عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [1]


الحلقة مفرغة

حدود العقل في فهم النص

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

أما بعد:

فإن بعض طلاب العلم المبتدئين حينما يطالب بأن يرجح فعندما يأتي دليل لأحد القولين يقول: وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فالحديث محمول على كذا، ويحمل على كذا، ثم يأتي بالاحتمالات العقلية لتخرج من وهج النص الإيماني الشرعي، ثم يقول بعد ذلك: والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال!

وهذه القاعدة أيضاً قاعدة مظلومة، وهذا مخطئ، فالاحتمال الوارد بالنصوص الشرعية ليس هو الاحتمالات العقلية؛ لأن الاحتمالات العقلية لا تتناهى، ولكن المقصود الاحتمال الوارد بنص شرعي، مثل قصة خروج الضعفة من مزدلفة، تقول أنت مثلاً: يجوز أن يخرج الضعفة بعد منتصف الليل، وأما ما ورد من حديث أسماء بنت أبي بكر عندما قالت لغلامها: هل غاب القمر؟ فإن ذلك إنما حكت ما وقع لها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تخرج قبل ذلك، وهذا احتمال بدليل، أما أن نتطاول على النصوص الشرعية ونخرجها عن مدلولاتها وعن مرادها إلى احتمالات ربما تصيب وربما لا تصيب فإن هذا ظلم.

تفسير النصوص بين المعاني الشرعية ومصطلحات الفقهاء

ولهذا أشار أبو العباس بن تيمية في المجلد السابع فقال: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر، يعني: ليس على المجتهد الذي يريد شيئاً فيتكلف في ذلك، ولهذا من الأخطاء أيضاً أننا أحياناً نفهم المعنى الشرعي بالمصطلح الفقهي فنحجم عن معنى النص، ولهذا أشار ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) فقال: البينة في كلام الله وكلام رسوله اسم لما يبين الحق ويظهره، وأما البينة في كلام الفقهاء فقد خصوها بالشاهدين أو بالشاهد مع اليمين، وقال: ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص، هذا كلام ابن القيم ، وهذا يدل على سبره وغوره للممارسات الخاطئة.

وخذ مثالاً آخر: ما روي في الصحيحين من حديث ابن عمر عندما طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مره فليراجعها )، وفي رواية: ( فليرجعها )، فهم بعض العلماء أن المراجعة هذه هي الطلاق الرجعي، يعني: يرجعها بعد أن طلقها، وهذا غير مراد، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( مره فليرجعها )؛ ذلك لأن ابن عمر حينما طلق امرأته أخرجها من بيتها، وهل يجوز للرجل إذا طلق امرأته أن يخرجها من بيتها؟ لا يجوز لقوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر ابنه أن يرجع زوجته التي طلقها وأخرجها من بيته، هذا مراد الحديث، وليس المراد أن يراجعها بمعنى الرجعة المعروفة عند الفقهاء، وقد أشار أبو العباس بن تيمية إلى ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

منهجية طالب العلم في الجواب عن أدلة القول المرجوح

ولأجل هذا كان الأئمة إذا اختاروا أحد القولين، لم يلزم أن يردوا على كل شبه وأدلة القول الثاني، وهذه مهمة لطالب العلم، يعني: أنا حينما أختار القول بالتحريم أو أختار القول بالجواز أو ينطبع في ذهني القول بالتحريم أو ينقدح في ذهني القول بالجواز وأرى أن القول بالجواز أكثر أو القول بالتحريم أكثر لا يلزم أن يكون عندي جواب على كل أدلة المخالفين، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في (شفاء العليل): ولا يلزم المجتهد إذا أخذ أحد القولين أن يرد على كل شبهة؛ لأن هذا من التكلف، ويعجبني كلام الإمام أحمد -رحمه الله- حينما كان يقول: كنت أرى أن طلاق السكران يقع، ثم تبينته -أي: تأملته- فرأيت أني إن أوقعته وقعت في محذورين، وإن لم أوقعه وقعت في محذور، فلأن أقع في محذور أحب إليّ من أن أقع في محذورين، يعني: إشكالين.

تعظيم النصوص الشرعية

ولقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا سئل عن مسألة أجاب فيها، فإذا سأله سائل: ما تقول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فكان أحمد من هيبته للنص يسكت ولا يجيب! وهذا أدب لطالب العلم، فبعض الناس إذا اختار أحد القولين قال: والراجح كذا، فإذا قال له أحد الطلاب: فما تقول في حديث رواه البخاري و مسلم ؟ قال: هذا مؤول، فينبغي لطالب العلم أن يستحضر أن أمامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع أهل العلم في قول الله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] على أن رد السنة النبوية بعد وفاته نوع من التقديم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان سفيان الثوري يقول في أحاديث الوعيد: أمروها كما جاءت، أي: مثل أحاديث الصفات، يقول: لإبقاء هيبة النص، كحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) فإذا قيل: ما معناها؟ قال: أمروها كما جاءت، دع الناس تخف. واليوم إذا جاء واحد يقول: حلق اللحية كبيرة أو صغيرة؟ يقول: حلق اللحية صغيرة، فيقول السائل: الحمد لله أنها صغيرة، والله يقول: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، فسأحلق لحيتي إن شاء الله، وربك غفور رحيم! فبدأنا بقواعدنا هذه نسهل على الناس الوقوع في المعاصي، كمن يقول: إن إركاب المرأة الأجنبية في السيارة والأكل معها صغيرة، وليست بكبيرة؛ لأنها لم تذكر في النصوص الشرعية، ولم يتوعد صاحبها بلعنة، أو غضب، أو نار.

مثل هذه المسائل تذكر للعلماء وطلبة العلم في المجالس، ولا تذكر للعوام، والعامي إذا سمع مثل هذا قال: في كل حياتنا يخوفوننا، وانتبه من كذا ولا تفعل كذا..، وهو في الأخير صغيرة! هكذا العوام يتصورون.

ولهذا من أدب الفتوى إذا سألك العامي أو بعض طلاب العلم الصغار عن مسألة، وترى أنها محرمة، أو أن عامة أهل العلم على تحريمها، أو أن النصوص الشرعية تؤيد تحريمها فليكن جوابك إذا سألك: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، أشعره أنه وقع في إشكال، أشعره أنه وقع في محظور، أشعره أنه يجب عليه التوبة، تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله الذي أيقظ همتك لأن تسأل، الحمد لله الذي جعلك تتوب من هذا الذنب، أشعره أنه نجا بعد أن غرق في وحله الغارقون، وهذا مهم جداً لطالب العلم.

منهجية طالب العلم في الرد على المخالف

ومن المسائل أيضاً: أنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكون كل اهتماماته في التأليف هي الردود على المخالف، وأقصد به المخالف في الفروع لا في الاعتقاد، أما الاعتقاد فيجب أن نبين مسائل الاعتقاد ونظهرها للناس، ونرد على المخالفين حتى لا يقع الناس في المحرم، لكن نحن نتكلم عن مسائل الفروع التي للعلماء منها كلام، قال تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فينبغي ألا يتوسع طالب العلم في الردود بحيث يكون كل كتاباته وبحوثه ردوداً في مسائل الفروع التي يسع فيها الخلاف، وربما إذا كبر تغير رأيه، ويصعب عليه أن يغير رأيه بعد أن تحمس وقت شبابه، ولأجل هذا فإن الإمام الشافعي يقول: ولو أردت أن أجعل لكل مقالة كتاباً لفعلت، ولكن ليست هذه من طريقتي، يعني: ليس هذا من هديي، ولو أردت أن أجعل لكل صاحب مقالة أخطأ في فتوى وغيره كتاباً في الرد عليه لفعلت، ولهذا تجد الأئمة -أعني أئمة السلف- ما علقوا ردوداً في مسائل إلا في مسائل الاعتقاد، أما الفروع الفقهية فإنهم يذكرونها عابرة في شرح كتاب، أو في تفسير حديث، أو في غريب حديث، ويتكلمون فيها؛ لأن الاهتمام الزائد إنما هو في جمع النصوص، والمسألة مما يسع فيها الخلاف، أعني: المسائل التي يسع فيها الخلاف تجعل الإنسان يعتريه الهوى شاء أم أبى.

هذه مقدمة وجيزة أحببت أن أذكرها لكي تكون نبراساً لطالب العلم الذي يبحث المسائل العصرية، أو يريد أن يبحث المسائل المستجدة في بحوث الماجستير أو الدكتوراه، أو بحوث الترقية، أو البحوث الصفية.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

أما بعد:

فإن بعض طلاب العلم المبتدئين حينما يطالب بأن يرجح فعندما يأتي دليل لأحد القولين يقول: وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فالحديث محمول على كذا، ويحمل على كذا، ثم يأتي بالاحتمالات العقلية لتخرج من وهج النص الإيماني الشرعي، ثم يقول بعد ذلك: والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال!

وهذه القاعدة أيضاً قاعدة مظلومة، وهذا مخطئ، فالاحتمال الوارد بالنصوص الشرعية ليس هو الاحتمالات العقلية؛ لأن الاحتمالات العقلية لا تتناهى، ولكن المقصود الاحتمال الوارد بنص شرعي، مثل قصة خروج الضعفة من مزدلفة، تقول أنت مثلاً: يجوز أن يخرج الضعفة بعد منتصف الليل، وأما ما ورد من حديث أسماء بنت أبي بكر عندما قالت لغلامها: هل غاب القمر؟ فإن ذلك إنما حكت ما وقع لها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تخرج قبل ذلك، وهذا احتمال بدليل، أما أن نتطاول على النصوص الشرعية ونخرجها عن مدلولاتها وعن مرادها إلى احتمالات ربما تصيب وربما لا تصيب فإن هذا ظلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [2] 2268 استماع
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [3] 2215 استماع