خطب ومحاضرات
حتمية المواجهة
الحلقة مفرغة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا هو الدرس الواحد والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الثالث عشر من شهر جمادى الأولى من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وحديثي إليكم في هذه الليلة ليس كما قلتُ لكم بالأمس أحاديث عابرة، بل هو حديث غير عابر حول موضوعٍ كبير، اخترت له عنواناً هو (
صور النصر
ومثله أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52] فذكر الله تعالى أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فضلاً عن النصر الأكبر يوم القيامة، ونصرهم في الحياة الدنيا يكون بصور كثيرة منها:
1- النصر الحقيقي المباشر وهزيمة أعدائهم.
2- منها: إظهار الحق الذي يحملون.
3- ومنها: أن الله تعالى يمنحهم الصبر والثبات على دينهم، وعقيدتهم، وما يقولون، وما يدينون به، فيظلون صابرين كما صبر أصحاب الأخدود الذين عذبوا وأوذوا، وأحرقوا بالنار، فظلوا صامدين على مذهبهم ودينهم، وعقيدتهم، وذكرهم الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1].
ومثله قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فإن هذه الآية صريحة في أن الله تعالى ينصر الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فجعل النصر معلقاً بشرط مستقبلي لا يعلمه إلا الله، فلا نستطيع مثلاً أن نؤكد أن هؤلاء المجاهدين، أو أن هؤلاء المقاتلين إن نصروا ثبتوا، وقاموا بشريعة الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فكم من فئة أو طائفة قاتلت معلنة راية الدين، وأنها تجاهد في سبيل الله، فلما رزقها الله تعالى النصر نكلت عما كانت تدعو إليه، وغيرت وبدلت، وانحرفت عن منهجها وشريعة ربها.
ولهذا قال الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] ثم قال الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج:41] فإذا رأيت مقاتلاً في سبيل الله رافعاً راية الدين، ومع ذلك هو لا ينصر فتذكر هذه الآية، فلعله لو نصر لغير وبدل، قال الله تعالى:الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] وقال الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].
حقيقة النصر
إنَّ مجموع هذه الآيات وغيرها، تؤكد حقيقة أساسية وهي أنه إذا وجد الإيمان الصادق بالله عز وجل ووجد الالتزام الجاد بشريعته تعالى، فإن الله يبارك في القوة القليلة والجهد القليل، ويكمل ما نقص من الأسباب بإذنه، وحوله وقوته، فالله تعالى قوي عزيز، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
قصة طالوت وجالوت
لقد رأينا في هذه القصة كيف انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بإذن الله، وكيف قتل داود جالوت، وكيف ورث الله هؤلاء المؤمنين الملك والحكمة، ونصرهم على عدوهم، ولقد رأينا في هذه القصة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] أن هؤلاء القلة صبروا على الامتحان والابتلاء، فلما عُرِضَ هذا النهر العذب الفرات إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] نهرٌ عذبٌ حلوٌ فراتٌ، وهم عطاش محتاجون إلى الماء، ومع ذلك يقع الاختبار فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249].
إنها شربة واحدة باليد، حتى يذوقوا حلاوته، فتتعلق به نفوسهم ليتم الاختبار والابتلاء، ويعلم الصادق الجاد المؤمن الممتثل لأمر الله، من ذلك الإنسان الذي إذا بان له الطمع أسرع إليه، وإذا عرضت له الدنيا ركض وراءها، وترك أمر الله عز وجل: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا [البقرة:249] قال أولئك الذين شربوا وأكثروا وتجاوزوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بـِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ [البقرة:249] والذين صبروا في الاختبار، والذين لم يشربوا من النهر، قالوا كما ذكر الله عز وجل قالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
فثبتوا وصبروا، وكتب الله تعالى النصر ليس لهؤلاء الكثرة الذين شربوا، بل لتلك القلة التي صبرت ونجحت في الاختبار، وهذا درس ذكره الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين كانوا يقاتلون معه في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وغيرها، ليعلموا أن النصر إنما يكون بطاعة الله تعالى وبترك معاصيه، والابتعاد حتى عن الشبهات والمكروهات.
العفة من أعظم أسباب الشجاعة والنصر
ولذلك فإن التاريخ يشهد أن الأمة تنهزم متى كانت تجري وراء شهواتها وملذاتها، وأن الأمة التي تربي نشأها وشبابها على العبودية للمصلحة، أو العبودية للذة؛ أن هذه الأمة ليس لديها نية صادقة للصمود أو المواجهة لعدوها. إن الغربي الكافر اليوم إباحي شهواني، يجري وراء المتاع ولا يبين له شيء منه إلا أسرع إليه، فأي شيء يغري هذا الكافر إلى الصمود أو الصبر والثبات! وأي شيء يدعوه إلى خوض المعارك والاستبسال فيها! وأي شيء يجعله ينازل الموت ولا يخاف منه!!!
لقد كان من آخر الأخبار أن الرئيس الأمريكي الجديد، قد سمح بالشذوذ الجنسي في قطاع الجيش، أو بمعنى آخر سمح للشاذين جنسياً أن يكونوا ضمن المجندين، والمقصود بالشذوذ الجنسي والعياذ بالله عمل قوم لوط أو سائر الفواحش، بين الرجال، أو بين النساء أو غير ذلك.
إن السماح بذلك في قطاع الجيش أثار موجة من الرعب والذعر والانتقاد، ولكنه يدل على مدى ما وصلت إليه تلك الجيوش من الانحلال الخلقي، ونحن نعلم جميعاً أن الجيوش الأمريكية والغربية التي جاست خلال الديار ومرت، وحاربت سواءٌ في الخليج أم في غيره، أنه يوجد أكثر من (10%) منهم من النساء، وبعض هؤلاء النساء، إن لم أقل كلهن جئن خصيصاً للترفيه عن الجنود، وإحياء الحفلات الراقصة، وإقناع الجنود بالبقاء في بلاد بعيدة عن أرضهم، إلى غير ذلك من المقاصد التي يسعون إليها في كل مكان نـزلوا فيه.
ومثل هؤلاء نقطع يقيناً أنهم لا يملكون القوة على المواجهة، ولا الصبر، ولا يرغبون في الموت بحال من الأحوال، بل هم كما ذكر الله عز وجل: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أي حياة كانت ولو كانت حياة الذل، أو حياة الفقر، أو البؤس، أو الشقاء، المهم أن الحياة عندهم هدف بذاته، فهم يسعون إلى البقاء فيها مهما كان فيها من الذل، ومن الهوان، ومن الفقر لأن الحياة عندهم هدف بذاته.
نعم لقد ملك الغرب ناصية الآلة، وطوع المادة، ونجح في الاختراع، ولكن المهم هو هذا الإنسان الذي يحرك الآلة ويديرها، والذي يستفيد من كل الاختراعات وهو وراءها، هذا الإنسان هو المهم، فمتى ما انهزم هذا الإنسان فإن الآلة لا تنفعه حينئذ.
الهزيمة النفسية ودورها في الحروب
بل ما رأيك لو واجه الكفار -في أي موقع- مسلمين حقيقيين، يقاتلون عن عقيدة، وعن مبدأ، وإيمان، إنهم حينئذٍ سيكونون شيئاً آخر غير الذي ذكر لنا في التقارير؛ بل سيفرون فرار الجرذان من المعارك؛ وسوف يتركون وراءهم أكوام الأسلحة، والقوات، حيث لم تكن تنفعهم حصونهم من الله عز وجل، بل يأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا كما وعد: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2] من حيث لم يظنوا ولم يتوقعوا، ربما يتوقع الكافر أن يؤتى من الجو أو من البحر أو من البر، ولكنه أوتي من حيث لم يحتسب من قلبه، فأوتي بفقدان شجاعته، وفقدان قوته، وفقدان المواجهة والقدرة والصبر، ولهذا كانت الهزيمة النفسية هي أقسى وأشد ألوان الهزيمة في المعارك، ولك أن تتصور مقارنة سريعة بين هؤلاء القوم الذين كانوا يمشون، وأمامهم، ومن بين أيديهم، ومن فوقهم أعداد هائلة غريبة من الأسلحة والطائرات والقوى المختلفة التي ربما تستخدم لأول مرة، ومع ذلك يواجهون مثل هذه أن (15%) يذهبون ضحية الحروب النفسية، أو ضحية الأمراض النفسية.
لك أن تواجه ذلك وتقارنه بأولئك الإخوة الذين قاتلوا في أفغانستان، وكيف كان هؤلاء يضربون أروع الأمثلة في الصبر والبسالة والفداء، وكان الواحد منهم يموت أخوه وهو يشاهد، فيسرع إلى الموت وهو يتعجب لماذا مات أخوه وبقي هو! ويقول: لا خير في الحياة بعد فلان وفلان، ولهذا على رغم أنهم لم يكونوا يملكون أسلحة تذكر ولا قوةًَ تذكر، ولا تنظيماً، ولا خبرةً؛ إلا أن هؤلاء الشباب الذين كانوا في مقتبل العمر، وربما ترك الواحد منهم زوجته، وربما كان قد خطب وعقد، ولم يدخل عليها بعد، وربما ترك أهلاً ينتظرونه، وقد أتوا من بلاد فيها ألوان التيسيرات المادية، وألوان الترف، ومع ذلك ذهبوا إلى هناك وجلسوا سنوات طويلة، وقاوموا العدو الكافر حتى خرج من أفغانستان، وقُتِل مِنهم مَن قُتِل نسأل الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، وجُرِح مِنهم مَن جُرِح.
ثم جاءوا، وأنت ترى اليوم في عيونهم شوقاً إلى أرض أخرى يقام فيها الجهاد، ترى في عيونهم، وتقرأ في وجوههم، وتسمع في كلماتهم، حسرات وزفرات على أنهم خاضوا المعارك وخرجوا منها ولـم يقتلوا في سبيـل الله عز وجل فهم ذهبوا يبحثون عن الموت، وعن القتل، وعن الشهادة في سبيل الله عز وجل.
فشعروا بأنهم حرموا شيئاً كثيراً، وهم يتربصون وينتظرون مواقع أخرى تدار فيها المعارك مع أعداء الله، حتى يذهبوا إلى هناك رجاء أن يحصلوا على ما لم يحصلوا عليه في أفغانستان، فأي فرق تجد بين هؤلاء وأولئك، والله ما رأينا أحداً منهم يعاني من مرض نفسي، ولا يعاني من أزمة، ولا يعاني إلا الشجاعة والقوة والبسالة، ويتمنى الواحد منهم أن يقتل في سبيل الله تعالى! مع أنهم شباب في مقتبل العمر، ولم يتلقوا تدريبات تذكر، وكانت بيئاتهم ربما غير ملائمة لإعدادهم بشكل صحيح.
ومع ذلك كله كانوا أقوى ما يكونون، وأشجع ما يكونون، وأصبر ما يكونون؛ لسبب واحد: أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدة وعن مبدأٍ وعن دين، فأي فرق بين هؤلاء وبين أولئك الذي خضعوا لدراسات واختبارات، وألوان من الإعداد النفسي والمعنوي، مع أنهم يملكون قوة رهيبة، ومع ذلك انظر الفرق البعيد بين هؤلاء وهؤلاء.
بل إني أذكر لك أعجب من هذا: أحد الشباب منذ زمن كانت له أمٌ كبيرة السن، وكانت تسمع أخبار المجاهدين في أفغانستان فقالت: والله لا بد أن أذهب إلى هناك، وحاول ولدها أن يقنعها بعدم الذهاب، ولكن عبثاً أن يحاول إقناعها، وما زالت مصرة حتى ذهبت إلى هناك مع ولدها برفقته، وساعدت المجاهدين في بعض الأعمال المشروعة، ثم طاب خاطرها فعادت إلى بلادها.
إنه لا سواء بين من يبحث عن الموت، وبين من يهرب من الموت، وأي حيلة في إنسان يبحث عن الموت، أنت لو هددت إنساناً لهددته بالموت! فإذا كان هو يريد الموت لا معنى لهذا التهديد، وهذا لسان حالهم يقول:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخبر المطارف |
لا أريد أن أموت على سرير يكون عليها ألوان المطارف، والحشايا والثكايا، ويقول:
ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف |
عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نـزالون عن التزاحف |
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف |
بماذا نهدده؟ بالموت؟!
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف |
وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف |
صحة وصدق الإيمان بالله والدار الآخرة
منها مثلاً: صحة وصدق الإيمان بالله عز وجل والدار الآخرة، وما وعد الله تعالى المؤمنين والمتقين والصابرين، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] فإذا كان الناس يعيشون في هذه الدنيا ويقيسون أمورهم بالجدوى الدنيوية، فإن المؤمن الصادق يقيس ذلك بالجدوى الأخروية.
وهذا هو سر البسالة التاريخية للمسلمين الذين ضربوا في المعارك أروع الأمثلة، لأنهم يدركون أن ثمة داراً أخرى، وقد بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج مجموعة من أصحابه للدعوة إلى الله تعالى فدخل أحدهم على p=1000341عامر بن الطفيل
، ودعاه إلى الله تعالى وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وأمره بالإيمان بالله ورسله، وكان p=1000341عامر بن الطفيل طاغية مستكبراً، فأشار إلى رجل من ورائه فطعنه بالخنجر في بطنه، ثم جر السكين إلى سرته بل أسفل من ذلك، وظنوا أنهم بذلك صنعوا له شيئاً عظيماً، فاستقبل هذا الصحابي الجليل الدم النازف منه بغزارة بيديه، ثم صبه على رأسه ووجهه وصدره، وهو يقول: [الله أكبر! فزتُ ورب الكعبة] واسم هذا الصحابي: هو حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه، فاز بماذا؟ وقد ترك أزواجه، وترك أولاده، وترك أمواله، وترك الدنيا وراء ظهره؛ لقد فاز برضوان الله تعالى فاز بالشهادة، وقالها صادقاً؛ لأن موقف الموت ليس فيه إلا الصدق الخالص، قالها بصدق، بحرارة الإيمان، وبفرحة لقاء الله عز وجل [[ فزتُ ورب الكعبة]].إن الناس يقيسون أمورهم بالدنيا، أما المؤمن فإنه يقيس ذلك بالجدوى الأخروية، وهو لا يمكن أن يعيش في الدنيا وأن يغفل عن الدار الآخرة، قال تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] نِعْمَ ذكرى الدار الآخرة، وأن تكون لهم في حساب ومن قلوبهم ونظرهم على بال.
هناك حقيقة قرآنية عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه في مواضع عدة، وأثبتتها لنا الأحداث التاريخية، والوقائع القائمة اليوم فصارت في حس المسلم المطلع من المشهودات بعد أن كانت من الغيبيات، هذه الحقيقة تبين في قولـه تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] هذه الآيـة التي فيها وعد مـن الله تعالى بالنصر لمن نصروه، وأقاموا دينه، والتزموا بأمره وابتعدوا عن نهيه.
ومثله أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52] فذكر الله تعالى أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فضلاً عن النصر الأكبر يوم القيامة، ونصرهم في الحياة الدنيا يكون بصور كثيرة منها:
1- النصر الحقيقي المباشر وهزيمة أعدائهم.
2- منها: إظهار الحق الذي يحملون.
3- ومنها: أن الله تعالى يمنحهم الصبر والثبات على دينهم، وعقيدتهم، وما يقولون، وما يدينون به، فيظلون صابرين كما صبر أصحاب الأخدود الذين عذبوا وأوذوا، وأحرقوا بالنار، فظلوا صامدين على مذهبهم ودينهم، وعقيدتهم، وذكرهم الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1].
ومثله قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فإن هذه الآية صريحة في أن الله تعالى ينصر الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فجعل النصر معلقاً بشرط مستقبلي لا يعلمه إلا الله، فلا نستطيع مثلاً أن نؤكد أن هؤلاء المجاهدين، أو أن هؤلاء المقاتلين إن نصروا ثبتوا، وقاموا بشريعة الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فكم من فئة أو طائفة قاتلت معلنة راية الدين، وأنها تجاهد في سبيل الله، فلما رزقها الله تعالى النصر نكلت عما كانت تدعو إليه، وغيرت وبدلت، وانحرفت عن منهجها وشريعة ربها.
ولهذا قال الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] ثم قال الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج:41] فإذا رأيت مقاتلاً في سبيل الله رافعاً راية الدين، ومع ذلك هو لا ينصر فتذكر هذه الآية، فلعله لو نصر لغير وبدل، قال الله تعالى:الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] وقال الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].
فالنصر حقيقة ليس بالقوة المادية فحسب، ولا بالكثرة البشرية العددية فحسب، وإنما حقيقة النصر من عند الله عز وجل فالله يؤتي النصر من يشاء، قال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150] فمن استنصر بغير الله تعالى من قوى البشر والشرق والغرب والماديات، خذله الله تعالى وهزمه، ومن استنصر بالله واعتصم بالله تعالى كفاه.
إنَّ مجموع هذه الآيات وغيرها، تؤكد حقيقة أساسية وهي أنه إذا وجد الإيمان الصادق بالله عز وجل ووجد الالتزام الجاد بشريعته تعالى، فإن الله يبارك في القوة القليلة والجهد القليل، ويكمل ما نقص من الأسباب بإذنه، وحوله وقوته، فالله تعالى قوي عزيز، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
من ضمن هذه الحقيقة القرآنية العظيمة، تأتي قصة طالوت وجالوت، التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] وفيها عظة وعبرة، وفي آخرها: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] وقال: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
لقد رأينا في هذه القصة كيف انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بإذن الله، وكيف قتل داود جالوت، وكيف ورث الله هؤلاء المؤمنين الملك والحكمة، ونصرهم على عدوهم، ولقد رأينا في هذه القصة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] أن هؤلاء القلة صبروا على الامتحان والابتلاء، فلما عُرِضَ هذا النهر العذب الفرات إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] نهرٌ عذبٌ حلوٌ فراتٌ، وهم عطاش محتاجون إلى الماء، ومع ذلك يقع الاختبار فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249].
إنها شربة واحدة باليد، حتى يذوقوا حلاوته، فتتعلق به نفوسهم ليتم الاختبار والابتلاء، ويعلم الصادق الجاد المؤمن الممتثل لأمر الله، من ذلك الإنسان الذي إذا بان له الطمع أسرع إليه، وإذا عرضت له الدنيا ركض وراءها، وترك أمر الله عز وجل: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا [البقرة:249] قال أولئك الذين شربوا وأكثروا وتجاوزوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بـِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ [البقرة:249] والذين صبروا في الاختبار، والذين لم يشربوا من النهر، قالوا كما ذكر الله عز وجل قالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
فثبتوا وصبروا، وكتب الله تعالى النصر ليس لهؤلاء الكثرة الذين شربوا، بل لتلك القلة التي صبرت ونجحت في الاختبار، وهذا درس ذكره الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين كانوا يقاتلون معه في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وغيرها، ليعلموا أن النصر إنما يكون بطاعة الله تعالى وبترك معاصيه، والابتعاد حتى عن الشبهات والمكروهات.
ولهذا ذكر أولو العلم أن العفة من أعظم أسباب الشجاعة، الإنسان العفيف، البعيد عن المال الحرام أو المشتبه، والبعيد عن الشهوات، والبعيد عن اللذات المحرمة، فهذا الإنسان يرزقه الله تعالى في قلبه الشجاعة والقوة، أما ذلك الإنسان الراكض وراء الشهوات، والمحرمات، والمغريات، والذي همه إشباع بطنه، وفرجه، وملء جيبه، من حلال أو من حرام، فإن هذا الإنسان أسرع ما يكون فراراً من المعارك.
ولذلك فإن التاريخ يشهد أن الأمة تنهزم متى كانت تجري وراء شهواتها وملذاتها، وأن الأمة التي تربي نشأها وشبابها على العبودية للمصلحة، أو العبودية للذة؛ أن هذه الأمة ليس لديها نية صادقة للصمود أو المواجهة لعدوها. إن الغربي الكافر اليوم إباحي شهواني، يجري وراء المتاع ولا يبين له شيء منه إلا أسرع إليه، فأي شيء يغري هذا الكافر إلى الصمود أو الصبر والثبات! وأي شيء يدعوه إلى خوض المعارك والاستبسال فيها! وأي شيء يجعله ينازل الموت ولا يخاف منه!!!
لقد كان من آخر الأخبار أن الرئيس الأمريكي الجديد، قد سمح بالشذوذ الجنسي في قطاع الجيش، أو بمعنى آخر سمح للشاذين جنسياً أن يكونوا ضمن المجندين، والمقصود بالشذوذ الجنسي والعياذ بالله عمل قوم لوط أو سائر الفواحش، بين الرجال، أو بين النساء أو غير ذلك.
إن السماح بذلك في قطاع الجيش أثار موجة من الرعب والذعر والانتقاد، ولكنه يدل على مدى ما وصلت إليه تلك الجيوش من الانحلال الخلقي، ونحن نعلم جميعاً أن الجيوش الأمريكية والغربية التي جاست خلال الديار ومرت، وحاربت سواءٌ في الخليج أم في غيره، أنه يوجد أكثر من (10%) منهم من النساء، وبعض هؤلاء النساء، إن لم أقل كلهن جئن خصيصاً للترفيه عن الجنود، وإحياء الحفلات الراقصة، وإقناع الجنود بالبقاء في بلاد بعيدة عن أرضهم، إلى غير ذلك من المقاصد التي يسعون إليها في كل مكان نـزلوا فيه.
ومثل هؤلاء نقطع يقيناً أنهم لا يملكون القوة على المواجهة، ولا الصبر، ولا يرغبون في الموت بحال من الأحوال، بل هم كما ذكر الله عز وجل: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أي حياة كانت ولو كانت حياة الذل، أو حياة الفقر، أو البؤس، أو الشقاء، المهم أن الحياة عندهم هدف بذاته، فهم يسعون إلى البقاء فيها مهما كان فيها من الذل، ومن الهوان، ومن الفقر لأن الحياة عندهم هدف بذاته.
نعم لقد ملك الغرب ناصية الآلة، وطوع المادة، ونجح في الاختراع، ولكن المهم هو هذا الإنسان الذي يحرك الآلة ويديرها، والذي يستفيد من كل الاختراعات وهو وراءها، هذا الإنسان هو المهم، فمتى ما انهزم هذا الإنسان فإن الآلة لا تنفعه حينئذ.
تقول التقارير الأمريكية نفسها: إن أكثر من (15%) من الذين شاركوا في عاصفة الصحراء كما يسمونها، يعانون اليوم من أزمات نفسيه حادة! حتى إن الكثير منهم ربما كان نتيجة المعاينة الطبية لهم أن يسرحوا من الخدمة، نعم أكثر من (15%) يعانون من أزمات نفسية حادة لمجرد أنهم سمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا أصوات المدافع، وسمعوا طبول الحرب، فما بالك لو كانت حرباً حقيقية واجهوا فيها أي شعب من الشعوب، ورأوا إخوانهم يتساقطون أمامهم ومن بين أيديهم قتلى وجرحى؟!
بل ما رأيك لو واجه الكفار -في أي موقع- مسلمين حقيقيين، يقاتلون عن عقيدة، وعن مبدأ، وإيمان، إنهم حينئذٍ سيكونون شيئاً آخر غير الذي ذكر لنا في التقارير؛ بل سيفرون فرار الجرذان من المعارك؛ وسوف يتركون وراءهم أكوام الأسلحة، والقوات، حيث لم تكن تنفعهم حصونهم من الله عز وجل، بل يأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا كما وعد: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2] من حيث لم يظنوا ولم يتوقعوا، ربما يتوقع الكافر أن يؤتى من الجو أو من البحر أو من البر، ولكنه أوتي من حيث لم يحتسب من قلبه، فأوتي بفقدان شجاعته، وفقدان قوته، وفقدان المواجهة والقدرة والصبر، ولهذا كانت الهزيمة النفسية هي أقسى وأشد ألوان الهزيمة في المعارك، ولك أن تتصور مقارنة سريعة بين هؤلاء القوم الذين كانوا يمشون، وأمامهم، ومن بين أيديهم، ومن فوقهم أعداد هائلة غريبة من الأسلحة والطائرات والقوى المختلفة التي ربما تستخدم لأول مرة، ومع ذلك يواجهون مثل هذه أن (15%) يذهبون ضحية الحروب النفسية، أو ضحية الأمراض النفسية.
لك أن تواجه ذلك وتقارنه بأولئك الإخوة الذين قاتلوا في أفغانستان، وكيف كان هؤلاء يضربون أروع الأمثلة في الصبر والبسالة والفداء، وكان الواحد منهم يموت أخوه وهو يشاهد، فيسرع إلى الموت وهو يتعجب لماذا مات أخوه وبقي هو! ويقول: لا خير في الحياة بعد فلان وفلان، ولهذا على رغم أنهم لم يكونوا يملكون أسلحة تذكر ولا قوةًَ تذكر، ولا تنظيماً، ولا خبرةً؛ إلا أن هؤلاء الشباب الذين كانوا في مقتبل العمر، وربما ترك الواحد منهم زوجته، وربما كان قد خطب وعقد، ولم يدخل عليها بعد، وربما ترك أهلاً ينتظرونه، وقد أتوا من بلاد فيها ألوان التيسيرات المادية، وألوان الترف، ومع ذلك ذهبوا إلى هناك وجلسوا سنوات طويلة، وقاوموا العدو الكافر حتى خرج من أفغانستان، وقُتِل مِنهم مَن قُتِل نسأل الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، وجُرِح مِنهم مَن جُرِح.
ثم جاءوا، وأنت ترى اليوم في عيونهم شوقاً إلى أرض أخرى يقام فيها الجهاد، ترى في عيونهم، وتقرأ في وجوههم، وتسمع في كلماتهم، حسرات وزفرات على أنهم خاضوا المعارك وخرجوا منها ولـم يقتلوا في سبيـل الله عز وجل فهم ذهبوا يبحثون عن الموت، وعن القتل، وعن الشهادة في سبيل الله عز وجل.
فشعروا بأنهم حرموا شيئاً كثيراً، وهم يتربصون وينتظرون مواقع أخرى تدار فيها المعارك مع أعداء الله، حتى يذهبوا إلى هناك رجاء أن يحصلوا على ما لم يحصلوا عليه في أفغانستان، فأي فرق تجد بين هؤلاء وأولئك، والله ما رأينا أحداً منهم يعاني من مرض نفسي، ولا يعاني من أزمة، ولا يعاني إلا الشجاعة والقوة والبسالة، ويتمنى الواحد منهم أن يقتل في سبيل الله تعالى! مع أنهم شباب في مقتبل العمر، ولم يتلقوا تدريبات تذكر، وكانت بيئاتهم ربما غير ملائمة لإعدادهم بشكل صحيح.
ومع ذلك كله كانوا أقوى ما يكونون، وأشجع ما يكونون، وأصبر ما يكونون؛ لسبب واحد: أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدة وعن مبدأٍ وعن دين، فأي فرق بين هؤلاء وبين أولئك الذي خضعوا لدراسات واختبارات، وألوان من الإعداد النفسي والمعنوي، مع أنهم يملكون قوة رهيبة، ومع ذلك انظر الفرق البعيد بين هؤلاء وهؤلاء.
بل إني أذكر لك أعجب من هذا: أحد الشباب منذ زمن كانت له أمٌ كبيرة السن، وكانت تسمع أخبار المجاهدين في أفغانستان فقالت: والله لا بد أن أذهب إلى هناك، وحاول ولدها أن يقنعها بعدم الذهاب، ولكن عبثاً أن يحاول إقناعها، وما زالت مصرة حتى ذهبت إلى هناك مع ولدها برفقته، وساعدت المجاهدين في بعض الأعمال المشروعة، ثم طاب خاطرها فعادت إلى بلادها.
إنه لا سواء بين من يبحث عن الموت، وبين من يهرب من الموت، وأي حيلة في إنسان يبحث عن الموت، أنت لو هددت إنساناً لهددته بالموت! فإذا كان هو يريد الموت لا معنى لهذا التهديد، وهذا لسان حالهم يقول:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخبر المطارف |
لا أريد أن أموت على سرير يكون عليها ألوان المطارف، والحشايا والثكايا، ويقول:
ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف |
عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نـزالون عن التزاحف |
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف |
بماذا نهدده؟ بالموت؟!
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف |
وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف |
وإذا كانت مسألة العفة عن الحرام كما ذكرنا، وتجنب الشهوات والمعاصي والموبقات، أو اللذات الممنوعة، إذا كانت هذه مثالاً استوحيناه من الآية الكريمة في قصة طالوت وجالوت، حيث كان أولئك الذين رفضوا أن يشربوا من الماء هم الصابرين المنتصرين، فإن ثمة معاني أخرى كثيرة ذات تأثير كبير في تحديد مسار المعركة مع الباطل.
منها مثلاً: صحة وصدق الإيمان بالله عز وجل والدار الآخرة، وما وعد الله تعالى المؤمنين والمتقين والصابرين، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] فإذا كان الناس يعيشون في هذه الدنيا ويقيسون أمورهم بالجدوى الدنيوية، فإن المؤمن الصادق يقيس ذلك بالجدوى الأخروية.
وهذا هو سر البسالة التاريخية للمسلمين الذين ضربوا في المعارك أروع الأمثلة، لأنهم يدركون أن ثمة داراً أخرى، وقد بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج مجموعة من أصحابه للدعوة إلى الله تعالى فدخل أحدهم على p=1000341عامر بن الطفيل
، ودعاه إلى الله تعالى وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وأمره بالإيمان بالله ورسله، وكان p=1000341عامر بن الطفيلمن ذلك أيضاً: وضوح الهدف الذي يقاتل من أجله المسلم، فالمسلم يعرف لماذا يقاتل؟ ولماذا يصبر؟ ولماذا يموت؟ فإنه ليس قتال على عصبية عمياء، ولا على جاهلية، ولا على نعرة وطنية أو قومية، وليس مدفوعاً دفعاً إلى معركة، وأن الذي يستفيد منها غيره، فيستفيد منها الرئيس أو الزعيم، أو الطاغية، أو يستفيد منها الحزب، أو يستفيد منها شيخ القبيلة، أو ما أشبه ذلك، إنه مقبل على معركة يعرف أنها معركة الإسلام الكبرى، ويعلم أن المصلحة له قبل غيره، فهو إن مات مات شهيداً، وإن عاش عاش حميداً.
فهو يقول:
سأثأر لكن لرب ودين وأمضي على سنتي في يقين |
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين |
وإنا لَقَوْمٌ لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
وعلى سبيل الإجمال فإن الأمم الكافرة تستوحي نتائج المعارك من خلال الأرقام، والإحصائيات والدراسات النظرية، فإذا وجدت أنَّ عندها من الجنود مثلاً أربعمائة ألف جندي، وأنَّ عندها من الأسلحة والطائرات وألوان القوى الأعداد المحددة، فإنها توقن حينئذٍ أنها سوف تنتصر على ذلك الجيش، الذي هو أقل عدداً وعدة، وتستبعد الجانب العقدي، وتستبعد الجانب الأخلاقي، وتستبعد جانب القوة الإنسانية المتمثلة في الإيمان، وفي الشجاعة، وفي وضوح الهدف، وغير ذلك مما يؤثر في مسار المعركة تأثيراً بليغاً.
إن المسلم يؤمن بالأسباب المادية ولا شك، ولكنه لا يعتمد عليها وحدها، بل يجعل هناك مجالاً للتوكل على الله تعالى والتعويل على قدره، وتفويض الأمر إليه، وهذه كلها تعتبر أيضاً من الأسباب الشرعية، كما أن الأسباب عنده ليست هي الأسباب المباشرة فحسب.
فمثلاً: الدعاء من الأسباب، والاستنصار بالله تعالى من الأسباب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، لقد كان في العريش يرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم حتى سقط رداؤه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم، فجاء
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك النِّدا |
هناك التقى الجمعان، جمع يقوده غرور أبي جهل كهِرٍ تأسَّدا |
وجمع عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيـات والصبر قد حدا |
وشمَّر خير الخلق عن ساعد الفدا وهز على رأس الطغاة المهنَّدا |
وجبريل في الأفقِ القريبِ مكبرٌ ليلقي الوَنَىَ والرعب في أنفس العدا |
وسرعان ما فرت قريش بجمعها وعافت أبا جهل هناك موسدا |
ينوء بها ثقل الغرام وهمُّه وتجرحها أسراً تريد لها الفدا |
وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى وداسته أقدام الحفاة بما اعتدى |
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى |
وكيف يقوم الظلم في وجه شرعةٍ تسامت على كل الشرائع مقصدا |
سماوية الأغراض ساوت بنهجها جميع بني الدنيا مسوداً وسيدا |
فما فضلت قوماً لتحقر غيرهم ولا جحدت حقاً ولا أنكرت يدا |
تريد الهدى للناس والناس دأبهم يعادون من يدعو إلى الخير والهدى |
إن النصر من عند الله تعالى، والله تعالى يؤتي النصر من يشاء، وفي أوقات الأزمات يحتشد المسلمون، وتجتمع قلوبهم، ويرغبون إلى الله عز وجل في رفع الكرب، ودفع الشدة، وإزالة العناء، والنصر على الأعداء، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {أبغوني ضعفاءكم، هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} إن المؤمن يخوض المعركة وهو يعلم أن التدبير الحقيقي في السماء، وليس في البنتاجون، ولا في الكونجرس، ولافي مركز إدارة العمليات في فلوريدا أو في غيرها، وإنما هو التدبير الحقيقي في السماء، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] وقال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
القتال من أجل الدين
فهذان الخصمان الذين التقوا في بدر، لم يكونوا قبائل شتى، ولا أمماً متباعدة، بل كان القرشي يقاتل القرشي، والعربي يقاتل العربي، ولكن الذي فرق بينهم هو الدين والعقيدة.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |