خطب ومحاضرات
تفسير سورة البينة
الحلقة مفرغة
هذه السورة ترتيبها في المصحف: الخامسة والتسعون. وتسمى بسورة البينة، وسورة لم يكن، وسورة القيمة، وسورة المنفكين، وسورة البريّة. وعدد آياتها ثمان، وهي مدنية على الأصح. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب رضي الله عنه: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال: وسماني لك؟ قال: نعم. فبكى رضي الله عنه) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم . وفي رواية للإمام أحمد عن أبي حبة البدري قال: (لما نزلت: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ))[البينة:1] قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبي : وقد ذُكرت ثَم يا رسول الله؟! قال: نعم، قال: فبكى أبي رضي الله تعالى عنه). وهذا الحديث فيه فضيلة عظيمة لـأبي رضي الله تعالى عنه، إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه هذه السورة، وهذا يشير إلى أنه أقرأ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. واختصاص هذه السورة بالذكر يقتضي اختصاصها وامتيازها بأمور معينة؛ وذلك أن هذه السورة على وجازتها وقصرها اشتملت على أمهات أمور العقيدة والدين من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة وأهل النار، فكل هذه المعاني الأمهات موجودة في هذه السورة الوجيزة الجامعة. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار. وذلك بأن يقرأ شخص على آخر إما لأجل التعلم منه، أو الاستذكار، أو العرض عليه، كما يقرأ مثلاً متعلم القرآن على شيخه، فهذه قراءة تعلم، أو يقرأ على صاحبه للاستذكار والمراجعة. وقال ابن العربي رحمه الله: وفيه -أي: في هذا الحديث- من الفقه: قراءة العالم على المتعلم؛ لأن الأصل أن المتعلم هو الذي يقرأ على العالم، لكن يجوز أن يقرأ العالم على المتعلم. وقال بعض العلماء: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة.
قال الله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:1-3]. قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كلمة (منفكين) معناها: منفصلين وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك أي: انفصل، والمراد من الآية: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم البينة، وقيل: لم يكونوا منتهين عن كفرهم مائلين عنه حتى تأتيهم البينة. والمراد من قوله عز وجل هنا: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعنادهم بعدما تبينوا الحق منها. وقوله: (( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) أي: اليهود والنصارى الذين عرفوه صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أدلته، وشاهدوا آياته، فإنهم لم يكونوا هم والمشركون وهم وثنيو العرب (( مُنفَكِّينَ )) أي: منفصلين وزائلين عن كفرهم وشركهم، أو منتهين عن كفرهم مائلين عنه (( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) أي: الحجة القاطعة المثبتة للمدعى، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: (( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ )). فمجيئه صلى الله عليه وسلم هو الذي أحدث هذه الضجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومكابرتهم بأنه كان شيئاً معروفاً لهم يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحَقّ أن يتبع، فإن ما هم فيه أجمل وأبدع، ومتابعة الأذى فيه أشهى إلى النفوس وأنفع. وقوله تعالى: (( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ )) عبر هنا بالفعل المضارع الذي يدل على الاستقبال، مع أنها في الماضي، فمعنى (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ )) أي: حتى أتتهم البينة، وتلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رسول من الله، وأطلق على النبي صلى الله عليه وسلم بيّنة؛ لأنه هو الذي بين لهم ضلالهم وجهلهم، وهذا السياق فيه بيان نعمة الله على من آمن من الفريقين؛ إذ أنقذهم به. وقيل: معنى الآية: لم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم نبياً، فلما بُعث إليهم نبي افترقوا. وقوله: (( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ )) هو محمد صلى الله عليه وسلم، (( يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً )) وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط والباطل وحذف المدلسين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق فيعرفه طالبوه ومنكروه معاً. وقوله عز وجل هنا: (( يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً )) المقصود: يتلو ما تضمنته الصحف، والمكتوب فيها، وهو القرآن الكريم، والدليل على أنه يتلو ما تضمنته تلك الصحف وهي القرآن الكريم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب لا من كتاب؛ لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام. ثم وصف الله تبارك وتعالى هذه الصحف المطهرة فقال: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة لا عوج فيها، واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل، كما قال تعالى في وصف هذا القرآن الكريم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. وقد اختلف المفسرون في المقصود من قوله تبارك وتعالى: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، فقيل: إن هذه الكتب القيمة هي ما تضمنه القرآن الكريم من أحكام. وقيل: هي اقتباسات من الكتب السماوية التي سبق إنزالها من قبل، فالقرآن فيه أشياء مما في صحف إبراهيم وموسى كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] أي: هذه المعاني التي وردت في سورة الأعلى. وكذلك هناك آيات منها قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ .. [المائدة:45] إلى آخره، فهذا أيضاً إشارة إلى تلك الكتب القيمة التي أشار القرآن إلى مواضع منها، وكما في آخر سورة الفتح أيضاً: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29]، ثم قال: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29]، فهذا إخبار عن أشياء موجودة في الكتب السابقة قبل إنزال القرآن الكريم، فإن الكتب التي في صحف القرآن هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما مما حكاه الله في كتابه عنهم، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم، وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. وهذا الكلام فيه نظر، فكيف يُقال: ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون وإنما كلامنا هنا عن التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله؟! لا ما طرأ عليه التحريف من بعد، فهذا الاحتمال غير وارد أصلاً؛ لأن القرآن الكريم حينما يشير إلى الكتب السابقة فالمقصود بها تلك كما أنزلها الله، وليست كما طرأ عليها التحريف، فهذا التعليل بأن الله سبحانه وتعالى قص علينا ما يوافق الحق وكان قوياً وسليماً، كما قال هنا القاسمي ، فهذا غير وارد ابتداء؛ لأن هذه الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى ليس فيها إلا الحق والتوحيد، فالإشارة هنا إلى الكتب كما أنزلها الله، وليست إلى الكتب المحرفة، فليس هناك حاجة أبداً إلى أن يقول: وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون. يقول: ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق، وإنما فضلوا عليه سواه، ومعنى (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: سور القرآن، (( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) أي: الرسول عليه الصلاة والسلام. وهناك تفسير آخر لقوله: (يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) (فالصحف مطهرة) قد يراد بذلك ما بينه تبارك وتعالى في قوله تبارك وتعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، أو أنه في اللوح المحفوظ، و(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: فيها سور القرآن وآياته، وإنما قيل لها: كتب؛ لأن الكتب -كما قلنا مراراً- هو الجمع، فسميت الآيات والسور كتباً لما جمعت من أحكام وأمور شتى، (( قَيِّمَةٌ )) يعني: عادلة مستقيمة تبين الحق من الباطل. وهناك قول بأن الكتب المقصود بها الأحكام (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: فيها أحكام قيمة، واستدل من قال بذلك بقول الله تبارك وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] أي: حكَم وقضى الله، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (والله! لأقضين بينكما بكتاب الله) أي: بحكم الله؛ لأن الذي قضى به في هذا الحديث ليس مذكوراً في القرآن؛ فدل على أنه حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هناك قول بأنها (كتب قيمة) يعني: سور القرآن، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم، فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة مجموعة قيمة، ولما كان لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قد انفكوا عن ذلك الضلال المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟! فأجاب الحق تعالى: بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه بما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله؛ حتى لا ينحرفوا عنه، فإذا عرض لأحد شبهة رجع في تفسيرها إلى العارف بمعاني الكتب، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها، وفهم أسانيدها، وأن يحافظوا عليها؛ حتى لا يضللهم فيها مضلل، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً، فإنهم اختلفوا في التأويل، وتفرقوا في المذاهب، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر، وكان ذلك بغياً منهم، واستمراراً في المراء، وإصراراً على ما قاد إليه الهوى، وهذا هو قوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا [البينة:4-5] يعني: في كتبهم، إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]. وقال بعض العلماء: إن صدر السورة من أول قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) * (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) * (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب وأسلموا، ثم من أول قوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ.. [البينة:4] إلى آخره في ذم الذين كفروا ولم يهتدوا بهذه البينة. ونزيد هذه الآية إيضاحاً؛ لأن للعلماء في هذه الآية كلام مميز.
كلام الشيخ عطية سالم في تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ...)
اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (منفكين)
تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ...)
يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر هنا الذين كفروا (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) وجاء بعدها (( أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ )) مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلاً من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب؛ لوجود العطف، فالعطف يقتضي المغايرة. إذاً فالمشركون ليسوا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا من المشركين، وهذا لا يؤخذ من مجرد لفظ الآية، وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، وأن الكفر يجمع القسمين، ولكن الخلاف: هل يجمعهما الشرك أيضاً أم لا؟ فهل يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون كما يوصفون بأنهم كفار؟ يقول الشيخ: بين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر، وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان. إذاً: الوصف العام في الكفر، ثم هناك اختص اليهود والنصارى بأنهم يسمون أهل كتاب، واختص عبدة الأوثان بكونهم هم المشركين، وهذا في حدود فهم هذه الآية فقط. وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضاً، كما في قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31] فالشاهد في آخر هذه الآية وهو قوله تعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا شك أن الإشارة هنا إلى اليهود وإلى النصارى، فوصفهم أيضاً بالإشراك، لأن النصارى قالوا: ثالث ثلاثة، واليهود قالوا: عزير ابن الله، واليهود أيضاً مشبهة كما هو معلوم من كفرهم، فهذا من الشرك. وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه منَع نكاح الكتابية، وقال: وهل هل هناك شرك أكبر من قولها: اتخذ الله ولداً؟ فالشاهد هنا في وصف عبد الله بن عمر الكتابية بالشرك، وإن كان جمهور العلماء يختلفون معه في ما ذهب إليه من منع الزواج من الكتابيات، ومن هنا وقع النزاع في مسمى الشرك: هل الشرك يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقاً في الشرع بين معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل الله سبحانه وتعالى ذبائح أهل الكتاب، ولم يحل ذبائح المشركين، وأحل نكاح الكتابيات، ولم يحله من المشركات كما قال تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وقال عز وجل: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]، وقال: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، ثم بين ما في حق الكتابيات وقال عز وجل: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5] إذاً: فهناك مغايرة في الحكم بين أهل الكتاب وبين المشركين. وقد فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) عند الكلام على الآيات في سورة براءة، وذلك عند قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. [التوبة:30] إلى قوله: سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: أنّ الآيات التي نعت على المشركين شركهم في أي نوع من أنواع الشرك كثيرة، كزعمهم أن الملائكة بنات الله، فهذا شرك، وكذلك الذين قالوا: (عزير ابن الله) فهذا شرك، والذين قالوا: (المسيح ابن الله) فهذا أيضاً شرك. فيقول الشيخ رحمه الله تعالى: ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] فأجمع العلماء على أن كفار أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم؛ لأن مقتضى قول بعض الضالين المضلين المنافقين الزنادقة الذين يتجرءون ويزعمون أن أهل الكتاب مؤمنون، وأن صالحهم يدخل الجنة، والعياذ بالله، وهذا تكذيب صريح بالقرآن، ومن شك في كفر اليهودي أو النصراني فهو كافر خارج من الملة، ولا يمكن أن يكون له حظ من الإسلام، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء الزنادقة والمضلين يتلاعبون بآيات الله، ويريدون أن يمارسوا هواية اليهود القديمة في تحريف كلام الله عز وجل عن مواضعه، فالقرآن الكريم صريح في هذه المسألة بلا خلاف، ومقتضى كلامهم أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لمن يعبدون الأوثان فقط، وأما اليهود والنصارى فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وهذا إلحاد في آيات الله تبارك وتعالى. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [البينة:6]. وقوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[البقرة:105]، والعطف يقتضي المغايرة. والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه -هو العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أن وجه الجمع: أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع، وأن أهل الكتاب متصفون ببعضها، وغير متصفين ببعض آخر منها. فأما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحاً، أي: أن عبادة الأوثان صراحة غير موجودة في أهل الكتاب، نعم أنه يوجد فيهم هذه العبادة، ولكنه ليست بطريقة صريحة، فهم الآن يتوسلون بالأصنام، ويبكون أمامها، ويتبركون ويتمسحون بها، فعبادة الأصنام موجودة، ولكنها ليست بصورة صريحة كما هو الحال في مشركي مكة. إذاً: فعطفهم عليهم هو لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف. أي: أن الوثنيين تلبسوا بنوع من الشرك غير النوع الذي تلبس به أهل الكتاب، فهذا هو معنى المغايرة هنا، فكل واحد اختص بنوع من الشرك، فالشرك أنواع، والجنون فنون، فعبادة الأوثان شرك، وعبادة الكواكب شرك، وعبادة الأحجار شرك، وعبادة الأنبياء شرك، وعبادة الملائكة شرك، وعبادة الفئران كما في شرق آسيا شرك، بل وتبني القصور الفخمة من الرخام لعبادتها، وكذلك عبادة الأبقار شرك، فالشاهد أنّ الشرك أنواع، فالمغايرة ناشئة من أن شرك هؤلاء غير شرك هؤلاء، فلا تنافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد للشيطان، ومشرك بعبادته للشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار، كما بينه قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118] أي: وما يعبدون إلا شيطاناً؛ لأن عبادتهم للشيطان هي طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم. وقوله تعالى أيضاً: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]. وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]. وقال تعالى: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137]. فكل هذا الكفر هو بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فإنه إذا قال عليه الصلاة والسلام: الله قتلها، أوحى إليهم أن يجادلوا المسلمين ويقولوا: ما قتلتموه بأيدكم حلال وما قتله الله حرام؟! فأنتم إذاًً أحسن من الله! فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] وما أشبه كثير من الناس في طريقة وأسلوب طعنهم في الأحكام الشرعية -بأسلوب الشيطان وطريقته، وذلك حتى يشككوا الناس في دين الله تبارك وتعالى، فالأسلوب نفس الأسلوب، فهؤلاء ليس لهم رد غير التوقف عن جدالهم، وعدم التنزل إلى هذه الدرك المهلك، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله فإنه مشرك بالله، ولما سأل عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن
يقول الشيخ عطية رحمه الله: اختلف في (منفكين) اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. ثم أشار إلى وجود إشكال في هذه الآية، لكنه لم يفصل، ولم يبين وجه الإشكال؛ ولذلك يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم بينة، والبينة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان شيخنا الشنقيطي يبين الإشكال، ثم بعد ذلك في مرحلة ثانية يرد على هذا الإشكال. فالشيخ عطية يريد هنا أن يقول: إنّ الرازي نقل أنّ هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، يعني: في تفسيرها، ومع ذلك لم يبين وجه صعوبة هذه الآية، ولا وجه الإشكال، فالمرحلة الأولى يريد الشيخ عطية سالم رحمه الله أن يستخرج الإشكال، ثم في مرحلة لاحقة سوف يرد على هذا الإشكال. ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء الذي لم ينفك عنه الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فقيل: هو الكفر الذي كانوا عليه، إذاً فقوله: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ )) أي: عن الكفر الذي كانوا عليه حتى تأتيهم البينة، والتي هي الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال الشيخ عطية بعد ذلك: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك تناقض في الظاهر بين الآية الأولى والآية الثانية، وأما في حقيقة الأمر وعند تحرير المسألة فلابد أن يرتفع التناقض، فلا يمكن أبداً أن يقع تناقض في القرآن الكريم، بل إنّ القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً، فالإشكال يكون في عقولنا وفي أفهامنا نحن، فإذا رجعنا إلى الراسخين في العلم أزالوا لنا هذا الإشكال بما لديهم من ملكات تؤهلهم لذلك. ففي الجزء الأول من الآية: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أنهم لن يتركوا الشرك والكفر الذي هم عليه حتى تأتيهم البينة، فمعنى ذلك أن البينة إذا جاءت فسوف يزول عنهم ذلك الشرك، وسوف ينفكون عنه، وفي الآية الأخرى: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) أنهم لما جاءتهم البينة ازدادوا كفراً وتفرّقاً، في حين أن صدر السورة يُفهم أن البينة إذا جاءت فسيزول عنهم الشرك. وقد سبق أن بينا في أثناء الكلام أن فريقاً من العلماء قال: إن الشطر الأول من الآيات يتكلم فيمن آمن فعلاً لما جاءته البينة، وأما قوله: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ .. [البينة:4] إلى آخره، فهي في شأن الذين لم يهتدوا ولم يؤمنوا بعدما جاءتهم البينة، فهذا فريق وهذا فريق. وهذا الإشكال مبني على أن منفكين بمعنى: تاركين، وعليه جميع المفسرين، والذي جاء عن الشيخ رحمه الله تعالى: أن معنى (منفكين) أي: مرتدعين عن الكفر والضلال (( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) يعني: وقد أتتهم. يقول: ولكن في (منفكين) وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون (منفكين) بمعنى: متروكين، لا بمعنى تاركين، أي: لم يكونوا جميعاً متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم سدى، ولا ليهملهم حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا مثل قول الله تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] يعني: لا نوحي إليه وحياً، ولا نجعل له حساباً ولا جزاءً، ومثل قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] أي: أنهم لن يتركوا، وقريب من هذا قوله تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53]. وقد حكى أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن به النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يرسل إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة، فهذا القول يزيل هذا الإشكال الكبير عند المفسرين. يقول: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وأورد في الكلام على هذه السورة، وفي كون المشركين وأهل الكتاب لم يكونوا منفكين ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين: هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟ أو المراد: لم يكونوا مكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث؟ يعني: أنهم قبل أن يبعث لم يتركوا التصديق به؛ لأنهم يعرفون صفته من كتبهم، لكن لما بُعث كفروا به وجحدوا، أو أن المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول؟ وهذا هو الراجح كما قلنا. وناقش شيخ الإسلام تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ )) أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه.. إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى. وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:3-5]، فقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا)[الزخرف:5] أي: أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: ألأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟! فهذا ما لا يكون. فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى: (( مُنفَكِّينَ )) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى وبالله التوفيق.
قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]. قوله: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) المقصود بذلك هنا من لم يؤمن من أهل الكتاب، المقصود (( إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ))، وهذا مثل قوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا [الشورى:14]. والبينة هنا قيل: هي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى، وقيل: (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) أي: القرآن الكريم، وقيل: (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) أي: ما في كتبهم من بيان نبوته صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما تفرقوا في كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن تبينوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم. يقول القاسمي في تفسير قوله: (إلا من بعد ما جاءتهم البينة): أي: على ألسنة أنبيائهم، فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم في كتبهم، كذلك أيضاً جحدوا بينته في القرآن الكريم لما بعث عليه الصلاة والسلام، فتفرقوا فيها، وابتعدوا عن حقيقتها بسبب هذا التفرق، فإن هذا كان شأن أهل الكتاب في بينته وبينتهم، أي: إذا كان أهل الكتاب وهم الذين أنزل إليهم الكتابان من قبل: الإنجيل والتوراة، وهذان الكتابان مملوءان بالبشارات ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن كلمة الإنجيل نفسها تعني البشارة، والبشارة هي أساس البيان لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى إن معنى اسمه في الإنجيل: البشارة، والمقصد من دعوة المسيح هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله سلم، فإذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، وكانوا على علم بوصف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصف أصحابه، فإن ذلك كان موجوداً في كتبهم، ومع ذلك اختلفوا فيه، وجحدوا بعدما بعث، فما ظنك بالمشركين الذين هم أميون لا كتاب لهم، وهم أبعد عن العلم!! فلا شك أنهم سيكونون أولى بالانقياد للهوى، والغرق في الجهالة. وقال بعض العلماء: خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم العلم، فالمفترض أن يكونوا على علم، فإن تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، وأولى بوصف الكفر، والإعراض عن دين الله تبارك وتعالى. وقد فاتنا تنبيه مهم يتعلق بقوله تعالى: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]. يقول الشيخ عطية سالم: مدلول الكتب على ظاهرها، أي: أن بعض العلماء -كما قلنا- قالوا: الكتب هنا هي الآيات وسور القرآن الكريم، أو هي الأحكام. وقول آخر: أن الكتب على ظاهرها جمْع كتاب، والمراد الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كما في قوله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17]، ثم قال بعدها: (( إِنَّ هَذَا )) يعني: هذا الكلام نفسه إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19]. وكقوله أيضاً في عموم الكتب الأولى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [الأحقاف:30]، وقال أيضاً: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4]. وقال أيضاً: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114]؛ لأن ما فيه يصدّق ما في كتبهم التي سبق إنزالها، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور:34]. وقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76]، فهو مهيمن على ما عندهم، ومحاسب ومرسخ للحق، ومبين للباطل، وقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الأنعام:92]، فهذا كله يدل على أن آيات القرآن متضمنة كتباً قيمة مما أنزلت من قبل. وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، فهذا الكلام موجود في التوراة، وهذا هو معنى قوله: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3] يعني: أنّ القرآن فيه أشياء من الكتب القيمة التي سبقت. وقال أيضاً: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموماً من أهل الكتاب والمشركين، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ))؛ وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم وبما سيأتي به، فكانوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89]، وكقوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى:14] فاختصوا بالذكر هنا لمعرفتهم بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه. ثم يقول الشيخ عطية سالم : ومما يدل على ما ذكرنا من معنى (كتب قيمة) أمران من كتاب الله: الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث عن الذين كفروا، مما يؤكد أنّ تفسير (كتب قيمة) يكون بهذا المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً. والثاني منهما: أن القرآن لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يتلو على المشركين قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2] فجاء نفس الأسلوب الذي استعمل مع المشركين فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)؛ لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، ولذا قال: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) فاقتصر على الآيات، وأما أهل الكتاب فذكر أن فيها كتباً قيمة؛ لأنهم على علم بالكتب -يعني- السابقة.
قال تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ [البينة:5]. قوله: (( وَمَا أُمِرُوا )) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: موحدين لا يعبدون سواه، ومذعنين خاضعين لا يشركون بالله سبحانه وتعالى شيئاً: لا واسطة، ولا مالاً، ولا كرامة، ولا جاهاً. إذاً: فأهل الكتاب تفرقوا بعد ما جاءتهم البينة، مع أن المفروض أن البينة والعلم تجعلهم يتحدون وينقادون لها، ومع ذلك أعرضوا عنها. فالواو في قوله: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) واو الحال، أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فهذا يقتضي أن يؤمنوا به، فيأتي النبي، وتأتي البينة، ويأتي القرآن يدعوكم إلى أن تعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فعلام التفرق والأمر في غاية الوضوح؟! ولذلك فأنا أعجب من عقلية هؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم؛ فالمسلمون لا يدعونهم إلى عبادة محمد عليه الصلاة والسلام، ولا ادعاء أنه ابن لله، ولا إلى عبادة الأصنام والأحجار، وإنما يدعونهم إلى عبادة الله الواحد الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهل مثل هذا يعرض عنه الإنسان؟! قوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا )) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (( إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ))، واللام في قوله: (( إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ )) بمعنى: (أن) والمعنى: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله، قال الفراء : والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيراً، فأحياناً يستعملون اللام مكان (أن) كقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26] أي: يريد الله أن يبين لكم، وهذا يتعلق بالإرادة، وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8] فمعناه: يريدون أن يطفئوا، وقال في الأمر: وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71]، أي: وأمرنا أن نسلم، وهذا في الأمر، فهذا له شواهد كثيرة كما بينا. فقوله: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) أي: أن يكونوا موحدين لا يعبدون سواه، (( حُنَفَاءَ )) أي: مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، فالحنيف: هو المائل، والحنف الذي يكون في السقف هو الميل الذي يكون في السقف. فمعنى (حنيفاً) أي: مائلاً عن الأديان ومعرضاً عنها إلى دين الإسلام، والحنفية هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، (( حُنَفَاءَ )) أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله، وأصله: جمع حنيف وهو المائل المنحرف، وسمي به إبراهيم عليه السلام؛ لانحرافه عن وثنية الناس كافة. قوله: (( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ )) أي: يقيمون الصلاة المكتوبة، ويأتون بها بحدودها، وفي أوقاتها، بإحضار القلب هيبةَ المعبود، وترهيبه به، وأن تكون بخشوع لا أن تكون الصلاة مجرد حركات ظاهرة، فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة. وقوله: (( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ )) أي: عند وجوبها، وذلك بصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى. قوله: (( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) أي: وذلك الذي أمروا به سواء على لسان أنبيائهم وفي كتبهم، أو على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) أي: الكتب القيمة، وهناك اختلاف بين العلماء في المقصود بدين القيمة، ولكن قبل أن نبين ذلك ننقل قول ابن كثير رحمه الله تعالى، قال: استدل كثير من الأئمة كـالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]. أقول: يشيع الاستدلال بهذه الآية: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) في كل أبواب العبادات على الإخلاص، وأن أي عبادة يشترط فيها النية، فالنية ركن أساسي في الصلاة، والنية ركن في الحج، والزكاة لابد فيها من النية، والصيام لابد فيه من النية، فلو أن رجلاً أخرج في آخر السنة مالاً ولم ينو أنه زكاة ماله فلا تسقط عنه فيها الزكاة. ولو أن شخصاً كان جنباً فانغمس في البحر وخرج، أو اغتسل بسبب حرارة الجو، فلا يرفع ذلك جنابته، لأنه لم ينو رفع الحدث الأكبر، إذن: فالنية ركن متين في العبادات، وهذا موضوع كبير ومهم، لكن هذه إشارة تابعة، فهذه الآية دائماً نجدها في كل باب من أبواب الفقه عند بيان ركنية النية، فهي تميز العادة من العبادة، فلو رجلاً جلس في المسجد عشرة أيام متواصلة ولم يغادره، ولم ينو الاعتكاف، وآخر يعمل نفس العمل لكنه نوى الاعتكاف، فالأول لا يكتب له أجر الاعتكاف، والآخر يكتب، والمفرق بينهما هي النية. فالنية لها شأن خطير جداً في الشرائع الإسلامية، وهي أيضاً تميز العبادات عن بعضها، فتميّز بين النفل وبين الفرض، فقد تشتبه صورة الصلاة في النفل والفريضة، ثم تأتي النية فتميز وتفرق بينهما. قوله تعالى: (( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) (وذلك) أي: الذي أمروا به، (دين القيمة) أي: دين الكتب القيمة، أو وذلك دين الأمة القيمة الوسط، وهي أمة الإسلام، فتكون لفظة (القيمة) صفة لمحذوف. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكانت فرقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا، ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله، ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يَصِلوا عباد الله بوفائهم، فإذا كان هذا هو الأصل الذي يُرجع إليه في الأوامر فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيُردّ إليه كل ما يعرض لهم من المسائل، ويحل به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحتم الإخلاص في الأنفس تخلق الإنصاف عليها فكانت فيها الرحمة، ولم تطرق طرقها الفرقة، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟! أفما ينعاه كتابنا الشهيد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعاً، وملأناه محدثات وبدعاً؟! من خلال ما تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوته إلى قبول ما جاء به، وأن (مِن) في قوله تعالى: (( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) للتبعيض؛ لأن منهم من آمن ومنهم من كفر، وهذا كلام القاسمي رحمه الله تعالى. فالمقصود: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) في قول أنها ماذا؟ من للتبعيض يعني: لأن في طائفة أخرى أسلمت واضح؟ وأن معنى (لم يكن منفكين) أي: لم يكن وجه الحق ينكشف لهم فيقع الزلزال في عقائدهم فينفك عن الرهبة المحضة التي كانوا فيها حتى تأتيهم البينة.
كلام الشيخ عطية سالم في قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله ..)
مراحل الدعوة إلى وحدة الديان
آثار دعوى وحدة الأديان
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |