تفسير سورة الحشر [9-10]


الحلقة مفرغة

قا الله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ )) أي: توطنوا دار الهجرة وهي المدينة. (( وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم، فالكلام هنا في الأنصار، وعطْف الإيمان على الدار بتقدير عامل، والعامل هنا فعل، أي: والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان. وقيل: استُعمل التبوّء في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن، والمعنى: لزموا الدار والإيمان. فالمقصود: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ )) أي: لزموا الدار، وهي دار الهجرة بالإقامة فيها والاستقرار، ولزموا أيضاً الإيمان بأن ثبتوا عليه ولم يتحولوا، وجُوَّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه، وكأن الإيمان نفسه مكان يستقر فيه الإنسان. قوله: (( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )) أي: لوجود الجنسية في الصفاء والموافقة في الدين والإخاء؛ وذلك لأن المحبة لا تكون إلا عن تناسب، وكلما كثرت وجوه المناسبة والائتلاف والتوافق ازدادت هذه المحبة، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، فلم يجعل الله تعالى هؤلاء الأزواج من الجن مثلاً، أو من خلق غير الإنس، وإلا لما وجد هذا التناسب، فقوله: (( مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا )) يشير إلى هذا التناسب وهذه الموافقة، وكذلك كل محتابين تزداد المحبة بينهما كلما ازداد هذا التناسب والتوافق. وكذلك هنا؛ فهؤلاء الأنصار إنما أحبوا المهاجرين لوجود أعظم أسباب الجنسية والتناسب والموافقة، ألا وهي أخوّة الإيمان. (( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )) مع أنهم من غير بلادهم، ولا يكون ذلك إلا بسبب أخوّة العقيدة. وتأملوا فيما حصل بعد ما يقارب خمسين سنة من الحرب العالمية الثانية، وما حصل من تقسيم برلين إلى نصفين، فحصل انقطاع بين الأسر في هذه المدة البعيدة، ثم بعد ذلك هللوا لتحطيم سور برلين وتوحيد ألمانيا، ولكن تعجب بعد ذلك مما فعلوه -كما سمعنا من بعض إخواننا ممن يقيمون في ألمانيا- فقد قيل: إن الذين كانوا في ألمانيا الشرقية التي ابتليت بالشيوعية ذهبوا وهرعوا عند ذلك إلى أقاربهم الذين هم من نفس الأسر في برلين الغربية، فما كانوا يفتحون لهم الأبواب أصلاً! ويرفضون أن يدخلوهم، ويردوهم عن أبوابهم كأنهم متسولون! وهذا شيء لا يستغرب في العلاقات الاجتماعية في الغرب، بل أوضاعهم أشنع من ذلك. فالشاهد: أن الذي حدا بهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الأنصار، وجعلهم يرحبون بإخوانهم المهاجرين ويؤثرونهم على أنفسهم، ولا يحسدونهم على نعمة أنعمها الله عليهم أو على عطاء قد خصوا به -إنما هو غاية الإيثار مع شدة الحاجة إلى هذه الأموال، وأخبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك كثيرة مما لا تجد له مثلاً في التاريخ كله على الإطلاق، فلم يوجد جيل مثل هذا الجيل الفذ الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه. قوله: (( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )) لوجود الجنسية -أي: التجانس-، والتوافق في الصفاء وطهارة القلوب، والموافقة في الدين والإخاء؛ لأن أقوى رابطة على الإطلاق هي رابطة الدين، فالله سبحانه وتعالى ربط المسلم بأخيه المسلم كما ربطت الكف بالمعصم، وكما ربطت القدم بالساق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ونحن نعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي يُنكَّل فيه الأقذار الأنجاس الأخباث أرذل خلق الله من اليهود -لعنهم الله سبحانه وتعالى- بإخواننا المستضعفين، ونحن هنا نحتفل بالنصر عن طريق الأغاني والرقص وغيرها، فهل هذه هي المشاركة الإيمانية؟! فتجد برامج اللهو واللعب والكرة والعبث وإخواننا ينكَّل بهم على يد هؤلاء الأنجاس أخبث خلق الله من أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. فما يحصل الآن مع الإخوة في فلسطين شيء لا يتصوره العقل، فأين حقوق الإنسان؟! وأين الأمم المتحدة؟! وأين هذا السراب كله؟! وأين أثر تلك الصورة التي يقولون: إنها هزت ضمير العالم؟ أعني صورة الأب وابنه اللذي كانا يحتميان وراء البرميل، فقتلوا الطفل الصغير عن سبق إصرار وتعمد، وهذا كان واضحاً في الصورة! مع أنه لم يشارك في المظاهرة، ولا كان يحمل سلاحاً ولا غيره!! وهكذا تقوم الطائرات المروحية بقصف الفلسطينيين بصواريخ مضادة للدبابات!! وكل ذلك يقوم به المجرم السفاح شارون، الذي هو مجرم دولي معروف، وهو الذي كان وراء مجزرة صبرة وشاتيلا، ومثل هؤلاء لا يقال عليهم: إرهابيون! لكن الإرهابية صارت حكراً على المسلمين إذا دافعوا عن دينهم وبلادهم وأوطانهم! فالله المستعان! فينبغي أن نتذكر ونحن نتكلم عن ترحيب الرعيل الأول والتعاطف والمجانسة والمناصرة التي كانت بين المهاجرين والأنصار؛ ما نحن عليه الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! (( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ))، قال الشهاب : المراد بمحبة المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، (( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ )) أي: في أنفسهم: (( حَاجَةً )) أي: طلباً أو حسداً، (( مِمَّا أُوتُوا )) أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره؛ لسلامة قلوبهم وطهارتها عن دواعي الفرك، (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )) أي: حاجة وفاقة.

الإيثار في حظوظ النفس لا في الطاعات

يقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وإنما قيد السيوطي مدح الإيثار بأن يكون في حظوظ النفس والدنيا؛ لأن الإيثار في الطاعات لا يمدح، بل نحن في الطاعات مطالبون بالتنافس والمسابقة، وقد عكس الناس الآن هذا الأمر، فصاروا يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الدين، والصواب أن يكون هناك إيثار في حظوظ الدنيا كما ستأتي آثار عن الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم في ذلك، فتؤثر أخاك المسلم بالطعام وبالملبس وبالأموال وتواسيه بذلك، لكن إذا كانت هناك مسابقة في الآخرة فلا إيثار، فمثلاً تجد بعض المسلمين بسبب قلة الفقه في الدين كل واحد منهم يعزم على صاحبه أن يتقدم إلى الصف الأول فيقول له: تفضل.. تفضل، فيقول الثاني: لا، تفضل أنت!! فالطاعات ليس فيها إيثار؛ لأننا أمرنا بالتنافس في أمر الآخرة، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا على ذلك)، أي: لحصل بينهم من المشاكل ما لا ينهيها إلا القرعة! وقد كان الصحابة يبتدرون السواري إذا أُذن لصلاة المغرب، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، ومعنى المسابقة أن كل واحد يريد أن يكون هو الأول، فكذلك المسابقة في أعمال الآخرة، فإنه يكره ولا يستحب الإيثار فيها، وقد اختلف أحد الصحابة مع ابنه فيمن يخرج للجهاد، وفيمن يمكث عند النساء والأولاد يرعاهم، فقال له ابنه: والله يا أبي! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي!! فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفقهون هذا المعنى، فالإيثار إنما يكون في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فلا، فمثلاً عندما تسمِّع القرآن على الشيخ لا تضحي بدورك وتعطيه لشخص آخر، بل تسابق ولا تتنازل عن دورك؛ لأن تنازلك هذا فيه معنى الإعراض والزهد في ذلك، فالإنسان في أمور الطاعات والعبادات لا يؤثر على نفسه؛ لأننا -كما قلنا- أمرنا بالتنافس في الآخرة، وأما أمور الدنيا وحظوظها من المال والطعام ونحو ذلك فهذا هو محل الإيثار المستحب؛ فلأجل هذا قال السيوطي هذه العبارة: في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ... إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا، ومن هذا المقام تصدُّق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله). ومثل ذلك الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشرب أحد منهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

المعاملة بالمال تكشف حقيقة الإنسان

قوله تعالى: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )) يعني: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، فالإنسان إذا ترك الأمر لنفسه فالنفس شحيحة في المال، والمال أعز شيء على الإنسان؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا )) يعني: الأموال: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37] فالمال يفضح الإنسان؛ ولذلك فإن أدق الموازين التي تستطيع أن تحكم به على خلق الإنسان وأمانته هو التعامل معه بالمال؛ ولذلك لا تشهد لأحد لم يتم بينك وبينه تعامل بالمال؛ لأن المال هو الذي يفضح النفوس؛ ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية من سورة القتال: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ [محمد:37] أي: يحرجكم، (( تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ )) قال: اللهم لا تبلنا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالشخص الذي تريد أن تحكم عليه، أو أن تعرف حقيقة أخلاقه وأمانته، إذا شهد له بحسن المعاملة في المال فهذا جزء كبير جداً من مقومات الشهادة له أو عليه؛ لأن المال هو الذي يخرج ضغائن النفس، والتنافس على المال هو سبب أكثر الصراعات بين الناس في هذه الدنيا، وهو السبب في قطع الأرحام، وفي الشحناء بين الناس، والبغي وغير ذلك مما يحصل، فلا تشهد لأحد إلا إذا كنت قد تعاملت معه بالمال، ولا تشهد لأحد إلا إذا سافرت معه؛ لأن الإنسان في الأحوال العادية يستطيع أن يضبط نفسه، ويتحكم في خلقه ودينه؛ لأنها معاملات مؤقتة، وتكون تحت جو من الرفاهية والراحة والاستيطان في بلده ووطنه، فهو يلقى أخاه أو صديقه ساعات ثم يفترقان وكل واحد في حاله، وأما في حال السفر وما يكون فيه من مشقة وعناء فإن هذا مما يكشف حقيقة أخلاق الإنسان، ولذلك سمي سفراً؛ لأنه يسفر ويكشف حقيقة أخلاق الإنسان، فمن عاشرته وتعاملت معه في السفر فهو الذي تستطيع أن تشهد له، وأما أن ترى رجلاً رائحاً غادياً إلى المسجد، وكل معلوماتك عنه أن يصلي في المسجد فهذه لا تكفي في الشهادة له بأكثر مما تراه، وبعض الناس يقول: هذا ملتحي! وكأن اللحية هذه ختم التوثيق، لا، فاللحية تساوي رجلاً في وجهه شعر فقط، لكن لا يلزم من وجودها أنه يكون شخصاً أميناً مثلاً!! لكن هذا يظن فيه بالذات في عصرنا هذا وفي مجتمعنا؛ لأن هذا سيترتب عليها ثمن ومعاناة واضطهاد وأشياء كثيرة، فمن ثبت عليه فهذه أمارة تدل على أنه متمسك بدينه، وهناك من قد يتخذ اللحية ليخدع الناس من أجل غرض دنيوي مثلاً؛ فلذلك قد يوجد شخص له لحية ومع ذلك يخون الأمانة. إذاً: فلا تشهد لشخص في وجهه شعر أو ملتحٍ بأنه أمين أو غير ذلك، فتربية اللحية شيء وكونه يحافظ على الأمانة مثلاً شيء آخر، فالأمانة لها مقاييس أخرى. فقوله: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )) أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) أي: الفائزون بالسعادتين، ونلاحظ هنا في قوله تعالى: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )) أن الوقاية من شح النفس ليست بيد وشطارة الإنسان، وليست بجهد منه، بل هي بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ووقاية؛ ولذلك قال هنا: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ))، فالله سبحانه وتعالى يحميه من شر نفسه، فإذا رفعت عنه عناية الله صدر عنها كل سوء وشر، ولولا عناية الله وحمايته وحفظه لعبده المؤمن لتصرف على مقتضى طبائع هذه النفس الشحيحة الضنينة البخيلة، (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )) فيخالفها وخصوصاً في جانب المال، فإنه يغلب عليها حب المال، وبغض الإنفاق، (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) أي: الفائزون بالسعادتين.

خطورة الشح

إنّ إضافة الشح إلى النفس كما في قوله تعالى أيضاً: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] ، وفي قوله: (( شُحَّ نَفْسِهِ )) إشارة إلى أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها؛ لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها، ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله سبحانه وتعالى. يقول ابن جرير : الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال. وعن ابن زيد قال: ومن وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً فهو من المفلحين. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) أي: أن صفة الشح تتنافى مع صفة الإيمان وتضادها. يقول القرطبي في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) : لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها، (( وَالإِيمَانَ )) نصب بفعل غير تبوأ، أي: استوطنوا الدار، وهي دار الهجرة، (والإيمان) أي: وأخلصوا الإيمان، أو ولزموا الإيمان، يقول: لأن التبوء إنما يكون في الأماكن، لكن الإيمان ليس بمكان، (( مِنْ قَبْلِهِمْ ))، والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، وهذا كقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ [يونس:71] أي: فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم، وهذا كله من باب قولهم في الشاهد المشهور في الشواهد العربية: علفتها تبناً وماءً بارداً، أي: علفتها تبناً، وسقيتها ماءً بارداً، فهذا من أساليب اللغة العربية، ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ، ومواضع الإيمان، أو لزموا الدار، ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون (تبوأ الإيمان) على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، والتبوّء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد أنهم آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: من قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إليهم.

هل هذه الآية معطوفة على ما قبلها أم مقطوعة؟

اختلف المفسرون هل هذه الآيات مقطوعة عما قبلها أو معطوفة عليها، فقال بعضهم: إنها معطوفة على قوله تعالى: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ))، وإن الآيات التي في الحشركلها معطوفة بعضها على بعض، ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2] إلى قوله تعالى: الْفَاسِقِينَ [الحشر:5], فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [الحشر:6]، فأخبر أن ذلك الفيء هو للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه، وما تقدم فيه من القتال وقطع الشجر منه فقد كانوا رجعوا عنه، وانقطع ذلك الأمر، وقد سبق أن شرحنا ذلك. ثم قال تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر:7]، وهذا كلام غير معطوف على الأول بل هو كلام مستأنف، وكذلك أيضاً قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ )) هو ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، ثم استأنف مدح الأنصار فقال: وأما الأنصار فإنهم يحبون هؤلاء المهاجرين، ولم يحسدوهم على ما صفى لهم من الفيء. وكذلك أيضاً قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ))، وهذا ابتداء كلام، والخبر: (( يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ))، فالراجح أن آيات سورة الحشر ليست معطوفة. وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قال: (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ )) حتى بلغ: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ))، (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ))، (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ))، ثم قال: لأن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير -وهي: منازل حمير بأرض اليمن، والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل- ليأتين الراعيَ وهو بسرو حمير نصيبُه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ، ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات أنزلت في ذلك، فلما غدا عليهم قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة الحشر وتلا: (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى )) إلى قوله: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ))، فلما بلغ قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ )) إلى قوله: (( رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))، ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك، وذلك لأن اللفظ على هذا التفسير فيه عطف في هذا الجزء، أي: أنه جعل مال الفيء مستحقاً لثلاث طوائف وهي: المهاجرون والأنصار، ثم من يأتي بعد المهاجرين والأنصار بشرط أن يحب المهاجرين والأنصار، فدل هذا على أن المبغضين للصحابة رضي الله تعالى عنهم لا حظ لهم في ذلك الفيء. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

المفاضلة بين مكة والمدينة

من المسائل المعروفة التي هي محل نزاع بين العلماء: مسألة التفضيل بين مكةوالمدينة، يقول ابن وهب : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )) وهذه المسألة لها موضع آخر تناقش فيه، وليس الوقت وقت التفصيل فيها، وفي المقابلة بين مكة والمدينة، وهناك قدر متفق عليه بين أصحاب القولين وهو: أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت الجسد الشريف؛ جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة أخرى غير مسألة تفضيل الحرم المكي على الحرم المدني، فأطهر وأشرف بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت جسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول الشاعر: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الفداء وفيه الجود والكرم قوله تعالى: (( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا )) أي: لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيء وغيره، فقد ذكرنا سابقاً أن هذا المال كان لرسول عليه الصلاة والسلام خاصة يتصرف فيه كيف يشاء، وذكرنا العلة: (( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ))، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم في فقراء المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار اشتكيا الفاقة، فقوله هنا: (( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا )) أي: لا يحسدونهم على اختصاصهم بمال الفيء وغيره. وقيل في تفسيرها: يقدر فيها حذف مضافين، أي: ولا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة، وكان المهاجرون في دُور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم لهم في أموالهم، ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم فخرجوا من دوركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما: بل نقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار! وأبناء الأنصار) رضي الله تعالى عنهم، وقال أيضاً في الأنصار: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بعض الأنصار)، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئاً إلا من ذكرنا من قبل.

من الصور المشرقة في الإيثار

قوله تعالى: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ))، جاء في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوَّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ))) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وخرجه مسلم أيضاً. وخرج أيضاً عن أبي هريرة رضي عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود -أي: متعب من شدة الجوع والفقر- فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء -أي: أشغليهم ووليهم عن الجوع بشيء آخر-، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل -لأن الطعام لا يكفي الثلاثة- قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة). وفي رواية عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فانطلق به إلى رحله) وساق نحو الحديث، وذكر فيه نزول هذه الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة : أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج، ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه، وهكذا ذكر النحاس . وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثه إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك. أي: ظل كل واحد يقع في يده يقول: أخي أو جاري أحوج إليه مني فيعطيه إياه، والثاني يقول نفس الشيء، فطاف على سبعة أبيات، حتى رجع إلى الأول فنزل قوله تعالى: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )). وعن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فتوجه به إلى جار له فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول فنزلت: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ )). وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم المخلاف من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه)، وهذا لفظ مسلم . وقال الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمئونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم ، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، وكان أخاً لـأنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها -أي: نخلة- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، وهي أم أسامة بن زيد . قال ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك : (أن رسول صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه).

مدح التنافس في الآخرة وذمه في أمور الدنيا

قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية. وهذا كما قلنا من قبل: إن الإيثار يكون في الحظوظ الدنيوية؛ رغبة في الثواب وفي الحظ الأخروي، لذلك؛ فإن الحظ الأخروي ليس محل إيثار، بل هو محل تنافس، والتنافس في الدنيا مذموم، وأما التنافس الأخروي فمأمور به؛ لأن الدنيا ضيقة تضيق على أصحابها، فمن ثم يتنافسون فيها، وأما الآخرة فواسعة، والجنة واسعة عرضها كعرض السموات والأرض، وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل ما في الأرض مرتين، فالجنة واسعة جداً، فمن ثَم فالتنافس على الجنة لا يورث البغضاء، بل العكس فإن المؤمن يحب للناس كلهم أن يكونوا مثله في الإيمان والعمل الصالح، إلا شواذ من الناس قد يحصل على الأمور الدينية وهو في هذه الحالة لا يحصل على الدين وإنما في الغالب يحصل على الدنيا، ومتى ما دخلت الحظوظ في الأعمال الدينية خرجت إلى التنافس على الدنيا كالتنافس على الشهرة والجاه وغيرها، فهذه دنيا في أمور وليست في أمور الدين، فالمفروض أنك تحب للآخرين أن يكونوا أيضاً طائعين لله سبحانه وتعالى، وهذه هي نفسية الداعية الذي يدعو الناس ويرشدهم إلى الخير؛ لأنه يحب لهم هذا الخير ويرجو لهم النجاة في الآخرة، فقد توجد في بعض طلبة العلم نوع من الأنانية أو الأثرة، فمثلاً قد يكون أخوه في حاجة ماسة إلى الكتاب وهو يخفيه عنه ولا يدله عليه، هذا نوع من الأنانية والأثرة التي لا تليق بطالب علم، وهذا خروج من التنافس على الطاعات إلى التنافس على حظوظ الدنيا، فينبغي إحياء خلق الإيثار وبالذات في الحظوظ، فمتى ما أحسست أن أي أخ لك في الله، أو زميل لك في العمل، أو زميل في الدراسة يحتاج إلى مذكرات، أو يحتاج إلى كتب، أو يحتاج إلى نصيحة، واطلعت أنت على شيء مما يفيده وهو لم يطلع عليه فلا تكتم عنه هذا الشيء، بل ينبغي أن نعيد سيرة السلف في الإيثار وعدم حجب أي شيء عن المؤمن إذا كان ينفعه. يقول القرطبي: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ )) يعني: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم لا عن غنىً، بل مع احتياجهم إليها.

سخاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

جاء في موطأ مالك : أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكيناً سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها -أي: أن الشاة كانت ملفوفة بالرغف- فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كُلي من هذا، فهذا خير من قرصك، أي: القرص الذي كانت أعطته. ففي هذا أن عائشة كانت قوية التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله عوضها وأبدلها خيراً مما بذلته لوجه الله عز وجل، ورزقها من حيث لا تحتسب. يقول القرطبي : قال علماؤنا هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى، يعجل منه ما شاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه. يعني: أن مثل هذا الفرج هو سنة ماضية من سنن الله سبحانه وتعالى، فمن أعطى شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومع ذلك فإن هذا لا ينقص شيئاً من أجره المدخر على ما أنفقه في سبيل الله تبارك وتعالى، ومن ترك شيئاً لله لم يحسن بفقده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن يعقبه غنى النفس وهو أعلى درجات الغنى على الإطلاق، وإما أن يعقبه ما هو خير منه، وهناك كتاب مؤلف يحتوي على من بذل شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه، وهناك كتب كثيرة جداً في هذا المجال. و عائشة رضي الله تعالى عنها في شأنها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وُقي شح نفسه، وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده، وفي بعض المناسبات الأخرى: أن عمر بعث إليها بعشرة آلاف من الدراهم، فأخذت تأمر الخادمة أن توزع: أعطي آل فلان، وأعطي بني فلان، فوزعته حتى لم تُبقِ درهماً واحداً، فلما أتى وقت إفطارها لم تجد شيئاً تفطر عليه، فقالت لها الخادمة: هلا استبقيت لنا مالاً نشتري به شيئاً نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني أو لا توبخيني، لو أذكرتني لفعلت. فهكذا عائشة رضي الله تعالى عنها، فذلك الجوع والنصب قد انتهى، فليست الآن حية حتى تعاني منه، لكنها إن شاء الله الآن في نعيم لا ينقطع، ورضا من الله سبحانه وتعالى، فهكذا العمل الصالح يُذهب النصب، ويبقى الأجر والنعيم، بخلاف السيئات. يقول: ومعنى: شاة وكفنها: أن العرب أو بعض وجوه العرب كان هذا من طعامهم، فيأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه فيغطونه كله بعجين البر ويكفنونه به، ثم يعلقونه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.

سخاء بعض الصحابة

روى النسائي عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما اشتكى واشتهى عنباً فاشتري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل فقال: أعطوه إياه، قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمُنع، ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك بسنده عن مالك الدار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربع مائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ثم تلكأْ ساعة في البيت، -أي: أنه أمر الخادم أنه يتلكأ في البيت- ثم تلكأْ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى انفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـمعاذ بن جبل فقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتلكأْ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله! مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا دينارين قد جاء بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها وكان عشرة آلاف، وكان المنكدر هو الذي دخل عليها.

حكم التصدق بجميع ما يملكه الإنسان

فإن قيل: قد وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل: إنما كُره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، فكانوا يصبرون على الفقر ولا يلجئون إلى سؤال الناس، وكانوا لا يتسخطون في الصبر على الفقر، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، فالذي لا يضمن نفسه ويخشى ألا يصبر، أو أنه سيتعرض لسؤال الناس فإنه يترك في جيبه ما يغنيه عن ذلك، لكن إن كان على ثقة من أنه سيصبر، ففي هذه الحالة له أن يتصدق بما فضل عن النفقة الواجبة عليه، فلا يتصدق بكل ماله ويترك أولاده مثلاً جوعى وعراة.. ولا ينفق عليهم، ثم يضطر للسؤال بعد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، والعفو: هو ما فضل وما زاد عن النفقة الواجبة. وروي: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس؟)، والله تعالى أعلم.

أعلى درجات الإيثار: الإيثار بالنفس

يقول

يقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وإنما قيد السيوطي مدح الإيثار بأن يكون في حظوظ النفس والدنيا؛ لأن الإيثار في الطاعات لا يمدح، بل نحن في الطاعات مطالبون بالتنافس والمسابقة، وقد عكس الناس الآن هذا الأمر، فصاروا يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الدين، والصواب أن يكون هناك إيثار في حظوظ الدنيا كما ستأتي آثار عن الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم في ذلك، فتؤثر أخاك المسلم بالطعام وبالملبس وبالأموال وتواسيه بذلك، لكن إذا كانت هناك مسابقة في الآخرة فلا إيثار، فمثلاً تجد بعض المسلمين بسبب قلة الفقه في الدين كل واحد منهم يعزم على صاحبه أن يتقدم إلى الصف الأول فيقول له: تفضل.. تفضل، فيقول الثاني: لا، تفضل أنت!! فالطاعات ليس فيها إيثار؛ لأننا أمرنا بالتنافس في أمر الآخرة، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا على ذلك)، أي: لحصل بينهم من المشاكل ما لا ينهيها إلا القرعة! وقد كان الصحابة يبتدرون السواري إذا أُذن لصلاة المغرب، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، ومعنى المسابقة أن كل واحد يريد أن يكون هو الأول، فكذلك المسابقة في أعمال الآخرة، فإنه يكره ولا يستحب الإيثار فيها، وقد اختلف أحد الصحابة مع ابنه فيمن يخرج للجهاد، وفيمن يمكث عند النساء والأولاد يرعاهم، فقال له ابنه: والله يا أبي! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي!! فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفقهون هذا المعنى، فالإيثار إنما يكون في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فلا، فمثلاً عندما تسمِّع القرآن على الشيخ لا تضحي بدورك وتعطيه لشخص آخر، بل تسابق ولا تتنازل عن دورك؛ لأن تنازلك هذا فيه معنى الإعراض والزهد في ذلك، فالإنسان في أمور الطاعات والعبادات لا يؤثر على نفسه؛ لأننا -كما قلنا- أمرنا بالتنافس في الآخرة، وأما أمور الدنيا وحظوظها من المال والطعام ونحو ذلك فهذا هو محل الإيثار المستحب؛ فلأجل هذا قال السيوطي هذه العبارة: في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ... إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا، ومن هذا المقام تصدُّق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله). ومثل ذلك الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشرب أحد منهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.