وكل شيء عنده بمقدار


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وسع علمه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته فالأمر والخلق له وحده، والتصرف في هذا الكون بيده، ولو أجمعت قوى الأرض وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يقدموا شيئاً أخره الله، أو أن يؤخروا شيئاً قدمه الله، أو أن يعطوا بشراً منعه الله، أو أن يمنعوا بشراً أعطاه الله، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وربنا واحد في ألوهيته، فكل أنواع العبادة له وحده، وواحد في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

معاشر المؤمنين: اسمعوا قول ربكم جل وعلا وهو يقول في محكم كتابه: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] ويقول جل وعلا: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10] قال ابن كثير: من أراد العزة فليلزم طاعة الله.

أيها الأحبة في الله: عزة كل مسلم في هذا الزمان بيقينه أن الحوادث بالمقادير، وأنه لا قليل ولا كثير إلا بأمرٍ وقدرٍ من الله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وكل قدرٍ أياً كان فإنه لا يخلو من ثلاثة أمور كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والمقادير دائرة على حكمة الله، وعلى تمام عدله، وعلى تمام رحمته.

رب مصيبة كفرت خطيئة

عباد الله! اشكروا الله تعالى في كل حال، وهو سبحانه الذي يحمد في السراء والضراء، والله إن من تأمل المقادير علم أنها دائرةٌ على تمام العدل والحكمة والرحمة، إننا نجزع يوم أن يموت قريبٌ لنا في حادث أو نحوه، ولقد نسينا أو جهلنا أن لله حكمة في موت قريبنا هذا، إن الله قد حدد ساعة موته، وله ساعة أجل لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعلم الله أن على هذا المسلم ذنوباً تحتاج إلى مزيد ابتلاء لتكفر قاطبة، فكتب الله أن يكون موته بدلاً من أن يكون على فراشه ليكون في هذا الحادث.

فتعظم مصيبته، ويكون عظم المصيبة عظيماً في محو الذنوب والسيئات، فتمحى ذنوبه كلها، ويقدم على ربه طاهراً مطهراً، ولو لم يصب، ولو لم يمت بهذا الحادث لمات في تلك اللحظة على فراشه لم يتقدمها ولم يتأخرها.

فمن هنا نعلم أن القدر وإن كان على النفوس مراً، إلا أن فيه تمام الرحمة، وفي نفس الوقت قد يكون هذا القدر تأديباً لآخرين من الذين عصوا، أو الذين تجاهلوا أمر الله جل وعلا، فاجتمعت رحمة الله في هذا المتوفى، واجتمع عدله، واجتمعت حكمته في أبسط الأمثلة والمقادير، فما بالكم بأعظم الأمور خطراً، إنها لا تخلو من حكم عظيمة، ومن رحمة عظيمة، ومن عدل تام، وهو سبحانه وتعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدى، فسبحانه في كل فعله وتدبيره!

معاشر المؤمنين: إن ما حل بنا لهو قدر من أقدار الله، لن يخلو من هذه الثلاثة كلها، لن يخلو من رحمة الله، ولن يخلو من حكمة الله، ولن يخلو من عدل الله، واعلموا أن هذا القدر، وأن هذا المصاب الجلل، وإن كان على النفوس مراً لكنه والله يا عباد لله طريق تمكين لأمتنا، وطريق عودة لعزتنا، وطريق رفعة لسؤددنا، ومن سنن الله ألا يتمكن أحد إلا بالبلاء:

من لم يقد فيطير في خيشومـه     رهج الخميس فلن يقود خميسا

إن الأمم لا تعلو إلا بعد أن تمر بأصعب التجارب، وما يدريكم أن الله جل وعلا اختار لأمتنا هذا القدر بما فيه من العدل والحكمة والرحمة، لكي تنبعث من هذه الأمة قيادة الدنيا وتوجيه الكون أجمع، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا تستبعدوا شيئاً مادام المسلم متمسكاً بسنن الله جل وعلا وأمره ونهيه، إذا علمنا أن البلاء طريق التمكين، حينئذٍ لا يزيدنا البلاء في ديننا إلا صلابة، ولا تزيدنا الفتنة إلا ثباتاً، ولا يزيدنا ما يريد بنا الأعداء إلا تجمع شملٍ ووحدة صف، نسأل الله جل وعلا أن يجعل عواقب هذه الأمور لنا ولأمتنا خيراً في الدنيا والآخرة.

لا يمكَّن العبد حتى يبتلى

معاشر المؤمنين: إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن وضع سلا الجزور على ظهره، وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو خير من ركب المطية، لم يمكن إلا بعد أن جعل الشوك في طريقه، إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن طرد وأخرج من مكة ، وإن نبيكم لم يمكن إلا بعدما ذهب إلى الطائف إلى بني عبد ياليل بن كلال ، فصفوا له الصبيان سماطين كما يقول ابن كثير في السيرة : جعلوا الصبيان له صفين، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويدمون عقبه، وماذا بعد ذلك؟ عاد صلى الله عليه وسلم حتى آواه السير إلى قرن الثعالب وهو يدعو ربه (اللهم أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) فلنقل هذا الدعاء جميعاً، ولنعلم أن هذا البلاء هو طريقة عودةٍ إلى بلادنا بعزةٍ وتحكيم شريعةٍ ونصرة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا هو مقتضى النصيحة يا عباد الله.

إن كنا أخرجنا من الكويت فقد أخرج صلى الله عليه وسلم من مكة ، وقال صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجراً والتفت إليها: (اللهم إنك أحب البقاع إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فلكم في رسول الله عبرة، ولن نكون أفضل حظاً وأحسن حالاً من المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أخرج من مكة، لكن الله جل وعلا جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية.

فآواه الله وأيده ونصره بطائفة من المؤمنين في المدينة ، فقامت دولته في المدينة ، التي يسميها السياسيون في هذا الزمان حكومات المنفى، إنها حكومة الحق والعدل والصدق والتمكين، فعاد إلى مكة فاتحاً، وقد ناله ما ناله قبل أن يفتح مكة .

جاء صلى الله عليه وسلم معتمراً، فردته قريش وحبسته دون البيت، وسلت السيف مانعة له وصحبه أن يدخلوا مكة فجاءوا إلى صلح الحديبية ، فلما وقف النبي مع سهيل بن عمرو مفاوض أهل مكة وكان خطيباً فصيحاً، وكان ذلقاً ملسوناً، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، لا نعرف إلا رحمن اليمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسمك اللهم، ثم قال: هذا كتاب من محمد رسول الله) فقال سهيل : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: (إذاً أكتب من محمد بن عبد الله).

اسمعوا وتأملوا ما حل لنبيكم، فلكم فيه أعظم الأثر والعبر، فكتب من محمد بن عبد الله هذا كتاب إلى قريش أن من خرج من مكة إلى المدينة فإن محمداً يرده، ومن خرج من المدينة إلى مكة فإن محمداً لا يسترده، فغضب عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: (يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ أفلا تدعني أخلع ثنية هذا الكافر الذي يفاوض، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! لعل الله أن يريك من هذا يوماً يعز الله به الإسلام والمسلمين).

وكان أبو بكر يقبض ويمسك بتلابيب عمر ، ويقول: أليس هذا رسول الله؟ الزم غرزه، فإن الله لن يضيعه.

وكانت عاقبة حميدة لما وقعت هذه الاتفاقية وعاد المؤمنون وحلوا ولم يعتمروا، عادوا إلى بلدهم، فخرج أبو بصير رضي الله عنه هارباً إلى المدينة ، فلحقت به قريش وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد! العهد والميثاق بيننا وبينك، رد إلينا من خرج من صبياننا إليك، فجاء النبي والتفت إليه، وقال: (يا أبا بصير ! عد مع القوم فإنا أعطيناهم العهد والميثاق، فقال أبو بصير : يا نبي الله أتدعهم يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جاعل لك مخرجاً).

فعلم ذلك الصحابي بهذه الكلمة التي مُلئت فرجاً وسعة أن الله لن يضيعه، فخرج مع المشركين، وبينما هم في الطريق إذا قال أحدهم وقد سل سيفه يتأمله، قال: والله ليشرب هذا السيف من رقاب محمد وصحبه، فقال أبو بصير : إن سيفك هذا جيد، فأرني إياه، فصدَّق ذلك وأعطاه السيف، فالتفت به أبو بصير فضرب به عنق الأول وهرب الثاني، وجعل الله لـأبي بصير مخرجاً.

ثم لزم الساحل، ووقف في طريق عير قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها حظاً وخيراً وفيراً، حتى أرسلت قريش مندوباً ومبعوثاً يقول: يا محمد! علك أن تلغي العهد والميثاق بيننا وبينك.

الله أكبر يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ [التوبة:48] إن كل تقليب وتدويل وعبث ولف وغيره بقضايا المسلمين سواءً في أفغانستان أو في الكويت أو في فلسطين، يقول الله جل وعلا: وَقَلَّبُوا لَكَ [التوبة:48] لك أنت، إذاً فتقليب الأمور عائدٌ لنا معاشر المؤمنين: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة:48] وإنا لنرجو الله أن يجعل ظهور الحق قريباً.

قد تصاب ولكن لا تفقد العزة

عباد الله! أسوق هذه المسألة لأقول: إن المسلم إن أُخرج من بيته، وإن طرد من داره، وإن استبيح ماله، وإن حصل له ما حصل، فإنه لا يزال عزيزاً، العزة لا تفارقنا أينما كنا، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، إن الذي يقول: إن من أُخرج من بيته فقد العزة، فهو يقول عن نبيه: إن نبيه فقد العزة، وهذا لم يقل به أحد، إن نبينا يوم أن كان في مكة ويوم أن طرد منها وذهب إلى المدينة ، ويوم أن أقصي وأدميت عقبه طرداً بالحجارة من الطائف كان عزيزاً.

نعم، قد يفقد النصير يوماً، قد يفقد المأوى يوماً، وقد يفقد الطعام والشراب واللباس يوماً، لكنه صلى الله عليه وسلم ما فقد عزته، وأقول لنفسي ولكم معاشر الأحبة: إن أزمة المسلمين في هذا الزمان ليست أزمة السكن أو المطعم والمشرب والملبس، إنما هي أزمة عزة.

الأزمة التي فقدت: العزة، العزة التي ذهبت أدراج الرياح، بغزوٍ وتغريبٍ وحملةٍ صليبية عبر مختلف الوسائل التي سلطها الأعداء على أبناء المسلمين، قد يفقد المسلم بيتاً، وقد يفقد داراً وأهلاً ووطناً، لكن لا يفقد عزةً لا حياة له بدونها، فإن خرجنا من الكويت ، فإنا نقول:

خرجنا إلى المجد شم الأنـوف     كما تخرج الأسد من غابها

نمر على شفرات السيوف     ونأتي المنية من بابها

ونعلم أن القضا واقعٌ     وأن المنايا بأسبابها

ستعلم أمتنا أننا     ركبنا الخطوب حناناً بها

فإن نلق حتفاً فيا حبذا     المنايا تجيء لخطابها

والله خرجنا أعزاء، وسنعود إليها قريباً أعزاء، بمن الله وفضله وكرمه، فليكن خروجنا إعادة للبناء، وتمحيصاً للصفوف، وترتيباً للجهود، ووحدة لكل ما نبذله لصالح الإسلام والمسلمين، ولأمتنا أعزها الله وأعاد شملها وجمعها.

ما عز من عوى ولكن من خاض الوغى

معاشر المؤمنين: ليست العزة بالصياح والعويل، والشعارات الإعلامية الجوفاء الرنانة، إنما العزة بعقيدة صادقة، إنما العزة بيقين وثقة بوعد الله ونصره وتمكينه، إننا فقدنا فلسطين من سنوات طويلة، وطالما سمعت أذني شعارات وأناشيد وطنية فوق التل وتحت التل، وعن يمين وشمال، سنفعل وسنفعل، وكل هذه الشعارات ما ردت لنا فلسطين ، بل وما ردت من فلسطين شبراً واحداً.

لو كانت الشعارات ترد بلداً لكان العرب هم أول من يستردوا حقوقهم؛ لأنهم كما يقول القائل:

إذا خسرنا الحرب لا غرابه

لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه

معاشر المؤمنين: هذا المقال يصدق على الأمة في حرب (67م) ونكبات الأمة التي أودعت الهزيمة والضعف والاستسلام، كنا من قبل نطالب بـفلسطين كلها، ثم أصبحنا نطالب بقرار هيئة الأمم [242] والعودة إلى حدود عام كذا، ثم بعد ذلك أصبحنا نساوم ونهادن ونبيع ونشتري، وحتى الآن لم نجد شبراً فلسطينياً عليه سيادة لأمة مسلمة فلسطينية.

لماذا؟ لأننا أردنا العزة بالشعارات، فأبى الله أن تكون إلا بما سنَّ في كتابه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10] العزة في طاعة الله، والعز في تحكيم شريعة الله، العزة أن يقتل القاتل ضربةً مريحةً بالسيف، العزة أن تقطع يد السارق، العزة أن يجلد شارب الخمر، العزة أن يجلد الزاني البكر، العزة أن يرجم الزاني المحصن، العزة أن نجد الإسلام مهيمناً في جميع مجالات حياتنا، وإياكم الخداع مع أنفسكم، إن أغبى القوم من يخادع نفسه وهو يرى الحق في طريق ويحاول أن يلتمس نصراً أو فرجاً من طريق آخر.

مادام الأمر كذلك، وأن العزة ليست بالصيحات ولا بالشعارات، فقد نرى عزيزاً صامتا لا ينطق بكلمة واحدة، ولكن قلبه يتكلم:

قل لمن عاب صمتـه     خلق الحزم أبكما

وأخو الحزم لم تـزل     يده تسبق الفما

لا تلوموه قد رأى     منهج الحق أظلما

وبلاداً أحبها     ركنها قد تهدما

وخصوماً ببغيهم     ضجت الأرض والسما

فإذا وجدت العزة، وجد الاستعلاء على ركام الدنيا وطواغيت الأرض.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

عباد الله! اشكروا الله تعالى في كل حال، وهو سبحانه الذي يحمد في السراء والضراء، والله إن من تأمل المقادير علم أنها دائرةٌ على تمام العدل والحكمة والرحمة، إننا نجزع يوم أن يموت قريبٌ لنا في حادث أو نحوه، ولقد نسينا أو جهلنا أن لله حكمة في موت قريبنا هذا، إن الله قد حدد ساعة موته، وله ساعة أجل لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعلم الله أن على هذا المسلم ذنوباً تحتاج إلى مزيد ابتلاء لتكفر قاطبة، فكتب الله أن يكون موته بدلاً من أن يكون على فراشه ليكون في هذا الحادث.

فتعظم مصيبته، ويكون عظم المصيبة عظيماً في محو الذنوب والسيئات، فتمحى ذنوبه كلها، ويقدم على ربه طاهراً مطهراً، ولو لم يصب، ولو لم يمت بهذا الحادث لمات في تلك اللحظة على فراشه لم يتقدمها ولم يتأخرها.

فمن هنا نعلم أن القدر وإن كان على النفوس مراً، إلا أن فيه تمام الرحمة، وفي نفس الوقت قد يكون هذا القدر تأديباً لآخرين من الذين عصوا، أو الذين تجاهلوا أمر الله جل وعلا، فاجتمعت رحمة الله في هذا المتوفى، واجتمع عدله، واجتمعت حكمته في أبسط الأمثلة والمقادير، فما بالكم بأعظم الأمور خطراً، إنها لا تخلو من حكم عظيمة، ومن رحمة عظيمة، ومن عدل تام، وهو سبحانه وتعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدى، فسبحانه في كل فعله وتدبيره!

معاشر المؤمنين: إن ما حل بنا لهو قدر من أقدار الله، لن يخلو من هذه الثلاثة كلها، لن يخلو من رحمة الله، ولن يخلو من حكمة الله، ولن يخلو من عدل الله، واعلموا أن هذا القدر، وأن هذا المصاب الجلل، وإن كان على النفوس مراً لكنه والله يا عباد لله طريق تمكين لأمتنا، وطريق عودة لعزتنا، وطريق رفعة لسؤددنا، ومن سنن الله ألا يتمكن أحد إلا بالبلاء:

من لم يقد فيطير في خيشومـه     رهج الخميس فلن يقود خميسا

إن الأمم لا تعلو إلا بعد أن تمر بأصعب التجارب، وما يدريكم أن الله جل وعلا اختار لأمتنا هذا القدر بما فيه من العدل والحكمة والرحمة، لكي تنبعث من هذه الأمة قيادة الدنيا وتوجيه الكون أجمع، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا تستبعدوا شيئاً مادام المسلم متمسكاً بسنن الله جل وعلا وأمره ونهيه، إذا علمنا أن البلاء طريق التمكين، حينئذٍ لا يزيدنا البلاء في ديننا إلا صلابة، ولا تزيدنا الفتنة إلا ثباتاً، ولا يزيدنا ما يريد بنا الأعداء إلا تجمع شملٍ ووحدة صف، نسأل الله جل وعلا أن يجعل عواقب هذه الأمور لنا ولأمتنا خيراً في الدنيا والآخرة.

معاشر المؤمنين: إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن وضع سلا الجزور على ظهره، وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو خير من ركب المطية، لم يمكن إلا بعد أن جعل الشوك في طريقه، إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن طرد وأخرج من مكة ، وإن نبيكم لم يمكن إلا بعدما ذهب إلى الطائف إلى بني عبد ياليل بن كلال ، فصفوا له الصبيان سماطين كما يقول ابن كثير في السيرة : جعلوا الصبيان له صفين، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويدمون عقبه، وماذا بعد ذلك؟ عاد صلى الله عليه وسلم حتى آواه السير إلى قرن الثعالب وهو يدعو ربه (اللهم أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) فلنقل هذا الدعاء جميعاً، ولنعلم أن هذا البلاء هو طريقة عودةٍ إلى بلادنا بعزةٍ وتحكيم شريعةٍ ونصرة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا هو مقتضى النصيحة يا عباد الله.

إن كنا أخرجنا من الكويت فقد أخرج صلى الله عليه وسلم من مكة ، وقال صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجراً والتفت إليها: (اللهم إنك أحب البقاع إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فلكم في رسول الله عبرة، ولن نكون أفضل حظاً وأحسن حالاً من المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أخرج من مكة، لكن الله جل وعلا جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية.

فآواه الله وأيده ونصره بطائفة من المؤمنين في المدينة ، فقامت دولته في المدينة ، التي يسميها السياسيون في هذا الزمان حكومات المنفى، إنها حكومة الحق والعدل والصدق والتمكين، فعاد إلى مكة فاتحاً، وقد ناله ما ناله قبل أن يفتح مكة .

جاء صلى الله عليه وسلم معتمراً، فردته قريش وحبسته دون البيت، وسلت السيف مانعة له وصحبه أن يدخلوا مكة فجاءوا إلى صلح الحديبية ، فلما وقف النبي مع سهيل بن عمرو مفاوض أهل مكة وكان خطيباً فصيحاً، وكان ذلقاً ملسوناً، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، لا نعرف إلا رحمن اليمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسمك اللهم، ثم قال: هذا كتاب من محمد رسول الله) فقال سهيل : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: (إذاً أكتب من محمد بن عبد الله).

اسمعوا وتأملوا ما حل لنبيكم، فلكم فيه أعظم الأثر والعبر، فكتب من محمد بن عبد الله هذا كتاب إلى قريش أن من خرج من مكة إلى المدينة فإن محمداً يرده، ومن خرج من المدينة إلى مكة فإن محمداً لا يسترده، فغضب عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: (يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ أفلا تدعني أخلع ثنية هذا الكافر الذي يفاوض، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! لعل الله أن يريك من هذا يوماً يعز الله به الإسلام والمسلمين).

وكان أبو بكر يقبض ويمسك بتلابيب عمر ، ويقول: أليس هذا رسول الله؟ الزم غرزه، فإن الله لن يضيعه.

وكانت عاقبة حميدة لما وقعت هذه الاتفاقية وعاد المؤمنون وحلوا ولم يعتمروا، عادوا إلى بلدهم، فخرج أبو بصير رضي الله عنه هارباً إلى المدينة ، فلحقت به قريش وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد! العهد والميثاق بيننا وبينك، رد إلينا من خرج من صبياننا إليك، فجاء النبي والتفت إليه، وقال: (يا أبا بصير ! عد مع القوم فإنا أعطيناهم العهد والميثاق، فقال أبو بصير : يا نبي الله أتدعهم يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جاعل لك مخرجاً).

فعلم ذلك الصحابي بهذه الكلمة التي مُلئت فرجاً وسعة أن الله لن يضيعه، فخرج مع المشركين، وبينما هم في الطريق إذا قال أحدهم وقد سل سيفه يتأمله، قال: والله ليشرب هذا السيف من رقاب محمد وصحبه، فقال أبو بصير : إن سيفك هذا جيد، فأرني إياه، فصدَّق ذلك وأعطاه السيف، فالتفت به أبو بصير فضرب به عنق الأول وهرب الثاني، وجعل الله لـأبي بصير مخرجاً.

ثم لزم الساحل، ووقف في طريق عير قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها حظاً وخيراً وفيراً، حتى أرسلت قريش مندوباً ومبعوثاً يقول: يا محمد! علك أن تلغي العهد والميثاق بيننا وبينك.

الله أكبر يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ [التوبة:48] إن كل تقليب وتدويل وعبث ولف وغيره بقضايا المسلمين سواءً في أفغانستان أو في الكويت أو في فلسطين، يقول الله جل وعلا: وَقَلَّبُوا لَكَ [التوبة:48] لك أنت، إذاً فتقليب الأمور عائدٌ لنا معاشر المؤمنين: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة:48] وإنا لنرجو الله أن يجعل ظهور الحق قريباً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2654 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2650 استماع
توديع العام المنصرم 2645 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2550 استماع
من هنا نبدأ 2494 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2459 استماع
أنواع الجلساء 2459 استماع
الغفلة في حياة الناس 2435 استماع
إلى الله المشتكى 2434 استماع