تفسير سورة الفتح [8-10]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح:8] . قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) التبشير: هو الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، والبشرة هي ظاهر الجلد؛ لأنها تتغير بأول خبر يرد عليها، والغالب أنه يستعمل في السرور مقيداً للخير المبشر به، وغير مقيد أيضاً، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيداً منصوصاً على الشر المبشر به، ففي الخير إما أن يأتي مقيداً وإما أن يأتي بدون قيد، لكن التبشير بالغم والشر لا يأتي إلا مقيداً بالشر المنصوص عليه، كما قال سبحانه وتعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]َ. يقال: بشرته، وبشرته بشارة، وبشر يبشر إذا فرح. والبَشارة بفتح الباء، والبُشرى: ما يعطاه المبشر، وتباشير الشيء أوله، قال تبارك وتعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، والبشارة هي: الخبر بما يسر، وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء كما ذكرنا قوله تعالى: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:7]، ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر وقال الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: البِشارة، أو البَشارة قد تطلق على الإخبار بما يسوء، وهذا الأسلوب من أساليب اللغة العربية. قوله: ((وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) الإنذار: هو الإبلاغ والإعلان، ولا يكاد يستعمل إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز والاحتياط عن هذا الشيء الذي يأتيك الإنذار به، فإن لم يتسع زمنه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً، قال الشاعر: أنذرت عمراً وهو في مهل قبل الصباح فقد عصى أمر ويقال: تناذر بنو فلان هذا الأمر، إذا خوف بعضهم بعضاً. قال الله تبارك وتعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، يعني: بعد هذا الإنذار، ولم يبين هنا هذه الحجة التي كادت تكون للناس عليه، وبين هذه الحجة في قوله سبحانه وتعالى في سورة طه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، وقال أيضاً في سورة القصص: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47]، وقال عز وجل: لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]. فالمقصود: أن من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار، وقوله في هذه الآية: ((لِتُنذِرَ بِهِ))، هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين اثنين، وإن كان المفعولان لم يذكرا، والتقدير: لتنذر به الكافرين عذاباً أليماً. وهذا الإنذار بينه الله في قوله عز وجل: وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، وقال أيضاً: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ [يس:6]، وهذا بيان للمفعول الأول المحذوف. أما المفعول الثاني فبينه قوله تعالى: لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2] وقوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل:14]وقوله: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا [النبأ:40]، ونحوها من الآيات. وقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى فقال: لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2] فيفهم من هذا أن الإنذار هنا للكفار: ((لِتُنذِرَ بِهِ)) يعني: الكفار، فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل على ذلك قوله تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، وهنا في آية الفتح قال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح:8]، وقال: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فهذا أيضاً يشير إلى قوله: لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]. وقال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]؛ لكن جاءت آيات فيها قصر الإنذار على المؤمنين والكافرين، وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه، يعني: إن كانت الآيات السابقة استعملت لفظ الذكرى أو التذكير في حق المؤمنين والإنذار للكافرين؛ لكن لا ينافي أن يكون الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في آيات أخرى كما في قوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه كالعدم، يعني: الكافر إذا أنذر ولم ينتفع بالإنذار فكأنه لم ينذر. إذاً: خلاصة الكلام أن الإنذار يطلق في القرآن على إطلاقين: الأول: إنذار عام لجميع الناس، كما في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، وقال عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، للعالمين مؤمنين وكافرين، فهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: (( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ))؛ لأن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الإنذار دون غيرهم. الثاني: إنذار خاص بالكافرين؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله تعالى: (( لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ))، وقال في آية الأعراف: لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]، والإنذار في لغة العرب: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.

قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9]، بعض القراء قرأ: (ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقره ويسبحوه بكرة وأصيلاً). قال الألوسي رحمه الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، كقوله سبحانه: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، كذلك هذه الآية الخطاب بدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) فالخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم دخل فيه المؤمنون بقوله: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى آخره، تماماً كقوله عز وجل: ((يا أيها النَّبِيُّ))، ثم قال: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فهذا من باب التغليب، غلب فيه المخاطب على الغيب، ونظيره قوله سبحانه وتعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، ثم قال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان:22]، وقال عز وجل: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس:22]. إذاً: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، والمعنى: له وللمؤمنين، قال القرطبي : وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ((يا أيها النَّبِيُّ))، فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له، قال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فاللفظ والمعنى هنا يقصد به النبي وحده، فلذلك ينص على لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا أراد الخطاب بالمؤمنين قال: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إلى آخره. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بلا شك بالإيمان بالرسالة كقوله تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يعني: يا أيها النبي! أو يا أيها الرسول! ((شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) (لِتُؤْمِنُوا) أي: أنت -أيها النبي- مكلف بهذا الإيمان، وكذلك المؤمنون مكلفون به، فهو مخاطب بالإيمان بالرسالة كالأمة. وقيل: الخطاب في (أَرْسَلْنَاكَ) للنبي عليه الصلاة والسلام، وفي (لِتُؤْمِنُوا) لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.

معنى التعزير في قوله: (وتعزروه)

قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) التعزير هو: النصرة مع التعظيم، قال تبارك وتعالى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة:12]. والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصره بقمع ما يضره عنه، والثاني: نصره بقمعه عما يبغضه، والتعزير الذي هو النصرة مع التعظيم هو المطلوب في حق النبي وكل الأنبياء، فهي نصره بقمع ما يضره عنه، أما التعزير الذي هو دون الحد فهو: نصره بقمعه عما يضره من المعاصي التي يرتكبها وسيعزر من أجلها، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته، وفي الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم)، فهذه نصرة المؤمن.قال ابن كثير : ( وَتُعَزِّرُوهُ )، قال ابن عباس وغير واحد: تعظموه.وقال القرطبي : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) أي: تعظموه وتفخموه.والتعزير: التعظيم والتوقير، وقال قتادة : تنصروه وتمنعوه ومنه التعزير في الحد؛ لأنه مانع. قال القطامي : ألا بترت ميٌ بغير سفاهةتعاتب والمولود ينفعه العذروقال ابن عباس وعكرمة : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) تقاتلون معه بالسيف، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه، وقال الألوسي : وتعزروه أي: تنصروه، كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً، وأخرجه جماعة عن قتادة.والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، إما أن المقصود تعزروا الله سبحانه وتعالى، أو تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تنصروه مع تعظيمه، وهذا هو الأقرب.

معنى التوقير في قوله: (وتوقروه)

قوله تعالى: (وَتُوَقِّرُوهُ)، هذا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فلا جدال أنها في حق الله سبحانه وتعالى. والوقار: هو السكون والحلم، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، الرجاء هنا بمعنى: الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم للعقوبة؟ وعن مجاهد والضحاك قالا: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟ وقيل: الوقار، الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أي: اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؟! وقال ابن كثير : (ويوقروه) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام. وقال القرطبي: (وتوقروه) أي تتوجوه، وقيل: تعظموه، والتوقير التعظيم، (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ))، الهاء هنا عائدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: تسبحوا الله بكرة وأصيلاً أي: عشياً. قول آخر: إن الضمائر كلها لله تبارك وتعالى، فيكون معنى: (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) أي: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك، واختار هذا القول القشيري . وبعض المفسرين قال: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) يعني: تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى، كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: ( وَتُسَبِّحُوهُ ) لله عز وجل. فعلى أي الأحوال هناك خلاف بين المفسرين في هذه الضمائر إلى من تعود، وفي هذين الفعلين بالذات: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) فمن قائل: إنها للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: إنها لله عز وجل.

معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه)

قوله تعالى: ( وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) السبح: هو المرور السريع في الماء، يقال: سبح سبحاً وسباحة، وأطلق على مر النجوم في الفلك، نحو قوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وأطلق أيضاً على جري الفرس، فجري الفرس يطلق عليه سباحة، كما في قوله سبحانه وتعالى: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل، كما في قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7]. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله: المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية، قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143]، والمقصود بالتسبيح هنا: الصلاة، يعني: أنه كان من المصلين، ويستعمل التسبيح بمعنى التنفل، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها الذي تعرفون، ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة)، وهذا حديث صحيح. (فصلوا معهم) يعني: صلوا الفرائض أولاً لوقتها، ثم إذا خرج هؤلاء الأمراء الذين يؤخرون الصلاة فصلوها معهم سبحة يعني: انووا بها النافلة، فصلاة النافلة يطلق عليها تسبيح، وكما في حديث رواه مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه في الحج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) والحديث رواه مسلم عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في طريق مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى - أي: نحو جهة المكان الذي صلى فيه- فرأى ناساً قياماً صلوا معه، فقال: ما يصنع هؤلاء؟! قلت: يسبحون، قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) أي: لو أني كنت أزيد فسأزيد في الفريضة، فهو أفضل، ثم قال: (يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر ، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان ، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]). إذاً: الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المسافر يصلي الفريضة فقط، وله أنه يصلي ركعتي الفجر والوتر، ويمكن أن يصلي صلاة الضحى إلى ثمان ركعات. ومن الأجوبة الحسنة للعلامة ابن عثيمين حفظه الله تعالى أنه أتاه في من -وكنت في هذا المجلس- رجل كأنه بدوي ثائراً هائجاً مائجاً يصيح ويهاجم الإخوة، فأخذ الشيخ يتلطف معه وقال له: ما لك؟ أو ما الذي أغضبك؟ فقال: تنفلت في السفر وإذا بهم ينهونني عن الصلاة وعن التنفل؟! فقال له: من قال لك: لا تتنفل؟ لك أن تصلي الوتر من ركعة إلى إحدى عشرة ركعة، فالوتر أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، كلها تكون وتراً، وقال له: لك أن تصلي الضحى من ركعتين إلى ثمان، وتصلي ركعتي الفجر. والحقيقة أن الشيخ ما خالف المذهب الراجح، وهو أنه لا يتنفل في السفر إلا ما ذكرنا؛ لكنه أقنعه بالعدد الكبير الذي هو أقصى ما يمكن أن يتنفل به، وهذا الجواب من محاسن الأجوبة. وروى مسلم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة -يسبح يعني: يتنفل- قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، فيمكن للإنسان في السفر أن يتنفل وهو راكب الراحلة، سواء كانت جملاً أو سيارة أو طائرة أو قطاراً، فيمكن أن يتنفل، إذ الأمر في النافلة أسهل من الفريضة. إذاً: قلنا: السبح في اللغة: المر السريع في الماء، مثل السباحة، ويطلق على مر النجوم في السماء، كما قال تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، ويطلق على جري الفرس: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7]، ويطلق على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ويكون في هذه الحالة كأنه المر السريع أيضاً في عبادة الله تعالى، المر السريع يفهم منه: المسارعة إلى الطاعات والمنافسة فيها، والاجتهاد فيها، وليس المقصود بالمر السريع أن يدرك الصلاة بسرعة ويصلي صلاة ليس فيها خشوع، لا، المقصود: الإسراع إلى عبادة الله سبحانه وتعالى كما قال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]. وقلنا: إنه يطلق على العبادات قولاً أو فعلاً أو نية: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] يعني: المصلين، وأشرنا على أنها تطلق على النوافل كذلك. ويقول تبارك وتعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء:44]، ولا شك أن هذا -والله تعالى أعلم- تسبيح على الحقيقة، من غير أن نفقهه، خلافاً لمن زعم أن التسبيح يراد به أن من رآه قال: سبحان الله، لا، بل هو تسبيح على الحقيقة؛ لكننا لا نفهم هذا التسبيح، ودليله قوله تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، فلو كان معنى (التسبيح) أنه من رآها قال: سبحان من خلقك مثلاً؛ لما كان بالعشي والإشراق، لكن المعنى أن الجبال كانت تحافظ مع داود على أذكار الصباح والمساء (( بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ )) وكانت تنطق وترفع صوتها بذكر الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل لداود عليه السلام. وقال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء:44]، و(سبحان) مصدر، مثل غفران، قال الله: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم:17]، وقالت الملائكة: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]. قال القرطبي: في قوله تعالى: (وتسبحوه) وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح، فمعنى قوله: (سبحان الله) يعني: أنزه الله عن كل قبيح، وأنفي عنه كل نقص، وكثيراً ما يقترن التسبيح بالتحميد؛ لأنه إذا كان التسبيح تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص، فإن الحمد هو إثبات كل كمال له، فهو المستحق للمدح والثناء جل جلاله؛ فلذلك كثيراً ما يقترن التسبيح بالحمد كقولك: سبحان الله وبحمده. الوجه الثاني في قوله: ( وَتُسَبِّحُوهُ ) هو فعل الصلاة التي فيها تسبيح، (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه للأصائل جمع أصيل. وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42] أي: أشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال مجاهد : وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب، كل هؤلاء يجوز لهم أن يسبحوا الله سبحانه وتعالى، ويذكروه بهذه الأذكار: لا إله إلا الله، الحمد لله، والله أكبر، سبحان الله.. وهكذا. وقيل: (وسبحوه) يعني: ادعوه، قال جرير: فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفاً دعا ربه فاختاره حين سبحا يعني: حين دعاه. وقيل المراد: صلوا لله بكرة وأصيلاً، والصلاة: تسمى تسبيحاً، (وَالآصَالِ) العشايا كما ذكرنا، قال تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، والآصال: هي العشيات. قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، والمراد: ظاهرهما، يعني: الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين بالذات لما لهما من الفضيلة؛ لأنهما أشرف أوقات الذكر في النهار كله، وقت الغدو والعشي. قول آخر: المراد بقوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) جميع النهار؛ لأنه يكنى عن جميع الشيء بطرفيه، كما تقول: جزت المدينة شرقاً وغرباً، لا تقصد أنك فقط أتيت إلى الطرف الشرقي والطرف الغربي؛ لكن أردت أن تقول كلها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر. وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، فالأمر بذكر الله سبحانه وتعالى بين كيفيته في آيات أخر، كما في قوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمر

العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات

كل عبادة ربطت بوقت، فالصلاة كقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، حتى النافلة نمنع عنها في أوقات الكراهة، والحج له وقت، والصيام له وقت، حتى الصيام توجد أيام يحرم علينا أن نصومها، وهكذا كل عبادة لها وقت محدود، أما الذكر فهو العبادة الوحيدة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في كل الأوقات والأحوال والأحيان قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، فمعناها: فاذكروا الله في كل أحوالكم؛ لأن الإنسان إما قائم، وإما قاعد، وإما مضطجع، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً). فاذكر هذا يعم جميع أحوال الإنسان، وقد أمر الله بالإكثار من الذكر بقدر المستطاع كما قال الله: (( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ))، قال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].. وهكذا. فالذكر والفكر ينبغي أن يكونا في جميع الأوقات أو أكثرها؛ لأن النفس إذا تركت إلى طبعها فإنها بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا، فإن صرف العبد شطر أوقاته في تدبير الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً، والشطر الآخر إلى العبادات، فإن الطبع يرجح جانب الميل إلى الدنيا؛ لأن هذا يوافق الطبع والهوى، فإذا كان الوقت متساوياً، للدنيا نصف الوقت، وللدين أو ذكر الله النصف الآخر، فيأتي الهوى ويرجح خدمة الدنيا، فإذا كان الوقت متساوياً فأنى يتقاومان والطبع يرجح أحدهما؟! إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا، ويصفو في طلبها القلب ويتجرد، فهذه كلها ترجح جانب الميل، ونحن قلنا: إن الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر، فالنصف الذي للدنيا هو الذي سيغلب؛ لأن الطبع يميل للدنيا، وظاهر الإنسان وباطنه يتعاونان معاً في تحصيل أمور الدنيا، والقلب إذا طلب أمور الدنيا يصفو بطلبها ويتجرد لها، أما رد النفس إلى العبادات والذكر فلا يكون إلا بتكلف ومجاهدة، ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات، حتى الصلاة نفسها التي هي من النصف الآخر الديني، فكم من الناس من يدخل في الصلاة الدنيا، ويسبح في أودية الدنيا داخل الصلاة! حتى إن بعض الناس -وهذا من تلبيس إبليس- تتراكم عليه كل مشاكل الدنيا إذا دخل في الصلاة، من بداية تكبيرة الإحرام ولا تنتهي إلا مع التسليم، فهذا مما يدل على أن هذه وظيفة متخصصة للشيطان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوجد شيطان متخصص للوسوسة في الصلاة، فإذا دخلت في الصلاة يظل يذكرك بكل شيء نسيته، حتى تنصرف عن التفكر والتدبر في ذكر الله سبحانه وتعالى، والخشوع في الصلاة، فهذا واضح جداً أن هذا من الشيطان؛ أولاً: لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام. ثانياً: لأنه مجرد ما تسلم تنتهي المشاكل كلها، فلماذا الوسوسة في الصلاة بالذات؟! إذاً: هذا من كيد الشيطان للإنسان، فحتى العبادات لا تخلو من الوسوسة. بالمناسبة أذكر أحد الإخوة من الأطباء الكبار في الأمراض النفسية يعمل في المدينة، فكان يتكلم على أن من ضمن أساليب العلاج الخاص بالناس الذين يعانون الوسوسة: أن يربط كل ركعة بشيء معين، فمثلاً نقول له: الركعة الأولى تربطها بحاجة، الركعة الثانية تربطها بشيء، بحيث تذكر الجلسة فلا تسهو في الصلاة، فالمهم يقول: كنت في أحد المساجد في المدينة النبوية الطيبة، فالناس صلوا العشاء أو غيرها من الصلوات الرباعية فاختلفوا مع الإمام، هل صلى أربعاً أو صلى خمساً، بعدما انصرفوا من الصلاة اختلفوا، فأحد المصلين حلف أنهم صلوا أربعاً، قالوا له: كيف عرفت؟ قال: لأن عندي أربعة دكاكين، وأراجع حساب كل دكان في ركعة، فأنا راجعت حساب الدكاكين الأربعة في الصلاة! فهو مخصص كل ركعة في محل من أجل أن يراجع الحسابات، والله المستعان! فالشاهد: أن الإنسان عندما يطلب الدنيا قلبه يصفو لها تماماً، وعندما يطلب الآخرة تعتدي الدنيا عليه حتى في الوقت المخصص للآخرة، هذا إذا سلمت من الآفات كالرياء والبدعة.. وغير ذلك من الشوارد، فإذا قسمنا الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر فإنه سيتغلب جانب الدنيا؛ لأن الهوى والطبع وشح الأنفس يجلب الإنسان دائماً إلى الدنيا، فالكفة ستأتي من ناحية الدنيا. أما العبادات فالإنسان لا يستقيم عليها إلا بتكلف ومجاهدة، وحتى إخلاص القلب لا يسلم إلا في بعض الأوقات دون البعض، فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته. نحن لا نقول: يضيع واجباته الدنيوية؛ لكن نقول: الذكر عبادة يمكن أن تستصحب في كل الأحوال، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) أي: في كل الأحوال، فالمؤمن يذكر الله حتى وهو يشتغل شغلاً ميكانيكياً بآلة أو بيده، فما أسهل أن يشتغل لسانه بذكر الله، حتى إن عجز عن لسانه كما يكون مثلاً في حالة الخلاء فإنه يشتغل بالذكر بقلبه، كان جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا دخل الخلاء جعل الكتاب في يد أحد أبنائه، ويقول له: قف عند الباب واقرأ بصوت عال، حتى يغتنم الوقت الذي يقضيه في الخلاء في الاستفادة، فهو يمتنع من القراءة؛ لكن حفيده يقف عند الباب ويقرأ عليه بصوت عال! إذاً: لا بد أن يترجح وقت الذكر على أوقات الدنيا، حتى الإنسان إن كان مشتغلاً في الدنيا فهو يستطيع أن يشغل لسانه دائماً بذكر الله سبحانه وتعالى، وهو يمشي في الطريق، وهو يركب المواصلات؛ حتى يترجح جانب الدين على الدنيا. والدنيا هي سعي في طلب الرزق، والرزق مضمون؛ لكن الآخرة غير مضمونة، الجنة غير مضمونة، أما الزرق فالله سبحانه وتعالى قال فيه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه، لأدركه رزقه كما يدركه أجله) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالرزق مضمون تماماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها). فالرزق مكتوب ومضمون، ولا يمكن أبداً أن ينقص رزقك شيئاً، فنحن نشتغل بالمضمون عن غير المضمون، فالله قال في الآخرة: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41]، فنحن نجتهد بما هو مضمون عما ليس بمضمون، فمن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته؛ فليستوعب في طاعة الله أكثر أوقاته، فإن لم تكن من أهل البصيرة فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتبسه بنور الإيمان، فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه، وأرفعهم درجة لديه: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل:7-8]، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان:26]. وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق:39-40]. وقال عز وجل: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور:48-49]. وقال تعالى: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]. وقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]. ثم انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفائزين من عباده، وبماذا وصفهم؟! قال عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، وقال عز وجل: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]. وقال سبحانه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] يعني: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون. وقال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]. إذاً: الطريق إلى الله سبحانه وتعالى هو مراقبة الأوقات، وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام، فالذكر المقصود منه تغيير الصفات وترقيق القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل)، وهذا التأثير لا يتأتى بأن يأتي الإنسان بذكر ثم ينقطع، ولا يحدث تأثيراً في القلب إلا بالمدوامة ولو بالقليل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى أدومه وإن قل)، فالذكر القليل مع الدوام يؤثر، وعند الان

من فضائل الذكر

القلب لا يحصل التأثير فيه إلا بالمداومة على الذكر، فعمل قليل تداوم عليه أفضل من عمل كثير لا تداوم عليه؛ لأن هذا هو الذي يعالج أمراض القلوب، وقد ثبت للتسبيح فضائل جمة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) فهذا يدل على أنه يستحب أن تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله العظيم وبحمده- في الرواية الأخرى- مائة مرة، في أذكار الصباح وأذكار المساء. ويستحب أنك تزيد على المائة مرة، فالزيادة هنا مرغب فيها، بدليل قوله: (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، ولا شك أن هذا فضل عظيم جداً، لكننا لانهماكنا في الدنيا نغفل عن هذه الفضائل العظيمة التي سوف ننفصل عنها بالموت، ولو أن رجلاً بشر بقصر في الدنيا، أو شقة أو حتى غرفة، كم تكون سعادته وحرصه على ذلك! لكن انظر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة)، فكم نغفل عن هذا! لا شك أن السكوت فقط هو نوع من الخسران؛ لأنه لا يوجد فيه طاعة؛ ولذلك الخسارة عند التاجر درجات، فلو أنه اتجر في المال وربح مثلاً 30% فهذا مكسب؛ لكن لو كان ينفق 50% فإنه يعتبر خسر 20%، ولو أنه قصر وبسبب تقصيره وصل الربح مثلاً إلى 20% فهذه يعتبرها خسارة مع أنه ربح، وأعمال الخير نفسها تتفاضل، فالإنسان المفروض أنه لا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وينظر دائماً إلى الأعلى ثواباً. وهناك أشياء ثوابها عظيم جداً، والجهد الذي يبذل فيها قليل جداً، ومنها: ترك السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام)، فالسلام فيه الثواب العظيم، لكنه ثقيل على بعض الناس، فهذا بخيل جداً على نفسه بالسلام، وعلى إخوانه بالإحسان إليهم بالسلام. كذلك العاجز الذي يعجز عن الدعاء، مهما كانت مطالبك وطموحاتك فإنك تحصل عليها بالدعاء، المهم أن يكون في الدعاء صدق وإخلاص لله عز وجل. الإنسان رأس ماله هو الوقت، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العصر: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]. (وَالْعَصْرِ) هذا قسم بالعصر الذي هو الدهر أو الزمن أو الوقت، يحلف الله به لأنه من آياته العظمى، فالدهر لا يذم لذاته أبداً؛ لأن الدهر والزمن مجرد ظرف، فمن الناس من يستثمره بالأعمال الصالحة، ومنهم من يكون بعكس ذلك، فالعصر أو الدهر أو الزمن ليس له ذنب إنما هو ظرف لأفعال العباد، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا فأقسم الله بالعصر ليلفت نظر الناس إلى شرف الزمن والوقت. قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ) يعني: كل الإنسان، (لَفِي خُسْرٍ)، ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). قال بعض السلف: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج، لم يكن في الزمن الماضي ثلاجات يوضع فيها الثلج، لكن كانت تصنع قوالب للثلج، فالناس في يوم من الأيام لم يشتروا منه الثلج، وهذا الثلج إذا لم يبعه سينصهر ويصير ماء كأي ماء، فقارب وقت العصر بعدما انفض السوق أو كاد وما أحد اشترى منه، فظل يجول في الطرقات وهو يحمل الثلج ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله! يعني: اشتروا مني الثلج قبل أن يذوب، فهذا رأس مالي، وهذه أعظم الخسارة، فالخسارة في المال هي خسارة الربح، فلو أن تاجراً باع بالجهد العظيم الذي بذله في التجارة، وعاد إليه فقط رأس المال، فهذا نوع من الخسارة؛ لأنه كان يمكن أن يكسب ربحاً؛ لكن هذا لا له ولا عليه، لأنه بتعبير آخر: خسر جهده. فلو أن شخصاً خسر فوصلت خسارته إلى رأس المال، فهذه خسارة، وأعظم منها: شخص خسر كل رأس ماله، فرأس مال الإنسان هو الوقت والزمن والعمر، فهذا هو رأس المال. فهذا الوقت يمر ويجري، فهو دوماً في نقصان؛ لأن كل لحظة لا يمكن أن تسترجعها ولو فعلت ما فعلت لا تستطيع أن تعيد مثلاً ساعة من الآن، هل تستطيع أن تأتي بالشمس من جديد وتعيد اليوم الذي مضى؟! لا يمكن أن يعود أبداً مستحيل! كذلك العمر يمضي، فأنت عمرك يمضي، والساعة تمر. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فالدقات هي عبارة عن إنذار ينذرك: احترز وانتبه واستكمل هذا الوقت، وقد عبر العلامة الشيخ محمد القاضي حسين رحمه الله تعالى عن هذا المعنى في بيتين من الشعر، حينما أتاه صبي صغير بالساعة القديمة (البندول)، وهي غير الساعة الرقمية، فلما أعطاه إياها، قال له: ما فيها؟ وصوت البندول معروف، فأنشد شيئاً من الشعر قال: وغلام قرب الساعة من أذنيه يسمع منها الصرخات قال ما بداخلها قلت كوزة تقرض أيام حياتي العالم الذي قال: تعلمت تفسير هذه السورة من بائع ثلج، كان يحمل الثلج على كتفه ويجري في الأسواق والشوارع ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، فكم تكون الشفقة على شخص كل رأس ماله هو هذا الثلج، وإذا ذاب الثلج ذهب كل رأس ماله وتبخر؟! فيريد هذا العالم أن يقول: إن السورة تشير إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت، والوقت دوماً في نقصان مثل الثلج الذي ينصهر رويداً رويداً. فالوقت في نقصان وذهاب، فحتى تجبر هذا النقصان لا بد أن تستدرك بأن تستثمر الوقت في طاعة الله سبحانه وتعالى، فما بالك بمن يستثمره في المباح؟! ثم ما بالك بمن يستثمره في المعاصي؟! فلا شك أنه يكون حاله أو خسارته أعظم! والذكر من الأمور السهلة جداً جداً على الإنسان، وإذا أراد الله له به الخير يسره عليه، فالذكر يحتاج أولاً إلى المجاهدة، ثم بعد ذلك يحاول أن يغلب عليه ذكر الله سبحانه وتعالى، فكم يندم الإنسان بعد ذلك إذا مات ولم يستثمر هذه الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، وإن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).

قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) التعزير هو: النصرة مع التعظيم، قال تبارك وتعالى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة:12]. والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصره بقمع ما يضره عنه، والثاني: نصره بقمعه عما يبغضه، والتعزير الذي هو النصرة مع التعظيم هو المطلوب في حق النبي وكل الأنبياء، فهي نصره بقمع ما يضره عنه، أما التعزير الذي هو دون الحد فهو: نصره بقمعه عما يضره من المعاصي التي يرتكبها وسيعزر من أجلها، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته، وفي الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم)، فهذه نصرة المؤمن.قال ابن كثير : ( وَتُعَزِّرُوهُ )، قال ابن عباس وغير واحد: تعظموه.وقال القرطبي : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) أي: تعظموه وتفخموه.والتعزير: التعظيم والتوقير، وقال قتادة : تنصروه وتمنعوه ومنه التعزير في الحد؛ لأنه مانع. قال القطامي : ألا بترت ميٌ بغير سفاهةتعاتب والمولود ينفعه العذروقال ابن عباس وعكرمة : ( وَتُعَزِّرُوهُ ) تقاتلون معه بالسيف، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه، وقال الألوسي : وتعزروه أي: تنصروه، كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً، وأخرجه جماعة عن قتادة.والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، إما أن المقصود تعزروا الله سبحانه وتعالى، أو تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تنصروه مع تعظيمه، وهذا هو الأقرب.

قوله تعالى: (وَتُوَقِّرُوهُ)، هذا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فلا جدال أنها في حق الله سبحانه وتعالى. والوقار: هو السكون والحلم، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، الرجاء هنا بمعنى: الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم للعقوبة؟ وعن مجاهد والضحاك قالا: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟ وقيل: الوقار، الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أي: اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؟! وقال ابن كثير : (ويوقروه) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام. وقال القرطبي: (وتوقروه) أي تتوجوه، وقيل: تعظموه، والتوقير التعظيم، (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ))، الهاء هنا عائدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: تسبحوا الله بكرة وأصيلاً أي: عشياً. قول آخر: إن الضمائر كلها لله تبارك وتعالى، فيكون معنى: (( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) أي: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك، واختار هذا القول القشيري . وبعض المفسرين قال: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) يعني: تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى، كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: ( وَتُسَبِّحُوهُ ) لله عز وجل. فعلى أي الأحوال هناك خلاف بين المفسرين في هذه الضمائر إلى من تعود، وفي هذين الفعلين بالذات: ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) فمن قائل: إنها للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: إنها لله عز وجل.