شرب خمرة فيها حمرة وسواد. والزبد: الرغوة التي تكون فوق الخمر. وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد الكر هو: العطف، وقوله: (إذا نادى المضاف محنباً)، يعني: الذي في يده انحناء. وقوله: (كسيد الغضا)، الكسيد هو: الذئب، والغضا: الشجر. وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد فهذه الأبيات لهذا الشاعر تبين همته. ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد وقوله: (تقصير يوم الدجن)، الدجن هو: الغيم حين يملأ آفاق السماء، وتقصيره يعني: جعل هذا اليوم قصيراً، أي: أنه يشعر أن اليوم قصير، كيف يقصره؟ بأن يقضيه مع امرأة حسناء. وقوله: (ببهكنة) هي: المرأة الحسنة الخلق السمينة. وقوله: (تحت الخباء المعمد)، يعني: تحت الخيمة التي رفعت بالأعمدة. فكثير من الناس همه من دنياه هم هذا الشاعر المسكين، فهمته شرب الخمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من الناس من تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف والمستجير. وبهذا الشاعر اقتدى أبو نواس ؛ فـأبو نواس يتحدث عن غايته من الحياة فيقول: إنما العيش سماع ومدام وندام فإذا فاتك هذا فعلى العيش السلام هذا الذي يعيش من أجله، وهذه هي غايته في الحياة. فقوله: (إنما العيش سماع)، يعني: موسيقى وألحان. وقوله: (ومدام وندام)، المدام هو: شرب الخمر، والندام: جلسات المنادمة، والندامى هم الذين يجلسون ويسهرون في الخمر. وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء، يذكره أحدهم ويأمره بأن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله فيجيبه قائلاً: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد فهذه نماذج من همم بعض الناس وغاياتهم في الحياة؛ حيث إن همتهم هي في النساء، والمناصب، والأموال، والغنى، وقد يكون لبعض الناس مسعى ومطلب يعده من علو الهمة، كحال امرئ القيس عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانطلق جاداً طالباً إعادة هذا الملك، وطبعاً نحن لا نقول: إن هذا من علو الهمة، لكن نحن نبين حال هذا الصنف، وهذا بالنسبة لما مضى يعتبر أعلى، لكن ليس هذا هو علو الهمة المراد، فلا يكون الإنسان عالي الهمة إلا إذا رجا الآخرة، وهذا سنفصله إن شاء الله. فـامرؤ القيس لما أفاق من السكر والعبث فوجد ملك أبيه قد ضاع، أنفق عمره في البحث عن استرداد ملك أبيه الضائع، وجعل يقول: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وطال استطلابه للملك حتى قضى نحبه في طلبه، وهو القائل: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فضيع حياته أولاً في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده طلباً للملك والإمارة، فأعياهما الطلب، وما أكثر الذين طلبوا الملك والرئاسة وألحوا في طلبها، فحامت حول الملك همتهم، وطافت به عزيمتهم. كان الأديوردي -وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ الإسلامي، وهو من الأمويين- يدعو عقب كل صلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها. يعني: كانت هذه همته، وله في ذلك الأشعار الفائقة التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي . وقيل لـيزيد بن المهلب : ألا تبني داراً؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. أي: أنه لم يكن متخذاً منزلاً ولا داراً، فلما قال له رجل: ألا تبني داراً؟ قال: منزلي إما دار الإمارة، وإما الحبس. يعني: أن هذا هو الهدف الذي يعيش من أجله. وقال آخر: وعش ملكاً أو مت كريماً وإن تمت وسيفك مشهور بكفك تعذر

ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: أن الهمم لا تتفاوت بين بني البشر فقط، لكنها تتفاوت حتى بين الحيوانات والبهائم، فالهمم تتفاوت في جميع الحيوانات، ويذكر بعض العلماء أمثلة في هذا فيقول: العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً، ولا يقبل منة الأم. والحقيقة أن التعبير بالأنثى هنا يكون من الناحية العلمية أدق. ونحن سعداء بأننا نتناقل كلام العلماء السابقين، وقد نقف على الأخطاء، فلا نتكلم على الميت بعدما يموت.

فمثل هذا التعبير قد يستغرب، فأنثى العنكبوت هي التي تنسج؛ وهذا من إعجاز القرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، وقد اكتشف حديثاً جداً أن الذي ينسج البيت هو أنثى العنكبوت وليس الذكر، ولذلك قال تعالى: (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ) بتاء التأنيث (( بَيْتاً ))؛ لأن الأنثى هي التي تنسج بيت العنكبوت، فهذا من آيات الله سبحانه وتعالى.

يقول: فالعنكبوت من حين يولد أو تولد تنسج لنفسها بيتاً، ولا تقبل منة الأم. وهذا أيضاً من علو الهمة، والحية تطلب ما حفر غيرها؛ إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحي، والأسد لا يأكل البايت، أي: أن الأسد لعلو همته لا يأكل الطعام البايت، والفيل يتملق حتى يأكل، والخنفساء تطرد فتعود.

قال المتلمس :

إن الهوان حمار البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد

ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان: عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فما يرثي له أحد

يعني: ما يرق له أحد.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2474 استماع
علو الهمة [8] 2400 استماع
علو الهمة [6] 2258 استماع
علو الهمة [7] 2159 استماع
علو الهمة [9] 2037 استماع
علو الهمة [5] 1905 استماع
علو الهمة [16] 1818 استماع
علو الهمة [15] 1788 استماع
علو الهمة [17] 1630 استماع
علو الهمة [3] 1622 استماع