فضل اتباع السنة - محمد بن عبد الرحمن العريفي
مدة
قراءة المادة :
23 دقائق
.
عناصر الخطبة 1/ اقتداء النبي الكريم بالأنبياء 2/ اقتداء المسلمين بالنبي الكريم 3/ حرص الصحابة على السُّنَّة 4/ أقسام السُّنة 5/ ما ليس من السنة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، ولمّ به بعد الشتات، وأمّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: جعل الله –جل وعلا- أنبياءه ورسله من البشر لأجل أن يصح اقتداء الناس بهم، ولما طلب الكفار أن يكون الرسل من الملائكة قال الله -جل وعلا-: ( {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ) [الانعام:9]، أي: لو جعلنا الملَك هو الرسول فأنزلنا جبريل ليكون هو رسولكم الذي يعيش بينكم، أو جعلناه ميكائيل أو إسرافيل، لو أننا جعلناهم رسلاً بيننا وبين الناس يعيشون بينهم لجعلنا هؤلاء ملائكةً على أشكال رجالٍ حتى يصح للناس أن يقتدوا بهم في أكلهم وشربهم ومشيهم وقتالهم وجهادهم وغير ذلك.
وبيّن الله –جل وعلا- أن جميع الأمم كان يجب عليهم اتباع رسلهم، والاقتداء بهم، فأمر الله -تعالى- نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بهم، قال الله -جل في علاه-: ( {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّ} هُ…)، يعني نوحًا ولوطًا وشعيبًا وهودًا وصالحًا وغيرهم -عليهم السلام-، ( {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ) [الانعام:90]، اقتدِ بهم في دعوتهم، اقتد بهم في صبرهم، اقتد بهم في عبوديتهم، اقتد بهم في ثباتهم على نهجهم: ( {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ).
وأمر الله -تعالى- شعوب أولئك الأنبياء وأممهم بأن يقتدوا بأنبيائهم في كل أحوالهم من طعام وشراب وصلاة وآداب وغير ذلك.
وأمر الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن تقتدي بنبيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحذر الله -تعالى- من مخالفة سنته، فقال الله -تعالى-: ( {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ) [الأحزاب:21]، فمَن لم يقتد برسول الله -عليه الصلاة والسلام- ولم يتخذه أسوة حسنة؛ فمشكوكٌ في أنه يرجو الله واليوم الآخر.
وجعل الله -جل وعلا- علامة طاعة الله -تعالى- واتباعه ومحبته هي اتباع رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فقال الله -جل وعلا-: ( {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} )، ما الدليل؟! ( {فَاتَبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ) [آل عمران:31].
وقرن الله -جل وعلا- اسمه -جل وعلا- وطاعته بطاعة نبينا -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من خمسة وعشرين موضعًا في كتابه: ( {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ} )، ( {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} )، ( {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ} )، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يحرض الناس جميعًا على اتباع سنته -عليه الصلاة والسلام-، ويحذّر من مخالفته في ذلك، ففي حديث العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا فوعظنا موعظة بليغةً وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله: كأنها موعظةُ مودِّعٍ؛ فأوْصِنَا.
قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في معرض كلامه: "عليكم بسنتي! عليكم بسنتي!".
كيفما أصلّي فصلوا مثلي، كيفما جاهدت فجاهدوا مثلي، كيفما أكلت وشربت ونمت، فافعلوا مثلي، افعلوا مثلي في كل أفعالي، واتبعوا سنتي، قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسوف يجد اختلافًا كثيرًا".
يرى مخالفة للسنة وعدم اتباع لها، ويرى أقوامًا يقول أحدهم: إن كان هذا سنة فلست ملزمًا باتباعه، ترى أقوامًا تحدثهم بالفعل عن أفعاله -عليه الصلاة والسلام- ثم يكون أول سؤال يسألك إياه الواحد منهم: هل هذا واجب أم سنّة؟! فإذا قلت: واجب فعله، وإن قلت: سنة تركه، ولم يكن أصحاب رسول الله -عليهم الصلاة والسلام- يتخيرون السنة من الواجب؛ بل كانوا يتبعون الكُلَّ.
عند البخاري من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن صلى اثنتي عشرةَ ركعةً في يومٍ وليلةٍ، بُني له بهن بيتٌ في الجنة ِ".
تعني السنن الرواتب، وهما ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتُهن من رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابنُ عنبسةَ: فما تركتُهن منذ سمعتُهن من أمِّ حبيبةَ.
وقال عمرو بنُ أوسٍ: ما تركتُهن منذ سمعتُهن من عنبسةَ.
وقال النعمانُ بنُ سالمٍ: ما تركتُهن منذ سمعتُهن من عمرو بنِ أوسٍ.
وفي حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جاء إليه يومًا في بيته وهو مع فاطمة بنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: فجلس بيننا على الفراش، ثم حدّثهم -صلى الله عليه وسلم- بأن يقولا قبل أن يناما: "سبحان الله، ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله، ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر، أربعًا وثلاثين"، قال علي -رضي الله عنه-: فوالله! ماتركتهن منذ سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي حديث عند البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال : «كنت أبيت في المسجد، وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه وقال: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟!"، قال: فيحدثه من شاء الله أن يحدثه، قال: فرأيت في المنام أن رجلين قد أتياني فانطلقا بي حتى وقفا بي على النار ، وإذا هي كالبئر المطوية، وإذا فيها أقوام قد عرفتهم، قال: وإذا لها قرنان، قال: ففزعتُ! وأخذت أقول: أعوذ بالله من النار! أعوذ بالله من النار! قال: فمر بنا ملَكٌ ثالثٌ قال: لن تراعَ! إنك لست من أهلها.»
استيقظ عبد الله بن عمر، وحاول أن يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الفجر فلم يستطع، فذهب إلى أخته حفصة وقصّ عليها الرؤيا، فلما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حفصة أخبرته أن عبد الله بن عمر رأى كذا وكذا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "نِعْمَ الرجل عبد الله بن عمر! لو كان يصلي من الليل!"، فلما جاء عبد الله بن عمر إلى أخته حفصة، وحدثته بقوله -عليه الصلاة والسلام- قال: فما تركت صلاة الليل بعدها أبدًا.
فكان بعدُ ما ينام من الليل إلا قليلاً.
كانوا يسمعون حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- سماع المتبعين له، المسارعين اليه.
وأيضًا في الحديث: رأيت عمر بن الخطاب يقبّل الحجر، ويقول: إني أقبلك وأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك لم أقبلك.
فهذه رسالة إلى من تقول له: كُلْ باليمين، فيقول: ما الفرق بين اليمين واليسار؟! تقول له: ارفع ثوبك فوق الكعبين؛ فيقول: ما تأثير ذلك على الإسلام؟! وهل الإسلام ينتصر بمثل ذلك؟! أو تحدثه عن إعفاء لحيته أو حف شاربه أو غير ذلك مما أمر به النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ فيتخير خلاف ذلك بعقله المجرد.
وعند البخاري -أيضًا- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه تكلم عن "الرمَل" في الطواف، وهو إسراع الخطا مع هز الأكتاف، و"الاضطباع"، وهو إخراج الكتف الأيمن أثناء الطواف، ثم قال عمر: ما لنا ولَلرمل؟! يعني: ما لنا اليوم نسرع في المشي؟! ما لنا وللرمل؟! إنما هو أمر فعلناه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباهاة للمشركين، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل إلى مكة ليعتمر عمرة القضاء بعد أن رده الكفار في السنة التي قبلها، وكتب صلحًا أن يأتي في السنة التي بعدها ليعتمر، لذا سميت عمرة القضاء، فلما أقبل الصحابة مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلى مكة قال الكفار بعضهم لبعض، وذلك قبل فتح مكة، قال الكفار بعضهم لبعض: يأتيكم المسلمون قد وهنتهم حمى يثرب، يعني قد أهلكت أجسادهم وقد أضعفتها الحمى المنتشرة في يثرب، فلما علم النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك أمر أصحابه أن يُبدوا ما يُظهر قوتهم؛ لأجل أن يهابهم أعداؤهم، فأمرهم بالرمل، يعني المشي السريع الذي يدل على القوة، والضرب على الأرض بالأرجل، وأمرهم بالاضطباع، وهو إخراج الكتف؛ ليرى أولئك الكافرون قوة أجسادهم.
فهنا يقول عمر -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بسنين، يقول: ما لنا اليوم وللرمل، وقد أمِنَّا؟! مكة ليس فيها كفار يروننا ونحن نعتمر لأجل أن نظهر القوة أمامهم، ثم قال عمر -رضي الله عنه-: لكنه شيء فعلناه مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فوالله ما نحب أن نترك شيئًا فعلناه مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
كانوا يتبعون ولا يبتدعون، يتبعونه -عليه الصلاة والسلام- في كل شيء، حتى بلغ من اتباع عبد الله بن عمر سُنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا سافر من المدينة إلى مكة، وقد كان في عهد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- صغيرًا، أصغر من غيره، كان إذا سافر بعدما كبر، بعد وفاة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، كان ابن عمر يسأل الصحابة الكبار عن الأمكنة التي سارت فيها ناقة النبي، فيشيرون إلى مواضع ويقولون: نظن أن ناقته مشت من هنا أو من هنا، فكان ابن عمر يسير بناقته فوق هذا الطريق ويقول: لعل خفًّا يقع على خف.
وكان ابن عمر في أثناء الطريق يسألهم: أين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستريح؟! تحت أي شجرة؟! فربما أشاروا له إلى بعض الشجر، فيأتي ابن عمر وينزل ويستريح تحتها فعلاً؛ لفعل رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
أيها المسلمون: وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعنف من يخالفون سنته، ويعاتبهم، ويلومهم، ألم تر إلى الثلاثة الذين جاؤوا وسألوا عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، سألوا أهل بيته: كيف كان يتعبد؟! ثلاثة من الشباب المتحمس للطاعة يسألون زوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن كيفية قيامه، وعدد الركعات التي يصليها ليلاً، ونومه، وصيامه وأكله وشربه، فلما أخبروا أنه كان ينام ويقوم، وأنه كان يصوم ويأكل أحيانًا، كأنهم تقالوها، ثم قال بعضهم لبعض معتذرًا لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما نحن فلا، ثم قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، أي: أصوم الدهر، والثاني قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، والثالث قال: أنا لا آكل اللحم.
وفي رواية: لا أتزوج النساء .
فلما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم يريدون أن يسنوا سنة غير سنته، ويسلكوا طريقة غير طريقته، ويتبعوا سبيلاً غير سبيله، ارتقى المنبر -عليه الصلاة والسلام-، معنفًا محذرًا، قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أنا أفعله؟!"، هل سيكونون خيرًا من رسولهم -عليه الصلاة والسلام-؟! هل يريدون أن يبلغوا مرتبة فوق مرتبة رسولهم -عليه الصلاة والسلام-؟! "أما إني أخشاكم لله، وأكثركم طاعة لله، وإني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء؛ فمَن رغب عن سنتي فليس مِنّي"، من رغب عن سنته في كيفية نومه فليس منه، من رغب عن سنته في هيئته في إعفاء لحيته أو تقصير ثوبه فليس منه، من رغب عن سنته في صومه فليس منه، في طعامه وشرابه وفي تعامله مع نسائه، قال: "مَن رغب عن سنتي فليس مني".
وبلغ من محبة الصحابة واتباعهم لرسول الله –عليه الصلاة والسلام- أن أنَسًا -كما عند البخاري- جلس يومًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكلان طعامًا، فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء، يعني يتتبع ثمر القرع، ويأكله، قال أنس: "فوالله ما زلت بعدها أحب الدباء بعد إذ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه".
ومن حديث عامر عن سعد بن أبي وقاص قال -كما عند البخاري-: كنت جالسًا عند عبد الله بن عمر، قال: وكان عبد الله بن عمر يصلي على الجنازة في المسجد فقط ولا يتبعها إلى المقبرة حتى تدفن.
قال: حدثه أبو هريرة بحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صلى على الجنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان"، قال: فخرج عليه خباب صاحب المقصورة وحدث ابن عمر بمثل ذلك، قال: فتغير وجه ابن عمر، يعني: كيف تفوتني هذه السنّه؟! ثم أرسل رجلاً من عنده أن اسأل أمنا عائشة ، وذلك أنها كانت عالمة يرجع إليها الصحابة عند الاختلاف، وكانوا يسألونها من وراء حجاب، تجلس في داخل بيتها وهم في خارجه يسألونها -رضي الله تعالى عنها-، فلما ذهب ذلك الرجل ليسأل عائشة، أخذ ابن عمر حصباء بيده وهو ساكت لم يطق أن يتكلم مع الناس ويتحدث من شدة الاهتمام، أخذ حصباء في يده وجعل يحركها منشغل البال بذلك، فلما رجع إليه ذلك الرجل قال: قد سمعت عائشة تقول: سمعته من رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن من تبعها حتى تدفن فله قيراطان.
فضرب ابن عمر بالحصباء التي في يده على الأرض وقام، قال: لا إله إلا الله! كم ضيعنا من قراريطَ! يندم على فوات سُنَّة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعلها.
وكانوا يعنفون على من يخالف السنة؛ فعند البخاري من حديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه-: أنه مرّ برجل يخذف، يعني: يأخذ حصاة ويجعلها عند أصبعه السبابة ثم يضغطها على اليد الأخرى ويضرب بها.
فقال له: تخذف؟! لقد سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الخذف ويقول: "إنه لا يصيد صيدًا، ولا ينكأ عدوًا؛ ولكنه يكسر السن، ويفقأ العين"، فلا تفعل؛ فأنت بهذا تخالف النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا تفعل، قال: ثم مر به بعد وقت فرآه يخذف، فقال: سبحان الله! أحدثك أن رسول الله ينهى عن الخذف فتعود إليه؟! والله لا أكلمك أبدًا! وهجَره؛ لأنه مخالف لسنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
ولما قعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا يأكل، وأقبل إليه بعض الناس وجعل يأكل معه، أقبل رجل وجلس وأخذ يأكل بشماله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل بيمينك".
يعني: افعل كما أفعل أنا، اتبع سنتي، كل بيمينك، وكان الرجل متكبرًا فقال: لا أستطيع، قالها كِبْرًا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا استطعتَ".
يعني إذا كنت تقولها كبرًا لا استطعت، يعني: الله يجعلك ما تستطيع، أنت تدّعي أنك لا تستطيع أن تأكل باليمنى، فأسأل الله أن يجعلك فعلاً لا تستطيع، قال الراوي: فوالله ما رفعها إلى فيه بعدها، شُلَّت يمينه، ثم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما منعه إلا الكبر "، لذلك قلنا في أول الكلام: إنه كان متكبرًا، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما منعه إلا الكبر"، يعني يتكبر أن يتبع سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
هذه رسالة إلى من يحدث ببعض السنن فيتكبر عنها، يحدث بسنة في إعفاء لحيته أو في حف شاربه، أو سنة تتعلق بالطعام، أو باللباس، أو بالمشي، أو بالصلاة، أو بالسترة عند الصلاة، أو غير ذلك من السنن، فيترك ذلك تزينًا، أو طلبًا لحسن مظهر، أو ربما أحيانًا تكبرًا، أو قل غير ذلك.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أتباع سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأن يجعلنا ممن يهتدون بهديه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: يا من يتبعون سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذكر أهل العلم أن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تنقسم إلى أقسام، فمنها ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الجِبلَّةِ والعادة التي كانت في مجتمعه، فكان -عليه الصلاة والسلام- في مكة والمدينة يلبس إزارًا ورداءً كما نلبس اليوم في الإحرام، لقد كان هذا لباسهم الرسمي في بيوتهم وفي نواديهم وفي أسواقهم، فكان -عليه الصلاة والسلام- يلبسه في مكة من قبل النبوة ومن بعدها، وكذلك بعدما هاجر إلى المدينة كان هذا من لباسه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لباس المجتمع الذي يعيش فيه.
وكان يلبس عمامة -عليه الصلاة والسلام- لأن المجتمع الذي يعيش فيه يلبسها.
فلو جاء شخص اليوم وقال: أنا سألبس إحرامًا دائمًا، وسوف ألبس العمامة دائمًا اتباعًا له -عليه الصلاة والسلام-، قلنا له لا تفعل ذلك؛ لأن الصحابة لما تفرقوا في الأمصار، فمنهم من ذهب إلى الشام ، ومنهم من ذهب إلى مصر ، وإلى العراق، وإلى اليمن، وإلى غيرها، لبسوا لباس الناس الذين يعيشون في تلك المناطق، ولم يقل أحدهم بأنه سيستمر على اللبس القديم الأول؛ لأنهم علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله بمقتضى الجبلة.
وكذلك ما فعله -عليه الصلاة والسلام- بمقتضى العادة البشرية، كرفضه من طعام قدم بين يديه فيه الضب، لم يأكل منه -عليه الصلاة والسلام-، لا يحب الضب، فقال له خالد -رضي الله عنه-: يا رسول الله: أحرام هو؟! قال: "لا، إلا أني لا أحبه".
أكرهه، ليس بديار قومي، يعني: أنا نشأت في مكة وأهل مكة لا يأكلون الضب؛ لأنه ليس في أرضهم، فلم أتعود عليه، فأجدني أعافه، ما أستطيع أن آكله، فجذبه خالد وأكله بين يديه -عليه الصلاة والسلام-، فلا نقول: إن من أكل الضب فقد خالف السنة، أو من لبس مثلاً غُترة أو ثوبًا فقد خالف السنة، لا؛ لأن هذا فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العادة، على سبيل البشرية، وما شابه ذلك.
ومنه ما فعله -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العبادة، يأكل بيمينه ويأمر بالأكل باليمين، يعفي لحيته ويأمر بإعفاء اللحية ، ينام على جنبه الأيمن ويأمر بالنوم على جنبه الأيمن، فبهذا اجتمع فعلُهُ وأمرُهُ، فأصبح أمرًا واجبًا، أو سنة مستحبة يجب على الإنسان أن يفعلها.
وكان من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- مَن يرى النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم أشياء فيقرهم عليها فتعتبر سنة، من ذلك أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لبلالٍ عندَ صلاةِ الفجرِ: "يا بلالُ: حدِّثْنِي بأَرْجَى عملٍ عَمِلْتَهُ في الإسلام، فإنِّي سمعتُ دُفَّ نعليْكَ بينَ يديَّ في الجنةِ".
قال: ما عملتُ عملاً أَرْجَى عندي، أنِّي لم أَتَطَهَّرَ طهورًا في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ، إلا صلَّيتُ بذلكَ الطّهورِ ما كُتِبَ لي أن أُصلِّي.
فهنا أقرّه النبي -عليه الصلاة والسلام- على فعله، فأصبح سنة، فسنة لمن توضأ أن يصلي ركعتي الوضوء ؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أقر عليها من فعلها.
أسأل الله -جل في علاه- أن يجعلنا من أتباع سنة سيدنا وقدوتنا وإمامنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وأسأل الله -تعالى- أن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، وأن يجعلنا يوم القيامة ممن تنالهم شفاعته -عليه الصلاة والسلام-.