تفسير سورة محمد [15-21]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15]. لما قال الله سبحانه وتعالى فيما تقدم: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ [محمد:12] وصف هنا تلك الجنات المعدة للمتقين. وقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) فـ(مثل) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: (( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا )) بتقدير حرف إنكار ومضاف، والمعنى: أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد؟! فالهمز للاستفهام الإنكاري، فيقدر في الأولى حرف الإنكار، وفي الثانية في قوله: (كمن هو خالد) عبارة: كمثل من هو خالد، ويمكن أن يكون المعنى: أمثَل الجنة كمثل جزاء من هو خالد، فلفظ الآية وإن كان بصيغة الإثبات إلا أنه في معنى الإنكار والنفي: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها).. ثم قال تعالى: (كمن هو خالد في النار)، فصورتها ولفظها الإثبات، لكنها في الحقيقة يراد بها الإنكار والنفي، أي: ليس هذا كذلك؛ لانطوائه تحت كلام مقدر بحرف الإنكار، وانسحاب حكمه عليه، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هي في السياق، وهذا من جزالة المعنى، وثَم أعاريب أخر. قال القرطبي : وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (مثال الجنة التي وعد المتقون)، وقال الشوكاني : الجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة، وبيان ما فيها، ومعنى: (مثل الجنة) أي: وصفها العجيب الشأن، وهذا مبتدأ خبره محذوف كما بينا، قال النضر بن شميل : تقديره: ما يسمعون، وقدره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة التي وعد المتقون، قال: والمثل هو الوصف، ومعناه هنا: وصف الجنة التي وعد المتقون، وجملة: (فيه أنهار من ماء غير آسن) إلى آخره مفسرة لهذا المثل، وقيل: إن (مثل) زائدة، أي: الجنة التي وعد المتقون.. إلى آخره، وقيل: إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله تعالى: (فيها أنهار)، وقيل خبره: (كمن هو خالد)، وهذا الذي ذكره القاسمي كما بينا. (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) أي: غير متغير الرائحة، والآسن من الماء مثل الآجن، وقد أسن الماء يأسن أسناً وأسوناً إذا تغيرت رائحته، ويأسن الرجل أيضاً إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك، فغشي عليه أو دار رأسه، قالزهير : قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسن وقرأ الجمهور: (فيها أنهار من ماء غير آسن) بالمد، وقرأ حميد وابن كثير بالخفض: (غير أسن)، وهما لغتان كحاذر وحذر، وقال الأخفش أسن للحال، وآسن فاعل يراد به الاستقبال. إذاً؛ فمعنى: (فيه أنهار من ماء غير آسن)، أنه ماء صافٍ لا كدر فيه. (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي: لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة، فلبن الجنة في غاية البياض والحلاوة والدسومة، وورد في بعض الآثار المقطوعة: (لم يخرج من ضروع الماشية). ثم قال تعالى: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، ومعنى: (الفعل) أي: حسنة الأثر، فقد نزه الله خمر الجنة، بقوله: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]، وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، وقال: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46]. وفي بعض الآثار: (لن تعصرها الرجال بأقدامها). إذاً: فوصف خمر الجنة بهذه الأوصاف يقتضي نجاسة خمر الدنيا كما ذهب إليه جمهور العلماء، فالله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بأنه شراب طهور، أي: أنه ليس بنجس كخمر الدنيا، (وأنهار من خمر لذة للشاربين)، وهذا فيه تنويه بخمر الدنيا من حيث حكم مظهرها وطعمها ورائحتها وفعلها، أي: أن أثرها لا يسلب العقل كما تفعل خمر الدنيا، ولذلك فإن من ترك الخمر في الدنيا لله فإنه يثاب بالشرب من خمر الآخرة، وكذلك من امتنع من لبس الحرير في الدنيا فإنه يثاب بلبسه في الجنة، وهكذا: (من ترك شيئاً لله عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه). (وأنهار من خمر لذة للشاربين ) لذة: قراءة الجمهور بالجر على أنها صفة للخمر، وقرئ بالنصب: (لذةً للشاربين) على أنه مصدر أو أنه مفعول له، وقرئ بالرفع: (لذة للشاربين)، فيكون صفة لأنهار. قال الطبري : فأما القراءة فلا أستجيزها إلا خفضاً لإجماع الحجة من القراء عليها. (وأنهار من عسل مصفى)، والعسل يذكر ويؤنث. قال القرطبي : العسل ما يسيل من لعاب النحل، أي: ما يفرزه النحل، (مصفى) أي: مصفى من الشمع، ومصفى من القذى، خلقه الله سبحانه وتعالى كذلك لم يطبخ على نار، ولا دنسه النحل. وفي سنن الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد) أي: تتفرع منها الأنهار بعد ذلك، قال الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة). وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن) ، وقد أخذ البعض من هذا الوصف للفردوس أن الجنة -من حيث الخلق- كروية؛ لأن الأوسط لا يكون أعلى إلا فيما هو كروي. (ومنه تفجر أنهار الجنة)، وهذا هو الشاهد في موضوعنا. (ولهم فيها من كل الثمرات)، كقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:55]، وقوله عز وجل: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] يعني: لأهل الجنة في الجنة، وذلك مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، (ولهم فيها من كل الثمرات) (من) هنا زائدة للتوكيد، قاله القرطبي . (ومغفرة من ربهم) أي: ومع ذلك كله مغفرة من ربهم لذنوبهم، ونُكِّرت (مغفرة) لأجل تعظيم هذه المغفرة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من ثوابهم المعنوي، فالجنة فيها كل أنواع النعيم كما قال تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وقال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وأما ما يشتغل به بعض الجهلة والملاحدة من الكفار والمستشرقين وأذنابهم من أنهم يمنعون على القرآن الكريم أن يعد المؤمنين بالمتاع والطعام والشراب والفاكهة في الجنة، فهذا بلا شك جهل منهم؛ لأنهم أصلاً ليس عندهم وصف للجنة، وليس لديهم تفصيل بذلك كما بينه الله سبحانه وتعالى في هذه الرسالة الخاتمة، وإنما عندهم أن الإنسان الذي يثاب فإن ذلك يكون بألا تخرج منه الروح فقط، فتطلع روحه إلى السماء ثم ترجع وإلى جسده، وأما في الإسلام فمعلوم أن الإنسان مركب من روح وجسد، فالروح لها متاعها، والجسد له متاعه، ولا ينكر شيء من هذا على الإطلاق، ثم إن آدم وحواء كانا في الجنة، ثم خرجا بسبب مخالفة أمر الله تعالى بعدم القربان من الشجرة، فهذا الأمر متفق عليه بيننا وبين أهل الكتاب، فهم يؤمنون أنهما كانا في الجنة، إذاً: فأهل الجنة يأكلون، لكنهم يتنزهون عن الأنجاس والأوصاف التي تكون في الدنيا، فمتاع الدنيا لابد أن يوجد فيه ما يكدره، ولا يوجد شيء من متاع الدنيا صافٍ، فقد يحب الإنسان نوعاً معيناً من الفاكهة، لكن قد يجد فيها ما يكدره ويضايقه، فعلى الإنسان أن يفتقد أن الدنيا دار متاع، وأن ما يوجد من هذا المتاع فإنه لمجرد التنبيه إلى لذات الآخرة الحقيقية الدائمة، فعامة لذات الدنيا لابد فيها من مكدر، وذلك إما بالنصب والتعب في تحصيلها، وإما ببعض المشاق في إعدادها للطعام وغير ذلك، فالدنيا ليست دار نعيم مطلق، وإنما هي دار ابتلاء، وكما قال تبارك وتعالى في النار مثلاً: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:71-73]، فبين عز وجل أن الحكمة من خلق النار (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين) أي: إذا رأوها تذكروا نار الآخرة، و(متاعاً للمقوين) أي: متاعاً للاسترفاه، ولإنضاج الطعام، وللإضاءة وغير ذلك من منافع النار، لكن الهدف الأساسي والغاية الأولى هي: (تذكرة) أي: رأيتموها تذكرتم نار الآخرة، وكذلك إذا رأى الإنسان نعيماً في الدنيا فإنه يذكره بنعيم الآخرة، فلذلك جعلت عامة الشهوات مقرونة بالأوجاع والآلام والمكدرات؛ تنبيهاً إلى أن هذه الدار ليست هي دار النعيم، وإنما هي دار قرن ما فيها من نعيم بما يكدره وينغصه، فالإنسان إذا لم يذق هذا المتاع فإنه لا يستطيع أن يتخيل متاع الدنيا، فإذا وجد أي نوع من أنواع هذا المتاع في الدنيا فإنما هو لتنبيه الإنسان على أن في الجنة ما هو أعظم منه، فقوله هنا: (ومغفرة من ربهم) هو نوع من أنواع نعيمهم الروحي، وجزائهم المعنوي، وقال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] وقد تو

قال تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16]، يذكر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم أنهم كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً. قال القرطبي : أي: من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم: قوم يستمعون إليك، وهم المنافقون كـعبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن الدخشم، فقد كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنها، فإذا خرجوا سألوا عنه، وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر، لأن على قلوبهم أقفالاً، وتلك الأقفال تمنع من أن يدخل فيها الإيمان، أو أن يخرج منها النفاق، والله تعالى أعلم. قوله: (( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا )).يقول ابن جرير : حتى إذا خرجوا من عندك قالوا إعلاماً منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقيلك لهم ما قلت، يقولون لمن كان حاضراً من أهل العلم: إنهم لم يصغوا سماعهم لقولك وتلاوتك، ماذا قال آنفا؟ يعني: ماذا قال لنا محمد صلى الله عليه وسلم آنفا؟ قوله تبارك وتعالى: (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) قال ابن كثير يعني: من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقال عكرمة : هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهذه منقبة لـعبد الله بن عباس ، وقال ابن عباس : أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل. وفي رواية عن ابن عباس أن المقصود بالآية عبد الله بن مسعود وكذا عبد الله بن بريدة . وقال القاسم بن عبد الرحمن : هو أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، وقال ابن زيد : إنهم الصحابة، وقال الشوكاني : والأول أولى، يعني: علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا تعارض بين ما ذكر من أمثلة من علماء الصحابة وبين التعميم. قوله: (آنفاً) أي: الآن، على جهة الاستهزاء، أي: إما أنهم يقولون: ماذا قال آنفاً؟ على سبيل الاستفهام الحقيقي، وهذا يدل على غباوتهم، وقلة فهمهم، وبلادة عقولهم، فهم لا يعون ما يعيه المؤمنون. وتفسير آخر: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) أنهم يقولون ذلك على جهة الاستهزاء، وإعلاناً منهم أنهم لا يبالون بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يلتفتوا إلى قوله عليه الصلاة والسلام، أما قوله تعالى: (ماذا قال آنفاً) فالآنف: هو الساعة أو الوقت الذي هو أقرب الأوقات إليك، تقول: استأنفت الشيء إذا بدأت به، ومنه: أمر أنف، أي: مبتدأ، و(روضة أنف) أي: لم يرعها أحد، و(كأس أنف) إذا لم يشرب منها شيء، فكأنه استأنف شربها، وهو مثل: روضة أنف، وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عَقِل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقِل ولم ينتفع بما سمع، وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عالم، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. (ماذا قال آنفاً) قرئ (آنفاً) منصوباً على الظرفية، أي: وقتاً مؤتنفاً، أو حال من ضمير من قال.

قال تبارك وتعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ))، أولئك إشارة إلى المذكورين من المنافقين، وقلنا: إنهم منافقون؛ لأن الذين كانوا يحضرون مجلس النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المنافقين، وكانوا لا يجترئون على مواجهته بما يكره، والمنافقون -كما تعلمون- ظهر أمرهم في المدينة ولم يكونوا في مكة، وهذه السورة مدنية، فكانوا يحضرون ويمارسون جميع تعاليم الإسلام الظاهرة، ويتواجدون في مجامع ومجالس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا خرجوا من عنده طفحت قلوبهم، وفاضت ألسنتهم بما في قلوبهم من النفاق، كما سيأتي في قوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]. (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) (أولئك) أي: المذكورون من المنافقين، (الذين طبع الله على قلوبهم) فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير، (واتبعوا أهواءهم) أي: في الكفر والعناد. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وسوى جل ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين في أنهم جميعاً إنما يتبعون أهواءهم، فيما هم عليه من فراقهم دين الله الذي ابتعث به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل في هؤلاء المنافقين: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم). وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك: (كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)؟ وقال القاسمي : (واتبعوا أهواءهم) أي: آراءهم لا ما يدعو إليه البرهان، ولفظ (الهوى) عامة في القرآن مذموم، فالهوى لا يأتي في القرآن إلا مذموماً. وقال ابن كثير : (واتبعوا أهواءهم) أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح.

قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، (والذين اهتدوا) أي: للإيمان (زادهم الله هدىً)، وقيل: (زادهم هدىً) أي: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدىً، وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى أي: يتضاعف يقينهم، ولاشك أن هذا أحد الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن القاعدة: أن ما كان قابلاً للزيادة فإنه يكون قابلاً للنقص، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، وهذه من عقائد أهل السنة والجماعة التي فارقهم فيها أهل الأهواء والبدع كالمرجئة، فقد ذهبوا إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، وهذا غير صحيح؛ فكلما تعلم الإنسان أكثر وزاد من الأعمال الصالحة ازداد عنده الإيمان، فكثير من الناس يسألون وهم متحيرون، فيقول أحدهم: إنه يشعر بضعف إيمانه، ويشعر بضعف يقينه، ويشعر بتراجع في قوة إيمانه، والأمر في ذلك واضح، فكما ازددتَ من الأعمال الصالحة ازداد وارتفع الإيمان في قلبك، وكلما أكثرت من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وتجنبت المعوقات كإطلاق البصر، ومقارنة جلساء السوء، والتعرض لمواقع الفتن، ووفرت الشروط، ونفيتَ الموانع شعرت في نفسك بقوة الإيمان وزيادته، فهذا الأمر محسوس، فكلما أتيت من شعب الإيمان بما هو أكثر، واجتهدت في ذلك فستشعر أن مرض القلب سوف يشفى بإذن الله تبارك وتعالى. (والذين اهتدوا زادهم هدى) قال الفراء : زادهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هدىً، وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى، وفي الهدى الذي زادهم الله أربعة أقاويل: قال الربيع بن أنس : زادهم علماً، وقال الضحاك : (أنهم علموا ما سمعوا، ثم عملوا بما علموا، أي: أنهم أعقبوا العلم الذي سمعوه بالعمل، وفي العمل بعد العلم زيادة هدى، وقد أعطى القرآن الكريم هذه المسألة اهتماماً عظيماً، فتردد في مواضع من القرآن الكريم أهمية ربط العلم بالعمل، كما في قوله تبارك وتعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وكما في قوله تبارك وتعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88]، وفي قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وفي قوله عز وجل: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]، أي: أنه كان يعمل بما علم، وجاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام:91]، أي: علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، فقد أثبت ونفى، فالمراد: علمتم شيئاً لم تعملوا به، فكأنكم لم تعلموه؛ لأنكم اشتركتم مع من يجهل هذا الأمر في عدم العمل، وقيل في قوله تبارك وتعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]: إنهم قطعوا كل ما أمر الله به أن يوصل، فمما أمر الله به أن يوصل: أن يوصل العلم بالعمل، فالتفريط في ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه: أن يتخلف العلم عن العمل، ويدخل فيما أمر الله به أن يوصل: وصل الإيمان بالأنبياء السابقين وبالنبي الذي أرسل إليه، ويدخل فيها أيضاً صلة الرحم، وغير ذلك مما أمر الله به أن يوصل. إذاً: (والذين اهتدوا زادهم هدىً) قيل: علماً، وقيل: العمل بهذا العلم بعد أن سمعوه، وقيل: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقيل: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) أي: ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: الأول: (وآتاهم تقواهم) أي: آتاهم الخشية. والثاني: (وآتاهم تقواهم) أي: أتاهم ثواب تقواهم في الآخرة. والثالث: (وآتاهم تقواهم) أي: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم. الرابع: (وآتاهم تقواهم) أي: بين لهم ما ينبغي عليهم أن يتقوه ويتجنبوه مما نهى الله عنه. الخامس: (وآتاهم تقواهم) قيل: هو ترك المنسوخ بالناسخ. وقال الماوردي : ويحتمل أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم، وقرئ: (وأعطاهم تقواهم)، بدلاً من (وآتاهم). قال عكرمة : هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).

قال الله تبارك وتعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [محمد:18]، هذا كقوله تعالى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ [النجم:56-57] و(الآزفة) اسم من أسماء يوم القيامة، وقال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وقال عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]. إذاً: فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: (فقد جاء أشراطها) بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه -كما ذكرنا في أول تفسيرها- أنها مدنية، فبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ونزول الوحي عليه أحد أشراط الساعة الكبرى، فمنذ ذلك الوقت وإلى أن يشاء الله والأشراط والآيات تتوالى، : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، فكثير من الناس ينتظرون بهذا الكلام قرب قيام الساعة، وقد حصل أكثر من مرة بعض الحوادث، وكلما حصلت حادثة حاول الناس أن يلصقوها بقرب وشيك لقيام الساعة، فهناك أحداث مرتبة لها ترتيب زمني معين، فلا تأتي الساعة إلا بعد أن تحصل هذه الأشياء وخاصة العلامات الكبرى، وبعض الناس يستعجلون في تفسير بعض الحوادث فيحصل نوع من الكلام بالهوى وبدون علم، فلما وقعت حرب الخليج مثلاً يقول بعضهم: هذه هي الملحمة المذكورة، فكيف تكون ملحمة ولم يحصل قبلها شيء؟! ويقولون: نحن الآن أصبحنا في القرن الخامس عشر، وقد مرت سنوات من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وقت اقتراب الساعة! وقد كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً والشمس في الأفق على عشش المدينة، ولم يبق إلا الشيء اليسير في الأفق، فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)، فانظر هذه الدقائق المعدودات قبل غروب الشمس، فالنسبة فيه ما بقي من الدنيا إلى ما مضى منها كالنسبة بين هذه الدقائق في آخر اليوم إلى ما مضى من هذا اليوم القريب. يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً؟! فقال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) رواه البخاري . إذاً: فاقتراب الساعة أمر نسبي، والإنسان لا ينشغل كثيراً بموضوع اقتراب الساعة كما حصل من قبل؛ ومن طبيعة الإنسان أنه دائماً شغوف لمحاولة استطلاع المجهول، فهذه فطرة الإنسان، وقد أشبع الإسلام هذه الفطرة والغريزة في الإنسان، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه أوحى إلى نبيه كثيراً جداً من أخبار الغيب، فهم يسمونه المغيب، ونحن نسميه الغيب، وأشبعت هذه الغريزة عن طريق الأخبار التي أتت في القرآن والسنة تخبرنا عن كثير جداً من المغيبات، سواء فيما مضى من أحداث هذا الكون والخلق، أو فيما سيأتي في أواخر الزمان، فيحصل بعد ذلك ما يحصل من تفاصيل يوم القيامة مما يكون في الجنة، ومما يكون في النار، وصفة أحوال أهلها إلى غير ذلك، فقد استجاب القرآن الكريم لهذه الفطرة في الإنسان -وهي غريزة حب الاستطلاع والتطلع إلى الغيب- وذلك بما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يستطيل الوقت فمن ثم يحاولون أن يصدقوا بعض الأخبار الضعيفة. وبعضهم لا يستحي عندما يكتب من أن يقول: أعرف كذا وكذا في الكتب المقدسة!! ويقصد بالكتب المقدسة التوراة والإنجيل! فهل يجوز لمسلم أن يصف كتاب اليهود والنصارى بأنه كتاب مقدس كما يسمونه هم؟! إن كان ولابد فتقول: كتاب مقدس عندهم، وأما عندنا فليس مقدساً، ونحن نؤمن بالإنجيل والتوارة وجميع الكتب التي أوحاها الله، لكنها تلك الكتب التي لم تحرف ولم تبدل ولم تغير، وأما وضع المصداقية لهذه الكتب المحرفة، والتي فيها الكذب على الله وعلى أنبياء الله عز وجل، وفيها التحريف، وأنها مصادر علمية معتمدة وموثقة فهذا غير صحيح، فلا يوجد سند على الإطلاق بيننا وبين أهل الكتاب، إن الله تعالى قد آتانا هذا القرآن، فكيف نعرض عنه في غمرة العواطف واستعجال يوم القيامة؟! بأننا لو قلنا: إن فلاناً هو المقصود ففيه شرك؛ لأنك تخبر بالأخبار قبل أن تقع، فعندنا مئات من النبوءات الصادقة الثابتة قطعاً وقد حصل منها كثير وسيحصل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى. إذاً: فالانسياق وراء هذه الغريزة -غريزة التطلع لأحداث اليوم الآخر واقتراب قيام الساعة- يتعب النفس، فهذه أمور كونية قدرية سوف تقع لا محالة كما أخبر الله عز وجل، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فأنت مسئول إذا حصلت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن تجزم بذلك، وأما قبل حصولها فلا تجزم، لكن يكفيك أن تعرف قطعاً وبلا شك أن ساعتك الخاصة بك قد اقترب، فهناك ساعتان للمرء: الساعة الأولى: وهي ساعة انتهاء عمر الدنيا، ثم يكون القيام من القبور، فالقيامة عبارة عن انتهاء الدنيا، والانتقال إلى الآخرة، فهذا في حق الدنيا، فتنتهي الدنيا بقيام القيامة، فهذا حد فاصل بين الدنيا والآخرة. والساعة الثانية: هي الموت، والموت قريب في كل شخص منا، وهو عبارة عن قيامة وساعة؛ لأنك تنتقل من الدنيا إلى مقدمات الآخرة في الحياة البرزخية، وهناك ينقطع عملك، وتواجه حسابك. إذاً: فلكل إنسان قيامة، وقد قال بعض السلف: من مات فقد قامت قيامته، فعليك أن تنشغل بيوم القيامة الخاصة بك؛ لأنك قطعاً ستسأل عنه، لذا فإنه يجب عليك أن تستعد له، وأما أن نستسلم لما ذكرناه سابقاً كما حصل مراراً أن بعض الناس يعمل سيناريو وحواراً وإخراجاً لهذه القضية، وقضية خروج المهدي فهذا لا ينفع، وقد أشيع أن في مستهل القرن الخامس عشر ستقوم القيامة، فكان الناس خائفين من ذلك، وحاول أصحاب هذه الشائعات أن يخترعوا سيناريو معيناً من أجل أن يصدق أن هذا هو المهدي، وأننا لابد أن ننصره. واسمع إلى هذه الكلمة من بعض الأئمة أظنه سفيان الثوري، فقد سئل عن المهدي فقال: إذا خرج فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه. أي: حتى لو أن المهدي الحقيقي خرج فلا تكن منه في شيء، ولا علاقة لك به حتى يجتمع الناس عليه، فإذا اجتمع الناس من علماء وغيرهم عليه، واستقر الأمر أن هذا فعلاً هو المهدي الذي أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة يمكنك أن تنضم إليه. فإذا سمعت بأحد يدعي أنه المهدي فتذكر هذه النصيحة من هذا الإمام الجليل: إذا خرج -أي: المهدي- فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه، فهذه إشارة عابرة عن آخر صيحة في عالم المؤلفات، فبعد أن ذقنا سنين من مئات الكتب التي اتصلت بالجن والعفاريت، ورأينا هذا التهريج والإسهال التأليفي في موضوع الجن، ونحن الآن في أحدث الصيحات الموجودة وهي موضوع قيام الساعة، ولعلنا عما قريب سنتكلم فيه بشيء من التفصيل. فقوله تعالى: (( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً )) فيه إشارة إلى قرب قيام الساعة بغتة فجأة، فالساعة قريبة لا شك فيها، قال تعالى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ [النجم:56-57] فهي قريبة، لكن اقترابها نسبي، وليس المراد أنها ستقوم الآن، فلا زال هناك كثير من أشراط الساعة الكبرى لم يأت كخروج المهدي، ونزول المسيح عليه السلام، ثم خروج المسيح الدجال.. إلى آخر تلك الأمارات العظمى، فليس هناك حرج على الإطلاق أن تقول: لن تقوم الساعة الآن، وقد رأينا كثيراً من الدجالين الذين يخرجون في هذا الزمان، فتسمع بعضهم يقول: يوم القيامة سيكون في يوم السبت القادم، فالإنسان روحه ليست في يده وإنما هي في يد غيره وهو الله سبحانه وتعالى، يأخذها متى شاء، فكل واحد له يوم قيامة وهي ساعة موته. فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام بأنه هناك ترتيباً معيناً أوحي إليه، فلن تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا وكذا من الأمور المرتبة ترتيباً زمنياً. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة -يعني: من علامات الساعة الكبرى- لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وكذا قال الضحاك ، قال القاسمي : وهو كما قال، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمسيح عليه السلام إذا نزل فإنه لم ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وينزل المسيح -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- وقد أقام المسلمون صلاة الفجر، فيخرج المهدي إلى المسيح ليؤمهم في صلاة الفجر، فيأبى المسيح عليه السلام ويقول: إن بعضكم لبعض أئمة؛ تكرمة الله لهذه الأمة، فالمسيح عليه السلام يتجنب الشبهة؛ لأنه ربما إذ

قال الله تبارك وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19]. قوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالم بالله، فما المقصود إذاً من قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)؟ قال الماوردي : فيه ثلاثة أوجه: الأول: اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: ما علمتَه تبياناً فاعلمه خبراً يقيناً. الثالث: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) يعني: فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم؛ لأن الذكر يحدث عن العلم. وجاء عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك). فالاستغفار عمل، والأولى علم، فبدأ بالعلم قبل العمل. وقال أيضاً: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الحديد:20] إلى قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21] فدل على أن العلم يكون أولاً، ثم العمل. وقال تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] وقال قبلها: فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فالحذر عمل، وقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] إلى آخره، ثم أمر بالعمل بعده. وقوله: (واستغفر لذنبك) يحتمل وجهين، أحدهما: استغفر الله أن يقع منك ذنب، الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب، وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي: اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص، والحذر، مما تحتاج معه إلى الاستغفار. وقيل: الخطاب في قوله: (واستغفر لذنبك) للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، وهذا كثير ما يأتي في القرآن أن يكون الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد أمته كقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] فالأمر هنا للنبي، والمقصود أمته عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا القول: فإن هذه الآيات توجب على المسلم أن يستغفر لجميع المسلمين؛ لقوله: (( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ))، ولا شك أن تكرار اللام إشارة إلى أن ما يضاف إلى النبي عليه السلام من الذنب ليس كما يكون من المؤمنين، وقد كررنا ذلك مراراً، فهي بالنسبة إلى مقامه الشريف تكون كبيرة، وكما قال الجنيد : حسنات الأبرار سيئات المقربين، فبالنسبة لمقامه سميت ذنوباً، مع أنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أنها من باب ترك الأولى، فلذلك أرشد به، وإما أنها اجتهاد اجتهده النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أن فيه رضا الله، فعمله ابتغاء مرضاة الله، ثم بان له بعد ذلك أنه لا يوافق رضا الله، فعاتبه الله عليه، فهو لم يقصد ولم يتعمد المخالفة، والأمثلة كثيرة نتعرض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفتح بإذن الله تعالى. جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استغفر للمسلمين والمسلمات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام. ففيه الترغيب وفضيلة أن يعم الإنسان في دعائه عامة المؤمنين، فلا يزهد الإنسان في هذا الثواب، وقد يقول قائل: كيف تصل هذه الدعوة إلى كل المؤمنين والمؤمنات؟ فنقول: نعم، فهذا من أكثر الأدعية بركة أن تدعو لنفسك، وتضم معك في الدعاء عامة المؤمنين والمسلمين، (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كان له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة). فالمؤمنون كثر -ولله الحمد- في كل زمان، فإذا استغفرت لهم نلت حسنة عن كل نفس مؤمنة، فهذا مما لا ينبغي أن يُزهد فيه. قيل: كان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت هذه الآية: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أُمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة، (فاستغفر لذنبك) حتى تقتدي به الأمة في ذلك، (وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وهذا أمر بالشفاعة. روى مسلم : عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه، فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، فقال لي صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: (( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ))، ثم تحولتُ فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه جمعاً، عليه خيلان كأنه الثآليل). فـعبد الله بن سرجس رضي الله عنه يعرف أدب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا واجهه بهذه العبارة: (يا رسول الله! غفر الله لك) يعلم أنه سيجزيه ويثيبه عليها بأن يقول له: ولك، فيدخل تحت من استغفر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (ثم تلا هذه الآية: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، يقول عبد الله بن سرجس : (ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه)، وهذه من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان خاتم النبوة بين كتفيه، وكان مكتوب فيه: محمد رسول الله. وقوله: (جمعاً) أي: مثل جمع الكتف، يعني: كما تجمع الأصابع وتضمها هكذا جمعاً، (عليه خيلان كأنه الثآليل)، الخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد، والثآليل: جمع ثؤلول: وهي حبيبات تعلو الجسد، وهي التي كانت تكتب جملة: محمد رسول الله بالشامة أو هذه الحبيبات. إن خاتم النبوة هذا أمر ثابت بلا شك، والعجيب أنه موجود حتى الآن إشارة إلى ذلك في كتب اليهود والنصارى، فالذي يدّعونه مقدساً موجود فيه هذا النص في وصف خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلمون أن هذا كان أحد العلامات التي استدل بها سلمان الفارسي رضي الله عنه على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فـسلمان له رحلة طويلة جداً في البحث عن الحق، وقد استغرقت هذه الرحلة عمراً طويلاً، فظل يتنقل بين علماء النصارى إلى أن قال له آخر واحد منهم: إنه قد حضر زمان هذا النبي، أو: إنه كاد أن يظهر في بلاد العرب في يثرب -وهي المدينة- فظل يتنقل إلى أن وصل إلى المدينة، وعلم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى مكة، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام كان هذا الحبر أو العالم النصراني قد قال له: إن من صفته أنه يقبل الهدية -أي: يأكل الهدية- ولا يأكل الصدقة، ومن صفته أن هناك خاتم النبوة بين كتفيه، فذهب سلمان إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: لقد وجدت أنت وأصحابك في حالة من الضعف والفقر فأتيتك بهذه الصدقة، فأتى بإناء فيه تمر قد جمعه، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام ودفعه إلى أصحابه وقال: كلوا، ولم يأكل هو، فقال سلمان: هذه واحدة. ثم أتاه في اليوم الثاني وقال له: رأيتك لم تأكل من التمر الذي أتيتك به بالأمس فهذه هدية، فقربها إلى أصحابه وأكل معهم، فقال سلمان: وهذه الثانية. ثم تحول سلمان رضي الله تعالى عنه إلى خلف النبي عليه الصلاة وجعل ينظر، فتفطن النبي عليه السلام أن هذا الرجل يريد أن يرى خاتم النبوة بين كتفيه، فألقى الرداء فرآه، ثم أسلم، إلى آخر هذه القصة الجميلة المليئة بالعبر، وهي قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه. قال حسان : على كتفيه للنبوة خاتم من الله يلوح ويشهد (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، وتعلمون أن من شروط لا إله إلا الله: العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، فإنها تنفي استحقاق غير الله للعبادة، وتثبت استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة وحده لا شريك له، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله. قوله: (والله يعلم متقلبكم ومثوابكم) أي: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. وقيل: (متقلبكم) أي: في أعمالكم نهاراً، (ومثواكم): في ليلكم نياماً، أي: أنه يعلم كل أحوالكم سواء في تقلبكم في النهار في حاجاتكم أو مثواكم في أثناء الليل حينما تنامون. وقيل: (متقلبكم) في الدنيا، (ومثواكم) في الدنيا والآخرة. وقيل: (متقلبكم) في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، (ومثواكم) أي: مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن إلى الدنيا، ومثواكم في القبور، والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه، فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلاً في الأولى والأخرى سبحانه لا إله إلا هو.

قال الله تبارك وتعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:20-23]. قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) قرأ الجمهور: (فإذا أنزلت) وذكر على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير : (فإذا نزلت)، وذكر على بناء الفعلين للفاعل، ونصب القتال. وهذه السورة محكمة، يعني: هذه الآية آية محكمة، فليس فيها نسخ، قال ابن جرير : وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) معنى قوله: (سورة محكمة) يعني: محدثة النزول، وهذه القراءات تفسر المعنى، وليس المقصود بكونها محدثة أنها مخلوقة، وإنما المراد أنها محدثة من حيث النزول، فالقرآن محدث بالنسبة لنزوله، وأما من حيث هو فهو كلام الله. (طاعة وقول معروف) قال القرطبي : قراءة أبي : (يقولون طاعة). (فهل عسيتم) قال الطبري : أجمعت القراء غير نافع على فتح السين من قوله: (فهل عسيتم)، وكان نافع يكسرها ويقول: (فهل عسِيتم)، قال ابن جرير : والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين بإجماع الحجة من القراء عليها، وأنه لم يسمع في الكلام -أي: كلام العرب- عسي أخوك يقوم، بكسر السين وفتح الياء، ولو كان صواباً كسرها إذا اتصل بها مكني جاءت بالكسر مع غير المكني، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكني، وإن التي تلي (عسيتم) مكسورة، وهي حرف جزاء، و(أن) التي مع (تفسدوا) في موضع نصب بعسيتم. (فهل عسيتم إن توليتم)، قرأ الجمهور (إن توليتم) مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب : بضم التاء وكسر اللام مبني للمفعول (فهل عسيتم إن توليتم)، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب. وقال القرطبي : قراءة علي بن أبي طالب (إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) بضم التاء والواو وكسر اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، فرواها رويس عن يعقوب : (فهل عسيتم إن تُولِّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، قال القرطبي : قراءة يعقوب وسلام وعيسى وأبي حاتم : (وتقطعوا أرحامكم)، بفتح التاء وتشديد القاف، من القطع اعتباراً بقوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]. وروى هذه القراءة هارون عن أبي عمرو وقرأ الحسن : (وتقطعوا أرحامكم) مفتوحة الحروف مشددة؛ اعتباراً بقوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:93]، وأما الباقون فقد قرءوها: (وتُقَطِّعوا) بضم التاء المشددة والطاء، من التقطيع على التفسير، وهو اختيار أبي عبيد . قوله: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) أي: نظراً مثل نظر المغشي عليه، (فأولى لهم) هذا مبتدأ وخبر، وقيل: خبر ((أولى)): (طاعة)، (فأولى لهم طاعة) ، وقيل: طاعة صفة لسورة، أي: ذات طاعة. قال في فتح البيان: وفيه بُعد لكثرة الفواصل، وقيل: طاعة مبتدأ، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل من غيره، وقيل: التقدير: أمرنا طاعة. قوله: (إن توليتم) جملة معترضة بين (عسيتم) و(أن تفسدوا)، خبر عسى، و(أولئك) إشارة إلى المفسدين، قال في (فتح البيان) من هنا إلى آخر السورة لا يظهر إلا كونه مدنياً صحيح؛ لأن القتال لم يشرع إلا في المدينة، وكذلك النفاق لم يظهر إلا في المدينة. فيحمل القول فيما تقدم بأنها مكية على أغلبها أو أكثرها، ويحمل القول بأنها مدنية على البعض منها. يقول الله تعالى مخبراً عن المؤمنين الذين صدقوا الله ورسوله في تمنيهم شرعية الجهاد، قالوا: (( لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ )) ، فهذا شأن المؤمنين، أنهم يتشوقون إلى تشريع الجهاد؛ ليحصلوا ما يترتب عليه من الفوائد، وأعظم ذلك الشهادة في سبيل الله. (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ))، أي: أنهم متشوقون إلى نزول سورة تشرع لهم الجهاد والقتال. (( لَوْلا )) أي: هلّا نزلت سورة؛ اشتياقاً للوحي، وحرصاً على الجهاد وثوابه. فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]. وهاهنا يقول عز وجل: (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ )) أي: مشتملة على حكم القتال؛ ولهذا قال هنا: (( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، أي: في معنى الجهاد، (مُحْكَمَةٌ)، أي: غير منسوخة. (( وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين؛ لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وهذا الموضوع بالذات يحتاج إلى بعض الإيضاح، وقد سبق أن أخذناه بالتفصيل في محاضرة، وجعلناها موضوعية إلى التيارات الجهادية، فلا نطيل الآن في ذكره. (( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ))، أي: ذكر فيها الأمر بقتال المشركين. (( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) أي: شك، وهم المنافقون، أو ضعْف في الدين، وأصل المرض: الفتور، فمرض القلوب: فتورها عن قبول الحق، والأول أظهر؛ لموافقته سياق النص الكريم، أي: أنهم المنافقون. قوله: (( يَنظُرُونَ إِلَيْكَ )) -أي: يا محمد! عليه الصلاة والسلام- شزراً وكراهية منهم، وينظرون نظر مغموصين ومغتاظين بتحديث وتحديد، يحدثون بأعينهم، ويحدون النظر من الشزر والكراهية، والغيظ الذي يملأ قلوبهم. وقوله: (( يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ )) أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء خوفاً من أن تؤذيهم فتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وهم في السر يميلون إلى الكفار، فأنت ستأمرهم إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال، فهم يخافون أن تأمرهم بالخروج لجهاد الكفار الذين يحبونهم، ويوالونهم في السر، ويظهرون أنهم معك، فيظهر ذلك في عيونهم وفي نظراتهم. (( مِنَ الْمَوْتِ ))، أي: من خوف الموت. وقال ابن زيد : هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم فلا يفقهون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وشبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يصرف بصره. (( فَأَوْلَى لَهُمْ ))، اتفق المفسرون على أن المراد بقوله تعالى هنا: (( فَأَوْلَى لَهُمْ )) التهديد والوعيد، لكن اختلفوا بعد ذلك في المراد به هنا هل هو تهديد، أو تهديد ووعيد؟ فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماضي، أي: أنه بمعنى قارب، وقيل: قرب، فمعنى: (( فَأَوْلَى لَهُمْ )) أي: قارب هلاكهم. والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى: القرب، (( فَأَوْلَى لَهُمْ ))، أي: قرب أجلهم. وقال أبو علي : (أَوْلَى لَهُمْ) اسم تفضيل من الويل، أصلها: (أويل لهم)، فحمل وزنه أفلع، وورد بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر. وقيل: إنه أولى: فعل من: آل، يأول. وقال الرضي : إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ، و(لَهُمْ) خبره، وقد سمع فيه قولان: بتاء التأنيث. وقال القرطبي : قال الجوهري : وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد. أي: اعتاد العرب أن يستعملوا هذه الصيغة: (أولى لك) للتهديد والوعيد، كما قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مردّ وهذا كما في الآية في سورة القيامة: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة:34-35]. وقال الأصمعي : معناه: قاربه ما يدركه، أي: نزل به. فأولى ثم أولى ثم أولى، أي: اقترب، أو قاربه ما يدركه، وهو نازل به لا محالة، ولن يُردّ هذا الوعيد المهلِك عنه. فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد أي: هل يمكن للبن بعد حلبه من الضرع أن يرجع مرة ثانية؟! فكذلك الوعيد سوف يأتيك قطعاً ولن يرد عنك، ولن يزول. وقال الأصمعي : (فَأَوْلَى) معناه: قاربه ما يهلكه، أي: نزل به، وأنشد: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي: وقارب أن يزيد على الثلاث. وقال ثعلب : ولم يقل أحد في ( أولى) أحسن مما قاله الأصمعي . إذاً: فأفضل ما قيل في تفسير (أولى) أنه بمعنى قاربه ما يهلكه. وقال المبرد :يقال لمن

قال الله تعالى: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21]. قوله: (( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، وأن يستعدوا للقتال؛ لأنهم سوف يباشرونه. قوله: (( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ )) أي: جد الحال وحضر القتال، (( فَلَوْ صَدَقُوا )) أي: أخلصوا له النية، َلكَانَ خَيْرًا لَهُمْ . قال ابن جرير: قوله (( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ويذكر فيها القتال، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد قالوا: سمعاً وطاعة، فقال الله عز وجل لهم: (( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ))، وفرض القتال شق ذلك عليهم وكرهوه، فقال لهم: (( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ))، قبل وجوب الفرض عليكم، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشق عليكم. (( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) أي: نأخذ منكم شيئين فقط قبل أن يفرض عليكم الجهاد بالكلام. (( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ )) كرهتموه وشق عليكم، ونظرتم إليه: (( نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ))، إذاً: ففي هذه الحالة يوقف على (فَأَوْلَى)، ثم ابدأ من: (لَهُمْ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21]. وقال القاسمي : في قوله: (( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) أوجه: الأول: أنه خبر (أولى) على ما تقدم. الثاني: أنها صفة السورة، أي: (( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ )) (طَاعَةٌ)، أي: ذات طاعة، أو للطاعة، وفيه بُعد؛ لكثرة الفواصل. الثالث: أنه مبتدأ، و(قول): عطف عليه، والخبر محذوف تقديره: أمثَل بكم من غيرهما، أي: طاعة وقول معروف أمثل بكم وأريح من غيرهما. الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: أمرنا طاعة. الخامس: أن (لَهُمْ) خبر مقدم، و(طَاعَةٌ) مبتدأ مؤخر، والوقف والابتداء يعرفان مما تقدم. (( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ )): أي: جد الحال، وحضر القتال، قال أبو السعود : أسند العزم وهو الجد إلى الأمر، وهو لأصحابه، كما في قوله تعالى: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]. وعامل الظرف الذي هو جواب الشرط محذوف (( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ )) فالجواب: خالفوا أو تخلفوا، وقيل: ناقضوا، وقيل: كرهوا، وقيل: جواب الشرط هو: فلو صدقوا الله تعالى فيما قالوه من الكلام المنبه عن الحرص على الجهاد (لكان) أي: الصدق (خيراً لهم)، أي: في عاجل دنياهم، وآجل أخراهم، وذلك بأن عفر لهم المعصية والمخالفة. وقيل: فلو تركوه في الإيمان، ووافقت قلوبهم ألسنتهم في ذلك، وأياً ما كان فالمراد بهم: الذين في قلوبهم مرض، وهم المخاطبون بقوله تبارك وتعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ))، أي: أيها المنافقون! الذين في قلوبهم مرض، (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).