خطب ومحاضرات
خواطر في النصر والهزيمة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعــد:
أيها الإخوة الأحبة الأكارم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وشكر الله لكم مسعاكم وحرصكم على الحضور والاستماع، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يكتبه لنا جميعاً أجراً ومثوبة يوم أن نلقاه، وألا يتفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور وسعي مشكور وعملٍ مبرور، وأن يكتب لنا النجاة في الدارين من كل ما يسخطه جل وعلا.
أيها الأحبة: الحرب شبح مخيف يزلزل القلوب ويخيف الأسماع، فما إن يسمع أحدٌ كلمة (الحرب) حتى يرتقي ويرتمي في مخيلته صورة الآلاف من القتلى من الكبار والصغار، وصورة الدماء التي تسيل، وصورة النيران التي ترتفع وتتوقد، ولذلك ارتبطت الحرب في أذهان البشر -أو غالبهم- بالتدمير والإفناء، وأصبح الناس إذا أرادوا أن يتكلموا عن فردٍ أو طائفة بالذم والنقيصة، وصفوا هذا الفرد أو هذه الفئة أو هذه الأمة بأنها أمة تلجأ إلى العنف وتنادي بالحرب.
وهذا المفهوم -أيها الإخوة- هو في الواقع مفهوم جاهلي لكلمة (الحرب) بل هو في الواقع مفهوم على الورق، أما على الواقع فما من أمةٍ من الأمم سواء كانت كافرة أم مسلمة، إلا وحين تقلب صفحات تاريخها، تجد أنها خاضت حروباً كبيرة، ودخلت معارك طاحنة، وقاتلت أمماً عديدة خرجت مرة منتصرة ومرة منهزمة، وفي هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به فإن الحرب ليست شراً بكل حال.
الخير الناتج عن الجهاد الإسلامي
إذاً: الحرب الإسلامية لم تكن شراً، بل كانت خيراً محضاً للأمة المسلمة التي خاضت الحرب وضحت وبذلت وقدمت فلذات أكبادها وقوداً لهذه الحروب، فكانت خيراً لهم في الدنيا والآخرة عزاً وسعادةً في الدنيا، وفضلاً وشهادةً عند الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] كما أنها كانت خيراً للأمم والشعوب التي حوربت، فأزيلت الحكومات التي كانت تحول بينهم وبين الإسلام، فتركوا وشأنهم ففكروا ونظروا وتأملوا فدخلوا في هذا الدين عن طواعية واقتناع.
ولهذا يعجبني تصوير الشاعر الهندي محمد إقبال لهذا الأمر وهذا الموقف في قصيدته المشهورة (شكوى وجواب شكوى) حين يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم فخارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا |
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا |
ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا |
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
إشارة إلى أن المسلمين حين فتحهم للهند كانوا يأتون إلى الصنم المصنوع من الذهب فيكسرونه ويقتلون سدنته فوقه.
لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا |
وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا |
فانظر دقة التصوير، لم يكن السيف الإسلامي قتلاً وإفناءً وتدميراً وتيتيماً للأطفال وترميلاً للنساء، بل كان كالحديقة التي تنبت الأزهار حولها.
إذاً فالجهاد والحرب ليست شراً بكل حال، وإنما هي في كثيرٍ من الأحيان خير، صحيح أن النفوس تكره الحرب، وكما قال الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فقضية أن الناس لا يحبون الحروب، أو يكرهونها ويمقتونها هذا شيء، لكن كونها خيراً لهم ولدينهم أو لمصلحتهم هذا شيء آخر غير مرتبط بذلك.
وخاصةً أن الله عز وجل شرع لنا الحرب والقتال كما قال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
دعوى السلام عند الغرب
إن هذا السلام يعني أنهم يريدون أن تظل هيمنتهم على البشرية، وألا تقوم الأمم الأخرى المغلوبة على أمرها والمضطهدة؛ بالمطالبة بنيل حقوقها، أو السعي بالتمكين لنفسها.
إنهم يريدون أن تظل الحضارة بأيديهم وأن يظل الأمر لهم، فكلما وجدوا من هذه الأمم -ولا أقول الأمم الإسلامية فقط، بل أقول أمم الأرض كلها- من يسعى إلى نيل حقه، قالوا: هذا يريد أن يعكر صفونا وهناءة عيشنا فحاربوه.
هؤلاء الذين ينادون بالسلام كم أقاموا في الدنيا من مجازر؟!
حتى مع الأمم الكافرة أيضاً، لكننا نضرب مثلاً بذوي القربى من المسلمين في فلسطين، لماذا لم تسل دموعهم لهذه الملايين من المسلمين التي شردت، وقتلت وأفنيت؟
لماذا لا تتحرك إنسانيتهم وعواطفهم للمدارس التي أحرقت؟
أين هم من مجازر صبرا وشاتيلا التي فعلها اليهود بالفلسطينيين؟
أين هم من المخيمات التي لا زال المسلمون يعيشون فيها منذ عشرات السنين وهي لا تكاد تسترهم من أذى الحر والقر؟
أين هم من شعب أفغانستان المسلم الذي يذوق المرارة وهو شعب مهجر بأكمله، منذ أكثر من عشر سنوات وهو مشرد بعضه في باكستان وبعضه في إيران وبعضه هنا وبعضه هناك، وكثير منهم في بلاد الغرب، في أمريكا وبريطانيا وغيرها؟
لقد أصبحنا نسمع نغمة جديدة، إنهم يتحدثون عن هؤلاء المجاهدين وقد يصفونهم بالمتطرفين، أو أنهم من ذوي العنف، أو أنهم لا يحبون السلام، كما رموا بذلك المجاهدين في فلسطين منذ زمن، وهي فتوى جاهزة معلبة ضد كل من يعكر صفو عيشهم، مع أن هؤلاء هم الوحيدون الذين أثبتوا -من بين جميع الرايات التي تعلن القتال في الدنيا- ولاءهم وصدقهم للإسلام، لأننا نجد أن كثيراً من البلاد تثور فيها الحروب، فإذا أرادت الدول الكبرى الشرقية والغربية أن تهدأ الحرب عقدت اتفاقية فسكنت الحرب، أما في أفغانستان فعلى رغم ما يسمى بالوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا، إلا أن المجاهدين لا يزالون يحملون السلاح.
الشر يهيمن على البشرية كلها
إننا نرجو ونؤمل أن يكون كل أمرٍ يكتبه الله تعالى ويقدره للمسلمين خيراً لهم في عاجل أمرهم وآجله، وأن يكون شراً لأعدائهم كما كان يتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تقص عليه رؤيا، فكان يقول: {خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا} فهكذا نحن نقول في اليقظة والمنام، وفي كل أمرٍ يثيره الله عز وجل: خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا.
فالحرب ليست شراً محضاً، وكما يقول أحمد شوقي:
والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم |
والشر إن تلقه بالخـير ضقـت به ذرعاً وإن تلقـه بالشـر ينحسـم |
إن الظلم اللاحق بالمسلمين اليوم ظلمٌ فادح، في ابتزاز أراضيهم، ونـزف دمائهم، ونهب خيراتهم، وتسليط الأعداء عليهم، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية ومن العيش الكريم، ونحن نجد أن الغرب ينظر إلى الدم النصراني على أنه دم مقدس، في مقابل أنه لا يرى أن للمسلمين حرمة، ولذلك نجد أنهم يغضبون إذا استخدمت روسيا السلاح في الجمهوريات السوفيتية النصرانية؛ كـجمهوريات البلطيق لكنهم لا يرفعون رأساً إذا كانت الضربة بإخواننا المسلمين، فما بال الإنسانية تتحرك للنصرانية ولا تتحرك للمسلم؟!
أيها الأحبة: إذاً الوقفة الأولى باختصار ليست الحرب شراً محضاً، وقد تكون الحرب إن كتبها الله تعالى خيراً للمسلمين، ونحن لا نتمناها ولا نطلبها لكننا نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن أبي أوفى:{أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مجري السحاب منـزل الكتاب هازم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم}.
فيا أخي الحبيب: ادع بما دعا به نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم: {اللهم مجري السحاب منـزل الكتاب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم وانصرنا عليهم} وادع ربك على كل عدو للإسلام ظاهر أو مستتر، معلن أو مخفي، فالأعداء كثر
ومنهم عـدوٌ كاشر عن عـدائه ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادق |
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفـارق |
لا أقول كما كان يقول بعض الغرب: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيلٌ بهم، نحن نقول: كلا. بل اللهم اكفنا شر أصدقائنا وشر أعدائنا، فإننا بدون عون الله تعالى وتأييده ونصره لا نستطيع أن نصنع شيئاً أبداً.
فها نحن نرى أن الحروب الإسلامية -وبالمعنى الاصطلاحي الشرعي: الجهاد الإسلامي- كانت خيراً للبشرية كلها، فكم من أممٍ دخلت في هذا الدين على إثر تلك الحروب والغزوات التي قام بها المسلمون، وكم من قلوب انفتحت للهداية بسبب هذه الحروب، وكم من طواغيت أُزيلوا عن عروشهم وتسلطهم على الأمم وحيلولتهم بينها وبين نور وهدى الله عز وجل، ولهذا يقول الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الحج:40].
إذاً: الحرب الإسلامية لم تكن شراً، بل كانت خيراً محضاً للأمة المسلمة التي خاضت الحرب وضحت وبذلت وقدمت فلذات أكبادها وقوداً لهذه الحروب، فكانت خيراً لهم في الدنيا والآخرة عزاً وسعادةً في الدنيا، وفضلاً وشهادةً عند الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] كما أنها كانت خيراً للأمم والشعوب التي حوربت، فأزيلت الحكومات التي كانت تحول بينهم وبين الإسلام، فتركوا وشأنهم ففكروا ونظروا وتأملوا فدخلوا في هذا الدين عن طواعية واقتناع.
ولهذا يعجبني تصوير الشاعر الهندي محمد إقبال لهذا الأمر وهذا الموقف في قصيدته المشهورة (شكوى وجواب شكوى) حين يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم فخارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا |
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا |
ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا |
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
إشارة إلى أن المسلمين حين فتحهم للهند كانوا يأتون إلى الصنم المصنوع من الذهب فيكسرونه ويقتلون سدنته فوقه.
لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا |
وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا |
فانظر دقة التصوير، لم يكن السيف الإسلامي قتلاً وإفناءً وتدميراً وتيتيماً للأطفال وترميلاً للنساء، بل كان كالحديقة التي تنبت الأزهار حولها.
إذاً فالجهاد والحرب ليست شراً بكل حال، وإنما هي في كثيرٍ من الأحيان خير، صحيح أن النفوس تكره الحرب، وكما قال الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فقضية أن الناس لا يحبون الحروب، أو يكرهونها ويمقتونها هذا شيء، لكن كونها خيراً لهم ولدينهم أو لمصلحتهم هذا شيء آخر غير مرتبط بذلك.
وخاصةً أن الله عز وجل شرع لنا الحرب والقتال كما قال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
أيها الإخوة: نسمع الأمم الغربية والشرقية اليوم تتشدق بنبذ الحرب والدعوة إلى السلام، فأي سلامٍ هذا الذي يقصدونه وينادون به ويتحدثون عنه في محافلهم الدولية ومجاميعهم وأجهزة إعلامهم؟
إن هذا السلام يعني أنهم يريدون أن تظل هيمنتهم على البشرية، وألا تقوم الأمم الأخرى المغلوبة على أمرها والمضطهدة؛ بالمطالبة بنيل حقوقها، أو السعي بالتمكين لنفسها.
إنهم يريدون أن تظل الحضارة بأيديهم وأن يظل الأمر لهم، فكلما وجدوا من هذه الأمم -ولا أقول الأمم الإسلامية فقط، بل أقول أمم الأرض كلها- من يسعى إلى نيل حقه، قالوا: هذا يريد أن يعكر صفونا وهناءة عيشنا فحاربوه.
هؤلاء الذين ينادون بالسلام كم أقاموا في الدنيا من مجازر؟!
حتى مع الأمم الكافرة أيضاً، لكننا نضرب مثلاً بذوي القربى من المسلمين في فلسطين، لماذا لم تسل دموعهم لهذه الملايين من المسلمين التي شردت، وقتلت وأفنيت؟
لماذا لا تتحرك إنسانيتهم وعواطفهم للمدارس التي أحرقت؟
أين هم من مجازر صبرا وشاتيلا التي فعلها اليهود بالفلسطينيين؟
أين هم من المخيمات التي لا زال المسلمون يعيشون فيها منذ عشرات السنين وهي لا تكاد تسترهم من أذى الحر والقر؟
أين هم من شعب أفغانستان المسلم الذي يذوق المرارة وهو شعب مهجر بأكمله، منذ أكثر من عشر سنوات وهو مشرد بعضه في باكستان وبعضه في إيران وبعضه هنا وبعضه هناك، وكثير منهم في بلاد الغرب، في أمريكا وبريطانيا وغيرها؟
لقد أصبحنا نسمع نغمة جديدة، إنهم يتحدثون عن هؤلاء المجاهدين وقد يصفونهم بالمتطرفين، أو أنهم من ذوي العنف، أو أنهم لا يحبون السلام، كما رموا بذلك المجاهدين في فلسطين منذ زمن، وهي فتوى جاهزة معلبة ضد كل من يعكر صفو عيشهم، مع أن هؤلاء هم الوحيدون الذين أثبتوا -من بين جميع الرايات التي تعلن القتال في الدنيا- ولاءهم وصدقهم للإسلام، لأننا نجد أن كثيراً من البلاد تثور فيها الحروب، فإذا أرادت الدول الكبرى الشرقية والغربية أن تهدأ الحرب عقدت اتفاقية فسكنت الحرب، أما في أفغانستان فعلى رغم ما يسمى بالوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا، إلا أن المجاهدين لا يزالون يحملون السلاح.
إننا نعلم -أيها الإخوة- أن الشر اليوم يهيمن على البشرية كلها، حيث تتحكم فيها الحضارة الغربية، وأعني بالحضارة الغربية بمفهومها الاصطلاحي بشقيها الشرقي والغربي، الشيوعي والرأسمالي، وأن كنا نعلم أن الشيوعية قد انحسرت وتقلصت، لكن لازالت تتشبث ببقايا خيوطٍ لها هنا وهناك، وإن واقع العالم الإسلامي الموجود اليوم وما فيه من تناقض وتناحر وفتن، هو إفرازٌ لذلك الخلاف الموجود أصلاً بين الشرق والغرب، ولا شك أن هذا العالم لا تكاد ترتفع فيه راية تنادي بالإسلام إلا وجدت العداء المستحكم من الشرق والغرب من الشيوعية، والرأسمالية، ومن هذا المنطلق فإن الحرب التي قد نخافها ونخشاها في كثيرٍ من الأحيان قد تحمل بشارات كثيرة للمسلمين بأن أعداءهم هم الذين سوف يتقاتلون، ولذلك فإن كثيراً من المسلمين يدعون ويقولون: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين.
إننا نرجو ونؤمل أن يكون كل أمرٍ يكتبه الله تعالى ويقدره للمسلمين خيراً لهم في عاجل أمرهم وآجله، وأن يكون شراً لأعدائهم كما كان يتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تقص عليه رؤيا، فكان يقول: {خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا} فهكذا نحن نقول في اليقظة والمنام، وفي كل أمرٍ يثيره الله عز وجل: خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا.
فالحرب ليست شراً محضاً، وكما يقول أحمد شوقي:
والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم |
والشر إن تلقه بالخـير ضقـت به ذرعاً وإن تلقـه بالشـر ينحسـم |
إن الظلم اللاحق بالمسلمين اليوم ظلمٌ فادح، في ابتزاز أراضيهم، ونـزف دمائهم، ونهب خيراتهم، وتسليط الأعداء عليهم، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية ومن العيش الكريم، ونحن نجد أن الغرب ينظر إلى الدم النصراني على أنه دم مقدس، في مقابل أنه لا يرى أن للمسلمين حرمة، ولذلك نجد أنهم يغضبون إذا استخدمت روسيا السلاح في الجمهوريات السوفيتية النصرانية؛ كـجمهوريات البلطيق لكنهم لا يرفعون رأساً إذا كانت الضربة بإخواننا المسلمين، فما بال الإنسانية تتحرك للنصرانية ولا تتحرك للمسلم؟!
أيها الأحبة: إذاً الوقفة الأولى باختصار ليست الحرب شراً محضاً، وقد تكون الحرب إن كتبها الله تعالى خيراً للمسلمين، ونحن لا نتمناها ولا نطلبها لكننا نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن أبي أوفى:{أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مجري السحاب منـزل الكتاب هازم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم}.
فيا أخي الحبيب: ادع بما دعا به نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم: {اللهم مجري السحاب منـزل الكتاب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم وانصرنا عليهم} وادع ربك على كل عدو للإسلام ظاهر أو مستتر، معلن أو مخفي، فالأعداء كثر
ومنهم عـدوٌ كاشر عن عـدائه ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادق |
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفـارق |
لا أقول كما كان يقول بعض الغرب: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيلٌ بهم، نحن نقول: كلا. بل اللهم اكفنا شر أصدقائنا وشر أعدائنا، فإننا بدون عون الله تعالى وتأييده ونصره لا نستطيع أن نصنع شيئاً أبداً.
الوقفة الثانية: هي أن الله جعل نظام الحياة والبشرية في هذه الدنيا يقوم على أساس المدافعة كما قال الله عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] وقال: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] ولهذا فالحياة البشرية من يوم أن خلق الله أبونا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا تخلوا أبداً من عداوات هنا وهناك، وخصومات متنوعة مختلفة، وحروبٍ تقوم هنا وحروبٍ تقوم هناك، وأحلافٍ تقوم هنا وأحلاف تنفض هناك.
إذاً: فنظام الحياة البشرية جعله الله قائماً على مبدأ المدافعة -أو ما يسمونه بمبدأ الصراع- الصراع بين الخير والشر بل وحتى الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض، وهذا الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض لا شك أنه في مصلحة الإسلام، صراع الكافرين مع الكافرين، صراع النصارى مع اليهود -مثلاً- صراع الشيوعيين مع اليهود والنصارى، فصراع الأمم الكافرة بعضها مع بعض هو لا شك خيرٌ للإسلام، ولا يمكن أن تخلو الحياة البشرية من مثل هذه السنة بحالٍ من الأحوال.
إن فكرة أن ينفرد شعبٌ من الشعوب أو أمة من الأمم فقط بالسيطرة والهيمنة على مقدرات الكون والدنيا وخيرات الشعوب؛ وعلى الأمم كلها، وأن تصبح الكلمة الأخيرة ويصبح القرار الأخير بيدها هذا تصورٌ بعيدٌ عن معرفة سنن الله تعالى في الكون، ولذلك تجد إلى وقتٍ قريب أن الصراع كان قائماً بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية في الغرب وبين الشيوعية في الشرق، فبعدما حصل التخلخل والانهيار في النظام الشيوعي هل تتصور أن الغرب تفرد بحكم البشرية، وآل الأمر إليه وانتهت السنة الإلهية في دفع الأمم بعضها ببعض؟
لا أبداً، لا تتصور هذا بحالٍ من الأحوال، فدفع الله الناس بعضهم ببعض قائمٌ باقٍ إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
فوائد تعدد القوى السياسية المهيمنة
أولاً: أنهم -كما يقال- تنفسوا الصعداء داخل الجمهوريات السوفيتية، فبدأنا نسمع عن إقامة بعض المساجد، وإقامة بعض المدارس، وتوزيع مصاحف أو كتبٍ إسلامية، وصلات مع بعض الجمعيات الإسلامية، ولا شك أن هذا العمل لا زال عملاً محدوداً قليلاً لا يكاد يذكر بالقياس -مثلاً- إلى انتفاع اليهود من هذا الانفتاح الذي حصل على الشيوعية، لكن لو كان المسلمون أقوياء لاستطاعوا أن يستفيدوا من هذا الانفتاح فائدة كبيرة.
المهم أن استرخاء هذه القوة كان في صالح المسلمين من حيث أنهم استفادوا من الانفتاح في مد الجسور إلى إخوانهم المسلمين داخل ما يسمى بالسور الحديدي الشيوعي.
الفائدة الثانية: أنهم حين يكونون أمام جهات متعددة كلها تخطب ودهم وتسعى إلى إرضائهم، فإنهم يستطيعون أن يستفيدوا من بعضهم ضد بعض، كما يستفيد صاحب السلعة، الذي يجد عدداً من الزبائن يريدون أن يشتروها، فهب أنك صاحب سلعة في دكانك وأتاك زبون واحد لهذه السلعة يستطيع أن يشتريها منك بما غلا ورخص من الثمن، لكن لو كانت هذه السلعة يتنافس عليها خمسة أو ستة كلهم يريد أن يشتريها لأمكن أن يتزايد عليها حتى يرتفع سعرها.
استفادة المسلمين من تعدد القوى
ولذلك فإنني أقول: إن هناك دولاً لو تقدمت في المضمار العالمي، لكان هذا -إن شاء الله- خيراً للإسلام والمسلمين، وأضرب مثلاً بقضية اليابان، فقد أصبحت -كما تعلمون- تتقدم في اقتصادها وتصنيعها، وتتقدم في علومها وتقنيتها بشكلٍ كبير، ولا شك أن اليابان على ما فيها أفضل للمسلمين من الدول اليهودية أو النصرانية، فـاليابان دولة وثنية لا تختص بدينٍ معين، ولذلك فهي معرضة لأن تتقبل الإسلام.
فالوثنيون إذا رأوا نور الإسلام والوحدانية، وضياء الإيمان أشربته قلوبهم وأقبلوا عليه لأنهم لم يتمسكوا من قبل بدينٍ سماوي أو شبهة دين سماوي، بخلاف اليهود والنصارى فإنهم يعتقدون أن معهم وثيقة -كما يزعمون- من السماء وهي الإنجيل والتوراة، ولذلك يتشبثون بها ويرفضون ما عداها، فاليابانيون في غالبهم وثنيون.
أمرٌ آخر هو مبنيٌ على الأول أن اليابان كدولة وثنية لا تحتفظ بتاريخ من الصراع والحروب مع المسلمين، بل تاريخها مع المسلمين تاريخ عادي، ليس هناك أية خلفيات معينة،بخلاف اليهود والنصارى -والشيوعيين- فإنهم يحتفظون بتاريخ طويل من المعارك مع الإسلام ومع المسلمين، وهذا التاريخ يؤثر فيهم ويصنع عقولهم ويتلقاه صغارهم عن كبارهم، وهو عبارة عن منهج يتربون على وضعه.
وحين أقول: اليابان لست أعني أن الأمة الإسلامية ستظل إلى الأبد أمة ضعيفة تأخذ من فتات موائد الآخرين إما من الشرق وإما من الغرب، وإما من الشمال أو الجنوب، فليس هذا هو قصدي بالكلام.
مثلما يضربون في المثل العامي ويضحكون من رجل كان يقول: اللهم إني أسألك أن تغني فلاناً حتى أستدين منه، لا. نحن لسنا نسأل الله أن يرفع دولاً أخرى حتى ننتفع منها، كلا. لكننا نعلم أن نظام الحياة محكومٌ بسنن، والله عز وجل وضع في هذا الكون سنناً مطردة.
وليس صحيحاً أن الأمة الإسلامية التي عاشت قروناً في ضعفٍ ونومٍ عميق وسبات طويل، وما زالت لم تضع قدمها في الطريق الصحيح؛ سوف تنهض بين يومٍ وليلة وتصبح رائدة في مجال العلم والتقدم البشري، وتقود الأمم كلها، هذا أمر سيكون بإذن الله تعالى كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو كائن لا محالة، لكن لا يمنع أن يكون هذا أمرٌ يقع بالتدريج وأن تكون الأمة المسلمة تترقى شيئاً فشيئاً ويصنع الله لها بحكمته ورحمته سلماً ترتقي من خلاله إلى ما أراده لها.
ومن هذا أن توجد دولٌ عديدة تسعى إلى كسب ود المسلمين ونيل رضاهم والانتفاع بما لديهم، فتتنافس هذه الدول ويستفيد المسلمون من هذا التنافس.
القيام بالأسباب وعدم انتظار المفاجآت
وخلاصة الوقفة الثانية: أننا نؤمل أن كل ما يجريه الله تعالى في هذا الكون يكون سبباً في بروز قوى جديدة في الكون، ودول جديدة تتنافس على مركز الصدارة ليستفيد المسلمون من هذا التنافس لمصلحتهم بدلاً من أن يكون زبوناً واحداً فيتحكم فيهم كما يشاء.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5137 استماع |
حديث الهجرة | 5021 استماع |
تلك الرسل | 4156 استماع |
الصومال الجريح | 4147 استماع |
مصير المترفين | 4124 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4053 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3978 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3931 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3873 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3835 استماع |