خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة الحاقة
الحلقة مفرغة
سورة الحاقة هي السورة التاسعة والستون من سور القرآن الكريم، وهي سورة مكية، وآيها اثنان وخمسون آية. قال تبارك وتعالى: الْحَاقَّةُ [الحاقة:1] أي: الساعة التي تحق فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال، مثل قولهم: حق عليه الشيء إذا وجب. والحاقة هي القيامة، وهذا اسم من أسماء يوم القيامة كما سميت بالقارعة ونحو ذلك من الأسماء. ولماذا سميت القيامة بالحاقة؟ قيل: سميت بذلك؛ لأن الأمور تحق فيها. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت بأقوام الجنة، وأحقت بأقوام النار. وقيل: سميت بذلك؛ لأن فيها يصير كل إنسان حقيقاً بجزاء عمله. وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي: تغلب كل محاق ومجادل في دين الله بالباطل، تقول: حاققته فحققته، يعني: غالبته فغلبته، والتحاق هو التخاصم، والاحتقاق الاختصام، وكذلك بالنسبة لكلية الحقوق، فهي كلية الاحتقاق يعني: الاختصام. قوله تعالى: مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:2] هذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر، يعني: ما هي الحاقة؟ تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها. قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:3] قال بعضهم: من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته أتوا بإجمال وتفصيل، فالإجمال مثل قوله تعالى: الْحَاقَّةُ ، ثم أتى بتفصيل أكثر فقال: مَا الْحَاقَّةُ ، ثم زاد فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ أي: أي شيء هي؟! تأكيداً لتفخيم شأنها حتى كأنها خرجت عن دائرة علم المخاطب، يعني: لهولها وفخامتها صارت كأنها خالية عن أن يدرك المخاطب كنهها أو معناها أو ما اشتملت عليه من الأوصاف مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه فهمه، وكيفما قدر حالها فهي وراء ذلك وأعظم، ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دارٍ، ولا تبلغها الأبصار.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:4-5]. قال تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4] أي: بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم. والقارعة هي الحاقة، وهنا أيضاً وضع المظهر هنا موضع المضمر؛ لأن دليلها أو تسميتها بالقارعة هو أيضاً اسم من أسماء يوم القيامة. قال الزمخشري : ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب؛ تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم، فقال تبارك وتعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ [الحاقة:5] وهم قوم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5] أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. وإذا قلنا: إن الطاغية مصدر كالعافية فيكون المعنى: أهلكوا بطغيانهم.
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]. قال تبارك وتعالى: وَأَمَّا عَادٌ وهم قوم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام،فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة العصوف والبرد؛ فالريح الصرصر هي الريح الباردة. قال بعض المفسرين: ريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار. وقيل: هي من الصر، والصر: هو البرد. وقيل: ((صرصر)) أي: شديدة الصوت. وقيل: كثيرة السموم. قوله: ((بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((عاتية)) أي: متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة. وقيل: ((عاتية)) يعني: عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يطيقوها من شدة هبوبها؛ غضباً لغضب الله تبارك وتعالى. وقيل: ((عاتية)) أي: عتت على عاد فقهرتهم. قوله: ((سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ)) أي: سلطها عليهم. قوله: ((حسوماً)) أي: متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، من قولك: حسمت الدابة إذا تابعت بين سيرها. أو ((حسوماً)) بمعنى: قاطعات قطعت دابرهم، هذا على أن (حسوماً) جمع حاسم كشهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فكذلك حسوم جمع حاسم، فإن كان مصدراً فنصبه بفعل محذوف تقديره: تحسم حسوماً. وقول آخر: إن ((حُسُوماً)) مفعول له، أي: سخرها عليهم للحسوم، أي: للاستئصال. وقد قيل: إن تلك الأيام هي أيام العجز، والعامة تقول: العجوز، وهي التي تكون في عجز الشتاء، يعني في آخر الشتاء. قوله: ((فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى)) أي: هلكى، جمعُ صريع. قوله: ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)) أي: ساقطة مجتثة من أصولها، كقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]. قوله تعالى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ أي: هل ترى لهم بقاء؟ أو من نفس باقية؟! أو هل ترى لهم من بقية؟! وهذه الآية كقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] يعني: المساكن التي كانوا يسكنونها، أما هم فلم يبق منهم أحد.
قال تبارك وتعالى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة:9-10]. قوله: ((وجاء فرعون ومن قبله)) يعني: من قبله من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود. قوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)) هي قرى قوم لوط، وقرية سدوم هي القرية الكبرى بالنسبة لديار قوم لوط عليه السلام، وهناك قرى أخرى لقوم لوط، فلذلك جمعت هنا بقوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَات)). وقيل: المؤتفكات: المنقلبات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قلبها عليهم كما قلبوا هم فطرة الله تبارك وتعالى وعكسوها. قوله: ((بِالْخَاطِئَةِ)) أي: بالخطأ، أو بالأفعال الخاطئة. فالباء تكون سببية، يعني: بسبب الخطأ والذنب والمعصية والخطيئة، أو بسبب الأفعال الخاطئة. قوله تبارك وتعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً الذي ذكر في الآية السابقة قوم فرعون وقوم لوط، فمن المقصود من قوله تعالى: (( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ))؟. قيل: ((رسول ربهم)) هو موسى عليه السلام. وقيل: ((رسول ربهم)) هو لوط عليه السلام. وقيل: ((رسول ربهم)) هو موسى ولوط عليهما السلام، فإنه يجوز أن يعبر بالمفرد عن المثنى، فيكون التفسير: فعصوا رسولي ربهم، يعني: موسى ولوطاً عليهما السلام، والدليل على أن رسول قد تطلق على المثنى قول الله تبارك وتعالى: فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:16] فأطلق المفرد على المثنى، فيحتمل هنا أيضاً أن يكون قوله تعالى: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)) يعني: رسولي ربهم، وهما موسى ولوط عليهما السلام. وهناك قول رابع في معنى قوله: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)): وهو أن رسولاً أحياناً تأتي بمعنى الرسالة، يقول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول قوله: ولا أرسلتهم برسول، يعني: ولا أرسلتهم برسالة، فيطلق أحياناً على الرسالة رسول. قوله تعالى: ((فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً)) يعني: أخذة عالية زائدة في الشدة على الأخذات السابقة، وعلى عذاب الأمم الغابرة.
قال عز وجل: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:11-12]. قوله: ((إنا لما طغى الماء)) أي: كثر وتجاوز حده المعروف؛ بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبهم لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والكلام هنا على قوم نوح عليه السلام. قوله: ((حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)) أي: السفينة التي تجري في الماء. قال ابن جرير : خاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحاً وولده في السفينة، كما قال تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] عليه السلام؛ لأن الذين خوطبوا بذلك أولاد الذين حملوا في الجارية، فكان حمل الذين حملوا بها من الأجداد حملاً لذريتهم؛ لأنهم كانوا في أصلابهم، ولأن نوحاً هو أبو البشر الثاني، وصحيح أن نوحاً كان معه أناس آخرون، لكن غالب الذرية بعد ذلك كانت من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً [الحاقة:12] أي: لنجعل تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين تذكرة. وقال بعض المفسرين: ((لنجعلها)) أي: السفينة ((تذكرة)). وقال بعض المفسرين: وهذه السفينة رآها أناس من أوائل هذه الأمة على جبل الجودي. وهناك مجموعة من المكتشفين الإنجليز قاموا بتسجيل شريط فيديو بعد بحث طويل بأجهزة حديثة فيه أن مكان السفينة على قمة جبل الجودي، والذي أثبته هذا البحث من هذه البعثة مخالف لما ورد في التوراة وفي الكتب الأخرى، وما توصلوا إليه كان موافقاً لما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]. فيحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي: أن السفينة تذكرة، أو ((لنجعلها)) أي: تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ((لكم تذكرة)) وعبرة، تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله وتدمير أعدائه. قوله: ((وَتَعِيَهَا)) أي: تحفظها. ((أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) أي: حافظة لما سمعت عن الله متفكرة فيه.
قال تبارك وتعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة:13] يعني: لخراب العالم، فعلى هذا يكون المقصود بهذه النفخة: النفخة الأولى عند قيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات. وقال بعض المفسرين: هي النفخة الثانية. وبعضهم قال: هي النفخة الآخرة، أي: أن هناك نفخة ثالثة. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل النفخات ثلاث أم نفختان؟ فمن قال: هي ثلاث نفخات، قال: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والنفخة الثانية: نفخة الصعق، والنفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور. أما من قال: إنها نفختان فهي أولى وآخرة، وهذا هو الراجح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وفي الحديث الصحيح: (ما بين النفختين أربعون)، فدل على أنهما نفختان. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ أي: لخراب العالم. قال أبو السعود : هذا شروع في بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.
قال تبارك وتعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:14-18]. قوله: ((دكتا)) يعني: فتتا تفتيتاً. قوله: ((دكتا دكة واحدة)) أي: رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل. قوله: ((فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)) في وصفها بالواحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدك الأرض والجبال وخراب العالم هي دكة واحدها غير محتاجة إلى أخرى. فهذا دليل على شدة قوتها، وأنها كافية وحدها لخراب العالم، ولا تحتاج إلى دكة أخرى. قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:15] أي: نزلت النازلة وهي القيامة، وهذا يبين أن من أسماء القيامة الواقعة. قوله تعالى: وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ [الحاقة:16] أي: انصدعت. قوله: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ أي: متمزقة. قوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا أي: على جوانبها وأطرافها حين تشقق، والملك هنا اسم جنس معناه: الملائكة على أرجائها. قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. قوله: يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ أي: ثمانية أفراد من الملائكة، أو ثمانية صفوف من الملائكة، والله أعلم بحقيقة ذلك. قال ابن كثير : يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله تعالى أعلم بالصواب. وهذه الآيات وهذه النصوص يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، ولا نحاول أن نتعمق أو نتنطع في معرفة كنهها وحقيقتها، بل نؤمن بها كما وردت، وتفسيرها تلاوتها وقراءتها. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. قوله: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ)) أي: على ربكم للحساب والمجازاة. قوله: ((لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) أي: أيّ شيء كان يستر ويخفى في الدنيا بستر الله يصبح بادياً معروضاً أمام الله سبحانه وتعالى.
قال تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة:19]. يعني: أن علامة الفوز والنجاح يومئذٍ هي أن يعطى الإنسان كتابه بيمينه، وهذا ما فسرته كثير من الآيات والأحاديث، كما قال الله تبارك وتعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. إن الآيات التي ورد فيها أمر هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان هو كتاب حقيقي؛ وذلك لقوله تبارك وتعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ، وقوله تبارك وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، وقوله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14]. لا شك أن هذا في جانب ما ورد من الأحاديث في وصف هذا الكتاب كله يدفع ويبطل تأويل الكتابين باليُمن والشؤم، يقول بعض المؤولين: ((من أوتي كتابه بيمينه)) هذا كناية عن اليمن، ومن أوتي كتابه بشماله هذا كناية عن الشؤم. وهذا التأويل تحريف لكلام الله عز وجل؛ لأن الكتاب المذكور في النصوص هو كتاب حقيقي، فلماذا يؤولون النصوص مع كونها واضحة. قوله: فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ يعني: تعالوا أو خذوا اقرءوا كتابيه. قوله: ((كتابية)) الهاء هنا هاء السكت، وليست ضمير غيبة. قوله تعالى: ((هاؤم)) يعني: تعالوا أو هلموا أو خذوا، وقيل: هي كلمة لإجابة الداعي عند النشاط والفرح.
قال تبارك وتعالى: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]. قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. قوله تعالى هنا: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ معروف أن الظن واسطة بين الشك وبين العلم، وقد يأتي الظن بمعنى العلم إذا وجدت قرائن، وذلك مثل قوله تبارك وتعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53] قوله: ((فظنوا)) أي: علموا وتيقنوا، بقرينة قوله تعالى: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]. كذلك هنا في قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فهي أيضاً بمعنى العلم؛ لأن العقائد لا يصلح فيها الظن. إذاً: قوله إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ يعني: كنت أؤمن بالبعث والنشور والحساب والجزاء ولست ممن كان ينكر البعث والنشور، فظننت أني ملاق حسابيه، وأني سأُجازى يوم الحساب، فلذلك أعددت له عدة. إذاً: العقائد لا تقوم على الظن، وإنما تقوم على اليقين والعلم، فمن ثم ففي الكلام على العقائد لا يمكن أن يكون الظن بمعنى الشك، وإنما الظن بمعنى العلم، أي: علمت وأيقنت أني ملاق حسابيه. ودل القرآن أيضاً على أن الظن قد يكون بمعنى العلم؛ وذلك بمفهوم قوله تبارك وتعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، هذا هو المنطوق، أما المفهوم فهو أن البعض الآخر حق وليس إثماً، وهو ما كان حقاً، وقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46] فوصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بلقاء الله وبالبعث وبالنشور وبالحساب والجزاء، فما دام الموضوع هنا متعلقاً بالعقيدة فلا يمكن فيها إلا اليقين وليس الظن، ويكون الظن هنا بمعنى العلم. قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت. قوله: ((أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)) أي: ملاقٍ جزائي يوم القيامة فأعددت له عدته، من الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، ويثاب الإنسان على التصديق به، لكن لا يكفي فقط في النجاة من العذاب، فلابد مع الإيمان بالبعث والنشور أن تعد العدة للقاء الله، وأن تعد للسؤال جواباً، فمن ثم نقول في تفسير قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ إني علمت أني ملاق جزائي يوم القيامة، فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.
قال تبارك وتعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:21-24]. قوله: ((عيشة راضية)) يعني: ذات رضاً ملتبسة به، فيكون بمعنى عيشة مرضية، كقوله تبارك وتعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] بمعنى مدفوق، يعني: أتى اسم الفاعل مراداً به اسم المفعول، كذلك هنا (عيشة راضية) يعني: عيشة مرضية، أو عيشة ذات رضاً، كما تقول: لابنٌ وتامرٌ، يعني: صاحب لبن، وصاحب تمر. أو قوله: (في عيشة راضية) أي: في عيشة راض صاحبها، فأسند الرضا إليها، وجعلها كأنها نفسها راضية. قوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:22-23]. قوله: ((قطوفها)) تقول: (قِطف) بكسر القاف، وهو ما يقطف من ثمرها. قوله: ((دانية)) أي: قريبة سهلة التناول. قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا [الحاقة:24] أي: يقال لهم: كلوا واشربوا. قوله: ((هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)) أي: الماضية في الحياة الدنيا. وناقشنا مراراً الرد على الملاحدة والمشركين والكفار من النصارى المستشرقين والمنصرين الذين يطعنون في الإسلام وقلنا: إن الإسلام يعد المؤمنين بمتاع حسي في الجنة، فالجنة تشمل كل أنواع النعيم الحسي والنفسي والروحي، يقول تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] أي: ورؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة هي أعظم نعيم الجنة على الإطلاق، بحيث إنه إذا كشفت الحجب ورأوا ربهم سبحانه وتعالى ونظروا إليه يتلهون عن كل ما عدا ذلك من النعيم، وهذا نعيم معنوي وليس نعيماً حسياً، فالإنسان جسم وروح، جسد ونفس، فاقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى وفضله على المؤمنين أن ينعم أرواحهم وينعم أيضاً أجسادهم، وهذا ليس فيه أي معرة، وإنما حرم النصارى أنفسهم من هذا كله بسبب آثار رهبانيتهم التي ابتدعوها، وحرموا بسببها ما أحل الله من الطيبات، ونظروا إلى النعم الحسية على أنها نجس، حتى إنهم نفروا من الزواج ومن أطايب الطعام والشراب ونحو ذلك، فهذه رهبانيتهم المشئومة مخالفة لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:32] يشتركون فيها مع غيرهم خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] فقط لمن آمن. وهناك كثير من الأدلة التي تدل على إبطال ما يزعمونه، ومن ذلك أنهم يعتقدون أن آدم وحواء كانا في الجنة، وأنهما أكلا من الشجرة، وهذا يدل على أن الجنة فيها أشجار وفيها ثمار تؤكل، وهذا مما نحتج به عليهم، وإن كانت عقيدتهم في قصة آدم وحواء دخلها شيء من التحريف كما هي في سجيتهم.