خطب ومحاضرات
حالة ضعف المسلمين
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5].
أيها المسلمون! لا ينفك الإنسان عن حالة من الضعف تركبه، لكن ليس كل ضعف محموداً؛ بل هناك ضعف مذموم وضعف محمود، وكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة.
وخصال السلب ضد الخصال الإيجابية، فلو قلت: رجل قوي، فسالبه ضعيف .. رجل غني، فسالبه فقير .. رجل عزيز، فسالبه ذليل.. وهكذا.
فكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إضاعة المال، وعد ذلك من باب التلف لنعم الله عز وجل يؤاخذ العبد عليها، ومع ذلك فإذا أتلف العبد ماله في الله كان محموداً.
روى الإمام أبو داود في كتاب الزهد بسند صحيح: ( أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قابل راعي غنم، فقال: يا غلام! بعني شاة من الغنم. فقال: ليست لي. فقال: بعني شاة وقل: أكلها الذئب. فقال الغلام: وأين الله؟! فبكى ابن عمر وجعل يردد: وأين الله؟! وأين الله؟! ثم قال: يا غلام! وافني وسيدك غداً في هذا الموضع، فلما كان من الغد جاء الرجل والغلام، فاشترى الغلام والغنم من مالكها، ثم أعتق الغلام ووهب له الغنم ).
إن الذي جعله يفعل ذلك هي الكلمة التي كررها ابن عمر وبكى لأجلها: (أين الله؟! أين الله؟!) فاشترى الغلام والغنم، وأعتق الغلام وترك له الغنم.
وروى أبو داود أيضاً في نفس الكتاب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( بينما أنا ذات ليلة إذ تفكرت في قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فقلت: إن أحب ما أملكه هي رميتة -وهي جارية لـابن عمر، والجواري والعبيد آنذاك كانوا مالاً- قال: فلما رأيت أنه ليس عندي أغلى من رميتة قلت: هي في سبيل الله، ووالله لولا أني أكره أن أرجع في شيء وهبته لله عز وجل لأعتقتها وتزوجتها).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل له أمة فأدبها وأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها)، فهذا يؤتى أجره مرتين، فكان عنده هذا الباب، يؤتى أجره مرتين ثم يحقق لنفسه ما يشتهي من محبة المرأة والقرب منها، ومع ذلك فضل الباب الآخر؛ لأنه انتصار على حظ النفس.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الرجال- ولكن الشديد الذي يملك نفسه)، هذا هو الشديد، فمن ملك حظ نفسه فهو الشديد، لقد كان هؤلاء رجالاً يحبون معالي الأمور، قال ابن عمر : ( فأنكحتها نافعاً )، ونافع هو مولى ابن عمر . فإذا فعلت الشيء لله عز وجل وكان بالسلب عند الناس كنت به محموداً.
كذلك الاستضعاف المحمود: أن تخرج من بيتك ومالك لله، فلا تندم أبداً أنك تركت مالك أو دارك أو أهلك لله عز وجل، فإن البقاء في الدار لا يخلدك، وإن البقاء في مالك لا يطيل عمرك.
إن الله عز وجل قص لنا جانباً من الاستضعاف المذموم، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، لقد كانوا مستضعفين في الأرض، لكنه استضعاف مذموم، لقد كان بإمكانه أن يخرج لكنه قصر في الخروج؛ بدليل أن الله عز وجل قال بعدها: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98]* َأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99]، هؤلاء المستضعفون الذين لا يهتدون حيلة ولا يجدون سبيلاً استثناهم الله عز وجل.
إذاً: هذا يدلنا على أن الذين قالوا: (كنا مستضعفين في الأرض) كاذبون، لقد كان بإمكانهم أن يخرجوا فقصَّروا، فكذلك كل رجل كان بإمكانه أن يفعل ما أوجبه الله عليه ولم يفعل، أو أن ينتهي عما نهى الله عز وجل عنه ولم يفعل؛ هذا لا يقبل منه شيء، ولا تقبل منه حجة؛ لأنه كان بإمكانه أن يفعل، إنما يعفى عن العاجز الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي إلى سبيل للخروج من مأزقه الذي وقع فيه.
إن المهاجر في الله عز وجل له أجر عظيم، لو تفطن له كثير من العباد لهانت عليهم دورهم وأموالهم في الله .. الهجرة هي علاج الاستضعاف، إذا كنت مستضعفاً فهاجر، استبدل بيئة غير البيئة التي حاربتك وأذلتك ووقفت ضد دعوتك؛ لعلك تجد أناساً آخرين أرفق بك وأرحم من الذين ولدت بينهم .. اترك دارك لله إن استطعت إذا كنت في بيئة يسب فيها الله ورسوله، أو يعصى فيها الله عز وجل، وتخشى على نفسك وعلى أولادك؛ فينبغي.. بل يتعين عليك أن تهاجر، وهذه هي الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال الهجرة ما قوتل الكفار) ، فهذه هي الهجرة التي لا تنقطع، وهي علاج الاستضعاف.
روى النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (شهد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل المدينة مات في المدينة -ولد في المدينة ومات بها- فقال عليه الصلاة والسلام: يا ليته مات في غير مولده -يعني: يا ليته مات غريباً- فقالوا: لِم يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة)، هذا يكون ملكه، رجل هاجر من مصر -مثلاً- إلى آخر الدنيا، فراراً بدينه من الفتن، ومات غريباً؛ فإنه يقاس له في الجنة من موضع مولده إلى موضع وفاته.
ولذلك نهي المهاجرون أن يرجعوا إلى مكة أو يسكنوا بها؛ حتى لا يرجعوا في شيء خرجوا منه لله عز وجل، ولم يرخص لمهاجري أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مرضت في حجة الوداع مرضاً أشرفت فيه على الموت، فزارني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وساق حديثاً طويلاً، وفي آخره- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم امض لأصحابي هجرتهم، اللهم لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس
وفي صحيح مسلم في إحدى طرق هذا الحديث قال سعد : ( وأخشى أن أموت فأكون كما كان سعد )، لقد كان يخشى على نفسه أن يموت بمكة ، وهو في طاعة في زمن حجة الوداع؛ لأنه سوف يفقد أجر الموت غريباً، فإذا كانت الأرض لله عز وجل فما يضيرك أن تموت في أقصى الأرض؟
إن الله عز وجل يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57]، مت في أي مكان لكن على التوحيد، مت مسلماً ومت في جوف سبعٍ أو في قعر بحر، أو في أي مكان، لا يضرك: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56]، فلا تتردد أن تخرج إلى الهجرة؛ لأن: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].
بعض الناس يوصي ألا يدفن ليلاً؛ لأنه يظن أن القبر كالدنيا فيه نهار وليل، يظن ذلك، ويظن أنه لو دفن ليلاً فسيشعر بالوحشة، لا والله.. ليس في المقابر ليل ولا نهار، كله ليل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور ملآنة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينيرها لهم بصلاتي عليهم) ، فكلها مظلمة، لكنه يظن كما يستوحش إذا أفرج إفراج الساري في الليلة الظلماء في الدنيا أنه يكون كذلك في القبر.
فالخوف من هذه الوحشة هو الذي جعل هؤلاء يبقون في دارهم ولا يهاجرون، ويلابسون أصحاب المعاصي حتى تأثرت قلوبهم، ثم وافوا الله عز وجل بقلوب مريضة أو ميتة، فقال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، فهذا الاستضعاف المذموم يكون مع القدرة على الخروج والهجرة.
أما العاجز فإن الله عز وجل قد وضع كل أمر أمر به أو نهي نهى عنه إذا خرج عن مقدور العبد، كما ثبت ذلك في القرآن والسنة، قال الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال عز من قائل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال عز وجل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) .
الاستضعاف المحمود: أن تنحاز إلى الله؛ لذلك قال الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ [القصص:5]، فلا يمن الله إلا على عبد انحاز إليه، ولذلك أراد ففعل، والله عز وجل إذا وعد فلا يخلف وعده، وإذا أوعد فهو بالخيار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل أجراً فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد عبداً فهو بالخيار)، إذا هدده فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وهذا من فعل الكرام: إذا وعد لا يخلف الميعاد؛ لأن هذا هو مقتضى الكرم والإحسان؛ لأن الرجوع في الإحسان نقص.
هناك إشكال قائم بين أهل السنة والمعتزلة في: هل للعباد حق على الله عز وجل أم لا؟
فالمعتزلة يقولون: يجب على الله عز وجل أن يفعل الأصلح لعباده، وهل لأحد على الله حق؟!
لا والله، ما لهم عليه حق، أنشأهم من العدم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً، ووافاهم بالنعم، فأين الحق الذي لهم عليه؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا
فهذا العبد فعل ذنوباً، وقد توعد الله عز وجل العاصي بالنار، ومع ذلك أخلف الله ميعاده للعبد العاصي وأدخله الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما امرأة بغي -تتاجر بعرضها- تمشي فوجدت كلباً يلهث ويلعق الثرى من العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ونزلت في البئر فملأته ماء، فسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها)، وهذه امرأة بغي؛ لأن إسقاط العقوبة تكرم يناسب الله عز وجل، فإذا كان يسقط العقوبة تكرماً أيرجع في الإحسان والهبة؟
والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على العبد أن يرجع في الهبة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) فأنكر على العبد، وهو لا يملك شيئاً ذاتياً يفتخر به، لا موهبة ولا مالاً، أنكر عليه أن يرجع في الهبة، أيرجع فيها رب العالمين؟ لا والله.
لذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآيات: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:100] هذا هو الانحياز المحمود .. إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، وقال عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ [القصص:5] فمن، وقال عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قد يقول القائل: أليس المستضعفون هم عباد الله وهم أولى الناس بالتمكين في الأرض؟ فلم يتركون في مهب الريح؟ ولم يدال عليهم ولا ينصرهم الله عز وجل بـ(كن) ويمضي أمره في الكون؟
فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل ذلك فتنه للعباد، فقال عز من قائل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، دفع الله الناس بعضهم ببعض .. هذا محق وهذا مبطل، إنما جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين؛ لأن أعظم ثمرة للاستضعاف هي تعلق القلب بالله عز وجل، هذه أعظم ثمرة يحصلها المؤمن: أن يتعلق قلبه بالله؛ لأنه ضعيف، فيحتاج إلى من يقوي ضعفه، فلا يكون إلا الله، وحياة القلب لا تكون إلا في وسط العواصف والمحن، لذلك رفع الله عز وجل شأن عباده بهذا الاستضعاف.
قوة القلب تعين على الصبر حال الاستضعاف
وقد ذكر الله عز وجل القلب كثيراً، مثل الصدع والران والختم والغلف، ولما ذكر الوحي وما يؤثر به في القلب ذكر الحيلولة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، ولذلك فلا تأمن مكر الله عز وجل.
استضعافك المحمود أساسه قلب سليم، ولذلك جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين، كم من رجال كانوا إذا سمعوا بالسجن ارتعدوا خوفاً، لكن لما دخلوا وخرجوا عظمت قوة قلوبهم، فلم يعودوا يرهبون شيئاً، ضع الإنسان في وسط العاصفة واتركه، بخلاف الجوارح فإنه لا يستقيم حالها مع البلاء والمحن، فإن البلاء والمحن تضعف الجارحة لكنها تقوي القلب، وتدبروا قصص الأنبياء والصالحين وانظروا إلى قوة قلوبهم، فإن العضو يستقي قوته من القلب، ومن الشواهد على ذلك: ما حدث لـجعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد قطعت يده اليمنى فحمل الراية باليسرى فقطعت، فحماها بعضده.
هذه هي قوة القلب وليست قوة العضو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فإذا اشتكت هذه اليد لا تستريح تلك، ولا تستريح الرجل ولا يستريح الدماغ؛ لأن هذه الأعضاء كلها تتداعى في المحن، إلا القلب فإنه ملك لا يكاد يشعر بالبلاء.
وهنا قصة عجيبة، ولولا أن سندها صحيح لما صدقها أحد، ذكرها الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله، وقد كان أحد التابعين الفضلاء، روى عن أنس بن مالك وغيره، حكى هذه القصة رجل كان يمشي بين الجبال، قال: ( فإذا أنا برجل قد قطعت يداه ورجلاه، وذهب بصره، وثقل سمعه، فلما ذهبت إليه واقتربت منه سمعته يقول: الحمد الله الذي فضلني على كثير مِمَن خلق تفضيلاً! قال: فقلت في نفسي: والله لآتين هذا الرجل، وأي نعيم هو فيه؟! لقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وثقل سمعه. قال: فذهبت وسلمت عليه، وقلت: يا عبد الله ! سمعتك تقول كذا وكذا، فأي نعمة أنت فيها وقد ذهبت يداك ورجلاك وبصرك وثقل سمعك؟! قال: يا عبد الله ! والله لو أرسل الله عليَّ النار فأحرقتني، والبحر فأغرقني، ما ازددت إلا شكراً له على هذا اللسان الذاكر، ثم قال: يا عبد الله ! إنك إذ وافيتني فلي عندك حاجة. قلت: ما هي؟
قال: إن لي ولداً كان يطعمني ويسقيني ويحضر لي الوضوء، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فهل لك أن تبحث لي عنه؟ قال: فقلت في نفسي: والله لا أسعى في حاجة عبد هو أفضل من هذا العبد. قال: فمضيت أبحث عن ولده، فما مضيت بعيداً حتى وجدت عظم الشاب بين الرمال، وإذا سبع قد افترسه، فركبني الهم وقلت: كيف أرجع إلى الرجل وماذا أقول له؟ وجعلت أتذكر أخبار المبتلين، فحضرتني قصة أيوب عليه السلام.
فذهبت إليه وسلمت عليه، فقال: يا عبد الله ! وجدت ولدي؟
قال: فقلت له: يا عبد الله! أتذكر أيوب؟ قال: نعم.
قلت: ماذا فعل الله به؟
قال: ابتلاه في نفسه وفي ماله.
قلت: كيف وجده؟
قال: وجده صابراً.
قال: يا عبد الله! قل ماذا تريد.
فقلت له: احتسب ولدك، فإني قد وجدت السبع افترسه.
قال: فشهق شهقة، وقال: الحمد الله الذي لم يخلق ذرية مني إلى النار.. ومات.
قال: فركبني الغم، ماذا أفعل وأنا وحدي؟ فإذا أنا بقطاع للطرق، فلما رأوني أغاروا عليَّ -بعدما سجى هذه الجثة وجلس يبكي، أغاروا عليه ليسرقوا الذي معه- فلما رأوه كذلك قالوا: ما يبكيك؟
فقال: مات صاحب لي ولا أملك له شيئاً.
فقالوا: اكشف عن وجهه، فلما كشفوا عن وجهه، فإذا هو أبو قلابة ؛ فبكى اللصوص وقالوا: العبد الصالح! وصلوا عليه ودفنوه ).
هذه هي قوة القلب: رجل فقد المنفعة، لا أطراف له، ولكنه لا يحس بعظمة المحنة التي ركبته بسبب قوة قلبه!
إذا من الله عليك بقوة القلب فلا تأسى على ما فاتك من الجارحة، لذلك أعظم الناس أجراً عند الله عز وجل هم الصابرون، فإن الله تبارك وتعالى قال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، لا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان.
إن العبد يوزن عند الله بقلبه لا بجسمه، وقد صدق ابن القيم رحمه الله لما قال على حديث: (يأتي العبد السمين فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة). قال: فقيمة العبد في قلبه؛ لذلك كان نصيب القلب من البدن هو الملك، فالقلب ملك البدن، فهو مستقر الإخلاص والتوحيد للملك، والعبد الذي وهب قلبه لغير الله لا يعبأ الله به، ولا قيمة له عند الله عز وجل.
وقد ذكر الله عز وجل القلب كثيراً، مثل الصدع والران والختم والغلف، ولما ذكر الوحي وما يؤثر به في القلب ذكر الحيلولة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، ولذلك فلا تأمن مكر الله عز وجل.
استضعافك المحمود أساسه قلب سليم، ولذلك جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين، كم من رجال كانوا إذا سمعوا بالسجن ارتعدوا خوفاً، لكن لما دخلوا وخرجوا عظمت قوة قلوبهم، فلم يعودوا يرهبون شيئاً، ضع الإنسان في وسط العاصفة واتركه، بخلاف الجوارح فإنه لا يستقيم حالها مع البلاء والمحن، فإن البلاء والمحن تضعف الجارحة لكنها تقوي القلب، وتدبروا قصص الأنبياء والصالحين وانظروا إلى قوة قلوبهم، فإن العضو يستقي قوته من القلب، ومن الشواهد على ذلك: ما حدث لـجعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد قطعت يده اليمنى فحمل الراية باليسرى فقطعت، فحماها بعضده.
هذه هي قوة القلب وليست قوة العضو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فإذا اشتكت هذه اليد لا تستريح تلك، ولا تستريح الرجل ولا يستريح الدماغ؛ لأن هذه الأعضاء كلها تتداعى في المحن، إلا القلب فإنه ملك لا يكاد يشعر بالبلاء.
وهنا قصة عجيبة، ولولا أن سندها صحيح لما صدقها أحد، ذكرها الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله، وقد كان أحد التابعين الفضلاء، روى عن أنس بن مالك وغيره، حكى هذه القصة رجل كان يمشي بين الجبال، قال: ( فإذا أنا برجل قد قطعت يداه ورجلاه، وذهب بصره، وثقل سمعه، فلما ذهبت إليه واقتربت منه سمعته يقول: الحمد الله الذي فضلني على كثير مِمَن خلق تفضيلاً! قال: فقلت في نفسي: والله لآتين هذا الرجل، وأي نعيم هو فيه؟! لقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وثقل سمعه. قال: فذهبت وسلمت عليه، وقلت: يا عبد الله ! سمعتك تقول كذا وكذا، فأي نعمة أنت فيها وقد ذهبت يداك ورجلاك وبصرك وثقل سمعك؟! قال: يا عبد الله ! والله لو أرسل الله عليَّ النار فأحرقتني، والبحر فأغرقني، ما ازددت إلا شكراً له على هذا اللسان الذاكر، ثم قال: يا عبد الله ! إنك إذ وافيتني فلي عندك حاجة. قلت: ما هي؟
قال: إن لي ولداً كان يطعمني ويسقيني ويحضر لي الوضوء، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فهل لك أن تبحث لي عنه؟ قال: فقلت في نفسي: والله لا أسعى في حاجة عبد هو أفضل من هذا العبد. قال: فمضيت أبحث عن ولده، فما مضيت بعيداً حتى وجدت عظم الشاب بين الرمال، وإذا سبع قد افترسه، فركبني الهم وقلت: كيف أرجع إلى الرجل وماذا أقول له؟ وجعلت أتذكر أخبار المبتلين، فحضرتني قصة أيوب عليه السلام.
فذهبت إليه وسلمت عليه، فقال: يا عبد الله ! وجدت ولدي؟
قال: فقلت له: يا عبد الله! أتذكر أيوب؟ قال: نعم.
قلت: ماذا فعل الله به؟
قال: ابتلاه في نفسه وفي ماله.
قلت: كيف وجده؟
قال: وجده صابراً.
قال: يا عبد الله! قل ماذا تريد.
فقلت له: احتسب ولدك، فإني قد وجدت السبع افترسه.
قال: فشهق شهقة، وقال: الحمد الله الذي لم يخلق ذرية مني إلى النار.. ومات.
قال: فركبني الغم، ماذا أفعل وأنا وحدي؟ فإذا أنا بقطاع للطرق، فلما رأوني أغاروا عليَّ -بعدما سجى هذه الجثة وجلس يبكي، أغاروا عليه ليسرقوا الذي معه- فلما رأوه كذلك قالوا: ما يبكيك؟
فقال: مات صاحب لي ولا أملك له شيئاً.
فقالوا: اكشف عن وجهه، فلما كشفوا عن وجهه، فإذا هو أبو قلابة ؛ فبكى اللصوص وقالوا: العبد الصالح! وصلوا عليه ودفنوه ).
هذه هي قوة القلب: رجل فقد المنفعة، لا أطراف له، ولكنه لا يحس بعظمة المحنة التي ركبته بسبب قوة قلبه!
إذا من الله عليك بقوة القلب فلا تأسى على ما فاتك من الجارحة، لذلك أعظم الناس أجراً عند الله عز وجل هم الصابرون، فإن الله تبارك وتعالى قال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، لا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان.
نحن مستضعفون في الأرض، حتى إن أذل الخلق استطالوا علينا، يذلوننا ويمضون ما يريدون وهم خمسة عشر مليون يهودي في الأرض كلها، ونحن ألف مليون مسلم، لو بصق الواحد منا بصقة واحدة لأغرقناهم، فكيف استطالوا علينا؟!
لقد ضعفت قلوبنا، ولا أقول: قويت قلوبهم؛ فهم أجبن من أن تقوى قلوبهم، لكنهم متمسكون بباطلهم، فهذا النتن الذي تولى الوزارة في إسرائيل، لما أراد أن يخطب خطبة الافتتاح في البرلمان لبس القبعة السوداء، والقبعة السوداء عندهم هي والتوراة شيء واحد، لأن لبس القبعة السوداء تعني أنه رجل متدين، لا يخرج عن حكم التوراة .. هكذا يعظمون التوراة.
أما نحن فقد ظهر عندنا من يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية! وينشر هذا الكلام في الصحف -في صحيفة الأخبار- ! وهو مستشار ومازال يحكم بين الناس، وكان ينبغي أن يقتل، يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية، كقوله تعالى: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ [طه:63] الجاهل الغبي يقول: ( هذان ) مرفوعة، و( إن ) تنصب الاسم، وجهل هذا الغبي أن ( إنْ ) هنا ليست ( أنَّ ) ولا (إنَّ)، فلا عمل لها حتى تنصب الاسم، إن الأطفال الصغار الذين يتعلمون (إنَّ وأخواتها) يعلمون هذه الحقيقة، ثم يطفح بهذا الجاهل على صفحات الصحف ولا زال يُذكر إلى الساعة!!
هذه أمة لا تقوم لها قائمة وكتاب الله عز وجل لا يعظم فيها.
وهناك رجل آخر ألف كتاباً ونشرته هيئة رسمية، وهي الهيئة العامة المصرية للكتاب، واسم هذا الكتاب: (آية جيم) وقد نشر وطبع طبعة أولى وثانية على رغم أنف الأزهر، يفتتحه مؤلفه بالشرك فيقول: باسم الشعب والسلطان الغشوم، وبعد ذلك يقول: إن القرآن غبن الجيم حقها، ولم يعطِ الجيم قدرها، وصاحبنا هو الذي أعطى الجيم قدرها! فألف هذا الكتاب وعمل فيه فقرات على وزان فقرات القرآن الكريم..!
ويريدون النصر على إسرائيل! لا والله، سنة الله لا تتخلف، والله لا يحابي أحداً من عباده، فإذا عظمنا الكتاب والسنة، وعظمنا الله عز وجل؛ رفعنا الله بغير كسب منا، إن الله عز وجل هزم الأحزاب وحده بغير كسب من المسلمين، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها وهزمهم.
فإذا رجعنا عبيداً لله عز وجل مكن لنا في الأرض ولو كنا أضعف الناس، مكن لنا بغير قذيفة واحدة نطلقها، لذلك كانت الدروس عن الاستضعاف وكيفية الخروج من الاستضعاف في غاية الأهمية للغرباء، نحذو حذو هؤلاء الغرباء وهم في طريقهم إلى الله عز وجل.
اللهم قو ضعفنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
قلنا: إن الهجرة علاج الاستضعاف، ولإن كانت الهجرة من البلد متعذرة، حتى وإن كان فيها عصاة، يظهرون خلاف الدين، لتعذر الخروج من مكان إلى مكان، فهناك الهجرة التي لا تنقطع، وهي الهجرة الواجبة التي يستطيع كل مسلم أن يحققها، وهي بوابة الهجرة الكبيرة، ألا وهي: الهجرة من المعصية إلى الطاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السوء)، وفي لفظ آخر: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .
إن إيماننا ضعيف؛ بسبب هذه القرون المتطاولة التي ورَّث الآباء ضعفهم إلى أبنائهم كما يورثون المال، بخلاف الصحابة الأوائل، فقد كان الواحد منهم يقوى ولا يبكي أبداً، ولا يلتفت إذا ترك ماله وداره وولده؛ لقوة قلبه.
همُّ أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة
فخرج أبو بكر خلفهم إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر ؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أخرج في الأرض -أو قال: أريد أن أسيح في الأرض- وأعبد ربي. قال: يا أبا بكر ! مثلك لا يخرُج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق.. ارجع وأنا جار لك-أي: أنت في حمايتي-.
فرجع ابن الدغنة فوافى كفار قريش قبيل المغرب، فجمعهم وقال: إن أبا بكر جار لي. فقالوا له: مره فليصل في داخل الدار ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا. فأخذ على أبي بكر ذلك، ثم بدا لـأبي بكر أن يستعلن بعبادته -هذا أنموذج للرجال الأبطال!- فبدا لـأبي بكر رضي الله عنه أن يخرج خارج الدار ويصلي، وكان لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكان يقرأ ويبكي، فتتقذف عليه النساء والأولاد يتفرجون على هذا النمط الجديد الذي ما رأوا مثله قط.
فشكا كفار قريش إلى ابن الدغنة وقالوا: إننا نكره أن نخفر جوارك، ولا نرضى بالذي فعله أبو بكر ، فإما أن يدخل وإما أن يرد عليك جوارك. فقال له ابن الدغنة : يا أبا بكر ! ما على هذا اتفقنا، فإما أن تدخل الدار وإما أن ترد عليَّ جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري. فقال له: بل أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
وظل أبو بكر رضي الله عنه هكذا والصحابة يهاجرون، حتى أراد أن يهاجر إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تريث؛ فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال: أو ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم). وفي يوم من الأيام جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، وهذا وقت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي فيه إلى بيت أبي بكر ، إنما كان يأتي بكرة وعشية، فلما رآه أبو بكر قال: (بأبي هو وأمي)، وهذه كانت كلمة معهودة عند الصحابة، يقول أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي) أي: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فأنت عندنا أغلى من آبائنا وأمهاتنا.
منزلة الآباء والأمهات
ذات مرة أرسلت إلي امرأة رقعة تستحلفني فيها بالله عز وجل أن أجيب بصراحة: هل أمك أغلى أم أولادك؟
ففهمت أن لها أبناء عاقين، وكأنها تستحلفني بالله عز وجل حتى أتكلم وأوصي الأبناء بالأمهات، ومادام أنها قد استحلفتني بالله عز وجل، فوالله الذي لا إله غيره: لزوجتاي وأبنائي في شراك نعل أمي، لا أقول: إن زوجتي وأبنائي يساوون أمي.. أبداً، بل في شراك نعلها! ولو كان أحد ينوب عن أحد في المرض ويفتدى به لافتديت بكل أولادي لرفع المرض من جسد أمي!
لقد كان الصحابة يقولون: (بأبي أنت وأمي) مباشرة! أي: يفدونه بالأغلى الذي لا غالٍ بعده، (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه. قالوا: خاب وخسر يا رسول الله! -فذكر أصنافاً من الناس ومنهم-: من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له) .
وروى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر رأى رجلاً يحمل أمه في الطواف، وهو يقول:
أنا لها بعيرها المذلـل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر ! تراني وفيتها -أي: وفيت أمي جميلها لما حملتها على كتفي، وطفت بها في هذا الزحام الشديد-؟ فقال له عبد الله بن عمر : لا، ولا بزفرة، والزفرة: هي وجع المرأة في الولادة، أي: هذا الذي فعلته لا يساوي زفرة من زفرات الأم في حال الوضع .
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة
فكان أبو بكر رضي الله عنه قد حبس راحلتين له وللنبي عليه الصلاة والسلام، ليركبا عليهما في الهجرة، فقال أبو بكر : يا رسول الله! هذه إحدى راحلتاي حبستها لك. فقال صلى الله عليه وسلم: بالثمن
)، أي: أدفع ثمنها.وهنا لفتة: فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد : (إن عبداً خيره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فأختار ما عنده، فبكى
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يدنس العمل الذي عمله لله بشيء من الدنيا، فلا تدنس إخلاصك بشيء من الدنيا، أخذ الراحلة ليركب عليها وأعطاه الثمن؛ ليكون ذلك كله لله عز وجل، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً للاستضعاف، وذهب فأبدله الله عز وجل بأناس آخرين غير الذين قاوموه وحاربوه وأخرجوه، واجتهدوا في أن يوصلوا إليه الأذى.
استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أسئلة وأجوبة[1] | 2879 استماع |
التقرب بالنوافل | 2827 استماع |
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده | 2769 استماع |
لماذا نتزوج | 2706 استماع |
انتبه أيها السالك | 2697 استماع |
سلي صيامك | 2670 استماع |
منزلة المحاسبه الدرس الاول | 2656 استماع |
إياكم والغلو | 2632 استماع |
تأملات فى سورة الدخان | 2619 استماع |
أمريكا التي رأيت | 2602 استماع |