يا أبت


الحلقة مفرغة

المضاربة هي أن يعطي أحد لآخر مالاً ليتجر به على أن يكون الربح بينهما على ما اتفقا عليه، وهي مشروعة وثابتة بالكتاب والسنة وشائعة بين المسلمين، ولها أحكام منها: أن يكونا مسلمين وأن يكون رأس المال معلوماً وإن اختلفا في نسبة الربح فيصدق رب المال مع يمينه، ورأس المال دائماً يجبر من الربح وغيرها من الأحكام المبثوثة في ثنايا هذه المادة..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فعنوان هذا الدرس: يا أبت، وهو الدرس السادس عشر من هذه الدروس التربوية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة.

اعتدنا أن نسمع كثيراً -معشر الإخوة- في مجالسنا أن أبناء هذا الزمان قد تغيروا، وأن أبناء هذا الزمان يختلفون عن سابقيهم، وقد كان الأبناء سابقاً كذا وكانوا كذا، لكننا لم نسمع يوماً من الأيام أن آباء هذا الزمان قد تغيروا، ولست أريد أن أستبق الأحداث فأصدر حكماً: من الذي يتحمل المسئولية الكبرى والأساس، ولكن لا أشك أنه من الظلم ومن المجازفة ومجانبة العدل: أن نتحدث عن الأبناء، وعن تغير الأبناء، وعن تغير شباب هذا الزمان، الذين تغيرت أخلاقهم وعباداتهم، ولم يستطيعوا أن يتعاملوا مع الناس، وصاروا يميلون إلى اللهو واللعب .. إلى غير ذلك من هذا الكلام الذي يردد كثيراً في المجالس، لكننا نحتاج -ومعذرة- إلى أن نقول: آباء هذا الزمان قد تغيروا أيضاً.

وها هنا وقفات قبل أن نبدأ هذا الحديث:

أولاً: إن الحديث عن الآباء لا يعني أن نضعهم في قفص الاتهام أو قاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إنما القضية ابتداءً وانتهاءً محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوىً أعلى في التربية.

ثانياً: لن نتحدث في هذه الدقائق عن نظرية تربوية شاملة، ولا عن أسس تربية الابن؛ لأن هذا قد يضيق عنه هذا الوقت، ولن نتحدث عن أهمية تربية الأبناء فهي مرحلة أحسب أنا قد تجاوزناها، أو أن الكثير قد تجاوزها، وصارت الحاجة إلى معالجة أساليب التربية والغوص فيها، فقد أدرك الجميع من جراء أخطائهم أو من جراء ما يسمعون ضرورة التربية وأهمية تربية الأبناء، إنما المقصود في هذه المحاضرة هو إلقاء الضوء على بعض التصرفات الخاطئة التي تقع من الآباء تجاه أبنائهم.

ثالثاً: الكثير من الآباء يدرك مسئولية التربية، وخطورة إهمال الابن، ومصطلح تربية الأبناء مصطلح واضح له دلالة محددة عند الجميع، وإن كانوا يختلفون في فهمها، وإن كانوا يختلفون في تفسيرها، وإن ما ينبغي أن نعيده هنا أن مجرد إدراك أهمية تربية الأبناء، أو ضرورة تربية الأبناء لا يعني بالضرورة الوصول إلى الطريق الصحيح، ولا حتى إلى جزء من الطريق الصحيح، فكم نرى ممن يمارس قتل المعاني التربوية في ابنه، ويقتل شخصية ابنه بكل ما فيها، بل نراه يكون سبباً مباشراً في انحراف ابنه وغوايته، كل هذا بحجة التربية، وأن التربية تقتضي ذلك.

رابعاً: إن هذا الحديث لا يعني أن الأب هو وحده المسئول الأول والأخير، ولا يعني كذلك أن نقف موقف المحامي عن الابن، وإنما الأب بدون شك يتحمل جزءاً من المسئولية، ولا يعني أيضاً كونه لا يعنينا من الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية: أهو الأب أم هو الابن؟ وهي قضية أحسب أنها قضية جدلية فلسفية أكثر من أن تكون قضية عملية.

ونحن ينبغي أن نكون عمليين، وأن نطرح ما نحتاج إليه، فالنقاش الطويل فيمن الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية أهو الأب أم الابن؟ أتصور أنه نقاش جدلي فلسفي لن يترتب عليه كثير عمل، وإنما السؤال الذي يجب أن نطرحه ونطرحه بجد ووضوح هو: ما الأخطاء التي يقع فيها الآباء؟ وما الأخطاء التي يقع فيها الأبناء؟ وما الدور المرتقب من الآباء والدور المرتقب من الأبناء؟ أتصور أن مثل هذا الطرح لهذا السؤال هو الذي قد يوصلنا إلى نتيجة عملية، وخطوة إيجابية.

خامساً: إن حديثنا هنا لا يعني أن هذا شأن الجميع، وأسلوب الكافة، بل هناك من يجيد التربية، ويحسن التوجيه، وهو مثال للأب الواعي.

سادساً: سرد هذه الأخطاء لا يعني أيضاً أن كل أب يحوي هذه الأخطاء جميعاً، فالأول له نصيب من هذا الخطأ، والثاني له نصيب آخر، والثالث كذلك، وهم بين مستقل ومستكثر، بل لعل هذه الأخطاء قد لا تجتمع في أب واحد، ومن ثم فإنك أخي الأب حين تعرض هذه القائمة على نفسك، فتفتقد منها عناصر كثيرة، لا يعني بالضرورة أنك قد بلغت الغاية في التربية، فافتقاد عنصر أو آخر أو ثالث أو رابع غاية ما فيه أنها عقبة اجتزتها وتجاوزتها، وبقيت أمامك عقبات عدة.

وكمحاولة للتجديد في صياغة الموضوع أردت أن أصوغ الموضوع على شكل رسالة يبعثها ابن إلى أبيه، ويحدثه عن بعض الأخطاء التربوية التي يرى أن والده كان يقع فيها تجاهه، ويبدأ الابن رسالته كالتالي، وأقول قبل أن أبدأ الرسالة: إنني عندما أتحدث هذا الحديث فإنها ليست رسالة أوجهها إلى أبي رحمه الله؛ فقد فقدته صغيراً، ولو رأيته لما عرفته، فلا يعني هذا الحديث أني أوجه الرسالة إلى أبي، أسأل الله أن يغفر له ويرحمه، ويعينني على ما بقي من بره، إنما أتخيل ابناً من الأبناء، أو شاباً من الشباب يريد أن يبعث رسالة إلى والده يحدثه فيها عن بعض الأخطاء التربوية:

يا أبت! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله علينا وعليكم نعمة الإسلام والصحة والعافية، أحييك يا أبت! بتحية أهل الإسلام، تحية المحبة والمودة، تحية من لهج قلبه بالتوقير والحب لك، ولسانه بالثناء عليك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يا أبت! أذكرك مع إشراقة كل شمس وغروبها، أذكرك مع إقبال الليل وإدبار النهار، حين أسافر وحين أقيم، حين أحل وحين أرتحل، فمحياك لا يفارق ناظري، وذكراك لا تزول عن خاطري.

يا أبت! كم هي عظيمة آلاؤك علي، وكم هو جميل إحسانك إلي، ولن أستطيع إحصاء أفضالك، أو عد محاسنك، فأنت الذي تفتحت عيني على رؤياك، وتحملت المشاق من أجلي.

يا أبت! لقد قرأت في كتاب الله عز وجل حواراً بين إبراهيم وأبيه، وفي كل كلمة يقولها لأبيه يصدرها بقوله: يا أبت! فأحببت أن يكون هذا عنوان رسالتي إليك: يا أبت!

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:41-48].

ومعاذ الله يا أبت! أن أضع نفسي موضع إبراهيم، وأضعك موضع أبيه، أو أن أتحول إلى موجه لك ومعلم.

يا أبت! لقد عشت مرحلة من العمر مضت بما فيها، مرحلة غفوة وصبوة، ثم منّ الله علي بالهداية، وجلست طويلاً أفكر تفكيراً طويلاً فيما مضى وأعانيه؛ فقررت بعد طول تفكير، وجزمت بعد طول تردد، أن أسطر لك هذه الرسالة؛ لأتحدث معك بكل صراحة، وأخاطبك بكل وضوح، فأصارحك ببعض ما أرى أنه كان لا ينبغي تجاهي من أساليب تربوية، وأنا أجزم بإذن الله أنك قادر على تجاوز هذه الأخطاء تجاهي أولاً، وتجاه إخوتي ثانياً.

إن المصارحة ضرورة يا أبت! والتهرب من الواقع لن يجني ثماره غيرنا.

يا أبت! لا يَدُرْ في بالك أبداً أن ما أذكره هو عنوان نقص قدرك لدي، أو دليل ضعف محبتك عندي، أو مبادئ عقوق حاشا لله! وإني وحين أسطر هذه السطور لازلت أدعو لك في صلاتي، وما تركت موطناً أتحين فيه الإجابة، وأظن أنه من مواطن الإجابة إلا خصصتك فيه بدعوة خالصة صادقة، ولا زال لساني يفيض بالثناء عليك، والاعتراف بالجميل، أسأل الله أن يعينني على برك وأداء حقك.

وقد تطول فصول هذه الرسالة يا أبت! لكن ذلك خير من أن تطول فصول المعاناة، وسيكثر سرد الأخطاء، لكن ذلك أولى بحال من أن يكثر الندم والتحسر على الإهمال.

هكذا شأن التربية:

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

فيخاطبنا الله يا أبت! أن نساهم في وقاية أنفسنا ووقاية أهلينا من عذاب الله عز وجل، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته).

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: حافظوا على أبنائكم بالصلاة، وعودوهم الخير؛ فإن الخير عادة.

يقول ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8] قال تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

قال علي بن أبي طالب : علموهم وأدبوهم.

فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدىً؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً.

كما عاتب بعضهم على العقوق فقال: يا أبت! عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

وقال الغزالي : الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم والوالي عليه، وإلى هذا أشار أبو العلاء في قوله:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوهُ

وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوهُ

وها هو ابن باديس يا أبت! يقول: إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً. فهكذا نشأ الرجال، وهكذا خرج المصلحون يا أبت!

هدف الحياة:

كثيراً ما تحدثني يا أبت! حديثاً مستفيضاً عن المستقبل، حديثاً ألمس منه الحرص وحرارة العاطفة: ابني! اجتهد في دراستك؛ لتتفوق بإذن الله، فتحصل على الشهادة العالية، والوظيفة المناسبة لقد كنت تحدثني عن النجاح، وعن بناء المنزل، وعن الزواج، وعن الأولاد، وعن الوظيفة، حتى اختزلت أهداف الحياة لتصبح هذا الهدف الوحيد والمراد الأهم والأساس، لكني يا أبت! لم أسمع منك يوماً من الأيام حديثاً عن دوري في الحياة، ولم أسمع منك يا أبت! هذه الكلمة: يا بني! اجتهد؛ لتكون أهلاً لأن تخدم أمتك، وتساهم في نصرة دينك، يا بني! لقد ابتعد الناس عن شرع الله، وأعرضوا عن معينه الصافي، فالأمل فيك يا بني! أن تعد نفسك، وتبني ذاتك؛ لتكون أهلاً للمشاركة في إنقاذ الأمة.

لطالما تمنيت يا أبت! أن أسمع منك هذه الكلمة، لكني لم أسمعها منك ولو مرة واحدة، ألا ترى يا أبت! أن هدف الحياة أعلى وأسمى من مجرد حطام الدنيا الفاني، ويؤسفني يا أبت! أن أقول: إني نشأت وترعرعت والدنيا أكبر همي، فلأجلها أدرس وأتعلم وأعمل، وحتى طلب العلم الذي أسلكه غرست في نفسي أنه وسيلة لتحصيل الحياة الدنيا.

لقد حفظت يا أبت! مما حفظته في (عمدة الأحكام) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله)، لقد كان الهدف عند نبينا سليمان عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم أن يخرج شباباً وأبناءً يجاهدون في سبيل الله عز وجل.

الإهمال:

ألا تشعر يا أبت! أن واجب التربية يفرض على المربي المتابعة لابنه، ومعرفة مدخله ومخرجه، فما نصيبك أنت يا أبت من ذلك؟ إنك لا تعرف أحداً من أصدقائي اللهم إلا عن طريق الصدفة، وأما أين أذهب؟ وكيف نقضي أوقاتنا؟ وماذا نمارس؟ فهذا ما لا تعلم عنه شيئاً.

إن هذا السلوك التربوي والذي يكون دافعه الإهمال، أو الثقة المفرطة أحياناً، إن هذا السلوك يريح الابن، ويفتح له الباب على مصراعيه، ولكن نهايته يا أبت! لن تكون محمودة العاقبة، ولا مطمئنة النهاية، إنني حين أدعوك يا أبت! إلى المتابعة والملاحظة فلست أدعوك إلى أن تكون كوالد زميلي في الفصل، والذي يحدثني عن نفسه يا أبت! أن والده يفرض عليه رقابة صارمة، فلا يسمح له بالخروج من المنزل، ويشك في تصرفاته، ولابد أن يراه في المسجد وإلا فهذا يعني أنه لم يؤد الصلاة، ويقوم بتفتيش غرفته الخاصة، وأحياناً يتنصت على مكالماته الهاتفية، وتصور يا أبت! أنه قد قام بقياس المسافة بين منزله وبين المدرسة؛ ليعرف هل سار بسيارته إلى شيء آخر.

إن هذا الأسلوب يا أبت! يخرج ابناً محطماً لا يثق بنفسه، ولا يتعامل مع الآخرين، وحين تتاح له الفرصة فسينطلق دون قيد أو وازع، فحين ينتقل إلى الجامعة ويجاوز القرية فسينفتح على عالم لن يجيد التعامل معه، بل افترض أن والده قد مات، فماذا ستكون حاله بعد ذلك؟ فالتوسط هو سنة الله في الحياة يا أبت! فالإهمال أمر مرفوض، والرقابة الصارمة والقسوة هي الأخرى مرفوضة كذلك.

مفهوم الصداقة:

جليس السوء كنافخ الكير كما شبهه صلى الله عليه وسلم، وليس من وصف أبلغ من هذا الوصف، لقد كنت يا أبت! تنهاني فعلاً عن جليس السوء، لكني اكتشفت فيما بعد أن مفهوم جليس السوء يحتاج إلى تحرير وتحديد، لقد سألتني عن صديقي محمد، فقلت لك: إنه ابن فلان، فقلت: نعم الرجل والده! فقد كان صاحباً لي وخيِّراً، وكأني يا أبت! سوف أصاحب والده، ومحمد يا أبت! من أسوأ الشباب الذين صحبتهم، وأبناء خالي كانوا لا يقلون عنه سوءاً، فقد كان لهم عظيم الأثر علي في مقتبل حياتي، ومع ذلك فقد كانت قرابتهم هي المؤهل الوحيد لديك لتزكيتهم، إن القرابة يا أبت! ومعرفة والد الصديق ليست معياراً في صلاحه، ولا مؤهلاً في أن ترضاه صديقاً وجليساً لي.

السيارة:

يا أبت! لا أنسى ذلك اليوم الذي سلمتني فيه مفتاح السيارة، ومعه بعض الوصايا العاجلة، لقد فرحت بها، وقدرت لك الموقف في حينه، وكنت أقدم لك ما يرضيك للحصول على هذا المطلب، وبعد أن تقدم بي العمر اكتشفت يا أبت! أنه كان الأولى أن يتأخر هذا القرار، معذرة يا أبت! إن قلت لك: إنك اشتريت السيارة استجابة لضغط أمي وإلحاحها أولاً، وثانياً: لأكفيك أمور المنزل وحاجة الأهل.

إن من حقك يا أبت! أن تبحث عما يرضي ابنك، ومن حقك تجاه ابنك وواجبه نحوك أن يكفيك مؤنة المنزل وأعباءه، ولكن ذلك كله يا أبت! ينبغي ألا يكون على حساب التربية.

نعم، أقولها يا أبت! وبكل أسف: لقد كنت قبل أن يهديني الله أذهب بسيارتي إلى حيث ما لا يرضي الله دون أن يعلم أبي أين أذهب، أو حتى والدتي، ومع اعترافي يا أبت! بأني أتحمل الجزء الأكبر من المسئولية، إلا أني اعتقد أن من أعطاني السيارة في ذلك الوقت يتحمل جزءاً لا يقل عما أتحمله أنا.

وسائل اللهو:

يا أبت! من الذي أحضر جهاز التلفاز في البيت، وبعده جهاز الفيديو، وأخيراً صحن الاستقبال؟ ومن الذي سمح لي باقتناء المجلات الهابطة والأغاني الساقطة، أليس أبي؟ ويطالبني بعد ذلك بالاتزان، وبالجد في الدراسة والتفرغ لها، وقد تاه قلبي في أودية وشعاب أخرى لا تخفى عليك يا أبت!

ألا ترى أن الأولى يا أبت! هو ذكر مساوئ هذه الأجهزة، والتحذير منها، والنهي عنها، بدلاً من تأمينها، أو السماح باقتنائها؟

الدراسة وصلاة الفجر:

لقد حفظت يا أبت! من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتخلف عنها إلا منافق)، وأبي يوقظني لصلاة الفجر أحياناً، ولكنه لا يزيد على أن يوقظني بكلمة واحدة ثم ينصرف، وكم من مرة تخلفت عن الصلاة فلم أسمع منه كلمة عتاب، وأما الإجازة فأنت تعلم متى كنت أصلي صلاة الفجر فيها، وأما حين تخلفت يا أبت! عن الدراسة فتعلم ماذا صنعت معي، أترضى يا أبت! أن يقول الناس عنك: إن الصلاة أقل شأناً وأهون قدراً لديك من الدراسة وأمور الدنيا؟

اسمح لي يا أبت! إن قلتُ: إن صنيعك يشعر الناس بذلك، وكم كنت أتمنى أن تصنع كما يصنع والد جارنا محمد، فهو يحدثني عن والده حيث كان يوقظه ويصطحبه معه للمسجد سوياً، وذات يوم لم يستيقظ فدعاه والده وقال له: أي بني! لقد تخلفت عن الصلاة وأنت تعلم شؤم ذلك وخطورته، وجدير بك يا بني! أن تسأل نفسك ما الذي دعاك لهذا العمل، فإن كان تأخرك في النوم، فلعلك من الغد أن تنام مبكراً، فإن أدركت السبب استطعت أن تصل إلى الحل والعلاج، أرجو أن تفكر ملياً يا أبت! في هذه التربية العالية التي أتمنى أن أكون قد تلقيتها.