خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
صفات عباد الرحمن [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
الاستجابة لضيافة الرحمن
فإن الله تعالى أنزل هذا القرآن هدىً للناس، وقد بين فيه ما يصلح علاقاتهم بربهم، وما يصلح علاقاتهم فيما بينهم، وبين فيه خبر من قبلنا، وخبر ما يجيء بعدنا؛ فنحن محتاجون إلى مراجعته في كل الأوقات، وإلى مدارسته وبالأخص في بيوت الله التي بنيت له؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل ذلك وما يترتب عليه من الثواب الجزيل؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وهذا الوعد العظيم لا بد من معرفة منزلته حتى تشرئب القلوب للحصول عليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله )، فاستشعار أن هذا البيت بيت من بيوت الله يقتضي أن تأتي أفئدة المؤمنين مشرئبةً لضيافة الملك وهو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين؛ فأنتم الآن في ضيافة الملك جل وعلا، دعاكم إلى بيته فاستجبتم، وقد أعرض كثير من الناس عن الإجابة عندما سمعوا منادي الله ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاختاركم لأن تكونوا من الملبين لهذا النداء العظيم؛ ليكرمكم.
ثم بعد ذلك قال: ( يتلون كتاب الله )، مزية عظيمة هي قراءة هذا القرآن الذي هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، هو أحدث الكتب بالله عهداً، وهو أبينها بياناً، وأوضحها حلالاً وحراماً، بين الله سبحانه وتعالى فيه ما يرضيه من عباده، وختم به الشرائع كلها، وجعله مهيمناً عليها، مصدقاً لما بين يديه من الحق، ناسخاً لكل ما سبق.
ثم بعد هذا قال: ( ويتدارسونه بينهم )، إن القرآن لم ينزل لمجرد قراءة حروفه دون مدارسة حدوده؛ بل لا بد من الرجوع إلى حروفه وحدوده، وأن نعلم أنه أنزل للتدبر، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فهو خطاب الله الذي خاطبكم به، ومائدته التي وضع لكم في أرضه؛ فلا بد أن تقبلوا عليه غاية الإقبال، وأن تحكموه في شئونكم، وأن ترجعوا إليه في كل أموركم، فهو الرجوع إلى الله، من رجع إلى هذا القرآن فقد أسند أمره إلى الله، وأسلم نفسه إليه، فقد قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
تنزل السكينة
قال: ( ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ).
الجائزة الأولى من جوائز الله تعالى لضيوفه، الذين يقرءون كتابه، ويتدارسونه في بيته هي نزول السكينة في قلوبهم، والسكينة معناها: الاطمئنان على الحق، فهي مقتضية لمرتبتين:
المرتبة الأولى: أن يعرف الإنسان الحق.
المرتبة الثانية: أن يلزمه بعد أن يعرفه.
فهي إذاً غاية الهداية؛ فالهداية لا تتعدى هدايتين: هداية إرشاد لمعرفة الحق، وهداية توفيق بلزوم الحق، وكلتاهما مضمنة هنا في السكينة؛ لأن السكينة معناها: أن يسكن القلب إلى الحق؛ فلا يمكن أن يشك فيه، ولا أن يعدل عنه بوجه من الوجوه.
تنزل الرحمة
الجائزة الثانية: ( وغشيتهم الرحمة )، أي: تغشاهم رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا محتمل لأمرين:
الاحتمال الأول: محتمل لتنزل رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي صفة من صفاته، وذلك يقتضي غاية البركة؛ فمن لامسته صفات الباري سبحانه وتعالى، فإنه قد تقدس بذلك عن الشرك والأدران والمعاصي، ويكون ذلك قائداً له إلى الطاعات بالكلية.
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود الرحمة المخلوقة، وجزاء الله لمن رحمه من عباده، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمةً لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمةً واحدةً في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها ).
تنزل الملائكة لتثبيت القلوب
الجائزة الثالثة: ( وحفتهم الملائكة )، ومن المعلوم أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا عرضة لكثير من المشكلات، فنفسه التي بين جنبيه أمارة بالسوء، وإبليس يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله بقصد إغوائه عن طريق الحق، إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وإخوان السوء يشغلون الإنسان بما لا نفع فيه؛ ليعرض عن ذكر الله وطاعته، فينشغل بما لا نفع له فيه، والدنيا نفسها دار الغرور؛ فكل هذه الملهيات المشغلات هي مضرة على الإنسان؛ فيحتاج إلى ما يقويه عليها، فلا يقوى الإنسان عليها إلا بالنموذج الأعلى والأسمى وهو الملائكة، فالإنسان خلق بين صنفين من أنواع الخلائق: الصنف الأسمى منه وهو الملائكة الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لعبادته؛ فهم عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، وكذلك لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ومن أعمالهم أيضاً أنهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وهؤلاء الملائكة الكرام لم يسلط الله عليهم الشهوات، وإنما كلفهم بتكاليف؛ فلذلك أدوا التكاليف على وجهها، ومن المعلوم أننا في الأرض الآن نحب كل واحد من البشر رأيناه مواظباً على الطاعة مبتعداً عن المعصية، ونعتقد فيه الخير والصلاح، والملائكة أولى بذلك؛ لأنهم قطعاً لم تسبق عليهم أية معصية، كل أوقاتهم في الليل والنهار مشغولة مملوءة بذكر الله وطاعته، لا يفترون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون، كل أوقاتهم ذكر وعبادة لله سبحانه وتعالى، فإذاً هم يستحقون منا المحبة والتقدير، ولذلك فهم الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة؛ لأن النوع الثاني الذي هو أسفل منا هو الحيوان البهيمي، سلط الله عليه الشهوات، ولم يكلفه بالتكاليف، ونحن معشر البشر جمع الله لنا بين الخاصتين: كلفنا بالتكاليف، وسلط علينا الشهوات، فمن اتبع الشهوات منا وضيع التكاليف؛ التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى من الحيوان؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]. ومن اتبع منا الهدى، ولم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف ولم يضيعها؛ التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة.
إذاً علاقتنا بالملائكة مهمة لنا؛ لأنها التي ترشدنا إلى الخير، وتقطعنا عن الغير، ونحن محتاجون إلى الانتصار بهم في كل الأوقات؛ ولذلك امتن الله على المؤمنين بتنزل الملائكة عليهم فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت:30-33].
فوظيفة هؤلاء الملائكة أنهم يتنزلون على المؤمنين من البشر؛ لتثبيت قلوبهم، ولإزالة الرعب والخوف عنهم، ولقطع علائق الدنيا وعوائقها وأشغالها عنهم، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31]، فهم أنصار المؤمنين في هذه الحياة الدنيا؛ يكيدون لهم وينصرونهم، ويسعون لتقريبهم إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ويدعون لهم بالمغفرة، ويقولون كما حكى الله تعالى عنهم: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:7-9]، هذا دعاء الملائكة لكم.
دعاء الملائكة ومخالطتهم
كذلك جلوسكم الآن في مصلاكم هنا تنتظرون الصلاة بعد الصلاة، وأنتم صائمون وتنتظرون غروب الشمس، أيضاً تعرض لدعاء الملائكة؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الملائكة تصلي على أحدكم وهو في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه )؛ فهذا دعاء الملائكة؛ ولذلك فحاجتكم إليهم عظيمة جداً، فهم في تنزلهم على المؤمنين يقولون: لا تخافوا ولا تحزنوا؛ فما يلقيه الشيطان من التخويف بغير الله سبحانه وتعالى، ومن أعداء الله، يرده الملائكة فيقولون: لا تخافوا، وما يلقيه الشيطان من الحزن في نفوس المؤمنين يرده الملائكة فيقولون: ولا تحزنوا، وما يحصل في قلوب المؤمنين كذلك من غلبة خشية على الرجاء يرده الملائكة فيقولون: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31]، والإنسان محتاج إلى الأولياء والأنصار، ومن كان أنصاره الملائكة الكرام الذين وصفهم الله بالقوة والشدة والمكانة عند الله ديان السموات والأرض، يكفيه هذا نصرةً؛ فلذلك قال: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، فولايتهم للمؤمنين غير مختصة بالآخرة وحدها بل هي أولاً في الدنيا ثم في الآخرة بعد ذلك، ثم بعد ذلك يبشرونهم بما أعد الله لهم في الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32].
ثم إن مخالطة الملائكة تزيل كذلك عن الإنسان رجس الذنوب؛ فهم مطهرون منها بالكلية، وإذا خالطوا الإنسان فإن ذلك طهرة له، وأعرف سجيناً كان إذا جيء بسجين جديد من المؤمنين يناديه فيقول: استمعوا إلى ما يخاطبكم به الملائكة، فالملائكة يخاطبونكم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، والسجين أول ما يدخل السجن عادةً وهو لا يدري علام أخذ، ولا لأي شيء أخذ، كثيراً ما ينقبض ويغشاه حزن، فكان ينادي: استمعوا إلى ما يقول لكم الملائكة: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]؛ فلذلك يخالط الملائكة كل الذين يجتمعون في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، فتتنزل عليهم الملائكة بقصد التثبيت، والمباركة، والدعاء، وأنتم تعلمون أن أي مجلس حضره من كان من أهل الصلاح والعلم، يكون مجلساً محترماً؛ فترى المجلس فينا كالحرم، فكيف بمجلس يشهده الملائكة؟ إنه مجلس مبارك يستجاب دعاء أهله، ويتنورون بنور الملائكة، ودعاؤهم يؤمن عليه الملائكة على الأقل فهو مستجاب؛ فلذلك تحفهم الملائكة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقة ذلك فقال: ( إن لله ملائكةً سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر )، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه حلق الذكر، فقال: هي مجالس العلم، كيف تصوم؟ وكيف تصلي؟ وكيف تنكح؟ وكيف تبيع؟ هذه هي مجالس الذكر؛ فلذلك قال في وصف هؤلاء: ( إن لله ملائكةً سيارين في الأرض )، وفي رواية: ( سياحين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، إذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فإذا انفضوا -أي: فإذا قاموا- ارتفعوا إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك، ويكبرونك، ويهللونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً، وعليها أشد حرصاً. فيقول: ومن ماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ).
فيهب الله المسيئين منهم للمحسنين؛ فالمسيء الذي ما حضر بقصد القربة يتجاوز الله عنه تكرمةً للمحسنين، وضيافةً لهم، فإنه لمجرد مجالسته لهم أصبح في حرمتهم:
إن المعارف في أهل النهى ذمم
فلذلك يغفر له بسبب مجالسته لأولئك الصالحين المقبلين على الله سبحانه وتعالى.
فإن الله تعالى أنزل هذا القرآن هدىً للناس، وقد بين فيه ما يصلح علاقاتهم بربهم، وما يصلح علاقاتهم فيما بينهم، وبين فيه خبر من قبلنا، وخبر ما يجيء بعدنا؛ فنحن محتاجون إلى مراجعته في كل الأوقات، وإلى مدارسته وبالأخص في بيوت الله التي بنيت له؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل ذلك وما يترتب عليه من الثواب الجزيل؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وهذا الوعد العظيم لا بد من معرفة منزلته حتى تشرئب القلوب للحصول عليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله )، فاستشعار أن هذا البيت بيت من بيوت الله يقتضي أن تأتي أفئدة المؤمنين مشرئبةً لضيافة الملك وهو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين؛ فأنتم الآن في ضيافة الملك جل وعلا، دعاكم إلى بيته فاستجبتم، وقد أعرض كثير من الناس عن الإجابة عندما سمعوا منادي الله ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاختاركم لأن تكونوا من الملبين لهذا النداء العظيم؛ ليكرمكم.
ثم بعد ذلك قال: ( يتلون كتاب الله )، مزية عظيمة هي قراءة هذا القرآن الذي هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، هو أحدث الكتب بالله عهداً، وهو أبينها بياناً، وأوضحها حلالاً وحراماً، بين الله سبحانه وتعالى فيه ما يرضيه من عباده، وختم به الشرائع كلها، وجعله مهيمناً عليها، مصدقاً لما بين يديه من الحق، ناسخاً لكل ما سبق.
ثم بعد هذا قال: ( ويتدارسونه بينهم )، إن القرآن لم ينزل لمجرد قراءة حروفه دون مدارسة حدوده؛ بل لا بد من الرجوع إلى حروفه وحدوده، وأن نعلم أنه أنزل للتدبر، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فهو خطاب الله الذي خاطبكم به، ومائدته التي وضع لكم في أرضه؛ فلا بد أن تقبلوا عليه غاية الإقبال، وأن تحكموه في شئونكم، وأن ترجعوا إليه في كل أموركم، فهو الرجوع إلى الله، من رجع إلى هذا القرآن فقد أسند أمره إلى الله، وأسلم نفسه إليه، فقد قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
قال: ( ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ).
الجائزة الأولى من جوائز الله تعالى لضيوفه، الذين يقرءون كتابه، ويتدارسونه في بيته هي نزول السكينة في قلوبهم، والسكينة معناها: الاطمئنان على الحق، فهي مقتضية لمرتبتين:
المرتبة الأولى: أن يعرف الإنسان الحق.
المرتبة الثانية: أن يلزمه بعد أن يعرفه.
فهي إذاً غاية الهداية؛ فالهداية لا تتعدى هدايتين: هداية إرشاد لمعرفة الحق، وهداية توفيق بلزوم الحق، وكلتاهما مضمنة هنا في السكينة؛ لأن السكينة معناها: أن يسكن القلب إلى الحق؛ فلا يمكن أن يشك فيه، ولا أن يعدل عنه بوجه من الوجوه.