خطب ومحاضرات
تفسير سورة الحديد [7-15]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]. قوله تعالى: ((آمنوا بالله ورسوله))، أي: آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، والخطاب هنا للمؤمنين، وجاء أصرح من ذلك في قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، فكيف يكونون مؤمنين ثم يخاطبون بالإيمان؟ قال بعض العلماء: إذا قلنا: إنه خطاب للمؤمنين؛ فيكون المراد الثبات على الإيمان إلى الوفاة. أو كما قال القاسمي رحمه الله تعالى يعني: آمنوا الإيمان اليقيني الكامل الذي يظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي مولكم إياه. يعني: فالنفس لا تطاوع الإنسان على أن ينفق النفقة التي يبتغي بها وجه الله سبحانه إلا إذا كان مؤمناً بالله وموقناً بحسن عاقبته وثوابه وجزائه عند الله، فإنه يعرف أن هذا المال ليس غائباً وإنما هو المال الباقي، فما أنفقه الإنسان في سبيل الله هو الذي يبقى له، أما الذي يأكل به ويشرب فهذا هو الذي يضيع منه، يقول الله تعالى عنه: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فالإيمان هو الدافع، أو هو اليقين في ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدفع الإنسان إلى النفقة. ومما يعظم أيضاً شأن النفقة هنا: أن الله سبحانه وتعالى قرن الأمر بالإيمان بالأمر بالإنفاق؛ فدل على فضل النفقة، وعظم موقعها عند الله تبارك وتعالى. ((مما جعلكم مستخلفين فيه))، أي: بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع؛ إذ الأموال كلها لله عز وجل، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته. وقال الشهاب: الخلافة إما عمن له التصرف الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى. يعني: إما أن المعنى أننا مستخلفون عن المالك الحقيقي للمال، بل لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى. قال: عمن سبقكم الذين كان المال في أيديهم يتصرفون فيه، ثم آل إليكم بصورة أو بأخرى، إما بالميراث وإما بالهبة أو غيرها من طرق كسب المال المشروعة. فمعنى الخلافة في قوله تعالى: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)): إما أنها عمن له التصرف الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يناسب قوله في أول السورة: لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ [الحديد:2]، فالخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض. أو يكون المراد: جعلكم مستخلفين عمن تصرف فيها قبلكم ممن كانت في أيديهم فانتقلت إليكم. وعلى كل ففيه حث على الإنفاق، وتسهيل لأمره؛ لأن طبيعة النفوس أنها تشح في النفقة، كما قال الله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، فالله سبحانه وتعالى يسهل على المؤمنين أمر الإنفاق وأمر الجود بهذا المال، فبين لهم أهمية الإنفاق فربطه بالإيمان: ((آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا))، ليس من مالكم ولكن من مال الله الذي آتاكم، كما قال في آية أخرى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]. وموضع العبرة هنا لتسهيل الإنفاق أن هذا المال كما لم يدم في أيدي من قبلكم فلن يدوم في أيديكم، فإما أن ينتقل عنكم وإما أن تنتقلوا عنه، وهنا مما يهون أن ينفق الإنسان المال. فمن الجهة الأولى إذا قلنا: إن الخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض، فهذا تسهيل للإنفاق؛ لأن الإنسان إذا أذن له في الإنفاق من ملك غيره، فلا شك أنه يسهل عليه أن يخرج؛ فلو وكلت من قبل شخص وكنت مسئولاً عن خزانة أمواله، فقال لك: أخرجها أنت فيما شئت، وقد أذنت لك بالتصرف فيها كما شئت، فلا شك أنه يسهل عليك الإعطاء حينئذٍ ويسهل عليك تكثير النفقة! وهذه من المعاني النفسية الدفينة في طبيعة الإنسان؛ فانظر كيف يهون الله سبحانه وتعالى على الإنسان الإنفاق! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وعلى كل ففيه حث على الإنفاق وتهوين له، أما على الأول فظاهر؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره. وأما على الثاني فلأن هذا المعنى يذكر الإنسان أنه ما دام أن المال لم يبق لمن قبله فإنه لا يدوم له أيضاً، فيسهل عليه الإخراج. وما المال والأهلون إلا ودائـع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحديد:8-9]. ((وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) أي: وما يصدكم عن الإيمان بالله وقد ظهرت دواعيه واتضحت سبله لذويه. ((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ))، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم بطريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي رباكم بنعمه، وصرفكم بآلائه؛ فوجب عليكم شكره. ((وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ)) بالإيمان إذ ركب فيكم العقول، ونصب الأدلة، ومكنكم من النظر.. بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتنبيه الرسول؛ فما عليكم إلا أن تأخذوا سبيله فطرة الإيمان، وهي موجودة وكامنة في قلب كل إنسان، حتى إذا ما علتها الأغشية أو الصدأ فإن التنبيه من الرسول ودعوته إياكم من شأنها أن تنبهكم إلى هذا الرصيد الباقي في نفوسكم من فطرة الإيمان والتوحيد. ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) يعني: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم، وإن بقي فيكم نور الفطرة الذي جبلكم الله عليه؛ فإن دعوة الرسول تأتي بنور على نور، نور الفطرة مع نور الوحي فينبهكم ويحثكم على الإيمان. ((هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: حججاً واضحة وبراهين قاطعة. ((لِيُخْرِجَكُمْ)) أي: ليخرجكم الله، أو ليخرجكم عبده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله ((مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))، أي: من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادة إلى نور الهدى واليقين الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب. ((وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه. ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله والترغيب فيه؛ أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكره في ضروب من البيان وفنون من الأحكام، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعد أن أمرهم بالإيمان: ((وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول..)) أي: وقد توافرت الدواعي التي تؤزكم أزاً على هذا الإيمان. وإن كان قد قال: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه))، فقد قال أيضاً: (( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))، أي: يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه له ذخراً يجده بعد مماته و: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، فإذاً علام البخل ولله ميراث السموات والأرض، أي: يئول إليه كل ما في السماوات والأرض، فلماذا تضنون بما هو زائل عنكم لا محالة؟ يقول الشهاب رحمه الله تعالى: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق؛ لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان في قوله: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ مع سطوع براهينه، ووبخهم أيضاً على ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ((وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) أي: لماذا لا تنفقون في سبيل الله المال الذي آتاكم الله إياه، فالله سبحانه هو الذي آتاكم هذا المال وأمركم بإنفاقه؟ فهذا توبيخ على ترك الإنفاق في سبيل الله الذي أعطاهم هذا المال مع أنهم على وشك الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوا، كما يقول العامة: إن الأكفان لا جيوب لها، وإن أغنى أغنياء الأرض لن يدفن بأمواله وبذهبه؛ فلابد أن يترك المال أو يتركه المال. وقد يصيبه الفقر كما يحصل لكثير من الناس، فمالك هو ما أنفقت وما قدمته بين يديك، ومال وارثك هو ما خلفت، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه. وقوله: ((ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) عام يشمل كل خير يوصل الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فهو أعم من الجهاد وغيره، وقصر بعضهم إياه على الجهاد؛ لأنه فرضه الأكمل، ولأنه النوع الأكمل الذي ينطبق عليه قوله: ((في سبيل الله)) من باب قصر العام على أهم أفراده وأشملها، فهو عام يراد به الخصوص؛ باعتبار أن هذا الخاص هو أهم أفراد هذا العام، لا سيما وسبب النزول كان للنفقة في سبيل الله في الجهاد. ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ))، والفتح يراد به فتح مكة أو صلح الحديبية، وهناك ارتباط وثيق بين فتح مكة وصلح الحديبية؛ لأن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم، وهو الذي مهد لكل ما تلاه من فتوحات، كفتح خيبر وفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن صلح الحديبية أوقف الصراع المسلح مع المشركين، ثم إن المشركين بدءوا يعملون عقولهم ويستمعون للأدلة ويقتنعون بالإسلام؛ فمن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً ببركة هذا الفتح الأعظم. إذاً: الفتح المبين الذي ورد في أول سورة الفتح إنما هو فتح الحديبية، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فقوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))، يعني: أنفق وقاتل لتعلو كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه، فلا يستوي هؤلاء ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام وعزة أهله، فكانت شدة الحاجة إلى نصرة الدين والتضحية في سبيله في ذلك الوقت أعظم وأشد، بخلاف ما بعد الفتح من كثرة الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه؛ فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين. فنقول: لا يستوي من فعل كذا ومن فعل كذا، لكن حذف الثاني هنا لدلالة السياق عليه، أو لوضوح الدلالة عليه: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) وتكون تقدير الكلام: لا يستوي هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لكن حذف لوضوح الدلالة عليه؛ على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة للتنويه بهم: (( أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ))، فبهذا يفهم المحذوف من سياق العبارة السابقة، وهي قوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))) أي: مع الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا. ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، أي: لعظم موقع نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح؛ فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وهذا فيه نهي عن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيذان برعاية حرمتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا مراعاة الأولية والأسبقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض الأحاديث في مراعاة أولويات الإمامة في الصلاة، قال (فإن كانوا في السن سواءً فأقدمهم هجرة)، وهذه إشارة إلى نوع من السبق. وقال في الإكليل: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق. فللصحابة مراتب، ولابد أن يشكل هذا جزءاً من اعتقادنا، ولذلك نجد مسألة الإيمان بفضل الصحابة ومراعاة حرمتهم وترتيبهم في الأفضلية مما ينص عليه في كل كتب العقيدة السلفية، وسبق أن نبهنا أن بعض كتب العقيدة كشرح الطحاوية لا تستوعب كل مسائل الإيمان والعقيدة، وإن كانت تستوعبها في الغالب وتركز على المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة ومن خالفهم من الفرق، ولذلك كل مسألة توضع للرد على فرقة انحرفت في هذا الباب بالذات، فمن ذلك نجد الكلام على مكانة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهذا أصل من أصول العقيدة السلفية؛ لأن الصحابة هم شهود الشرع، فإذا فتح باب الطعن في الشاهد؛ فإن ذلك يفتح باب الطعن في المشهود، وهو القرآن الكريم والسنة، لأن الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، ففتح باب الطعن فيهم حيلة لإبطال دين الإسلام بالكلية، لأن هؤلاء إذا خانوا -كما يقول الشيعة لعنهم الله وقبحهم الله وكما يقول الخميني الهالك وغيره من أعداء الإسلام الذين يدعون الإسلام- فقد بطلت الشريعة. وقد كثر الكلام في الفترة الأخيرة على موضوع الصحابة، وخاصة أن بعض الأشرطة انتشرت لتتكلم عن ذلك بالتفصيل، فسبق أن نبهنا إلى أن عموم الناس بل خواصهم أيضاً ينبغي أن ينشغلوا بدراسة مناقب وفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما إثارة ما شجر بين الصحابة ابتداءً من غير داع يوجب ذلك، فهذا يخالف منهج السلف في أن واجبنا أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن إذا وجد الإنسان قوماً يكثرون الطعن في الصحابة ويوردون الشبهات على بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، أو وجد في بعض مناهج التعليم عدوان على بعض الصحابة؛ ففي هذه الحالة ينبغي الرد على هذه الشبهات. ومن الشبهات تفسير الحديث تفسيراً منحرفاً، أو فهم آية وتأويلها تأويلاً لا يتوافق مع عقيدتنا في الصحابة، أو التزوير الذي حصل في التاريخ؛ فحين يتصدى بعض الباحثين لمثل هذه القضية فليبحثها ضوء منهج أهل الحديث وليس منهج المؤرخين، ومنهج أهل الحديث يعنى بصحة السند والمتن وعقيدة السلف، وعندئذ فلا مانع من ذلك لمن تعرض لشيء من الشبهات. كذلك يوجد الآن كتاب قيم في هذا الباب،
الثمرات المستفادة من الآية
فهذه الآية تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم مراتب، وأن ترتيبهم مبني على السبق، فالأسبق أفضل من الذي يأتي بعد ذلك، فالصحابة مراتب، والفضل للسابق إلى الإسلام. وأيضاً هذه الآية تدل على أدب مهم جداً، وهو تنزيل الناس منازلهم، وهذا وإن جاء فيه حديث ضعيف: (أنزلوا الناس منازلهم)، أو: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، إلا أن نفس معنى هذا الحديث ثابت كما في قوله تبارك وتعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85]، فيؤخذ من الآية معنىً عام: أن من استحق مرتبة معينة فلا ينبغي إنزاله عنها، بل ينزل كل إنسان المنزلة اللائقة به. وأيضاً الآية فيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب، فالإنسان ينبغي أن يتفنن حينما يريد أن ينفق أو يعمل عملاً في سبيل الله، مثلاً: إنسان يريد أن يخرج صدقة جارية، أو أن يعمل عملاً صالحاً، فعليه أن يبحث عن أنفع هذه الأعمال للمسلمين، وللدين، وللدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون فقيهاً إذا أراد أن يتجر مع الله سبحانه وتعالى، وأن يستثمر نفقته في الأعمال الصالحة؛ فينبغي أن يبحث عن السنن الحسنة. والأحوال القلبية لها تأثير خطير جداً في هذا الباب، لحديث: (سبق درهم ألف درهم)، يعني: تصدق بدرهم والآخر تصدق بألف درهم، فارتفع صاحب الدرهم إلى مقام أعلى من الذي تصدق بألف درهم، بسبب الأحوال القلبية، فهذا الرجل الذي تصدق بدرهم ما كان يملك سوى درهمين، فتصدق بدرهم واستبقى لأهله درهماً، أما الآخر فكان رجلاً غنياً ثرياً أتى إلى زاوية وركن في الخزينة وأخذ منها مبلغاً قدره ألف درهم، وهذا شيء صغير في جانب الثروة الكبيرة، فلم يتصدق بنصف ماله، بل بجزء يسير منه، فهذا هو السبب. ثم يقول تعالى: (( أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا )) هنا جاء الاستئناف، حيث كانت الآية التي قبلها ((من قبل الفتح)) قبل: مضاف، والفتح: مضاف إليه، أما (من بعد) في الآية التالية فهي مبنية في محل نصب. قوله تعالى: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي بعد أن جاءت المفاضلة من الله سبحانه وتعالى بين الطرفين قال: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وكل واحد من الفريقين وعد الله الحسنى. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، أي: من النفقة في سبيله وجهاد أعدائه وغير ذلك، فيجازيكم على جميع ذلك. قال ابن كثير : أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2403 استماع |