تفسير سورة الملك [1-30]


الحلقة مفرغة

سورة الملك هي السورة السابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وسميت بالملك لاشتمالها على كثير من آثار المُلك، من كثرة الخيرات وعموم القدرة والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة، والغفران، وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وألا يقدر أحد على نصر من عاداه، فهذه كلها من آثار الملك، وهذه المعاني في عامتها مما تناولته هذه السورة الكريمة؛ فمن ثم سميت سورة الملك، وتسمى أيضاً سورة تبارك. وهي سورة مكية، وآيها ثلاثون آية. وقد صح في فضلها على الخصوص أحاديث، ولا توجد سورة في القرآن ليس لها فضل، فكل السور لها فضل، ويدل على هذا العمومات الواردة في ثواب وفضيلة من قرأ حرفاً من كتاب الله أو من قرأ القرآن كله، لكن قد ثبتت بعض الأحاديث في فضيلة بعض السور بخصوصها، وهذا تماماً كما في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فهل الصحابي الذي لم يثبت بخصوصه حديث ليس له فضائل؟ معاذ الله! وإنما له فضل، وهو يدخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذه فضائلهم أجمعين، لكن يأتي في شأن بعض الصحابة فضائل خاصة، وكذلك هذه السورة ثبت في فضلها بخصوصها بعض الأحاديث، منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تبارك الذي بيده الملك)). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، (تبارك الذي بيده الملك)). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ضرب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وقوله: (خباءه) يعني: خيمته. قوله: (على قبر) يعني: على موضع قبر. قوله: (وهو لا يحسب أنه قبر) يعني: لا يظن أنه قبر. قوله: (فإذا قبر إنسان) فإذا هذه للمفاجأة يعني: إذا مكان قبر لإنسان. قوله: (يقرأ سورة الملك حتى ختمها) يعني: أن هذا الصحابي سمع صوت الميت المدفون في هذا القبر يقرأ سورة الملك حتى ختمها، وهذا قد يقع، أن يُكشف شيء من هذه الغيبيات أحياناً لبعض الناس بإذن الله تبارك وتعالى. قوله: (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر)، ولذلك سميت هذه السورة بالمانعة يعني: أنها تمنع من يحفظها من عذاب القبر، وسميت المنجية؛ لأنها تنجيه من عذاب القبر، وهذا أمر معروف ومشهور، فمن الأسباب التي تقي الإنسان عذاب القبر أن يكون قارئاً وحافظاً لسورة الملك. وورد في بعض الأحاديث الضعيفة قوله عليه الصلاة والسلام: (وددت أنها في قلب كل مؤمن). فعلى أي الأحوال هذه السورة لها هذا الفضل العظيم، فنوصي كل من يسمع هذا الكلام ألا يقصر أبداً في حفظ سورة (تبارك الذي بيده الملك)، خاصة الذي تقدم سنه أو مرض أو نحو ذلك، فللسورة فضائل عظيمة جداً، ومن أكثر قراءتها فيرجى أنها تنفعه في قبره وفي الآخرة، وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2] -يعني: سورة السجدة- وتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]) فمن وظيفة هذه السورة أنها تتلى عند النوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ هاتين السورتين.

قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]. قال ابن جرير : أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة؛ لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبينهم عجز، فلله عز وجل الملك التام، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، فهذا كقوله تعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] فمعنى تبارك: تعالى وتعاظم، فهو الذي يتصرف في جميع المخلوقات كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات أن يوجدها على ما يشاء. ولفظة (تبارك) بحسب اللغة والاشتقاق هي: تَفاعل من البركة، أي: تكاثرت البركات والخيرات من قبله عز وجل، وهذا يستلزم تعظيمه وتقديسه سبحانه وتعالى. قوله: (الذي بيده الملك) أي: كل شيء يتصرف فيه بما يشاء لا معقب لحكمه. ونلاحظ هنا تقديم الموصول وصلته بـ(تبارك)، لم يقل: تبارك الله وإنما قال: (تبارك الذي)، فتقديم الموصول بصفة خاصة لله تبارك وتعالى -وهي تبارك- يدل على عظمة الموصول، ويدل له قوله تبارك وتعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]؛ لأن التقديم للتسبيح -وهو التنزيه- يساوي التقديم للبركة في قوله: (تبارك الذي بيده الملك).

قال تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) أي: قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدَّر. قوله: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )) يعني: ليختبركم فيعلم أيكم أحسن عملاً، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]، فيقدر هنا (فيعلم) أي: علم وقوع، علم مكاشفة وليس علم غيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بالأشياء بعد وجودها، وهي تقع موافقة لما سبق في علم الله تبارك وتعالى من المقادير. قوله: (( وَهُوَ الْعَزِيزُ )) أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل. قوله: (الغفور) أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل. وقد قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال هنا في سورة الملك: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ))، فهذا دليل على الحكمة من خلق الموت والحياة. أما تقديم الموت على الحياة فهو كما قدم الإناث في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، وقيل: إن تقديم الموت هنا؛ لأن الأصل العدم، ثم بعد ذلك جاءت الحياة، والله تعالى أعلم. وقال سبحانه: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بالإحسان في العمل لا بكثرته، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى الإحسان في حديث جبريل المشهور حينما سأله: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى الإحسان المذكور في قوله: (( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )). قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدمياً لما تعلق به الخلق، فالموت مخلوق، ودليله قوله تعالى: (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ )) يعني: أن الله خلق هذا الموت.

قال تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]. قوله: (الذي خلق سبع سموات طباقاً) قال ابن جرير : طبقاً فوق طبق بعضها فوق بعض. وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان. فالسماء من السمو وهو العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] فقوله: (فليمدد بسبب) أي: يمدد بحبل إلى سقف بيته. أما قول علماء الفلك: وهذا الفضاء اللانهائي سماء، فهم لا يدققون في ألفاظهم، فهو في الحقيقة ليس فضاء بل هو مليء بالملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد يسبح الله تبارك وتعالى). وقولهم: وهذا الفضاء اللانهائي سماء! فيه نوع من التجاوز؛ لأنه ما دام مخلوقاً فله حد وله نهائية وله غاية، وليس ممتداً إلى ما لا نهاية، فهذا كلام من يطلق الكلام دون أي حساب. يقول ابن جرير : ومنه قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]. ومنه قوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنعام:99] السماء هنا هو السحاب. كذلك تسمى الكواكب سماء؛ لأنها تعلونا. إذاً: سقف الحجرة سماء، والسحاب سماء، والكواكب سماء، وما يسمى بالفضاء إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى يطلق عليه سماء. يقول القاسمي : والكواكب سموات، تلاحظون أن في أيام القاسمي لم يكن قد حصل تقدم علمي كالذي وصلوا إليه الآن من اكتشاف الأفلاك، فبعضهم كان يزعم أن السماوات السبع هي الكواكب السبعة السيارة! يقول: وهي طباق بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره، ومعنى هذا القول في قوله تبارك وتعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7] فواضح من هذا أن السماء الدنيا هي التي فيها هذه الكواكب؛ لأن السماء الدنيا هي فقط التي نراها الآن والتي فيها هذه الكواكب، أما بقية السماوات السبع الأخرى فإننا لا ندرك ما فيها. قوله: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))[الملك:3] أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكمة، بل راعاها في كل خلقه. قوله: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ )) يعني: إن شككت فكرر النظر. قوله: (( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) أي: من خلل. وأصل الفطور الصدوع والشقوق أريد به لازمه كذا قالوا، والصحيح أنه على حقيقته، فمعنى قوله: (( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) أي: هل ترى من انشقاق وانفطار بين السماوات، بحيث تذهب من هذا الانشقاق، وتقطع علاقاتها وأحبال سببها؟ كلا، بل هي متماسكة، ومرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وهذا يفسر قوله هنا: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )). وقرأها حمزة والكسائي : (ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت).

قال تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]. قوله: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ )) أي: كرره مرة بعد مرة. قوله: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا )) (خاسئاً) يعني: مبعداً، من قولك: خسأت الكلب، يعني: باعدته. يقول القاسمي : (ثم ارجع البصر كرتين) أي: رجعتين أخريين؛ ابتغاء الخلل والفساد والعبث، تدبر وانظر وفكر: هل تجد عبثاً أو خللاً أو تفاوتاً في خلق السماوات؟ والمراد بالتثنية في قوله: ((كَرَّتَيْنِ)) التكرار. قوله: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ )) أي: يرجع إليك البصر. قوله: (( خَاسِئًا )) يعني: مطروداً عن أن يصيب ويجد الخلل أو الفساد أو العبث في هذا المخلوق العظيم. قوله: (( وَهُوَ حَسِيرٌ )) أي: منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه، فيصيبه هذا الكلل والتعب والإرهاق؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يرجع ويرى في خلق الله سبحانه وتعالى تفاوتاً أو خللاً أو فساداً أو عبثاً. وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: (( وَهُوَ حَسِيرٌ )): قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً. ومعنى كلام الزجاج: أن الذي ينظر ويتأمل ويتدبر ويبحث في هذه السماء بنية أن يعثر على خلل فسوف يعيا، ويكون حسيراً متعباً كالاً مرهقاً، ويرجع خاسئاً خائباً، فلن يجد على الإطلاق خللاً، ولن يرى في السماء خللاً. يقول الزمخشري : نهاية كمال عالم الملك في خلق السماوات، لا ترى أحسن خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها، وأضاف خلق السماوات إلى الرحمن عز وجل؛ لأنها من أصول النعم الظاهرة، ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها، وإنما قال: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ))؛ لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع. فالشخص الذي يريد أن يفتش عن الخلل في خلق السماوات، هل سيعود بتحقيق شيء من بغيته؟ لا يمكن أبداً أن يحقق شيئاً من ذلك. وقال الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]، وقال تبارك وتعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] تبارك وتعالى. يقول الناصر في قول الله تبارك وتعالى: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا )): وضع للظاهر موضع المضمر، لم يقل: ثم ارجعه مرتين، وإنما قال: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ )). ثم قال: وفيه من الفائدة: التنبيه على أن الذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك. والنظر هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا شيء. إذاً: ما الذي يستعمل في النظر وفي الاطلاع والرؤية؟ العين، فلذلك قال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4]، فالذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك الخلل هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا يوجد خلل ولا فطور في خلق الله تبارك وتعالى. وهذا الإتقان العظيم في خلق السماوات والأرض -كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]- إنما هو في الدنيا فقط، أما يوم القيامة فلا شك أن السماء سوف تنفطر، كما قال الله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، وقال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25]، فالمقصود بهذا الإحكام والإتقان إنما هو في الحياة الدنيا.

قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5]. قال ابن جرير : وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له: صبح للضوء الذي يضيء للناس في النهار. قوله: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]. قال ابن كثير : عاد الضمير في قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَاهَا )) على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها. جزى الله الإمام الحافظ الجليل ابن كثير خيراً، فالمستوى العلمي البشري يتفاوت عند العلماء، لقد كان العلماء قديماً في علوم الشريعة في القمة، لكن كانوا مواكبين لعصورهم في ناحية العلوم الاستكشافية حسب المستوى العلمي البشري، وقد ترك الله للبشر هذا القسم من العلوم ليكتشفوه ويتطوروا ويتقدموا فيه. لو تأملنا هنا قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) هل يحتمل أن تكون المصابيح هي الكواكب؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، والذي ترجم به الشياطين الشهب، وهذه الشهب طبيعتها نفس طبيعة النجوم، فالشمس مثلاً نجم، أما الأرض والزهرة والمشتري وزحل ونحوها كواكب. إذاً: الأشياء المتوهجة بالكتل الغازية الضخمة الملتهبة كالشهب والنجوم هي المصابيح، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال في الشمس: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ:13]، لكن في القمر قال: وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61]، ولم يقل في القمر: وهاجاً، بل قال: (قمراً منيراً)؛ لأنه مثل المرآة ينعكس عليه ضوء الشمس فنراه بهذه الإضاءة، لكن الشمس نفسها نجم، النجوم والشهب كذلك. إذاً: هنا يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) ما هي هذه المصابيح؟ النجوم، بدليل قوله: (( وَجَعَلْنَاهَا )) أي: هذه المصابيح. قوله: (( رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ )) أي: يرجم بها مسترق السمع من الشياطين. وقوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5] أي: في الآخرة، هذه الآية تكشف عن حكمتين من خلق النجوم: الأولى: أنها زينة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ). الثانية: أنها يرجم بها الشياطين الذين هم أعداء البشر بانقضاض الشهب عليهم. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا )): يعني: وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون، والصواب أنها بمعنى آية الصافات وهي قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7] زينة وحفظاً، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:8-10]، فالذي يرجم به هو شهاب ثاقب.

فضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى كان أقرب تلامذة الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى، وهو الذي أتم أضواء البيان بعد وفاة الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كان آخر آية فسرها هي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فلعلها بشرى في كونه من حزب الله المفلحين إن شاء الله تعالى. وشيخ الإسلام ابن تيمية كان آخر ما قرأه من الآيات قبل موته: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]. وعمر بن عبد العزيز آخر آية قرأها عند الاحتضار: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ثم قبض رحمه الله تعالى. والشيخ محمد رشيد رضا آخر آية فسرها هي قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. والشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى ممن لحق بربه في عام الحزن، هذا العام الذي شهد موت كواكب أئمة المسلمين أمثال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى. يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار، وآخر يسارع بالتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن والسنة، ولعل الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وقال سبحانه: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، في هذه الحالة قطعاً لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها قائمة على رأي بشري قاصر، ومتعارضة تعارضاً صريحاً مع كلام خالق السماوات والأرض: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] سبحانه وتعالى. ثم إذا بنفس النظرية تتطور بعد ذلك ويعلنون أن الشمس بكل الأجرام السماوية المحيطة بها -أي: المجموعة الشمسية- تَسْبَحُ إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى في الفضاء، وحركة الأفلاك السماوية شيء ملاحظ ومحسوس، وكلها تتحرك بحكمة وبحساب، قال تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19]، فالشمس بالنسبة لما يدور حولها من الأجرام السماوية ثابتة والله أعلم، لكن نفس الشمس مع المجموعة الشمسية كلها تدور بقدرة الله سبحانه وتعالى. وقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) هذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، بل أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في صورة أوضح وأشهر، وذلك عندما بين أن الشمس حينما تغيب تذهب وتسجد تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، ثم تستأذن في الشروق فيؤذن لها، إلى آخر الحديث المعروف. على أي حال فأي شيء من النظريات العلمية يتعارض مع نص صحيح أو مقطوع به من آيات القرآن الكريم أو حديث نبوي واضح، وكان هذا التعارض صريحاً؛ ففي هذه الحالة لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها صادرة عن علم بشري خاطئ، أما إذا كانت هذه النظرية قد وصلت إلى مرتبة الحقيقة ولا يمكن الطعن فيها، مثل: كروية الأرض، فهذه حقيقة ما ينبغي أبداً أن يأتي إنسان الآن ويدعي أن الأرض غير كروية؛ لأن كون الأرض كروية هذا شيء محسوس، ولماذا نستغرب كون الأرض كروية؟ فكل الأجسام كروية، فالقمر كروي، والشمس كروية، وقوله عز وجل: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ )) قالوا: عدم التفاوت أقوى ما يكون في الشكل الكروي. ثم يقول: ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص القرآن عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا ما يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا منها موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً. وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب تكنولوجيا وإنما هو كتاب هداية، صحيح أتت بعض الإشارات تتضمن ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن هذا يصح الاستدلال به فيما وصل إلى مرتبة الحقيقة العلمية التي توافق ما جاء في القرآن، أما إذا كان هناك شيء ليس عندنا ما يرده ولا عندنا أيضاً ما يقبله، فهذه تترك للخبرة البشرية والعلم البشري، ولا ينبغي ربطها أبداً بالقرآن الكريم؛ لأن بعض الناس غلا في هذا الأمر غلواً مستقبحاً، حتى إن بعض الناس أراد أن يلصق نظرية داروين بالإسلام، فادعى في تفسيره أن نظرية داروين أشار إلى صحتها القرآن، وذلك في قول الله تبارك وتعالى في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] قال: هي هذه النفس الواحدة وقوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]. وهذا من الإلحاد في آيات الله ومن تحريف كلام الله عن موضعه؛ لأن نظرية داروين نظرية فاشلة وخائبة ومزيفة، فلا يجوز أبداً أن يربط نصوص القرآن الكريم بنظريات تروح وتجيء وتخطئ وتصيب، وإنما الذي يجوز ربط القرآن به هو ما وصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية. إذاً: ينبغي أن نتثبت ولا نتهور بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، ونأخذ ذلك من قصة الهدهد مع نبي الله سليمان لما جاء يخبره عن قوم سبأ، يقول الله تبارك وتعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:22-23]، فلما أخبر الهدهد سليمان بذلك، ولم يكن سليمان عليه السلام يعلم عنهم شيئاً، فسليمان لم يكذب الخبر الذي ورد من الهدهد ولم يصدقه؛ لأنه لم يعلم عنهم شيئاً، مع أن الهدهد وصف حالهم وصفاً دقيقاً، لكن كان موقف سليمان عليه السلام هو موقف المتثبت؛ مع ما لديه من إمكانات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر -وهو الهدهد-: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]، هذا هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى فيما لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، أن يتريث ويتثبت ولا يتهور في الجانب السلبي أو الإيجابي. ثم يقول الشيخ رحمه الله: ونحن في هذه الآونة لسنا أشد أو أعظم إمكانيات من نبي الله سليمان عليه السلام آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه، والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس فيه صريحاً فيه، ونحمّله ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة؛ لأن النظريات الحديثة يهدم بعضها بعضاً، فإذا ربطنا القرآن بالنظرية ثم ثبت بطلانها ففي هذه الحال نفتح باب فتنة على الناس، والخطأ منا نحن حينما نربط القرآن بهذه المتغيرات؛ لأن القرآن فوق ذلك كله، القرآن أعلى وأسمى من هذا كله، يقول الله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ويقول أيضاً في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]: المنصوص عليه هنا في هذه الآية هو إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أنه أربع مرات، الأولى في قوله تعالى: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))، والثانية في قوله: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) والثالثة والرابعة في قوله: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ))، وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد. والحسير هو العيي الكليل العاجز المنقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه من الطرف قد حسرا قال القرطبي : يقال: قد حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كل وانقطع نظره من طول مداه وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضاً. قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إليّ الطرف وهو حسير

قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5] قوله: (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليس فيها مصابيح، أي: النجوم والكواكب، كما قال الله: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:6]، ويدل لهذا المفهوم قول قتادة: إن الله جعل النجوم لثلاثة أمور: زينة للسماء الدنيا، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، كما قال عز وجل: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا؛ لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى؛ لأنها أجرام محفوظة، كما ذكر في حديث الإسراء أن لها أبواباً فلا يدخل منها إلا بإذن، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهذا ليس صريحاً، وإنما هو استدلال بمفهوم قوله تعالى: (( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ))، فيفهم منها أن ما عدا السماء الدنيا ليس فيه نجوم ولا كواكب ولا شياطين ترجم. وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5] الرجوم هي الشهب من النار، والدليل على أن الشهب هي النار قوله تعالى: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، فالشهب هي التي يرجم بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]، وقوله تعالى أيضاً: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10].

هنا سؤال وهو: إذا كان الجن من نار، كما في قوله تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] فكيف تحرقهم النار؟ الجواب: أن الله سبحانه وتعالى جعل أصل خلقتنا من الماء ومن التراب، لكن كون أصل الخلقة من شيء فإنه يختلف تماماً عن كينونة هذا الشيء وصيرورته فيما بعد، فنحن البشر بما أنا خلقنا من طين، فهل إذا ابتللنا بالماء نصير طيناً؟! لا يكون هذا، كذلك أصل خلق الجن من النار كما في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، لكن ما هي الصورة التي عليها الجن الآن؟ لا ندري: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فكون أصلهم من نار لا يستلزم أنهم الآن نار، وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الشبهة بجواب آخر: أجاب عنها الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5] والسعير هو أشد النار وأقوى النار، ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً أقوى منها فتكسرها، أو يسلط معدن على معدن آخر فيخدشه أو يؤثر فيه، وهذا ما يعرف بخاصية الصلادة، وكما قال العرب: لا يفل الحديد إلا الحديد. إذاً: لا يمنع كون أصل الجني من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فلو أحضرت إنساناً وأحضرت كمية كبيرة من الفخار والطوب الفخار وظللت تضربه أو ترجمه بهذه الأشياء فسوف تقتله، وقد يموت الإنسان بضربة بقطعة واحدة من الفخار، مع أنه خلق من الفخار، والعلم عند الله تعالى.

قال الله تبارك وتعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الملك:6]. قوله: (وبئس المصير) أي: بئس المرجع ذلك العذاب، وهذا من الاستطراد؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر وعيد الشياطين، ثم استطرد في وعيد الكافرين عموماً.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع