عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

أما بعد:

كنا قد ذكرنا سابقاً مسائل تتعلق بشروط عقد النكاح، والشروط في العقد، وهنا سوف نتحدث عن بعض المسائل:

المسألة الأولى: أثر الأمراض المعدية في إثبات الخيار بين الزوجين في فسخ النكاح أو عدمه، وهي لها علاقة بمسألة شروط العقد، والشروط في العقد، وهي موجودة في زماننا اليوم، ومع الأسف الشديد كل يوم تزداد بازدياد الانفتاح على العالم الخارجي.

إن أعظم مقصد من مقاصد النكاح هو الألفة والسكن والاستمتاع، وبسبب وجود خلل في هذا المقصد وجد خلاف بين أهل العلم، وسبب الاختلاف اعتبار العلماء للمناسبات والقياس والعلل من عدمه، فمن رأى الأخذ بالعلل والأقيسة والمناسبات والحكم قال بها، وهم الأئمة الأربعة، ومن أخذ بالقياس، فإنه نفى ذلك وبالتالي لا يوجب الخيار بين الزوجين إذا ربطاه برابطة وثيقة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( واستحللتم فروجهن بكلمة الله )، وهذا هو مذهب الظاهرية، ولأجل هذا اختلف العلماء في حكم فسخ النكاح بالعيوب من عدمه.

القائلون بعدم ثبوت خيار الفسخ بالعيب وأدلتهم

المذهب الأول: قالوا: لا يثبت حق الفسخ للزوجة من زوجها إذا وجد به عيب، بل يجب عليها أن تصبر، وتسأل ربها الخلاص، أو تخالع. وأما الرجل فليس أمامه إلا أن يطلق أو يبقي! وهذا هو مذهب ابن حزم.

واستدل بأدلة -وهو كعادته رحمه الله يأخذ بالعمومات- فقال: النكاح حصل بين الزوجين بكلمة الله، ومن فرق بين الزوجين من غير نص من الكتاب أو السنة، فهو داخل في عموم قول الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]!

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن يقال: أما قولكم: إن النكاح حصل بكلمة الله فمسلم، وأما قولكم: إن التفريق لا بد أن ينص عليه صراحة من الكتاب أو السنة، فهذا على القول بعدم الأخذ بالقياس، ونحن نخالف الظاهرية في ذلك، وعلى هذا فيثبت الحكم الشرعي بدلالة الإيماء أو بدلالة الالتزام، أو بدلالة فحوى الخطاب، أو بدلالة دليل الخطاب، أو بغير ذلك من الدلالات التي تكلم فيها الفقهاء رحمهم الله في كتب أصول الفقه، وعلى هذا فإن التفريق حصل بشرع الله، علمه من علمه، وجهله من جهله.

واستدل أبو محمد بن حزم بحديث امرأة رفاعة القرظي كما في حديث عائشة : ( أن امرأة رفاعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني تزوجت رفاعة وإنه طلقني فبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة! فأخذت بهدبة من جلبابها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟! لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ).

قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل شكايتها، بل قال لها: لا، فلو كان هناك فسخ للعنة، أو لعدم استمتاع أحد الزوجين لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنها قالت: ( وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة )، يعني: لا ينتشر ذكره.

أما الجمهور فردوا على هذا الدليل، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل شكايتها بمعنى: لا يجوز لها أن ترجع إلى زوجها الأول حتى يذوق الزوج الثاني عسيلتها، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يناقشها عن عبد الرحمن بن الزبير هل لها أن تفسخ أم لا؟ ولكن قال: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ) ، فلو فرض أن عبد الرحمن بن الزبير عنين، فإنه ليس لها حق أن ترجع إلى رفاعة ، ولو جاز لها أن تفسخ من عبد الرحمن بن الزبير فلا بد أن تتزوج زوجاً ثالثاً، هذا وجه الدلالة.

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أشار إلى أن رجوعها إلى الزوج الأول مشروط بحصول الوطء من الزوج الثاني أو الثالث أو الرابع.

واستدلوا كذلك بما رواه الشعبي عن علي أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فوجدها مجنونة أو مجذومة أو برصاء فهي امرأته إن شاء طلق، وإن شاء أمسك.

وجه الدلالة: أن علياً رضي الله عنه لم يثبت الفسخ للزوج إذا وجد بامرأته عيباً يمنع من الاستمتاع بها، وهذا الأثر معناه صحيح في المسألة لكن الشعبي وهو عامر الشعبي لم يسمع من علي بن أبي طالب ، فهو ضعيف، ولأجل ذلك ضعف الحديث أبو عمر بن عبد البر و ابن عبد الهادي و ابن حجر و ابن حزم وغير واحد من أهل العلم.

والأثر الآخر ما رواه البيهقي من قول ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الحرة لا ترد بعيب، وهذا الأثر يرويه إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، و إبراهيم النخعي لم يسمع من عبد الله بن مسعود ؛ لأن إبراهيم النخعي قال كما روى عطاء عنه: أتظنون أننا نحدث عن الصحابة من غير إسناد؟ ما حدثتكم عن رجل عن عبد الله بن مسعود فهو ما حدثتكم عنه، يعني: ما سمعت إلا من هذا الرجل، وهم أصحاب ابن مسعود ، كـعلقمة و الأسود و أبي وائل وغير ذلك، وما حدثتكم عن عبد الله بن مسعود فقد سمعته عن أكثر من واحد من أصحاب ابن مسعود ، فإذا قال إبراهيم النخعي : عن الأسود عن ابن مسعود ، فهذا أقوى من أن يقول: عن ابن مسعود ؛ لأنه أخبرنا أنه لا يحدث عن عبد الله بن مسعود إلا وقد سمعه عن أكثر من اثنين من أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب ابن مسعود ثقات.

وهذا النوع وهو رواية النخعي عن عبد الله بن مسعود يسميه علماء الحديث مبهماً، وقد ذكر بعض المتأخرين أن الجهالة هي الإبهام، والصحيح خلاف ذلك، فإن المصحح ربما صحح الحديث لعلمه أن الراوي عن هذا الرجل هو أحد ثقتين، ولكنه لا يستطيع أن يجزم أيهما، فيقول: إنه مبهم، والله أعلم.

ولهذا إذا قيل: مجاهيل الصحابة، فإن هذا خطأ لأنه لا يقال: مجاهيل لرجال الصحابة؛ لأن الصحابي لا يسمى مجهولاً، ولا يطلق كلمة مجهول إلا من كان مجهول العين أو مجهول الحال، ونحن نعلم أن كل الصحابة ثقات عدول، وقد تكلم العلماء على الحافظ البيهقي حينما يروي عن كل صحابي لا يعرف، فيقول: إنه مجهول، فتكلم فيه الحافظ ابن حجر وغيره رحمهم الله.

وعلى كل حال: فحديث ابن مسعود هذا معارض بأقوال صحابة غيره، فهو معارض بقول عمر وقول معاوية وقول ابن عباس وغير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

القائلون بثبوت خيار الفسخ بالعيب وأدلتهم

القول الثاني: هو ثبوت الخيار لأحد الزوجين إذا وجد بصاحبه عيباً يمنعه من الاستمتاع، أو إن شئت فقل: إذا وجد بصاحبه عيباً من العيوب التي ذكروها كما سوف يأتي بيانه، هذا قول الأئمة الأربعة، وهو قول عمر و ابن عباس و معاوية و سعد بن أبي وقاص وغير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية و ابن القيم.

وهذا هو الحق، وذلك لأن الأصل حرمة كتمان العيب، فإذا حرم كتمان العيب في السلعة التي ربما يكون مقصوده منها ثمنها، فكتمان عيب الزوجة الذي يكون المقصود منها هو الاستمتاع بها من باب أولى كما قال ابن القيم ، ولما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فوجدها برصاء أو مجنونة أو مجذومة فلها المهر بما استحل من فرجها، وله الرجوع على من غره بها، يعني: إذا استمتع بها فلها المهر، ولكن إذا كانت هي التي غرته رجع عليها بالمهر، وإن كان الذي غره وليها رجع على الولي بالمهر، وإن كان الذي غره الخطاب أو الخطابة فله أن يرجع عليهما، والله أعلم.

واستدلوا بأحاديث لكنها لا تثبت، من ذلك ما رواه جميل بن زيد عن كعب بن عجرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فوجد في كشحها بياضاً، فقال: الحقي بأهلك )، وفي رواية: ( دلستم عليّ )، وهذا الحديث مشهور في كتب الفقه، ولكنه حديث ضعيف، وذلك لأن الراوي له جميل بن زيد مع ضعفه اضطرب، فمرة يرويه عن ابن عمر ، ومرة يرويه عن كعب بن عجرة ، فهو حديث ضعيف.

أقوال العلماء في حصر العيوب التي يفسخ بها النكاح

إذا ثبت هذا وهو أن العيب يجوز الفسخ به من أحد الزوجين، إن هؤلاء الأئمة الأربعة اختلفوا، هل العيوب محصورة أم معللة؟

القول الأول: المسألة فيها قولان: ذهب جمهور الفقهاء وهو المشهور عن الأئمة الأربعة إلى أن العيوب محصورة، قالوا: لأن الأصل وجوب إبقاء عقد النكاح، ولا يثبت العيب إلا بدليل، وقد ثبت الدليل الشرعي. واستدلوا بحديث: ( فوجد في كشحها بياضاً )، قالوا: فيدخل فيه كل ما كان مثله أو دونه كما قال ذلك ابن رشد في كتابه (بداية المجتهد)، ولهذا بعضهم جعل العيوب أربعة، وبعضهم جعل العيوب سبعة، وبعضهم جعل العيوب تسعة، وهي: البرص، والجذام، والقرع، والجنون، والفتق، والرتق، والبخر، وغير ذلك من العلل والعيوب.

القول الثاني في المسألة: أن العيوب ليست محصورة، وهذا رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله و ابن القيم، وقالوا: إن كل ما يمنع أحد الزوجين من الاستمتاع بالآخر فإنه يثبت معه الخيار؛ لأن الله يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، فإذا حصل بهذا العيب نفور من أحد الزوجين فإنه يمنع من أعظم مقصود من مقاصد النكاح وهو الاستمتاع، وهذا هو الراجح والله أعلم.

مدى ثبوت حق الخيار في الفسخ عند وجود العيب في الزوجين معاً

هنا مسألة ثانية: إذا كان كلا الزوجين مصاباً بهذا العيب فهل لأحدهما أن يطلب الفسخ؟ ولنفرض أن كلا الزوجين مصاباً بالجذام، وكان أحدهما لا يريد الآخر، فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول وهو قول عند الشافعية وعند الحنابلة، قالوا: إنما يثبت الخيار إذا كان لأحد الزوجين عيب مما ليس في الآخر، وأما إذا كان فيهما العيب نفسه فلا يثبت لهما الخيار، قالوا: لأن الأصل إبقاء النكاح، وطلب الفسخ ممن هو فيه نفس العيب غير صحيح.

القول الثاني وهو رواية عند الإمام أحمد ، وهو اختيار ابن تيمية فيما أحفظ، قالوا: إنه يثبت الخيار لأحد الزوجين على الآخر، ولو كان فيهما ذلك العيب لأمور:

الأمر الأول: أن وجود العيب من كلا الزوجين ربما يؤثر ذلك على الأولاد سلباً، فإذا كان في أحدهما وليس في الآخر ربما قلل ذلك على الأولاد، أما إذا كان في كليهما هذا المرض، فإن تحققه في الأولاد يكون بإذن الله لا محالة.

الأمر الثاني: أن النفوس في العادة تستقذر الشيء في الغير ما لا تستقذره في نفسها، يقولون: كالمخاط والبصاق، ربما تشين نفسه إذا كان من الغير، لكن إذا كان منه فلا، وهذا القول أرجح والله أعلم؛ لقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، وهذا السكن لا يتأتى لمن وجد نفوراً من صاحبه.

المذهب الأول: قالوا: لا يثبت حق الفسخ للزوجة من زوجها إذا وجد به عيب، بل يجب عليها أن تصبر، وتسأل ربها الخلاص، أو تخالع. وأما الرجل فليس أمامه إلا أن يطلق أو يبقي! وهذا هو مذهب ابن حزم.

واستدل بأدلة -وهو كعادته رحمه الله يأخذ بالعمومات- فقال: النكاح حصل بين الزوجين بكلمة الله، ومن فرق بين الزوجين من غير نص من الكتاب أو السنة، فهو داخل في عموم قول الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]!

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن يقال: أما قولكم: إن النكاح حصل بكلمة الله فمسلم، وأما قولكم: إن التفريق لا بد أن ينص عليه صراحة من الكتاب أو السنة، فهذا على القول بعدم الأخذ بالقياس، ونحن نخالف الظاهرية في ذلك، وعلى هذا فيثبت الحكم الشرعي بدلالة الإيماء أو بدلالة الالتزام، أو بدلالة فحوى الخطاب، أو بدلالة دليل الخطاب، أو بغير ذلك من الدلالات التي تكلم فيها الفقهاء رحمهم الله في كتب أصول الفقه، وعلى هذا فإن التفريق حصل بشرع الله، علمه من علمه، وجهله من جهله.

واستدل أبو محمد بن حزم بحديث امرأة رفاعة القرظي كما في حديث عائشة : ( أن امرأة رفاعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني تزوجت رفاعة وإنه طلقني فبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة! فأخذت بهدبة من جلبابها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟! لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ).

قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل شكايتها، بل قال لها: لا، فلو كان هناك فسخ للعنة، أو لعدم استمتاع أحد الزوجين لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنها قالت: ( وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة )، يعني: لا ينتشر ذكره.

أما الجمهور فردوا على هذا الدليل، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل شكايتها بمعنى: لا يجوز لها أن ترجع إلى زوجها الأول حتى يذوق الزوج الثاني عسيلتها، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يناقشها عن عبد الرحمن بن الزبير هل لها أن تفسخ أم لا؟ ولكن قال: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ) ، فلو فرض أن عبد الرحمن بن الزبير عنين، فإنه ليس لها حق أن ترجع إلى رفاعة ، ولو جاز لها أن تفسخ من عبد الرحمن بن الزبير فلا بد أن تتزوج زوجاً ثالثاً، هذا وجه الدلالة.

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أشار إلى أن رجوعها إلى الزوج الأول مشروط بحصول الوطء من الزوج الثاني أو الثالث أو الرابع.

واستدلوا كذلك بما رواه الشعبي عن علي أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فوجدها مجنونة أو مجذومة أو برصاء فهي امرأته إن شاء طلق، وإن شاء أمسك.

وجه الدلالة: أن علياً رضي الله عنه لم يثبت الفسخ للزوج إذا وجد بامرأته عيباً يمنع من الاستمتاع بها، وهذا الأثر معناه صحيح في المسألة لكن الشعبي وهو عامر الشعبي لم يسمع من علي بن أبي طالب ، فهو ضعيف، ولأجل ذلك ضعف الحديث أبو عمر بن عبد البر و ابن عبد الهادي و ابن حجر و ابن حزم وغير واحد من أهل العلم.

والأثر الآخر ما رواه البيهقي من قول ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الحرة لا ترد بعيب، وهذا الأثر يرويه إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، و إبراهيم النخعي لم يسمع من عبد الله بن مسعود ؛ لأن إبراهيم النخعي قال كما روى عطاء عنه: أتظنون أننا نحدث عن الصحابة من غير إسناد؟ ما حدثتكم عن رجل عن عبد الله بن مسعود فهو ما حدثتكم عنه، يعني: ما سمعت إلا من هذا الرجل، وهم أصحاب ابن مسعود ، كـعلقمة و الأسود و أبي وائل وغير ذلك، وما حدثتكم عن عبد الله بن مسعود فقد سمعته عن أكثر من واحد من أصحاب ابن مسعود ، فإذا قال إبراهيم النخعي : عن الأسود عن ابن مسعود ، فهذا أقوى من أن يقول: عن ابن مسعود ؛ لأنه أخبرنا أنه لا يحدث عن عبد الله بن مسعود إلا وقد سمعه عن أكثر من اثنين من أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب ابن مسعود ثقات.

وهذا النوع وهو رواية النخعي عن عبد الله بن مسعود يسميه علماء الحديث مبهماً، وقد ذكر بعض المتأخرين أن الجهالة هي الإبهام، والصحيح خلاف ذلك، فإن المصحح ربما صحح الحديث لعلمه أن الراوي عن هذا الرجل هو أحد ثقتين، ولكنه لا يستطيع أن يجزم أيهما، فيقول: إنه مبهم، والله أعلم.

ولهذا إذا قيل: مجاهيل الصحابة، فإن هذا خطأ لأنه لا يقال: مجاهيل لرجال الصحابة؛ لأن الصحابي لا يسمى مجهولاً، ولا يطلق كلمة مجهول إلا من كان مجهول العين أو مجهول الحال، ونحن نعلم أن كل الصحابة ثقات عدول، وقد تكلم العلماء على الحافظ البيهقي حينما يروي عن كل صحابي لا يعرف، فيقول: إنه مجهول، فتكلم فيه الحافظ ابن حجر وغيره رحمهم الله.

وعلى كل حال: فحديث ابن مسعود هذا معارض بأقوال صحابة غيره، فهو معارض بقول عمر وقول معاوية وقول ابن عباس وغير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثاني: هو ثبوت الخيار لأحد الزوجين إذا وجد بصاحبه عيباً يمنعه من الاستمتاع، أو إن شئت فقل: إذا وجد بصاحبه عيباً من العيوب التي ذكروها كما سوف يأتي بيانه، هذا قول الأئمة الأربعة، وهو قول عمر و ابن عباس و معاوية و سعد بن أبي وقاص وغير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية و ابن القيم.

وهذا هو الحق، وذلك لأن الأصل حرمة كتمان العيب، فإذا حرم كتمان العيب في السلعة التي ربما يكون مقصوده منها ثمنها، فكتمان عيب الزوجة الذي يكون المقصود منها هو الاستمتاع بها من باب أولى كما قال ابن القيم ، ولما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فوجدها برصاء أو مجنونة أو مجذومة فلها المهر بما استحل من فرجها، وله الرجوع على من غره بها، يعني: إذا استمتع بها فلها المهر، ولكن إذا كانت هي التي غرته رجع عليها بالمهر، وإن كان الذي غره وليها رجع على الولي بالمهر، وإن كان الذي غره الخطاب أو الخطابة فله أن يرجع عليهما، والله أعلم.

واستدلوا بأحاديث لكنها لا تثبت، من ذلك ما رواه جميل بن زيد عن كعب بن عجرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فوجد في كشحها بياضاً، فقال: الحقي بأهلك )، وفي رواية: ( دلستم عليّ )، وهذا الحديث مشهور في كتب الفقه، ولكنه حديث ضعيف، وذلك لأن الراوي له جميل بن زيد مع ضعفه اضطرب، فمرة يرويه عن ابن عمر ، ومرة يرويه عن كعب بن عجرة ، فهو حديث ضعيف.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [2] 2258 استماع
عقود الأنكحة وتطبيقاتها المعاصرة [1] 1589 استماع