شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره - حديث 350


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

معنى السهو لغة وشرعاً

قول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو وغيره من التلاوة والشكر].

السهو في اللغة العربية: يطلق على: الغفلة، والذهول، والنسيان. وهذه الأشياء هي كما قال بعض أهل اللغة: كلمات متقاربة أو مترادفة: السهو، والغفلة، والذهول، والنسيان، وقد تكلف بعض أهل اللغة بين السهو وبين النسيان تكلفاً, والواقع أنها ليس بينها فروق تذكر, فالسهو: هو الغفلة عن الشيء فلا يتذكره.

أما في الشرع فالمقصود بالسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو نقص أو شك, فهذه أسبابه: زيادة في الصلاة أو نقص -ويكون ذلك عن غير تعمد- أو شك؛ فلا يدري كم صلى؟ ولا ماذا صلى؟ وقولنا: (أو شك) يقصد الفقهاء بالشك -كما قال الإمام النووي في المجموع وغيره- التردد في الشيء, وهذا هو معناه في اصطلاح الفقهاء, الشك: هو التردد في الشيء مطلقاً, يعني: بغض النظر عن حصول الترجيح عندهم، أو تساوي الطرفين.

أما الأصوليون فإنهم يقصدون بالشك ما استوى طرفاه, يعني: تساوى عنده الأمران. مثل إنسان شك في صلاته لا يدري كم صلى ثلاثاً أو أربعاً؛ فتقول له: رجح. قال لك: والله لا أدري! فقل: حاول، يغلب على ظنك شيء؟ قال: لا أدري بالضبط, يعني: (50%) أني صليت ثلاثاً, و(50%) أني صليت أربعاً. وهذا يسمى عند الأصوليين شكاً، وهو أيضاً عند الفقهاء شك, لكن لو قال: أنا أشك لكن كأنني أرجح أني صليت أربعاً, أو أظن أني صليت أربعاً, فهذا أيضاً يسمى عند الفقهاء شكاً, أما عند الأصوليين فلا يسمى شكاً, بل يسمى ظناً- يعني: الراجح يسمى ظناً.

فالمقصود أن قولنا هنا: (أو شك) على اصطلاح الفقهاء، يعني: بغض النظر عن ترجيح أحد الطرفين أو استواء الطرفين.

الفرق بين السهو في الصلاة والسهو عن الصلاة

والسهو في الصلاة غير السهو عن الصلاة. فهما سهوان:

السهو الأول: السهو عن الصلاة, وهذا ذنب عظيم توعد الله تعالى عليه بالويل، قال عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

والسهو عن الصلاة-كما قال المفسرون- قد يكون بتأخيرها عن وقتها, وقد يكون بتركها أحياناً, وقد يكون بالتقصير والتفريط في طهورها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها.

أما السهو في الصلاة فهو ما ذكرناه: أن يزيد فيها ناسياً, أو ينقص ناسياً, أو يشك في عمل من أعمال الصلاة, وهذا حصل حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، كما سوف يأتي في هذه الأحاديث, وكان حصوله من النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته؛ ليبين لهم أحكام سجود السهو، ويدلهم عليها بقوله وبفعله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الإمام ابن القيم .. وغيره.

بلاغات الإمام مالك في موطئه

وقد روى الإمام مالك في موطئه في الصلاة، كتاب السهو: باب العمل في السهو. قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأَنسى -أو أُنسَّى- لأسن ) أي: إنني لأَنسى في الصلاة أو أُنسَّى في الصلاة, يعني: نسب التنسئة حينئذٍ إلى غيره: أن الله تعالى ينسيه في الصلاة شيئاً ليسن لأمته، ويبين لهم أحكام النسيان والسهو في الصلاة. وهذا الحديث- كما أسلفت- رواه مالك في موطئه بلاغاً، قال: (بلغني) وبلاغات الإمام مالك معروفة في الموطأ، وقد وصِّلت بلاغاته إلا أحاديث يسيرة أربعة لم توصل، وهذا الحديث أحدها, فهو لم يوجد موصولاً- كما ذكر الإمام ابن عبد البر -لم يوجد هذا الحديث موصولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الطرق, ومثله ثلاثة أحاديث هو رابعها، ثلاثة أحاديث أخرى معروفة في كتاب الموطأ للإمام مالك .

فالحديث إذاً لا يصح، ولم يرد فيه شيء من الطرق لا موصول ولا منقطع, ولو صح لكان حجة على أن النسيان والسهو بمعنى واحد, وهذا سبق أن بينا أنه معروف عند أهل اللغة, ولكان حجة أيضاً على أن نسيانه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين لأمته, وهو أيضاً معنىً ظاهر, ولكن الحديث لا يصح, وقد قال الله عز وجل في كتابه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى:6-7]؛ فلهذا قدر الله تعالى وشاء, حيث استثنى هنا في هذه الآية وشاء سبحانه أن ينسى رسوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة, وقد ينسى في الصلاة شيئاً من القرآن أحياناً، كما جاء في صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا لـأبي بن كعب وقال: ( كأين من آية أذكرنيها، كنت أنسيتها ) فينساها في وقتها، وليس نسياناً مطلقاً، إنما ينساها في ذلك الوقت وفي تلك اللحظة.

ومن باب الاستطراد أقول: هذا الحديث ذكرت أنه واحد من أربعة أحاديث، لا توجد موصولة خارج الموطأ، وهي بلاغات.

أما الأحاديث الثلاثة الباقية فهي:

الحديث الثاني منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الأمم من قبله، أو ما شاء الله تعالى من ذلك, فكأنه تقاصر أعمار أمته؛ فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر, وهي خير من ألف شهر ). هذا الحديث الثاني.

والحديث الثالث: هو أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( كان آخر ما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: يا معاذ ! أحسن خلقك للناس ).

والحديث الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أنشأت بحرية -يعني: السحابة- ثم تشاءمت فتلك عين غديقة )، يعني: ثرة معطاءة مثقلة بالمطر.

هذه الأحاديث الأربعة لم توجد موصولة في غير الموطأ ولا في الموطأ بطبيعة الحال؛ لأنه حتى في الموطأ قال: (بلغني) .

إذاً: الأول: حديث الباب: ( إني لأنسى -أو أنسى- لأسن ).

الثاني: ( أنه صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الأمم من قبله أو ما شاء الله تعالى من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته؛ فأعطاه الله تعالى ليلة القدر, هي خير من ألف شهر ).

والثالث: عن معاذ أنه قال : ( آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معاذ! أحسن خلقك للناس ).

والرابع: ( إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة ). فهذه لم توجد موصولة في الموطأ ولا في غيره كما ذكر الإمام ابن عبد البر، ووافقه عليه كثير من أهل العلم, ولكن قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في نظمه على الموطأ. قال:

وقد رأيت بعض متقني السنن من حاز في خير العلوم كل فن

عزا إلى نجل الصلاح أن وصل أربعة الأخبار فالكل اتصل

(عزا إلى نجل الصلاح ) يعني: الإمام أبا عمرو بن الصلاح. (عزا إلى نجل الصلاح أن وصل أربعة الأخبار) يعني: الأربعة الأخبار التي ذكرناها.

(أربعة الأخبار فالكل اتصل) يعني: وبناء عليه تكون جميع الأخبار التي ساقها الإمام مالك في الموطأ بلاغاً موصولة خارج الموطأ، على هذا الكلام, ولكن الواقع أن كون هذه الأخبار وجدت موصولة بأسانيد لا يعني: أن هذه الأسانيد صحيحة، بل قد تكون ضعيفة، وقد تكون دون الضعيفة أحياناً، وقد تكون الأسانيد منقطعة، فيتفطن لذلك.

الأحوال التي سها فيها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته والحكمة من ذلك

على كل حال: نعود إلى موضوع السهو والنسيان, فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سها في الصلاة, وسهوه في صلاته رحمة لأمته؛ من أجل أن تبين لهم أحكام سجود السهو؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: (يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء -يعني: في السهو- سلّم من اثنتين فسجد، وسلّم من ثلاث فسجد, والزيادة -أي: في الصلاة- والنقصان, وقام من اثنتين ولم يتشهد)، فذكر الإمام أحمد رحمه الله خمسة أحوال سها فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه ذلك.

قال الإمام الخطابي رحمه الله أيضاً: (المعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة), يعني: التي أشار إليها الإمام أحمد فيما صح عنه, وهي: حديثا ابن مسعود في التشهد, وحديث ابن بحينة، وهو حديث الليلة, وسندرسه الآن إن شاء الله تعالى, وحديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد الخدري، وكلها مما ساقه المصنف في الباب؛ فهي خمسة أحاديث.

أما النووي رحمه الله فقد ساق في كتابه المجموع ستة أحاديث، منها أربعة من أحاديث الباب، وأسقط أحد حديثي ابن مسعود، وساق لـأبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديثين، وساق حديثاً عن عبد الرحمن بن عوف.

أما المصنف رحمه الله فقد ساق في هذا الباب -باب سجود السهو- ساق فيه تسعة أحاديث فيما يتعلق بسجود السهو, وسوف تأتي تفصيلاً, منها: حديث ابن بحينة الآن ندرسه, ومنها: حديثان لـأبي هريرة , ومنها: حديث عن عمران بن حصين , ومنها: حديث أبي سعيد , ومنها: حديث ابن مسعود , ومنها: حديث عبد الله بن جعفر , ومنها: حديث المغيرة بن شعبة , ومنها: حديث عمر , ومنها: حديث ثوبان . فتلك تسعة أحاديث في السهو.

ثم ساق بعدها ثمانية أحاديث في سجود التلاوة, ثم ساق بعدها ثلاثة أحاديث في سجود الشكر, ومما يلحظ أن المصنف رحمه الله جمع هذه الأنواع كلها في باب واحد: سجود الشكر وسجود التلاوة وسجود السهو, وهذا مسلك خاص, وإلا فالغالب أن المصنفين من المحدثين والفقهاء يفردون سجود السهو بباب خاص, حتى المصنف نفسه في كتبه الأخرى يفرد السجود، كما نجده مثلاً في تلخيص الحبير سجود السهو بباب خاص؛ لكثرة مسائله وأحكامه وأحاديثه وكثرة الخلاف في ذلك. وهكذا سائر الفقهاء.

أما سجود التلاوة وسجود الشكر فربما جمعها الأكثرون في باب واحد؛ لقلة مسائلها، وقلة أحاديثها.

قول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو وغيره من التلاوة والشكر].

السهو في اللغة العربية: يطلق على: الغفلة، والذهول، والنسيان. وهذه الأشياء هي كما قال بعض أهل اللغة: كلمات متقاربة أو مترادفة: السهو، والغفلة، والذهول، والنسيان، وقد تكلف بعض أهل اللغة بين السهو وبين النسيان تكلفاً, والواقع أنها ليس بينها فروق تذكر, فالسهو: هو الغفلة عن الشيء فلا يتذكره.

أما في الشرع فالمقصود بالسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو نقص أو شك, فهذه أسبابه: زيادة في الصلاة أو نقص -ويكون ذلك عن غير تعمد- أو شك؛ فلا يدري كم صلى؟ ولا ماذا صلى؟ وقولنا: (أو شك) يقصد الفقهاء بالشك -كما قال الإمام النووي في المجموع وغيره- التردد في الشيء, وهذا هو معناه في اصطلاح الفقهاء, الشك: هو التردد في الشيء مطلقاً, يعني: بغض النظر عن حصول الترجيح عندهم، أو تساوي الطرفين.

أما الأصوليون فإنهم يقصدون بالشك ما استوى طرفاه, يعني: تساوى عنده الأمران. مثل إنسان شك في صلاته لا يدري كم صلى ثلاثاً أو أربعاً؛ فتقول له: رجح. قال لك: والله لا أدري! فقل: حاول، يغلب على ظنك شيء؟ قال: لا أدري بالضبط, يعني: (50%) أني صليت ثلاثاً, و(50%) أني صليت أربعاً. وهذا يسمى عند الأصوليين شكاً، وهو أيضاً عند الفقهاء شك, لكن لو قال: أنا أشك لكن كأنني أرجح أني صليت أربعاً, أو أظن أني صليت أربعاً, فهذا أيضاً يسمى عند الفقهاء شكاً, أما عند الأصوليين فلا يسمى شكاً, بل يسمى ظناً- يعني: الراجح يسمى ظناً.

فالمقصود أن قولنا هنا: (أو شك) على اصطلاح الفقهاء، يعني: بغض النظر عن ترجيح أحد الطرفين أو استواء الطرفين.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4735 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4201 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4082 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3889 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع