خطب ومحاضرات
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
كنا قد توقفنا عند ذكر شروط النكاح عند جمهور أهل العلم، وذكرنا أنها خمسة، والراجح أنها ثلاثة أو أربعة على الخلاف باعتبار شرط الكفاءة وتقسيماته، وقد ذكرنا نكاح السر، وبينا أن حكم نكاح السر عند المالكية يختلف عن مذهب الجمهور، فالجمهور يعتبرون نكاح السر على قسمين: إن كان نكاح السر من غير وجود شاهدين فيعتبرونه نكاحاً باطلاً، وإن كان مع وجود الشاهدين فقد اختلفوا إذا طلب الزوج عدم إظهار النكاح مع توفر شروطه، فبعضهم ذكر الجواز، وبعضهم ذكر الكراهة، وبعضهم ذكر التحريم، والأظهر عندهم أنه جائز على الخلاف بين الكراهة من عدمها.
وأما المالكية فالمشهور عندهم أن الرجل إذا تزوج المرأة واشترط عدم إعلان النكاح وعدم إظهاره ولو توفر فيه وجود الشاهدين فإنهم يعتبرون ذلك من نكاح السر، وقد قلنا: إن الراجح والله أعلم هو مذهب الجمهور؛ لأن توفر شروط النكاح شيء، وعدم إظهاره شيء آخر، وبينا أن وجود الشاهدين أولى من الإعلان على الراجح وهو الأحوط، وإن كان عقد النكاح سوف يكون في وقت الدخلة فإنه يكون الإعلان بمثابة الشاهدين وأكثر، وهذا يوجد عند بعض البلاد أنهم يجرون عقد النكاح وقت الدخلة، فهؤلاء الذين يشهدون أن فلاناً تزوج فلانة ودخل بها يكون هذا بمثابة الشهود، لكن الإشكال إذا وجد عقد النكاح سابقاً لوقت الدخلة فهذا هو المشكل عند الجمهور، وليس بمشكل عند مالك.
معنى النكاح بنية الطلاق
أقوال العلماء في حكم النكاح بنية الطلاق
وكذلك نص الشافعي في (الأم) على جوازه، ونص الحنفية على جوازه على خلاف عند هؤلاء الأئمة في كراهتهم له، أو تجويزهم، لكن المشهور عندهم أن العقد صحيح.
أما الحنابلة فلهم روايتان: المذهب أن الزواج بنية الطلاق محرم، والرواية الثانية اختارها أبو محمد بن قدامة في كتاب المغني أن العقد صحيح بلا تحريم، وقد نقل أبو محمد بن قدامة كلام أبي عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) أن فقهاء الأمصار وجماهير أهل العلم على صحة عقد النكاح إذا تزوج الرجل المرأة وفي نيته أن يطلقها، ولم يخالف في ذلك إلا الأوزاعي .
أما أبو العباس بن تيمية رحمه الله فالواقع أن له في المسألة روايتين: الرواية الأولى جزم بالجواز، والرواية الثانية التي نقلت عنه قرر فيها مذهب الحنابلة، ولكن ليس فيه جزم أنه يختاره، ومما يدل على أن أبا العباس بن تيمية لا يرى التحريم أنه ألف كتاب (إقامة الدليل على بطلان التحليل)، وذكر هذه المسألة ونقل عن أحمد أنه قال في الزواج بنية الطلاق: هو أخية المتعة، وسبب تأليف ابن تيمية لهذا الكتاب إنما هو رد على بعض أصحاب المالكية وبعض أصحاب الشافعية الذين قالوا: إن الرجل إذا تزوج المرأة ليحللها لزوجها الأول فإنه جائز، إذا لم يكن ثمة شرط في العقد، فألف هذا الكتاب ليبين أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وأراد أن يبين أن الشرط المقترن بالعقد كالشرط السابق عن العقد، فلو كان لـأبي العباس قول واضح بالتحريم لبينه هنا، وهو في هذا الكتاب لم يقطع بتحريم الزواج بنية الطلاق.
أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه قال في إحدى روايتيه: هو أخية المتعة، وهو قول متأخري الحنابلة أنه محرم، ومع خلاف الحنابلة في جوازهم للزواج بنية الطلاق أو تحريمهم له، إلا أن المشهور عندهم في جميع الروايات أن العقد صحيح مع التحريم، لكن القول بأن العقد فاسد لهذه النية لم يظهر صراحة في المذهب، نعم وجدت بعض الأقوال، لكن المشهور في المذهب أن العقد محرم، لكنه صحيح وعلى هذا فيمكن أن نقول: إن عامة أهل العلم على أن عقد النكاح بنية الطلاق من قبل الزوج من غير علم الزوجة أو الولي بهذه النية عقد صحيح، والخلاف عندهم إنما هو في التحريم من عدمه، وعلى هذا فليس بزنا.
وأما المتعة وهي أن يتزوج الرجل المرأة ويشترط أن يبقيها عنده للاستمتاع بها مدة معينة بالقبضة من التمر أو بالمال أو غير ذلك فهو في حكم الزنا، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في شأن عمرو بن حريث كما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: لا أوتين بأحد تزوج مثل ذلك إلا أقمت عليه الحد، وليس ثمة حد هنا إلا حد الزاني المحصن أو الجلد إذا لم يكن محصناً.
وقد اختلف العلماء إذا تزوج الرجل المرأة بالمتعة هل يقام عليه حد الزنا أم يعاقب لعدم علمه؟ ولا شك أن معرفة الخلاف من عدمه وبناءً على تجويزه يظن أنه جائز وليس مثل الزنا ولا شك.
سلبيات إظهار القول بجواز النكاح بنية الطلاق
الأمر الأول: أن بعض من لا خلاق لهم ربما استغل مثل هذه الأقوال في تصرفات مشينة، وممارسات قبيحة ربما أدت إلى الوقوع في الخنا وهو لا يشعر، بحيث يكون هناك نظام وممارسة مشينة تنسب إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، وهذا هو الواقع مع الأسف الشديد!
ثم إن القول بذلك لا ينبغي أن يكون هو الأصل في عقد النكاح؛ لأن العلماء حينما جوزوا ذلك إنما جوزوه في معالجة حالة أو حادثة، كحال بعض الذين يسافرون ويضطرون، وربما خافوا على أنفسهم الزنا وهو لا يريد أن تكون هذه زوجة وأماً لأولاده، فبدلاً من الوقوع في الزنا يتزوج هذه المرأة زواجاً شرعياً، فهذه الممارسة أخف بكثير من الممارسات التي تجري في بلد هنا أو هناك كما لا يخفى عليكم. ومع احترامنا لأقوال أئمة السلف إلا أنه لا ينبغي إظهار ذلك، إذ إن الممارسات التي نسمعها ونسأل عنها من قبل أصحابها يندى لها الجبين، فلربما تزوج المرأة ولم يتحقق من عدتها من زوجها الأول، فكأن هذه المرأة تجعل هذا النكاح نوعاً من الاستثمار، فلربما طلقها الأول فتزوجت الثاني ولم تنته عدتها من الأول!
الأمر الثاني: أن بعض الأزواج لا يتحرى عن صدق الولي، ففي بعض البلدان تتزوج المرأة بلا ولي بموجب مذهب أبي حنيفة ، فإذا قال لها الزوج: أنا أريد الولي أتت بأي أحد من الناس فقالت: هذا والدي، فبسبب هذا السعار الذي يحصل عند بعض الناس لا يتثبت في هذا الولي هل هو وليها أم لا، وكثيرة هي القصص التي نسمعها ويندى لها الجبين في أن يتزوج الرجل المرأة، وبعد ذلك يتبين أن هذا الولي ليس وليها، وليس أخاها مع الأسف الشديد!
الأمر الثالث: أن وجود مثل هذه الممارسات ظاهرة علنية كانت سبباً في نسبتها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، ولهذا فإن بعض الطوائف حينما نعيب عليهم القول بالمتعة يقولون: أنتم تقولون بالزواج بنية الطلاق، والسبب في ذلك أنهم عايشوا ممارسات مشينة، ولهذا فإن القول بالزواج بنية الطلاق لا ينبغي إذا كان صاحبها يقول بها، ولا ينبغي أن تكون ظاهرة علنية.
فالمسألة يعتريها بعض الإشكال، ولهذا قلت هذه المقدمة لأجل ألا ينسب إلى مذهب الجمهور بعض الممارسات الخاطئة بهتاناً وكذباً.
أدلة الجمهور على جواز الزواج بنية الطلاق
الأول: أن شروط العقد قد توفرت، وليس من شروط العقد النية؛ لأن النية محلها القلب، فدل ذلك على صحة العقد.
الثاني: أن هذه النية ليست مستقرة، فكثيراً ما يحصل زواج ثم يعجب الرجل بالمرأة فلا يطلقها، فهذا النوع من النكاح ليس مثل نكاح المتعة الذي بمجرد انتهاء المدة يحصل الافتراق.
أدلة الحنابلة على حرمة الزواج بنية الطلاق
الدليل الأول: أن القصود والنيات في العقود معتبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر : ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، فهذا نوى الإضرار، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد عند الإمام أحمد وحسنه السيوطي و النووي وغيرهما: ( لا ضرر ولا ضرار ) وعلى هذا فإن المرأة إذا طلقت ربما لا يتزوجها الآخرون، وربما إذا طلقت مرتين أو ثلاثاً قالوا: إن العيب فيها، هذا ناهيك عما يحصل لها من ألم وضرر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها ).
وقالوا: إن الزوجة لو علمت بهذه النية ورضيت لكانت متعة، وإذا لم تعلم فإنها لا ترضى بذلك أصلاً، فلا ينفك الإنسان عنها، وهذا القول من حيث النظر قوي؛ لأن بعض البلدان إذا طلقت المرأة عزف الناس عنها، وبعض البلدان إذا طلقت المرأة رغب الناس فيها، وهذا في زماننا نحن، وأما في السابق فكان أجدادنا يقولون: إذا طلقت المرأة كثر خطابها، والسبب في ذلك -والله أعلم- هو أن المرأة في السابق كانت تزيد في الإنتاج القومي للأسرة، فقد كان الرجل يتزوج المرأة والثانية والثالثة لكي يزيد في إنتاج الأسرة، يعني: وعندهم زرع، عندهم ماشية، فهذه تحلب وهذه تصنع الجبن، وهذه تحرث، وهذه تحصد، فيكون هناك عمل من قبلهن جميعاً، فيحصل بذلك زيادة في الإنتاج القومي الأسري. أما اليوم فإن المرأة جالسة في بيتها وربما عندها خادمة على راتب الزوج، وقد يضطر الزوج إلى أن يوجد لها سائقاً، ويضطر الزوج أن يوجد لها ألبسة من الماركات العالمية، ناهيك على أنها في العطلة قد تضطر زوجها أن يسافر بها إلى أحد الفنادق، وهذا يسبب عجزاً في الميزانية.
أما قول الجمهور إن هذه النية من قبل الزوج ليست من أخلاق المسلمين، وربما تصل إلى الكراهة أو التحريم لكن العقد صحيح، قالوا: إن المرأة تنكح لأسباب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة حيث قال: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )، قالوا: وكذلك المرأة تقبل بزواج الرجل لهذه الاعتبارات الأربع بمفهوم المخالفة، لماله ولحسبه ولجماله ولدينه، فأحياناً المرأة تتزوج الرجل لأجل المهر الذي سوف يعطيها، أربعون ألفاً أو ثلاثون ألفاً أو غير ذلك كي تقوم أسرة البنت على سوقها، فيحصل في ذلك نفع.
مناقشة أقوال المجيزين للزواج بنية الطلاق والمانعين والترجيح
وأنا أقول: إن بعض الإخوة حينما يأخذ بقول الجمهور لا يكسر شعور الزوجة فقط، بل يكسر شعور الأسرة كلها، فحينما يتزوج المرأة يجعل القمر في إحدى يديها والشمس في الأخرى، فتظن أن هذا هو فارس أحلامها، وهو زوجها في الدنيا والآخرة، ويعطيها من المرغبات فيه، فتقبل الزوجة، فإذا قالت الزوجة له: أريد الأولاد، قال: ليس عندي مانع، ولكن أولاً نبدأ حتى تستقيم العلاقة ثم تحملين، فتتزوج المرأة ظانة أنه سوف يبقيها، وبعد ذلك يطلقها ويتركها، وهذه خيانة بلا شك، فإذا غر الزوج المرأة بمثل هذه التصرفات فهذه خيانة، ولا علاقة لها بأقوال جمهور أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ).
أنا ذكرت هذه المسألة لأن هذه ممارسة خاطئة جعلت كثيراً من النساء يتألمن ويقلن: كيف جمهور أهل العلم يقولون بالجواز، وهن لم يفهمن لماذا جوز الفقهاء، والفقهاء جوزوها لأجل توفر الشروط الأربعة، أو الخمسة على الخلاف، أما الممارسات فإنها شيء آخر لا علاقة لها بأصل النكاح، ولا شك أن الممارسات المشينة الخاطئة التي ربما وجدت في بعض البلاد أو بعض الأشخاص أو في بعض الأحوال تدل على حرمة ذلك، بل إن بعضهم أحياناً لا يستجيزها زوجة له، فزوجته أم أولاده يطلب بألا تخرج شيئاً من عينيها، وإذا كان في سيارة ومعه زوجته ومر أحد أقربائه أو أحد زملائه التفت إليها وقال: غطي عينيك، افعلي كذا، اصنعي كذا، تحشمي.
وأما إذا تزوج هذه المرأة في بعض البلاد لا يبالي أن تكون متبرجة، كأن تكون كاشفة عن شعرها أو لابسة بعض الألبسة الفاضحة والعياذ بالله، ومع هذا لا يكترث، بل ربما إذا ذهب هو وزميله ترى زميله، وهذا يرى زوجته والعياذ بالله، مع أنه إذا رجع إلى بلده اشترط لزوجته شروطاً لا تكاد توجد عند الحسن البصري ، وهذا بلا شك دليل على سوء التصرفات والأخلاق عند بعض المسلمين كما قال مالك : وليس هذا من أخلاق المسلمين.
القسم الثاني: النكاح بنية الطلاق: ومن ضمن عقود الأنكحة التي لها ارتباط بشروط النكاح هو النكاح بنية الطلاق، والنكاح بنية الطلاق معناه هو أن يتزوج الرجل المرأة وفي نيته أن يطلقها دون إظهارٍ لهذه النية للولي أو للزوجة قبل العقد أو في أثنائه، هذا هو الزواج بنية الطلاق.
الزواج بنية الطلاق نص عليه العلماء رحمهم الله في كتبهم، فقد نص عليه مالك في المدونة، وذكر أن الرجل إذا تزوج المرأة للمتعة، وهو لا يريد أن يبقيها عنده فإن العقد جائز، وليس من أخلاق المسلمين. هذا قول مالك ، وقوله: وليس من أخلاق المسلمين؛ لأن توفر الشروط شيء، والسلوكيات والممارسات شيء آخر، فمثل هذا ليس من أخلاق المسلمين.
وكذلك نص الشافعي في (الأم) على جوازه، ونص الحنفية على جوازه على خلاف عند هؤلاء الأئمة في كراهتهم له، أو تجويزهم، لكن المشهور عندهم أن العقد صحيح.
أما الحنابلة فلهم روايتان: المذهب أن الزواج بنية الطلاق محرم، والرواية الثانية اختارها أبو محمد بن قدامة في كتاب المغني أن العقد صحيح بلا تحريم، وقد نقل أبو محمد بن قدامة كلام أبي عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) أن فقهاء الأمصار وجماهير أهل العلم على صحة عقد النكاح إذا تزوج الرجل المرأة وفي نيته أن يطلقها، ولم يخالف في ذلك إلا الأوزاعي .
أما أبو العباس بن تيمية رحمه الله فالواقع أن له في المسألة روايتين: الرواية الأولى جزم بالجواز، والرواية الثانية التي نقلت عنه قرر فيها مذهب الحنابلة، ولكن ليس فيه جزم أنه يختاره، ومما يدل على أن أبا العباس بن تيمية لا يرى التحريم أنه ألف كتاب (إقامة الدليل على بطلان التحليل)، وذكر هذه المسألة ونقل عن أحمد أنه قال في الزواج بنية الطلاق: هو أخية المتعة، وسبب تأليف ابن تيمية لهذا الكتاب إنما هو رد على بعض أصحاب المالكية وبعض أصحاب الشافعية الذين قالوا: إن الرجل إذا تزوج المرأة ليحللها لزوجها الأول فإنه جائز، إذا لم يكن ثمة شرط في العقد، فألف هذا الكتاب ليبين أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وأراد أن يبين أن الشرط المقترن بالعقد كالشرط السابق عن العقد، فلو كان لـأبي العباس قول واضح بالتحريم لبينه هنا، وهو في هذا الكتاب لم يقطع بتحريم الزواج بنية الطلاق.
أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه قال في إحدى روايتيه: هو أخية المتعة، وهو قول متأخري الحنابلة أنه محرم، ومع خلاف الحنابلة في جوازهم للزواج بنية الطلاق أو تحريمهم له، إلا أن المشهور عندهم في جميع الروايات أن العقد صحيح مع التحريم، لكن القول بأن العقد فاسد لهذه النية لم يظهر صراحة في المذهب، نعم وجدت بعض الأقوال، لكن المشهور في المذهب أن العقد محرم، لكنه صحيح وعلى هذا فيمكن أن نقول: إن عامة أهل العلم على أن عقد النكاح بنية الطلاق من قبل الزوج من غير علم الزوجة أو الولي بهذه النية عقد صحيح، والخلاف عندهم إنما هو في التحريم من عدمه، وعلى هذا فليس بزنا.
وأما المتعة وهي أن يتزوج الرجل المرأة ويشترط أن يبقيها عنده للاستمتاع بها مدة معينة بالقبضة من التمر أو بالمال أو غير ذلك فهو في حكم الزنا، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في شأن عمرو بن حريث كما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: لا أوتين بأحد تزوج مثل ذلك إلا أقمت عليه الحد، وليس ثمة حد هنا إلا حد الزاني المحصن أو الجلد إذا لم يكن محصناً.
وقد اختلف العلماء إذا تزوج الرجل المرأة بالمتعة هل يقام عليه حد الزنا أم يعاقب لعدم علمه؟ ولا شك أن معرفة الخلاف من عدمه وبناءً على تجويزه يظن أنه جائز وليس مثل الزنا ولا شك.
على كل إذا ثبت هذا فلا شك أن مثل هذا القول الذي هو قول الأئمة الأربعة لا ينبغي إظهاره لأمور منها:
الأمر الأول: أن بعض من لا خلاق لهم ربما استغل مثل هذه الأقوال في تصرفات مشينة، وممارسات قبيحة ربما أدت إلى الوقوع في الخنا وهو لا يشعر، بحيث يكون هناك نظام وممارسة مشينة تنسب إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، وهذا هو الواقع مع الأسف الشديد!
ثم إن القول بذلك لا ينبغي أن يكون هو الأصل في عقد النكاح؛ لأن العلماء حينما جوزوا ذلك إنما جوزوه في معالجة حالة أو حادثة، كحال بعض الذين يسافرون ويضطرون، وربما خافوا على أنفسهم الزنا وهو لا يريد أن تكون هذه زوجة وأماً لأولاده، فبدلاً من الوقوع في الزنا يتزوج هذه المرأة زواجاً شرعياً، فهذه الممارسة أخف بكثير من الممارسات التي تجري في بلد هنا أو هناك كما لا يخفى عليكم. ومع احترامنا لأقوال أئمة السلف إلا أنه لا ينبغي إظهار ذلك، إذ إن الممارسات التي نسمعها ونسأل عنها من قبل أصحابها يندى لها الجبين، فلربما تزوج المرأة ولم يتحقق من عدتها من زوجها الأول، فكأن هذه المرأة تجعل هذا النكاح نوعاً من الاستثمار، فلربما طلقها الأول فتزوجت الثاني ولم تنته عدتها من الأول!
الأمر الثاني: أن بعض الأزواج لا يتحرى عن صدق الولي، ففي بعض البلدان تتزوج المرأة بلا ولي بموجب مذهب أبي حنيفة ، فإذا قال لها الزوج: أنا أريد الولي أتت بأي أحد من الناس فقالت: هذا والدي، فبسبب هذا السعار الذي يحصل عند بعض الناس لا يتثبت في هذا الولي هل هو وليها أم لا، وكثيرة هي القصص التي نسمعها ويندى لها الجبين في أن يتزوج الرجل المرأة، وبعد ذلك يتبين أن هذا الولي ليس وليها، وليس أخاها مع الأسف الشديد!
الأمر الثالث: أن وجود مثل هذه الممارسات ظاهرة علنية كانت سبباً في نسبتها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، ولهذا فإن بعض الطوائف حينما نعيب عليهم القول بالمتعة يقولون: أنتم تقولون بالزواج بنية الطلاق، والسبب في ذلك أنهم عايشوا ممارسات مشينة، ولهذا فإن القول بالزواج بنية الطلاق لا ينبغي إذا كان صاحبها يقول بها، ولا ينبغي أن تكون ظاهرة علنية.
فالمسألة يعتريها بعض الإشكال، ولهذا قلت هذه المقدمة لأجل ألا ينسب إلى مذهب الجمهور بعض الممارسات الخاطئة بهتاناً وكذباً.
إذا ثبت هذا فإن الأئمة الأربعة في المشهور عنهم يقولون: بأن العقد جائز لأدلة منها:
الأول: أن شروط العقد قد توفرت، وليس من شروط العقد النية؛ لأن النية محلها القلب، فدل ذلك على صحة العقد.
الثاني: أن هذه النية ليست مستقرة، فكثيراً ما يحصل زواج ثم يعجب الرجل بالمرأة فلا يطلقها، فهذا النوع من النكاح ليس مثل نكاح المتعة الذي بمجرد انتهاء المدة يحصل الافتراق.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب الحنابلة، وهو اختيار شيخنا محمد بن عثيمين ، وبه صدر قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي وهو أن الزواج بنية الطلاق محرم، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: أن القصود والنيات في العقود معتبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر : ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، فهذا نوى الإضرار، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد عند الإمام أحمد وحسنه السيوطي و النووي وغيرهما: ( لا ضرر ولا ضرار ) وعلى هذا فإن المرأة إذا طلقت ربما لا يتزوجها الآخرون، وربما إذا طلقت مرتين أو ثلاثاً قالوا: إن العيب فيها، هذا ناهيك عما يحصل لها من ألم وضرر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها ).
وقالوا: إن الزوجة لو علمت بهذه النية ورضيت لكانت متعة، وإذا لم تعلم فإنها لا ترضى بذلك أصلاً، فلا ينفك الإنسان عنها، وهذا القول من حيث النظر قوي؛ لأن بعض البلدان إذا طلقت المرأة عزف الناس عنها، وبعض البلدان إذا طلقت المرأة رغب الناس فيها، وهذا في زماننا نحن، وأما في السابق فكان أجدادنا يقولون: إذا طلقت المرأة كثر خطابها، والسبب في ذلك -والله أعلم- هو أن المرأة في السابق كانت تزيد في الإنتاج القومي للأسرة، فقد كان الرجل يتزوج المرأة والثانية والثالثة لكي يزيد في إنتاج الأسرة، يعني: وعندهم زرع، عندهم ماشية، فهذه تحلب وهذه تصنع الجبن، وهذه تحرث، وهذه تحصد، فيكون هناك عمل من قبلهن جميعاً، فيحصل بذلك زيادة في الإنتاج القومي الأسري. أما اليوم فإن المرأة جالسة في بيتها وربما عندها خادمة على راتب الزوج، وقد يضطر الزوج إلى أن يوجد لها سائقاً، ويضطر الزوج أن يوجد لها ألبسة من الماركات العالمية، ناهيك على أنها في العطلة قد تضطر زوجها أن يسافر بها إلى أحد الفنادق، وهذا يسبب عجزاً في الميزانية.
أما قول الجمهور إن هذه النية من قبل الزوج ليست من أخلاق المسلمين، وربما تصل إلى الكراهة أو التحريم لكن العقد صحيح، قالوا: إن المرأة تنكح لأسباب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة حيث قال: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )، قالوا: وكذلك المرأة تقبل بزواج الرجل لهذه الاعتبارات الأربع بمفهوم المخالفة، لماله ولحسبه ولجماله ولدينه، فأحياناً المرأة تتزوج الرجل لأجل المهر الذي سوف يعطيها، أربعون ألفاً أو ثلاثون ألفاً أو غير ذلك كي تقوم أسرة البنت على سوقها، فيحصل في ذلك نفع.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [3] | 2215 استماع |
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [1] | 1592 استماع |