خطب ومحاضرات
تفسير سورة الفتح [17-25]
الحلقة مفرغة
قال الله تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16] قول الله سبحانه وتعالى في هذا الوعيد: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) هذا وعيد لمن يتولى عن الجهاد، وخص الله من هذا الوعيد واستثنى أصحاب الأعذار وإن حدثت أعذارهم بعد التخلف الأول، فقال عز وجل: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:17]. بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى الوعيد في حق المخلفين ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد. يقول ابن كثير : ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد، فمنها: لازم -عذر لازم- كالعمى والعرج المستمر، وعارض -يعني: من الأعذار ما يكون عارضاً يطرأ ثم يزول- كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ. ثم قال تعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ )) أي: ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش: (( يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا )) في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار. قال الرازي : اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة للآخر، طاعة الله هي طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول هي طاعة الله كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فجمع بينهما هنا بياناً لطاعة الله تبارك وتعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))، فإن الله سبحانه وتعالى لو قال: ومن يطع الله يدخله جنات لكان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله، ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال: طاعته في طاعة رسوله، وكلامه يسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (( وَمَنْ يَتَوَلَّ )) أي: بقلبه. ثم لما بين حال المكلفين بعد قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10] عاد إلى بيان حالهم وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال ابن عباس : (لما نزلت: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) قال أهل الزمانة -يعني: الأمراض المزمنة المستمرة-: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت: (( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ))) أي: لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد؛ لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقال مقاتل : هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم، يعني: من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل، هؤلاء يمكن أن يسيروا معكم إلى خيبر بخلاف المخلفين. وقال أبو حيان : هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج فدائم لهم الغزو، يعني: هم معذورون عند الله، ومع ذلك يجوز أن يخرجوا في الغزو وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وألا يفر؛ لأن الذي يستطيع الجري قد يفر بسهولة؛ لأنه يستطيع الجري، أما الأعرج فإنه أحرى أن يصبر ويثبت لعرجه. وقد غزا ابن أم مكتوم رضي الله عنه وكان أعمى في القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو. ثم يقول الله تبارك وتعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) يعني: فيما ذكر من الأوامر والنواهي (( يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ )) أي: عن الطاعة (( يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا )) لا يغادر قدره. والمعني بالوعد والوعيد هنا أعم من المعني بهما فيما سبق، كما ينبئ عن ذلك التعبير بـ(من) هنا، وبضمير الخطاب هناك في الآية الأخرى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )). فهذه الآية مخاطب بها طائفة معينة، فالصيغة عامة قال تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا )).
لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى : يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين، إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة. وهذه البيعة يقال لها: بيعة الرضوان؛ سميت بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها أحياناً: بيعة أهل الشجرة. قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتل، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين. وعثمان كان رسولاً مبعوثاً من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام ليخبر قريشاً أنه ما جاء لقتال، وإنما جاء معظماً البيت ومريداً للعمرة، فلما بلغه نبأ مقتل عثمان جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم نحو ألف وخمسمائة تحت شجرة فبايعوه على قتال المشركين، وألا يفروا حتى يموتوا. فأخبر الله تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، قال تعالى: (( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ )) يعني: من الإيمان (( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ )) شكراً لهم على ما في قلوبهم، وزادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم وتطمئن بها قلوبهم. (( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )) يعني: كافأهم الله سبحانه وتعالى بأن أثابهم فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها جزاء لهم وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والالتزام بمرضاته. قوله: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:19] أي: له العزة والقدرة التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر. قوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [الفتح:20] هذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة. والمعنى وعدكم الله -أيها المؤمنون- مغانم كثيرة تأخذونها، فيدخل في هذه الغنيمة كل غنيمة غنمها المؤمنون من تلك اللحظة في فتح خيبر إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا داخل في هذا الوعد. قوله: (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )) الإشارة إلى مغانم خيبر، فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للصحابة: لا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم سيتبعها، والدليل على ذلك قوله: (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )) فحين تقول: عجلت لك هذا فمعناه: إلى أن يأتي المؤجل بعد، فهذا التعبير يتضمن بشرى بمغانم أخرى ستأتي فيما بعد. (( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ )) يعني: واحمدوا الله إذ كف أيدي الناس القادرين على قتالكم الحريصين عليه، فهي نعمة وتخفيف عنكم. (( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ )) يعني: ولتكون هذه الغنيمة آية للمؤمنين يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها. (( وَيَهْدِيَكُمْ )) بما يقيض لكم من الأسباب ((صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )) من العلم والإيمان والعمل. (( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا )) أي: وعدكم الله أيضاً غنيمة أخرى لم تقدروا عليها وقت هذا الخطاب. (( قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا )) أي: هو قادر عليها، وهي تحت تدبيره وملكه وقد وعدكموها فلابد من وقوع ما وعد به لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا )). يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ )) أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة. (( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )) وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:19].
خفاء الشجرة التي بايع تحتها الصحابة والحكمة من ذلك
ضوابط التداوي بالقرآن الكريم
الرضا التام من الله عن أهل الشجرة
أقوال العلماء في المغانم الموعود بها في قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ..)
عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: (بينما نحن قائلون -والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: (( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )) فبايع لـعثمان بإحدى يديه على الأخرى -لأن عثمان جاء الخبر أنه قتل فبايع نيابة عن عثمان بإحدى يديه على الأخرى-، فقال الناس: هنيئاً لـابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف). قال القاسمي: وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد، ففي الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم فأنتم أعلم. وفيهما أيضاً عن سفيان أنه قال: إنهم اختلفوا في موضعها. وروى ابن جرير عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له: حزن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأتيناها من قابل فعميت علينا. يعني: لم يستطيعوا أن يهتدوا لمكانها. ثم قال ابن جرير : وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا؛ هذا التكلف. أي: هذا مما لا يعنيكم ولا يفيدكم، فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل وإما شيء سوى ذلك. انتهى كلام ابن جرير . وقال الحافظ في الفتح: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، وهذا صححه الحافظ ابن حجر عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، ولا ينافي ما تقدم لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها أو توهموها فاتخذوها مسجداً ومكاناً مقدساً فقطعها عمر عندئذ؛ صوناً لعقيدتهم من الشرك؛ لأن دوام العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها وإجلال أمثال أصحابها. وقال في الفتح أيضاً في شرح حديث ابن عمر : وقوله: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. يعني: اختلف الصحابة اختلافاً شديداً في مكان الشجرة، فيقول: كانت رحمة من الله أنها عميت، وما كاد اثنان من الصحابة يتفقان على مكانها. يقول: وقد وافق المسيب بن حزن والد سعيد ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة، والحكمة في ذلك ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً في ما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله. أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تبارك وتعالى، فإذا كان هذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه الشجرة التي ذكرت في القرآن: (( إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ))، ومع ذلك الصحابة سدوا ذرائع الافتتان، فأولى ثم أولى ما يفترى ويزعم الآن من وجود آثار للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه موجود فيما يسمونه كذباً وزوراً وافتراء على الله الحرم الأحمدي، وحرم إبراهيم الدسوقي وأحمد البدوي، يزعمون أنه موجود في أحد الأماكن هناك! وهذا من الكذب على الله أن يدعى أي مكان في الأرض سوى مكة والمدينة حرماً، لا يوجد إلا حرمان فقط، حتى المسجد الأقصى لا يسمى حرماً، وسبق أن درسنا في دروس الفقه ما معنى كلمة (حرم)، فليست كلمة تطلق هكذا بالطريقة التي نستعملها الآن: الحرم الجامعي، وحرم السكة الحديد، وحرم كذا .. فهذا لا يجوز، فضلاً عن الحرم الإبراهيمي والحرم الدسوقي .. إلى آخره، وهذه الأماكن توجد في بعضها أثر يزعمون أنه أثره صلى الله عليه وسلم، أو أن قدمه مطبوع على حجر، وهذا كله كذب وزور، وحتى جدلاً لو كان ذلك لكان أولى أن يفعل به ما فعل مع هذه الشجرة، فيطمس حتى لا يحصل به هذا الافتتان، حيث يتمسحون بها ويفعلون هذه الأشياء. فهذا يشير إلى قاعدة مهمة جداً في حماية جناب التوحيد، وهي قاعدة: سد ذرائع الشرك والفتنة، وهي من القواعد المهمة جداً، والتي يؤسس عليها المنهج السلفي، فالمنهج السلفي له أصول، والأصول يرجع إليها لبناء قواعد هذا المنهج: القرآن، السنة، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنها أيضاً: قاعدة سد الذرائع، فهي من أصول المنهج السلفي التي امتاز بها هذا المنهج، وقد ناقشنا من قبل بالتفصيل عند مدارسة كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى فصلاً مهماً جداً، وكنا أوصينا الإخوة بحفظه ومذاكرته جيداً، وعنوانه: احتياطات الشريعة لحماية توحيد الألوهية، ومع أن الفصل في صفحات قليلة جداً لكنه في غاية الأهمية. ومن الاحتياطات التي اتخذتها الشريعة لحماية توحيد الألوهية حتى لا يشرك الناس بالله: 1- تحريم التصوير والتماثيل؛ لأنها تكون ذريعة للافتتان بأصحابها. 2- النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. 3- تحريم الذبح في مكان كان فيه عيد من أعياد الجاهلية أو كان فيه صنم يذبح له. 5- تحريم بناء المساجد على القبور. 6- تحريم الغلو في الصالحين؛ لأنه يفضي إلى الشرك، وحتى الغلو في مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذا كان فصلاً في غاية الأهمية، وما زلنا نوصي الإخوة بهذا الكتاب، كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، فمن هذه الاحتياطات هذا المسلك الذي فعله الصحابة مع هذه الشجرة، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. لأن من لم يعرف الجاهلية يسهل عليه أن يتورط في شيء من أفعال الجاهلية؛ لأنه لا يعرف أفعال الجاهلية، لكن من رأى ضلال الجاهلية ونور الإسلام أمكنه أن يميز بينهما، فمن ثم كثير من الناس يزعمون أنهم على الإسلام الصحيح أو على الفهم الصحيح للإسلام، بينما هم واقعون في بعض الشركيات كدعاء الموتى من دون الله، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم وغير ذلك من هذه الشركيات؛ لأنهم ما عرفوا الجاهلية، ولو عرفوا الجاهلية لأدركوا أن هذه من خصال أهل الجاهلية، ومن أفعال أهل الجاهلية، ولذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له رسالة مهمة جداً في هذا الباب، اسمها: (مسائل الجاهلية) فهذا كتاب ينبغي أن يكون مشهوراً، عدد فيه خصائص الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطهر المسلمين منها، وقد شرح هذا الكتاب العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى. ونحن معشر المصريين عموماً نميل جداً إلى الغلو في هذه الأشياء، فالخبر يخرج شبراً ويعود ذراعاً، ونضع عليه التوابل والبهارات حتى نثير إعجاب الناس بما ننقله من حكايات، وأي موضوع يتداول فغالباً إذا تتبعت سلسلة الخبر تنتهي بك إلى مجاهيل أو إلى مجروحين أو .. إلى آخره، فنحن نعاني من آفة النقل. وما آفة الأخبار إلا رواتها فما بالك بمجتمع العوام الذين لا يعرفون شيئاً عن وجوب التحري؟! فالأمية عندهم هي التي تدفعهم إلى المغالاة والغلو وزيادة الثقة، وهذه الأخبار غالباً مفتراة، ونحن نعرف طبيعة بني جلدتنا، عندنا ميل إلى الغلو في هذه الأشياء، وربما يكون هذا الغلو بسبب ما يحصل من الإيحاء النفسي أن توجد حالة نفسية تعالج بالإيحاء، فينبغي أن نحترم عقولنا، ونحن لا نقول: إن هذا غير ممكن في حكم العقل، يعني: خرق العادة شيء ممكن خاصة لأولياء الله الصالحين، فلذلك نحن نقول: خرق العادة في حد ذاته لا ينبغي أن يفتننا أبداً، ولا يهزنا ولا يؤثر فينا إلا بشروط، وأوضح دليل حتى نسكت الجميع قضية المسيح الدجال؛ لأن كثيراً من الناس لاسيما النصارى الشيطان يلبس عليهم جداً في هذا الباب، تكلمهم في التوحيد والدخول في الإسلام، فيقول لك: عندي دليل على أن ديني دين صحيح، فهذه المعجزات التي حصلت لي أو التي رأيتها بعيني تدل على ذلك، فالشيطان يلبس عليهم بهذه الأشياء، وخرق العادة لا يدل على أن الذي جرى على يديه خرق العادة هو رجل صالح أبداً، بدليل الدجال الأعور الذي يأتي بأشياء تدهش العقول حتى يفتن الناس به ويعبدونه من دون الله، فـالمسيح الدجال كل اليهود والنصارى يتهيئون لاستقباله، فالنصارى يزعمون عودة المسيح للمرة الثانية على أنه -والعياذ بالله- إله، واليهود يزعمون أن المسيح الذي بشروا به لم يأت، والذي أتى كان هو المسيح الدجال. فالشاهد من هذا: أن المسيح الدجال الذي سوف يدعي الألوهية هو نفسه سيأتي بخوارق، ومع ذلك هو الدجال، فمجرد خرق العادة لا يكفي، وإنما ينبغي أن ننظر في الخارقة نفسها هل هي موافقة للشرع أم مخالفة؟ ننظر في سلوك الشخص صاحب خرق العادة هل هو متبع للسنة موحد مسلم ومتبع للسنة والجماعة أم هو من أهل البدع والضلالة؛ لأن الشيطان يمكن أن يعينه على إنجاز هذه الخوارق بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه الكوني القدري؛ فتنة واختباراً وابتلاء للناس كما سيحصل مع الدجال، فالخو
القرآن وقاية وعلاج وشفاء لما في الصدور، ولا حرج على الإطلاق في التداوي به، بل الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي نفسه يومياً قبل أن ينام بالمعوذات كما هو معلوم وثابت في السنة. فنحن لا نناقش أبداً أن القرآن شفاء وعلاج، ولكن في نفس الوقت نقول: ليس هناك أي تصادم على الإطلاق بأن تأخذ بكل ما يتاح لك من الأسباب لجلب النفع أو دفع الضر، مادامت الأسباب شرعية، وأعظم هذه الأسباب هو الدعاء والرقية والثقة بالله سبحانه وتعالى، والتداوي بزمزم، والتداوي بالدعاء لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب التي خلق الله سبحانه وتعالى لمدافعة هذه الأمراض، وكما خلق الله العطش خلق لنا الماء الذي ندفع به العطش. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء) فلا يوجد مرض في الدنيا ليس له علاج إلا مرض واحد، وهو الهرم والشيخوخة فقط، وما عدا ذلك من كل الأمراض التي في العالم لها علاج، حتى الذي يقول الأطباء: ليس له علاج، نحن نقول: لا، تأدبوا مع الله ومع رسول الله، وهذبوا ألفاظكم، لا يوجد مرض ليس له علاج إلا الشيخوخة، وإنما نقول: لا نعلم علاجه، أو لم يكتشف علاجه. إذاً: ما يسره الله سبحانه وتعالى من أسباب العلاج والتداوي ينبغي أن نأخذ به؛ لأن الصحة رأس مال الإنسان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فالصحة نعمة، وإذا حافظنا عليها فهي رأس مالنا في هذه الدنيا حتى نستطيع عبادة ربنا وأداء واجباتنا. وينبغي أن نتأكد: هل هذه المرأة المشهورة بالمعالجة تعالج فقط بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل تدعو دعاء ليس فيه شرك، وليس فيه أي مخالفة شرعية؟ هل تستعمل لغة أجنبية أو شيئاً غير مفهوم؟ فإذا حصل شيء من ذلك فهذا بلا شك يكون علامة خطيرة على أنها ربما تستعين بالشياطين فيعينونها على ذلك. أنا لا أقطع بهذا، لكن أقول: ينبغي التثبت من كل هذا، هل هي ملتزمة بالشرع مؤمنة موحدة؟ هل هي تعالج بالقرآن فقط أم أنها تستعمل ألفاظاً غير عربية وغير مفهومة؟ فإن كان كذلك فيمكن أن يكون فيها شرك بالله سبحانه وتعالى، فينهى عنها في مثل هذه الحالة. سنفترض أحسن الاحتمالات، لنفترض أنه ثبت لدينا أن هذه المرأة صحيحة العقيدة مستقيمة السيرة، مقيمة للصلاة، تقية صالحة، ثم إنها تعالج بالقرآن الكريم، وليس فيها أي شيء من أفعال السحرة أو تصرفات السحرة أو المنجمين والعرافين والكهنة ... إلى آخره، وأنها أيضاً تعمل عمليات بالطريقة الغامضة التي لا نعرف كنهها إلى الآن .. إلى آخره، يعني: كل شيء منها لا يخالف الشريعة، ولكن يخشى من افتتان الناس بها، فيعتقدون أنها هي التي تشفي، وليس الشفاء من الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك صراح لو وصل الأمر إلى خشية افتتان الناس، والظاهر أمامنا الآن أنه توجد فتنة بها بلا شك. فالذي نريد أن نقوله: لو افترضنا سلامتها من كل هذه الأشياء، وخشي منها على عقيدة العوام؛ فينبغي أن يؤخذ على يديها ويحال بينها وبين الناس، وفي أنموذج الشجرة التي ذكرت في القرآن دليل لنا على ذلك. وإذا أدخلت بيتها، وحجرت عن الاختلاط بالناس، فما يضرها؟ لكن ما هو ردة فعل الجماهير لو أنه حيل بينهم وبين هذه المرأة؟! الغضب الشديد، والمظاهرات، أليست هذه علامة خطر؟! فهذه علامة خطيرة تدل على شدة تعلق قلوبهم بهذه المرأة، ولو أنها ماتت هذه المرأة أو حبست أو حجر عليها حتى لا تفسد عقائد الناس؛ فردة فعل الناس تعطينا مؤشر لمدى خطورة التمادي في هذا الأمر، ومدى خطورته على عقيدة الناس؛ لأنهم سيجزعون، بل قد جزعوا بالفعل، فقد: أتوا في الجريدة بصورة الناس فيها جلوس ينتظرون متى تطلع، ويدعونها، ويدعون على من قبضوا عليها .. إلى آخره، وهي خرجت كما هو معلوم، لكن الشاهد: أن هذا الجزع في حد ذاته مؤشر دقيق يقيس لنا مدى خطورته على افتتان الناس بها، فالمسلك الشرعي في مثل هذه الأشياء هو إزالتها، كما فعل من قبل حيث كان هناك شجرة قبل عدة سنوات في إحدى المحافظات، كل ورقة كان عليها اسم نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى، مكتوب عليها ذلك بقدرة الله! ثم ذهبوا ونزعوها، وأياً كانت نية الذين أخفوا هذه الشجرة فإنهم قد صادفوا مقصد الشرع؛ لأن شجرة مثل هذه الشجرة ماذا سيفعل بها المصريون؟! المصريون عندهم قابلية للغلو في هذه الأشياء، فلو أن الشجرة هذه بقيت فإنها كانت ستعبد من دون الله ولا حول قوة إلا بالله! ونحن نرى عبادة غير الله عند قبر البدوي والدسوقي، وكلها قبور وهمية، وتكلمنا من قبل عن موضوع المزارات كقبر السيدة زينب ، وليس هناك قبر السيدة زينب، وكذلك قبر أبي الدرداء، وأبو الدرداء لم يدفن في الإسكندرية، كذلك جابر بن عبد الله الأنصاري لم يدفن في مصر، فأغلبها قبور وهمية، ومع ذلك يفعل بها ما يفعل مع الله سبحانه وتعالى من الاستغاثة والذبح والنذر والطواف بها والتمسح .. إلى آخر هذه الشركيات. فالشاهد من هذا كله: أن مسلك دفن هذه الشجرة أو إخفائها كان مسلكاً صحيحاً، وتخيلوا لو بقيت هذه الشجرة إلى اليوم ماذا كان سيفعل بها؟! كذلك بالنسبة لهذه المرأة -والله تعالى أعلم- إذا ثبت أن بقاءها بهذه الصورة فيه إخلال بعقيدة الناس، وخدش لعقيدة التوحيد؛ ولذا الناس سيتصورون أن المرأة هذه لو ماتت أو حجزت دونهم انسد أمامهم باب الشفاء، وهذا مؤشر يوحي أنهم لا يلجئون إلى الله، وإنما تعلقت قلوبهم بها، وقد صح في الحديث: (إن الله هو الطبيب إنما أنت رفيق) قالها لمن يعالج بالطب، فالله في الحقيقة هو الطبيب المعالج سبحانه وتعالى، وهو الشافي، وفي الحديث: (اللهم اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب الشفاء، ونحن نأخذ بالأسباب الطبيعية في التداوي، والذهاب إلى أهل الاختصاص، وأهل الذكر في علم الطب، أما أن نتجافى مع الطب، ونهجر الأسباب التي أمر الشرع بها من أسباب التداوي، فكما يقول علماؤنا عند دراسة قضية القضاء والقدر: يجب أن نأخذ بالأسباب ولا نتعلق بها، وهذا هو التوكل على الله سبحانه وتعالى، فتعطيل الأسباب قدح في الشريعة، والتوكل على الأسباب قدح في التوحيد. فالذي نشعر به ونخشاه أن هناك قدحاً في توحيد هؤلاء العوام الذين يتهافتون بهذه الصورة الغريبة على هذه المرأة المعالجة، فأنا أقول: حتى لو فرض أن أحسن أحوالها أن كل الشروط موجودة ومتوافرة فيها، ولكن يخشى منها على عقيدة الناس؛ فسداً للذريعة ينبغي أن تحجب عن الناس، ويحال بينها وبين الناس، ولا يساء إليها ولا تظلم، لكن تحجب، وأسوتنا في ذلك سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، لما كان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يمن الله عليه بالنصر بعد النصر مع أنه كان يقابل جيوشاً جرارة رضي الله تعالى عنه، وكان الناس يتسابقون في الخروج إلى الجيش الذي فيه خالد من شدة انبهارهم بالإنجازات العظيمة التي أنجزها سيف الله المسلول على المشركين خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فعزل عمر خالداً وهو في قمة انتصاراته، وفي أوج مجده، بمجرد أن ولي عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة عزله، فمن أوائل ما فعل عمر في خلافته أن عزل خالد بن الوليد ، وبين أنه ما عزله لعلة فيه، بل عزله لأنه رأى الناس تعلقت قلوبهم بـخالد ، وكأن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، ولاشك أنه يحتمل أن أحداً من الناس في عهد عمر رضي الله تعالى عنه ربما يعتقد أن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، وقس هذا الاحتمال بالنسبة للاحتمالات التي يقولها الناس الآن عن هذه المرأة: هي التي تأتي بالشفاء، كم بين أمة وأمة! كم بين جيل وجيل من البعد في فهم الإسلام وحقائق التوحيد! فإذا خشي على الصحابة وعلى المسلمين في ذلك الصدر الأول الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أن يقول بعضهم: إن النصر يأتي من خالد فكيف بحال أبناء هذا الزمان؟! لاشك أن الاحتمال أقرب وأقوى، والله تعالى أعلم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )) قال ابن جرير : عوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحاً قريباً، وذلك فيما قيل: فتح خيبر. (( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا )) هي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة. وقيل: مغانم فارس والروم. قوله سبحانه وتعالى: (( إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )) (تحت الشجرة) متعلق بـ (يبايعونك) أو متعلق بمحذوف حال من مفعوله. وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة، وأنها لم تكن عن خوف منه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكاد يقدر على ذلك، ويكفي فيما ترتب على ذلك من بركات هذه المبايعة ما أخرجه أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة). وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عند حفصة فقالت: (بلى يا رسول الله! فانتهرها. فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فقال عليه الصلاة والسلام: قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]) . وفي بعض الروايات الأخرى: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة إلا تحلة القسم)، وهو القسم الذي أقسمه الله تعالى في قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، تحلة القسم فقط لكنهم يجدونها برداً وسلاماً؛ لقوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]. وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خير أهل الأرض) ، فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، فهذه الآية من الآيات التي تخزي الشيعة الرافضة قبحهم الله؛ لما في قلوبهم من بغض وسخط على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن فيهم أهل هذه الشجرة، فالله يقول: (( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ))، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة، ثم هؤلاء الحمقى الحاقدون يلعنون الصحابة، ويسبونهم ويكفرونهم، ويتبرءون منهم! ولو سخط على الصحابة جميع من في الأرض هل هذا يضر الصحابة؟! لا، فقد أخبر الله أنه رضي عنهم، وعثمان منهم، بل كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه -كما قال أنس - خيراً من أيديهم لأنفسهم. قوله: (( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ )) أي: من الصدق والإخلاص في مبايعتهم. وقيل: من الإيمان وصحته، وحب الدين والحرص عليه. وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم. وقال مقاتل : فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت، فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا. وتفسر السكينة بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها. وهذا كلام مرفوض؛ لأنه فسر الآية بأنه علم في قلوبهم أنهم كانوا يكرهون البيعة خشية القتال. (( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ )) يعني: جعلهم يقبلون. يقول الألوسي رحمه الله تعالى: ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم، وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره. قوله: (( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )) قيل: هو فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن : فتح هجر، والمراد هجر البحرين، وكان فتحاً في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات. وفي صحيح البخاري : (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر) وقيل: هو فتح مكة. والقرب أمر نسبي ، وقرأ الحسن وغيره: ( وأتاهم ) أي: أعطاهم. قوله تعالى: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:19] هي: مغانم خيبر كما قال غير واحد، وقسمها عليه الصلاة والسلام فأعطى للفارس سهمين -وكانوا ثلاثمائة فارس- وللراجل سهماً. وفي قراءة: ( تَأْخُذُونَهَا ) بالتاء الفوقية، والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان. (( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا )) غالباً ( حكيماً ) مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه. (( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ )) وهي ما يفيء الله على المؤمنين إلى يوم القيامة (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )) يعني: مغانم خيبر (( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ )) يعني: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. (ولتكون) هذه الكفة (آية للمؤمنين) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم. قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل الله سبحانه وتعالى فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في قوله: (( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ )) علامة للمؤمنين وهي فتح خيبر، فيكون قوله: (ولتكون) عائدة على قوله: (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ )) وهي مغانم خيبر. ويستأنس لهذا بما سبق أن تكلمنا عنه مراراً من أن شأن الله سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، وهي التي تسمى الإرهاصات، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، حيث رزقه الولد وهو كبير لا يولد لمثله، قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه، ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وكما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين الأمر بالجهاد، وكذلك كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة لهذا الفتح المبين، وأمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وتناظروا في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. إذاً: هذه إشارة على جعل فتح خيبر علامة وعنواناً لما هو أعظم وهو فتح مكة، وهذا الذي وقع بالفعل.
في المغانم الموعود بها أقوال أصحها: أن الله وعد بمغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، والله كان عالماً بها، وهذا كما يقول ابن مالك : تقول لمن يخدمك: لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله، ولا يريد شيئاً بعينه، ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد، ولله المثل الأعلى. قوله تعالى: (( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ )) لإتمام المنة كأنه قال: رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال، ولو تعبتم فيه لقلتم: هذا جزاء تعبنا، لكن الله كف أيدي الناس عنكم بدون تسبب منكم . (( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ )) يعني: لينفعكم الله بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم، يعني: الذين يأتون بعد الصحابة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى فإنها تكون آية لهم، حيث إن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين الغنيمة وقد حصلوها، ووعد من يأتي بعد من المسلمين غنائم أخرى سوف يأخذونها، فيستدلون بما رأوا من إعطاء الله الصحابة رضي الله تعالى عنهم الغنيمة المعجلة على أن وعد الله سبحانه وتعالى آت، وهي نفس الغنيمة الموعودة بها. ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: أو: (( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ )) يعني: تنفعكم في الظاهر، ويزداد يقينكم إن رأيتم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (( مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )) ذكر الجلبي أنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر، فلا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية. إذاً: هذا الجزء من السورة نزل بعد فتح خيبر، وكل السورة نزلت مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من صلح الحديبية قبل خيبر، فعبر بالماضي لتحقق الوقوع، كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116] فهل هذا قد حصل بالفعل؟ لا، لكن يعبر عما يحصل في المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، فكأنه وقع بالفعل وصار ماضياً يخبر عنه بصيغة الماضي، فهذه من أساليب اللغة العربية، لكن هنا قوله: (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ))، هي في خيبر، فهذا من باب الإخبار عن الغيب. (( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ )) (هذه) إشارة لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة، والتعبير بالمضي للتحقق.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2403 استماع |