تفسير سورة الجن [11-28]


الحلقة مفرغة

يقول الله عز وجل: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا [الجن:11-13]. (( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ )) أي: المسلمون العاملون بطاعة الله. (( وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ )) أي: قوم دون ذلك وهم المقصرون في الصلاح، غير الكاملين فيه، يعني أن المؤمنين درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]. وقيل: (( وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ )) هم الكافرون، أي: ومنا المسلمون ومنا الكافرون. قوله: (( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا )) أي: كنا قبل إسلامنا أهواء مختلفة وفرقاً شتى. فهذا حكاية عن حالهم قبل أن يدخلوا في الإسلام لما سمعوا القرآن. والطرائق جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه، والقدد: الضروب والأجناس المختلفة، جمع قدة كقطعة. قوله: (( وَأَنَّا ظَنَنَّا )) أي: علمنا وأيقنا، والظن يأتي بمعنى العلم. (( أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ )) يعني: إن أراد بنا شيئاً. (( وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا )) إن طُلِبْنَا فلا مهرب لنا من الله عز وجل. قال الزمخشري : هذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي منه مهرب. قوله: ((وأنا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى)) أي: القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم. (آمنا به)، أي: صدقنا بأنه حق من عند الله. ((فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا)) يعني: لا يخاف أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها. (( وَلا رَهَقًا )) يعني: ولا يخاف أن ترهقه ذلة وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد، وإنما يكون له الجزاء الأوفى والعاقبة الحسنى.

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14-15]. يقول تعالى: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)) أي: الكافرون الجائرون عن طريق الحق. إذاً: المقسط هو العادل، والقاسط هو الجائر. (( فَمَنْ أَسْلَمَ )) يعني: من أذعن وانقاد. (( فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا )). أي: ترجوا وتوخوا رشداً عظيماً، وقصدوا صواباً واستقامة. وقوله: (( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا )) قيل: إنه من كلام الله عز وجل، وقيل: هو من كلام الجن. قال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم. وقد تعرضنا لذلك في سورة الأحقاف عند قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] يعني: منذرين العذاب، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:30-31]. فزعم البعض أن الجن إن آمنوا وعملوا الصالحات فثوابهم أن تغفر لهم ذنوبهم، وأن يجاروا من العذاب الأليم، أما الجنة فإنهم لا يدخلونها؛ لأن هذا فقط هو ثوابهم كما في قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]. واستدلوا أيضاً بهذه الآية: (( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا )) قالوا: إن قوله: (( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا )) يعني: اختاروا الطريق الصحيح، وهو طريق الإسلام: (( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا )) فزعم الفريق الذي لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم. فرد الزمخشري عليهم بقوله: وكفى به وعداً أن قال: (( فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا )). فتحري الرشد لا شك أنه من أعظم أسباب الثواب وموجباته، والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد. وقد تكلمنا كثيراً في سورة الرحمن، وذكرنا أن من أقوى ما يدل على أن مؤمني الجن في الجنة، قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]. فالمخاطب في هذه الآية هم الجن والإنس، بدليل قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الرحمن:33]، فواضح أن السياق الذي فيه ذكر النعيم الموجود في سورة الرحمن في قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] عام في الجن والإنس، كذلك قوله تعالى في الحور: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، فدل على أن مؤمني الجن في الجنة. وقوله تعالى: (( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا )) أي: توقد بكفار الجن كما توقد بكفار الإنس.

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]. يقول عز وجل: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا )) أي: الجن أو الإنس، أو كلاهما. (( عَلَى الطَّرِيقَةِ )) أي: على طريقة الحق والعدل. (( لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا )) أي: لوسعنا عليهم الرزق، وإنما عبر بالماء الغدق -وهو الكثير- عن سعة الرزق؛ لأن الماء الكثير هو أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، فهم يعظمون الماء أكثر من غيرهم؛ فمن ثم وعد الله هؤلاء بقوله: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا )). (( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )) أي: لنختبرهم ونبتليهم فيه كيف يشكرون ما خولهم الله سبحانه وتعالى من النعم وأعطاهم. (( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ )) أي: عن عبادته أو موعظته. (( يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا )) أي: شديداً شاقاً. قال الزمخشري : والصعد مصدر صعد يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه، فلا يطيقه.

يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ )) أي أن المساجد التي هي أشرف بقاع الأرض مختصة بالله عز وجل، ومقامة لأجل عبادة الله وحده لا شريك له. (فلا تدعوا) أي: لا تعبدوا، والدليل قوله تعالى في سورة غافر: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] فكثيراً ما تأتي تتناوب هاتان العبارتان فأحياناً يعبر عن الدعاء بالعبادة، وأحياناً يعبر عن العبادة بالدعاء. والمعنى: لا تعبدوا مع الله سبحانه وتعالى أحداً في المساجد، وهذا فيه تعريض لما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى في المسجد الحرام، ونصبهم فيه التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب، فإن المساجد لم تشد ولم تبن إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده، ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه. والغريب أن القاسمي ينسب هذا إلى الحنابلة فقط، لأن العبارة من عبارات ابن القيم في زاد المعاد، لكن الحقيقة أن هذا كلام أئمة المذاهب الأربعة، وعلمائها. نحن في مصر متخصصون في وضع المساجد على القبور، وأوسع كتاب اشتهر بجمع أقوال المذاهب الأربعة التي تثبت أن جميع المذاهب المتبوعة تنهى عن بناء المساجد على القبور هو كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور على المساجد) وهو للعلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهذا من أوائل الكتب التي ألفها الشيخ الألباني ، ألفه وهو شاب صغير، رحمه الله تعالى. فإذا كنا نهمل القضايا التي تمس صلب عقيدة التوحيد، والأمور التي تمس واقعنا، فكيف بما هو أقل منها. فإذاً: ابن القيم ذكر في زاد المعاد أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، والحكم يكون للأصل، والطارئ هو الذي يزال، يعني: إن كان هناك قبر ثم بني عليه المسجد فالمسجد يهدم ويزال، أما إذا كان هناك مسجد ثم طرأ عليه قبر، فالقبر هو الذي يزال، أما مسجد وقبر فلا يجتمعان في دين الإسلام أبداً، والأدلة على ذلك واضحة وضوح الشمس. وأنا كلما تلوت قوله عز وجل: (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )) تذكرت حادثة هدم المسجد البابري في الهند، والذي قاد الحملة لهدمه رجل هندوسي وثني مشرك، كان زعيماً لجماعة من الهندوس الكفرة، ظل مدة كبيرة يدربهم على هدم المسجد، لكن أذيع في الأيام الأخيرة أن هذا الرجل دخل في الإسلام، وظل يبكي ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يمحو عنه وزر تحطيم هذا المسجد.

يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]. (( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ )) أي: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد وصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات في أشرف المقامات، وهي صفة العبودية لله، فبعض الفئات من الناس تظن أنها لن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره حتى تبالغ في وصفه بما يكرهه، وبما يقدح في عقيدة التوحيد، فيظنون أن هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم في هذه الحالة يفعلون فعل النصارى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). إن فخر الرسول عليه الصلاة والسلام هي العبودية لله التي هي غاية الحب وغاية الذل، فمن أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية والتواضع لله؛ لأن القاعدة أن من تواضع لله رفعه، ولا يمكن أن نبياً يبعث إلى الناس ويدعوهم إلى عبادة الله والكفر بالأنداد ثم هو نفسه يدعوهم إلى عبادة نفسه؛ لأن هذا تعارض، يقول عز وجل: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]. فالغلو في النبي عليه الصلاة والسلام قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله، خاصة بعض الصوفية الذين يوجد عندهم انحرافات كثيرة في هذا الباب، فلنحذر الغلو والمبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما عند بعض الشعراء وأشهرهم هو البوصيري في البردة المشهورة، وفيها كلام بشع يتناقض مع التوحيد تناقضاً جذرياً، مثل قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها. يعني: من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أنه خلق الدنيا وضرتها، أي: الآخرة. ومن علومك علم اللوح والقلم. وقوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم أو قول بعضهم عند التعوذ: أعوذ بمحمد من شر ما خلق الله، هل يعظم بهذا؟! والرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (ما شاء الله وشئت، غضب وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، والأدلة في ذلك كثيرة. قوله: (( يَدْعُوهُ )) يعني: يعبد ربه. قوله: (( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )) يعني: أن الجن لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وهو يعبد الله عز وجل ازدحموا عليه طبقات فوق طبقات وجماعات بعضها فوق بعض؛ تعجباً مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجاباً بما تلا من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. والضمير في قوله: (( كَادُوا )) عائد على الجن، أي: كاد الجن يكونون عليه لبداً؛ لأن الحديث في البخاري يدل على أنهم الجن. وجوز رجوع الضمير على المشركين بمكة، والمعنى: لما قام الرسول يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين. قوله: (( لِبَدًا )) جمع لبد، وهو ما تلبد بعضه على بعض، يعني: طبقات بعضها فوق بعض، ومنها لبدة الأسد وهو شعر زبرة الأسد.

يقول تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا [الجن:20]. وقرئ (( قَاْل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا )). قوله: (( إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي )) أي: أعبد ربي وأبتهل إليه وحده. (( وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ))، أي: فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، يعني: هذه دعوتي صريحة واضحة، فمن أي شيء تتعجبون؟! أتتعجبون أنني أدعو إلى لا إله إلا الله، أو أني أقول: ربنا الله؟! ماذا تنكرون من حالي وأنا لا أقول إلا: لا إله إلا الله؟ ولا أدعو إلا إلى توحيد الله تبارك وتعالى ونبذ الأنداد. فهذا كقول الله عز وجل: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]. وقوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. وقوله تعالى عن لسان المؤمنين السحرة: وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا [الأعراف:126]. فلذلك قال هنا: (( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا )) أي: فليس ذلك ببدع ولا بمنكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي.

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا [الجن:21-24]. يقول تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا )) أي: لأن ذلك لله تعالى وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب، فهذا ليس بيدي. (( وَلا رَشَدًا )) إما أن يراد بالرشد هنا النفع تعبيراً بالسبب عن المسبب، يراد بالضر الغي، تعبيراً باسم المسبب عن السبب. ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر، فيكون احتباكاً، والتقدير: قل إني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً. يقول تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ )) يعني: إن أراد الله عز وجل بي سوءاً فلن يجيرني من الله أحد. (( وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )) يعني: ملتجأً إن أهلكني، وأصله المدخل من اللحد. قوله تعالى: إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ [الجن:23] هو استثناء من قوله: (( لا أَمْلِكُ )). (( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا )) * (( إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ))، يعني: أملك لكم نوعاً معيناً من الرشد، وهو أنني أبلغكم رسالة الله والوحي الذي يهديكم به، فإن التبليغ إرشاد ونفع، فالاستثناء متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أعني قوله: (( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )). وجمعت الرسالات في قوله: (( وَرِسَالاتِهِ )) لأنها تعبر عن معاني الوحي وأحكام الحق؛ لأنها متعددة. (( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) يعني: فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه، (( فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )). (( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ )) يعني: ما يوعدون في الرسالات الإلهية من الظهور عليهم أو العذاب الأخروي. (( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا )) أي: أجند الرحمن أو إخوان الشيطان؟!

يقول تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا [الجن:25]. (( أمداً )) يعني: غاية تطول مدتها. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27]. قوله: (( رَصَدًا )) يعني: حرساً من الملائكة يحفظون الرسول من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه. قال بعض المفسرين في قوله تعالى هنا: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) إن كلمة: (( غَيْبِهِ )) ليست من صيغ العموم، فيحتمل أن يقصد بها نوع معين من الغيب، وهو توقيت قيام الساعة.

تفسير الزمخشري لقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى...)

يقول الزمخشري : قوله: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا أي: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى. يعني: يمكن أن الله سبحانه وتعالى يرتضي من عباده الأولياء والصالحين، لكن يقصد هنا طبقة معينة من المرتضين، وهم من خصوا بالرسالة فقط، فهم الذين يطلعهم الله على هذا الغيب. يقول الزمخشري : وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. لمزيد من التوضيح فـالزمخشري معتزلي ينكر الكرامات، فهو يفسر الآية بطريقة معينة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلع على الغيب إلا درجة معينة ممن ارتضاهم ورضي عنهم، وهم من خصوا بالرسالة، لكن لا يوجد أحد يدعي أن الكرامات هي ما تعلق بشيء من الغيب، وكذلك لا يوجد أحد يزعم أن الأولياء يعلمون الغيب إلا من خلال أمرين اثنين: إما رؤيا منامية، كأن يرى رؤيا صالحة تشير إلى شيء من الغيب، ومع ذلك فهذا الولي لا يقطع بها الأمر الثاني: الفراسة، والفراسة هي نور البصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن، فيرى ويدرك الأشياء بنور الفراسة. وهذا أيضاً لا يقطع به كمصدر من مصادر الحقائق العلمية، وإنما هو شيء مظنون. فهل تنحصر كرامات الأولياء في هذا الباب فقط، أم تنحصر في خرق العادة بالكرامات الشهيرة المعروفة؟ يعني: كون بعض الناس ادعى الاطلاع على الغيب، فهل يجعلنا نبطل جميع كرامات الأولياء؟! كيف والقرآن نفسه احتوى على شيء من كرامات الأولياء، مثل كرامة مريم ، كما في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. إذاً: فالكرامات لا تنحصر فيما يتعلق بالإخبار عن الغيب، مع أننا لا ندعي أن أولياء الله يعلمون الغيب، لكن نقول: ربما يكون هناك إخبار بأشياء ستقع عن طريق رؤيا لا يقطع بها، أو عن طريق الفراسة، وهي أيضاً لا يقطع بها. يقول الزمخشري : وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. وهذا صحيح، نقول: إن قوله تعالى: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) * (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ))يؤخذ منها أنه سبحانه وتعالى لا يخبر بهذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل، ويؤخذ من هذه الآية إبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما هم أولى الناس بسخط الله، وهم أبعد الناس عن أن يرضى عليهم الله، فكيف يقال إنهم يعلمون الغيب؟!

تفسير أبي السعود لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى...)

وقد أجاب أبو السعود : بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين أحداً من خلقه. قال: قوله: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )) أي: إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. أقول: وهل الرسول يطلع على كل غيب؟ لا، بل يطلعه الله على ما شاء من الغيب المتعلق برسالته. قال: كما يعرب عنه بيان: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى )) بقوله: (( مِنْ رَسُولٍ )). إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالة على صحتها. يعني: قد يطلع الله سبحانه وتعالى الرسول المرتضى على شيء من الغيب، ليكون معجزة له وأنه أخبر بهذا الغيب، وهذا ركن من أركان الاستدلال به على صدق النبوة. فمن ضمن الأشياء الخمسة التي يستدل بها على صدق النبوة: النبوءات والإخبار عن غيب قبل أن يقع فيقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة تؤيد النبي، وتدل على صدقه. قال: وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة. أي: فهذا غيب، والرسول عليه الصلاة والسلام اطلع على هذا الغيب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة). إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا النوع من الغيب. قال: وما تتوقف عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. يعني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا من خلال الوحي بأشياء لا يمكن أن يدلنا عليها العقل، وهي هذه الأمور الغيبية، من صفات الملائكة والجن وأحوالهم، أليس هذا كله غيباً؟! قال: أما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليها أحداً أبداً؛ لأن هذا الغيب لا يرتبط بالرسالة، ولا هو من موضوع الرسالة. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن قيام الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) إن السائل جبريل والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، فهل يطمع غيرهما أن يعرف متى الساعة؟! والآيات في ذلك واضحة. قال: على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة. يعني: فمن حكمة الله أنه خبأ علينا موعد الساعة؛ لأننا لو عرفنا موعد قيام الساعة لانتهى الامتحان. قال: أيضاً: ليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء، فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكرامات بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما نسب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.

كلام النسفي والرازي في قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى ...)

قال النسفي في الجواب أيضاً: أي: إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، فإنه يطلعه على بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له. قوله: (من رسول) بيان لقوله: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى ))، والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أن كل كرامة من ولي فهي معجزة للرسول. وقال الرازي : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه.

ملخص كلام المفسرين في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)

إذاً: الزمخشري ومن تابعه على أن قوله: (( عَلَى غَيْبِهِ )) ليس فيه صيغة عموم، كذلك أبو السعود والنسفي يقولان: ليس هذا هو المقصود بقوله تبارك وتعالى: (( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) فيكفي في العمل بمقتضاه ألا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر على هذا الغيب بالذات أحداً، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد. والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا [الجن:25]، فالكلام هنا عما توعدون من قيام الساعة، يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة. فقوله بعده: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) أي: غيبه الذي هو علم وقت القيامة. وبالجملة فقوله: (( عَلَى غَيْبِهِ )) لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد وهو قيام الساعة، لكن هناك أنواع أخرى من الغيب يمكن أن يطلع عليها الرسل، كما ذكرنا. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً، يعني: كأن الله سبحانه وتعالى قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص جداً، والغيب المخصوص هو وقت القيامة. قوله: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )) أي: حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن؛ لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به والاستحقار لدينه ومقالته. وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، وتخصيص الرسول بالملك.

علم النجوم والاكتشافات والتجارب بين المشروع والممنوع

وقال بعضهم: إن في هذه الآيات تكذيب المنجمة. وكلمة المنجمة كان لها اصطلاح غريب مخالف قليلاً لما نعرفه الآن، فالمنجم الآن ليس هو الذي يدعي النظر في النجوم ويستطلع فيما يزعم أخبار الغيب عن طريق النظر في النجوم كالكهان مثلاً، وإنما المنجم يدخل فيه كل من يشتغل بعلم الهيئة والنجوم. فعلم الفلك الذي هو علم الهيئة هذا علم يخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج والدراسة والاستقراء، وممكن أن يصدق أن الكسوف يحصل في وقت معين، وليس هذا ادعاءً للغيب، وإنما هو بناء على حسابات وضبط للنظام الذي وضعه الله في هذا الكون، فأنت عندما تقول: إن الشمس غداً ستشرق من المشرق لا تخبر بالغيب، لأن ذلك شيء تعودناه ورأيناه، فنعرف أنها سوف تشرق من المشرق بإذن الله، فكذلك الإخبار عن بعض هذه الأشياء. إذاً: لا ينبغي أن نخلط بين العلوم التجريبية التي تخضع للحس وللتجارب البشرية والاستقراء، وبين من يدعي الإخبار بأشياء ستقع، بناءً على أنه يعلم الغيب، فهذه نقطة وتلك نقطة أخرى. فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بالبحث والتحري لا يكون من الغيب في شيء، فلذلك بعض الناس يختلط عليهم الأمر، يقول لك: توجد الآن أجهزة يمكن من خلالها معرفة نوع الجنين، فتراه يرتبك ويذكر قول ربنا سبحانه وتعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [لقمان:34] ثم يقول: عندنا تجرى أنواع من الفحوص ثم يقول لك الطبيب: إن هذا ذكر أو أنثى مثلاً، فهل هذا يتنافى مع إيماننا بأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله؟ نقول:إن الله عز وجل يعلم ما في الأرحام بدون آلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يوجد غيب في حقه سبحانه، لكن الإنسان عندما يعلم ما في الرحم مثلاً هو لا يقول: هذا ذكر أو أنثى دون أن يجري فحوصات طبية ويستعمل آلات، كذلك عندما يكون في العظم شرخ مثلاً، فإنه لا يقول لك: هذا فيه شرخ دون أن يجرى أشعة وينظر في الأشعة. فهل هو يعلم الغيب؟ لا، ولكن وصل إليه بنفسه بجهد وبآلة. فالمقصود أن الله هو الذي يستأثر بعلم الغيب؛ لأنه لا يحتاج إلى آلة، أما نحن فلا يمكن أن نعرف إلا بآلة أو بجهد بشري نفعله، ونصل في النهاية إلى هذه الأشياء. على أي حال يقول: وقال بعضهم: في هذه الآيات تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمهم من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق، وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة، زعماً بأن معرفة مواقيت الكسوف وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب، ولا يصح أن أحداً يدعي أنه يعرفه، ونكذب من يقول هذا بحجة قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26]. والصواب أن هذا ليس له علاقة بعلم الغيب؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية وعلم الأجنة، فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء، ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال عن الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد كل شيء بالتكليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافياً لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. لقد ترك الله سبحانه وتعالى البشر يترقون في العلوم الدنيوية عن طريق الأجهزة والبحوث والاستقراء، ويكتشفونها بأنفسهم، لكن العلم الذي لا يمكن للبشر أن يصلوا إليه هو علم الوحي والغيب، فهذا أوحاه الله إلى الأنبياء، لكن لو أن الأنبياء هم الذين يعلمون الناس الكيمياء والفيزياء والزراعة والفلاحة وغير هذه الأشياء بتفصيل؛ فإن ذلك سيسد على الناس باب البحث والتعلم والسير في الأرض، واستخراج كنوزها وعلومها. أما بالنسبة للعلوم الأخروية فقد اقتضت حكمة الله بأن هذا العلم النفيس لا يمكن أن تصل إليه العقول إلا عن طريق الوحي؛ لأنه لا يمكن للعقل البشري أن يصل إلى معرفة الجنة وصفات الجنة، ولا ما سيحصل في المستقبل، ولا ما حصل قبل خمسين ألف سنة من خلق السماوات والأرض، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا صفات الله، ولا أشراط الساعة، ولا تفاصيل يوم القيامة.. إلى آخره، وكذلك معرفة ما يرضي الله، ولا كيف سنصلي صلاة هي التي يريدها الله، أو نزكي زكاة ترضي الله. إذاً: الوحي يقتصر على هذا الجانب، أما الجانب الدنيوي فقال فيه عليه الصلاة والسلام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: أمور الدنيا تترك للاجتهاد البشري. نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما فيه منافعهم وتنمية معارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) ولكن مع ربطها بما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . يقول القاسمي : فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله. يعني: علم خصائص النباتات أو المعادن والكلام في علم الهيئة، ونحوها ليست من الغيب، بل هذه العلوم دون العلوم الشرعية، وتركت للناس بحيث يترقون فيها وينهضون بالطريقة المعروفة.

يقول الزمخشري : قوله: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا أي: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى. يعني: يمكن أن الله سبحانه وتعالى يرتضي من عباده الأولياء والصالحين، لكن يقصد هنا طبقة معينة من المرتضين، وهم من خصوا بالرسالة فقط، فهم الذين يطلعهم الله على هذا الغيب. يقول الزمخشري : وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. لمزيد من التوضيح فـالزمخشري معتزلي ينكر الكرامات، فهو يفسر الآية بطريقة معينة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلع على الغيب إلا درجة معينة ممن ارتضاهم ورضي عنهم، وهم من خصوا بالرسالة، لكن لا يوجد أحد يدعي أن الكرامات هي ما تعلق بشيء من الغيب، وكذلك لا يوجد أحد يزعم أن الأولياء يعلمون الغيب إلا من خلال أمرين اثنين: إما رؤيا منامية، كأن يرى رؤيا صالحة تشير إلى شيء من الغيب، ومع ذلك فهذا الولي لا يقطع بها الأمر الثاني: الفراسة، والفراسة هي نور البصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن، فيرى ويدرك الأشياء بنور الفراسة. وهذا أيضاً لا يقطع به كمصدر من مصادر الحقائق العلمية، وإنما هو شيء مظنون. فهل تنحصر كرامات الأولياء في هذا الباب فقط، أم تنحصر في خرق العادة بالكرامات الشهيرة المعروفة؟ يعني: كون بعض الناس ادعى الاطلاع على الغيب، فهل يجعلنا نبطل جميع كرامات الأولياء؟! كيف والقرآن نفسه احتوى على شيء من كرامات الأولياء، مثل كرامة مريم ، كما في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. إذاً: فالكرامات لا تنحصر فيما يتعلق بالإخبار عن الغيب، مع أننا لا ندعي أن أولياء الله يعلمون الغيب، لكن نقول: ربما يكون هناك إخبار بأشياء ستقع عن طريق رؤيا لا يقطع بها، أو عن طريق الفراسة، وهي أيضاً لا يقطع بها. يقول الزمخشري : وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. وهذا صحيح، نقول: إن قوله تعالى: (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) * (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ))يؤخذ منها أنه سبحانه وتعالى لا يخبر بهذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل، ويؤخذ من هذه الآية إبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما هم أولى الناس بسخط الله، وهم أبعد الناس عن أن يرضى عليهم الله، فكيف يقال إنهم يعلمون الغيب؟!

وقد أجاب أبو السعود : بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين أحداً من خلقه. قال: قوله: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )) أي: إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. أقول: وهل الرسول يطلع على كل غيب؟ لا، بل يطلعه الله على ما شاء من الغيب المتعلق برسالته. قال: كما يعرب عنه بيان: (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى )) بقوله: (( مِنْ رَسُولٍ )). إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالة على صحتها. يعني: قد يطلع الله سبحانه وتعالى الرسول المرتضى على شيء من الغيب، ليكون معجزة له وأنه أخبر بهذا الغيب، وهذا ركن من أركان الاستدلال به على صدق النبوة. فمن ضمن الأشياء الخمسة التي يستدل بها على صدق النبوة: النبوءات والإخبار عن غيب قبل أن يقع فيقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة تؤيد النبي، وتدل على صدقه. قال: وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة. أي: فهذا غيب، والرسول عليه الصلاة والسلام اطلع على هذا الغيب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة). إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا النوع من الغيب. قال: وما تتوقف عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. يعني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا من خلال الوحي بأشياء لا يمكن أن يدلنا عليها العقل، وهي هذه الأمور الغيبية، من صفات الملائكة والجن وأحوالهم، أليس هذا كله غيباً؟! قال: أما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليها أحداً أبداً؛ لأن هذا الغيب لا يرتبط بالرسالة، ولا هو من موضوع الرسالة. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن قيام الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) إن السائل جبريل والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، فهل يطمع غيرهما أن يعرف متى الساعة؟! والآيات في ذلك واضحة. قال: على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة. يعني: فمن حكمة الله أنه خبأ علينا موعد الساعة؛ لأننا لو عرفنا موعد قيام الساعة لانتهى الامتحان. قال: أيضاً: ليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء، فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكرامات بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما نسب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.