تفسير سورة الكهف [60-64]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:60-62] . بعدما قال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:57]، أشار عز وجل إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة ما لا يخفى على متبصر كما ستقف على شذرات من ذلك، وسنلاحظ كيف أن الإنسان إذا فقه معنى الآيات، والتفت إلى النصائح والنكت البلاغية الموجودة في عبارات القرآن الكريم، فهذا مما يعينه على الحفظ، كما سنضرب أمثلة لذلك. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]. أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه: ((لا أبرح))، أي: لا أزال أسير، ((حتى أبلغ مجمع البحرين))، أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين فألقى فيه الخضر، أو: أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة فأتيقن فوات المطلوب، (حتى أبلغ مجمع البحرين)، لماذا؟ لأن هذا هو المكان الذي وعده الله سبحانه وتعالى أن يلتقي فيه بالخضر، ويناسب هنا أن نذكر سبب هذه القصة؛ لأنه يعيننا على فهمها.

ذكر حديث قصة الخضر وموسى

روى البخاري في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لـابن عباس : (إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدو الله)، وهذا من التغليظ في الفتوى، وليس المقصود أنه عدو لله فعلاً، ولكن هذا اجتهاد منه وهو مخطئ فيه بلا شك، لكن هذا من التغليظ والتشديد على من يتجاسر عن القول بغير علم. ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟) انظر إلى همة موسى لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ولو في مجمع البحرين؛ حرص على أن يلتقي به كي يتعلم منه، فقال: (وربما قال سفيان : أي رب وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، وربما قال: فهو ثمة، فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون)، وهذا تلميذ موسى عليه السلام، ولكن أطلق عليه (فتاه) إشارة إلى أن المتعلم كالعبد بين يدي العالم، والعالم كأنه سيد له، فعبر عنه بالفتى التي يعبر بها عن العبد إشارة إلى موقع التلميذ من شيخه وأستاذه. (حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (مثل الطاق) يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت. يقول: (فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به)، يعني: موسى عليه السلام في هذا السفر السعيد الطويل لم يشعر بالنصب ولم يجد تعباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوي ويمد بعون ومدد من عنده من خرج في طلب العلم أو ابتغاء مرضاته، كما أن الشهيد لا يجد من الجرح الذي يجرحه إلا مثل ما يجد من القرصة، فلم يشعر موسى بالتعب إلا من بعد أن جاوز المكان الذي أمر به، وهو هذه الصخرة التي فقد عندها الحوت دون أن يشعر. (فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم) هذا هو الشاهد على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل وليس ثمة موسى آخر كما زعم نوف البكالي . قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل! قال: نعم. أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه... إلى قوله: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما)، وقرأ ابن عباس : (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان : سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـسفيان : حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.

تفسير مفردات قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه ..)

((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لا أزال أسير وأمشي إلى أن أبلغ المكان الذي وعدني الله، ((أو أمضي حقباً)) يعني: إما أن أذهب إلى ملتقى البحرين فأجد فيه الخضر، أو أظل أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلوب. قال المهايمي : ((وإذا قال موسى)) أي: اذكر للذين ((إن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)) لتكبرهم عليك: أنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه، ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم؛ لأنها هداية في الظاهر والباطن، وهداية الخضر إنما هي في الباطن، ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق كما احتاج إليه موسى. (وإذ قال موسى لفتاه) والفتى: الشاب، كما في قوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء:60] شاباً، وقوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] يعني: شباباً. قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى؛ لأن الغالب هو استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام، ومحباً له، وذا غيرة على كرامته، ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً, وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل، وفتح الله تعالى بيت المقدس عليه ونصره على الجبارين. ((فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا))، أي: مجمع البحرين، ((نَسِيَا حُوتَهُمَا))، أي: خبر حوتهما وتفقد أمره، وكانا تزوداه وأخذا الحوت في المكتل، ولما بلغا مجمع البحرين لم يطمئنا على أن الحوت معهما ونسيا هذا الحوت، ((فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)) أي: طريقه في البحر، ((سرباً)) أي: مثل السرب في الأرض، وهو المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب. ((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)). ((فلما جاوزا)) يعني: مجمع بينهما، أي: جاوزا مجمع البحرين، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت، ((قال لفتاه آتنا غدائنا)) أي: ما نتغدى به، ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) تعباً ومشقة، وبينت السنة أن هذا النصب لم يلقه موسى وفتاه حتى جاوزا مجمع البحرين، ((قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ))، أي: فإني نسيت خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما: إما بمعنى نسيان طلبه والذهول عن تفقده لعدم الحاجة إليه، وإما للتغليب بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده، (نسيا حوتهما)، يعني: نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره، وعلى قول آخر: أن النسيان هنا هو من يوشع بن نون ؛ لأنه قال: (فإني نسيت الحوت)، نسب النسيان إلى نفسه، فإذاً: (نسيا) بالمثنى تغليباً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده؛ فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر المالح، ومع ذلك يمكن إطلاق أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين المالح والعذب تغليباً، وإن كان يخرج من أحدهما فيصدق عليه أنه يخرج منهما، كقوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، فالرسل من مجموع الإنس والجن وإن كانت الرسل لا تكون إلا من الإنس. ((وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) يعني: أن أذكره لك، وتعرب (أن أذكره) على أنها بدل من الهاء، يعني: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وقرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً، والباقون بكسرها، ((واتخذ سبيله في البحر عجباً)) أي: أمراً عجيباً إذ صار الماء عليه سرباً. ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))، قال موسى: ((ذلك)) أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله سرباً ((ما كنا نبغ)) أي: نطلب فيه الخبر؛ لأنه أمارة المطلوب، وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين وصلاً لا وقفاً؛ وبإثباتها في الحالين، وبحذفها كذلك. ((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا))، أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامها يتبعانها، ((قصصاً)) أي: اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما ...)

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: ((فلما بلغا مجمعا بينهما نسيا حوتهما)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى؛ لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه، وإنما أسند النسيان إليهما؛ لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قَتَلُوكم فاقتلوهم). فلو قتلونا كلنا لم يبق منا أحد فيقتلهم؛ لكن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. قال: والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:62-63]؛ لأن قول موسى: ((آتنا غداءنا)) يعني به الحوت، فهو يظن أن فتاه لم ينسه. كما قاله غير واحد، وقد صرح فتاه بأنه نسيه بقوله: ((فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)). وفي قوله عز وجل: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] ، وبقوله تعالى: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، وقال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19]. وفتى موسى هو يوشع بن نون ، والضمير في قوله تعالى: ((مجمع بينهما)) عائد إلى البحرين المذكورين في قوله تعالى: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60]، والمجمع : اسم مكان على القياس، أي: مكان اجتماعهما. والعلماء مختلفون في تعيين البحرين المذكورين، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرظي : ((مجمع البحرين)) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب. يعني: في المكان الذي يلتقي فيه البحر الأبيض بالمحيط الأطلنطي عند مضيق جبل طارق. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية : مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية ، وعن أبي بن كعب قال: بإفريقيا، إلى غير ذلك من الأقوال، ومعلوم أن تعيين البحرين من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تأريخه، لأن الجغرافيا في هذا الوقت لم تكن معروفة، وهذا زعم في غاية الكذب والبطلان، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: ((فلما بلغا مجمع بينهما)) مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء، لاستحالة صدق النقيضين معاً. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) قرأه عامة القراء ما عدا حفص ((أنسانيه إلا الشيطان)) وقرأه حفص عن عاصم ((أنسانيه)) بضم الهاء.

روى البخاري في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لـابن عباس : (إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدو الله)، وهذا من التغليظ في الفتوى، وليس المقصود أنه عدو لله فعلاً، ولكن هذا اجتهاد منه وهو مخطئ فيه بلا شك، لكن هذا من التغليظ والتشديد على من يتجاسر عن القول بغير علم. ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟) انظر إلى همة موسى لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ولو في مجمع البحرين؛ حرص على أن يلتقي به كي يتعلم منه، فقال: (وربما قال سفيان : أي رب وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، وربما قال: فهو ثمة، فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون)، وهذا تلميذ موسى عليه السلام، ولكن أطلق عليه (فتاه) إشارة إلى أن المتعلم كالعبد بين يدي العالم، والعالم كأنه سيد له، فعبر عنه بالفتى التي يعبر بها عن العبد إشارة إلى موقع التلميذ من شيخه وأستاذه. (حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (مثل الطاق) يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت. يقول: (فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به)، يعني: موسى عليه السلام في هذا السفر السعيد الطويل لم يشعر بالنصب ولم يجد تعباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوي ويمد بعون ومدد من عنده من خرج في طلب العلم أو ابتغاء مرضاته، كما أن الشهيد لا يجد من الجرح الذي يجرحه إلا مثل ما يجد من القرصة، فلم يشعر موسى بالتعب إلا من بعد أن جاوز المكان الذي أمر به، وهو هذه الصخرة التي فقد عندها الحوت دون أن يشعر. (فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم) هذا هو الشاهد على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل وليس ثمة موسى آخر كما زعم نوف البكالي . قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل! قال: نعم. أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه... إلى قوله: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما)، وقرأ ابن عباس : (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان : سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـسفيان : حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.