شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها - حديث 28-29


الحلقة مفرغة

في هذا اليوم عندنا حديثان، أولهما حديث أنس، والثاني حديث عمرو بن خارجة .

بسم الله الرحمن الرحيم

وعنه رضي الله عنه قال: ( لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية, فإنها رجس ) متفق عليه.

قوله: (وعنه رضي الله عنه) من هو؟

هو أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث السابق المتعلق بتخليل الخمر.

إعراب (كان) في قوله: (لما كان يوم خيبر)

قال: ( لما كان يوم خيبر )، نريد لغوياً يبين لنا ما إعراب قوله: ( لما كان يوم خيبر

(كان) هاهنا تامة، يعني: ليست (كان) الناقصة التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، أو ترفع الاسم وتنصب الخبر، وإنما كان هاهنا تامة، فعل ماضٍ تام يرفع فاعلاً، و(يوم) هو فاعلها، وكأنه قال: لما حدث أو حصل يوم خيبر، وهي المعركة المشهورة.

الجمع بين حديث نداء أبي طلحة بتحريم الحمر وبين الأحاديث الواردة في نداء غيره من الصحابة

( لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة

)، المأمور في هذا الحديث بالنداء هو أبو طلحة، وهذه الرواية -كما رأيتم- متفق عليها، وقد ورد في صحيح مسلم أن الذي نادى هو بلال رضي الله عنه، وورد في سنن النسائي أن الذي نادى هو عبد الرحمن بن عوف، فكيف نجمع بين هذه الأقوال؟ أو هذه الأخبار الثلاثة؟ هل المنادي أبو طلحة أم بلال أم عبد الرحمن بن عوف؟

يجمع بأن المعسكر كان واسع الأرجاء فنادى هؤلاء كلهم بهذا الأمر، ويمكن أن يكون أبو طلحة رضي الله عنه اختص بالنداء بأنها رجس؛ أنه نادى وأضاف: ( فإنها رجس ) بخلاف الآخرين فقد اقتصر على المنع منها والنهى عنها، لكن لا مانع أن يكون كل من الثلاثة نادى في جانب من جوانب المعسكر في النهي عن لحوم الحمر الأهلية.

حديث أنس في تحريم الحمر مرفوع لفظاً

قوله: ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم )، قوله: ( إن الله ورسوله ينهيانكم ) هل هو حديث مرفوع، أو موقوف، أو أنه من المرفوع حكماً؟ يعني: أن له حكم المرفوع وإن لم يكن مرفوعاً لفظاً؟

الآن أنس رضي الله عنه يخبرنا: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنادى في الناس: إن الله ورسوله ينهيانكم )، فقوله: ( إن الله ورسوله ينهيانكم ) هل هو مرفوع لفظاً، أو مرفوع حكماً، أو هو موقوف؟ مرفوع حكماً، وما هو الدليل على كونه مرفوعاً حكماً؟

من المعلوم أن المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابي من قوله هو.

والمرفوع حكماً: هو ما كان مرفوعاً من حيث المعنى، ولكن ليس بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قول الصحابي: أمرنا، أو نهينا، أو كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون كذا.. أو ما أشبه ذلك من أنواع الذي له حكم المرفوع، وإن لم يكن مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ.

فالظاهر والله أعلم أن هذا الحديث مرفوع لفظاً لا حكماً، بمعنى أن كلمة: ( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ) هي من قول من؟

من قول الرسول عليه الصلاة والسلام فيكون مرفوع لفظاً، ومن المعلوم أنه إذا رفع لفظاً فهو أقوى من المرفوع حكماً، ويكون هذا اللفظ هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحة وبلالاً وعبد الرحمن بن عوف أن ينادوا بهذا اللفظ: ( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ).

شواهد الحديث

هذا الحديث له شواهد كثيرة عن أربعة عشر صحابياً، منها: حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن أبي ثعلبة، وعن جابر، وعن البراء بن عازب، وعن عبد الله بن عمر، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعن علي بن أبي طالب، وعن العرباض بن سارية، وعن المقدام بن معدي كرب، وعن الحكم بن عمرو الغفاري، وعن خالد بن الوليد، وعن زاهر الأسلمي وغيره، كلها في تحريم لحوم الحمر الأهلية، وكثير من هذه الأحاديث في الصحيحين أو في أحدهما.

‏حكم لحوم الحمر الأهلية

قوله رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ) فيه مسائل:

الأولى: مسألة حكم لحوم الحمر الأهلية، والحمر الأهلية هي الحمر الإنسية المعروفة، بخلاف الحمر الوحشية، وقد ذهب الجماهير من العلماء من الصحابة والسلف والخلف إلى القول بتحريم أكل لحوم الحمر الأهلية؛ أنه لا يجوز أكلها، واستدلوا بهذه الأحاديث التي منها حديث أنس هذا المتفق عليه، ومنها الأحاديث الأربعة عشر المشار إليها أو إلى بعضها، وكلها صريحة في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، بل في بعض هذه الأحاديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقدور التي تطبخ فيها لحوم الحمر يوم خيبر فأكفئت )، فدل ذلك على أنه لا يجوز أكل لحومها، وهذا القول هو القول الصحيح، بل حكى بعض المصنفين الإجماع عليه.

القول الثاني: القول بعدم تحريمها، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه، ونسب إلى الإمام مالك، حيث إن للمالكية في هذه المسألة ثلاث روايات إحداها القول بالجواز، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة:

منها قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145]، حيث إن في هذه الآية حصراً: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا [الأنعام:145] نفى ثم استثنى، فدل على أن المحرمات لا تخرج عن هذه الأربع المذكورة في الآية وهي:

الأول: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام:145] هذا الأول.

والثاني: الدم المسفوح.

والثالث: لحم الخنزير.

الرابع: ما أهل به لغير الله. فما عدا هذه الأربع فهو حلال مباح عند أصحاب هذا القول، أو على ظاهر هذه الآية، هذا وجه استدلالهم بالآية.

ويجاب على هذا الاستدلال بأجوبة:

منها: أن يقال: إن هذه الآية مكية، أي أن الآية نزلت في مكة، وقد نزل بعد نزول هذه الآية محرمات كثيرة من المأكول والمشروب، منها أشياء محرمة بنص القرآن الكريم، مثل الخمر من المشروبات، فهو ليس منصوصاً عليه في الآية، بل غير داخل فيها، ومع ذلك نزل تحريمه بعد ذلك، ومثل المتردية والنطيحة وما أكل السبع فهذه ورد تحريمها بنص القرآن الكريم، إضافة إلى محرمات كثيرة في السنة كتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.. وغيرها، فنقول: إن قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]؛ من أقوى ما قيل فيه: إنه وقت نزول الآية لم يكن محرماً إلا هذه الأشياء، لكن نزل بعد ذلك تحريم أشياء كثيرة، منها ما ورد تحريمه بنص القرآن الكريم كالنطيحة والمتردية وما أكل السبع، وكالخمر وغيرها، وهذه أشياء محرمة بالاتفاق.

فهذا جواب على استدلالهم بهذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]، وللمفسرين والفقهاء أجوبة أخرى عن الآية لا داعي لذكرها فيمكن مراجعتها في كتب التفسير.

الدليل الثاني الذي استدلوا به على تحليل أو حل لحوم الحمر: هو ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن غالب بن أبجر المزني : ( أنه قال: يا رسول الله أصابتنا سنة - المقصود بالسنة: القحط والجدب - ولا أجد ما أطعم أهلي إلا سمان حمر -يعني: عنده حمير سمينة لا يجد غيرها ليطعم أهله- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أطعم أهلك من سمان حمرك، فإني إنما حرمتها من أجل جوال القرية ).

هذا الحديث يدل بظاهره أيضاً على حل لحوم الحمر الأهلية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر هذا الرجل بأن يطعمها أهله، وبين أنه إنما حرمها من أجل مناسبة خاصة، أو لنوع خاص من الحمر، وهو جوال القرية، والمقصود بجوال القرية الجلالة التي تأكل العذرة.

ولكن يجاب ويرد عن استدلالهم بهذا الحديث:

أولاً: بأن عدداً من العلماء ضعفوا الحديث، فقد قال ابن عبد البر : حديث غالب بن أبجر لا يعول عليه، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة، أي: لا يعرج على ما دل عليه هذا الحديث؛ لضعفه ولأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، فهذا كلام ابن عبد البر .

وقال الإمام المنذري : اختلف في إسناده كثيراً، وهذا يعني: أن الحديث مضطرب، روي على وجوه عديدة في إسناده، حتى لو كان ظاهر الإسناد الصحة، إلا أن الحديث إذا روي على وجوه عديدة متعارضة لا يمكن الجمع بينها بوجه صحيح فإنه يكون ضعيفاً، والاضطراب يضعف الحديث. فهذا كلام المنذري .

وقال البيهقي : هذا حديث مضطرب، وقال الإمام ابن حجر : إسناده ضعيف ومتنه شاذ؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة، أما أن إسناده ضعيف فلعل ضعفه للاضطراب كما سبق، وأما قوله: إن متنه شاذ، فالمعنى: أنه مخالف للأحاديث الصحيحة، ولعل الأقرب والأولى ألا يقال: إن متنه شاذ، ما هي الكلمة التي يمكن أن تكون أدق من قولنا: إن متنه شاذ؟

منكر، الأولى فيما يظهر أن يقال: إن متنه منكر، وما هو الفرق بين الشاذ والمنكر، هذا السؤال في المصطلح: ما هو الفرق بين المنكر والشاذ؟ الحديث إذا خالف الحديث الذي ظاهره الصحة أحاديث أصح منه سمي شاذاً، أما إذا خالف الحديث الضعيف حديثاً صحيحاً أو أحاديث صحيحة فإنه يسمى منكراً، فما دمنا حكمنا على هذا الحديث بأنه ضعيف، ثم مع ضعفه هو مخالف للأحاديث الصحيحة؛ الأولى أن نسميه شاذاً أو أن نسميه منكراً؟ الأولى أن يسمى الحديث منكراً؛ لأنه ضعيف ومخالف للأحاديث الصحيحة.

إذاً: الجواب الأول على حديث غالب بن أبجر : أنه حديث ضعيف مضطرب مخالف للأحاديث الصحاح. هذا الجواب الأول.

الجواب الثاني: أن يقال: على فرض صحة حديث غالب لو افترض أنه صحيح؛ لأن بعض العلماء قد يصححونه، فلو افترض أن حديث غالب بن أبجر صحيح فيرجح عليه الأحاديث الواردة في التحريم؛ لكثرتها وأنها في الصحيحين، وقد وردت عن أربعة عشر صحابياً، فلو سُلِّم أنه صحيح لكانت تلك الأحاديث مقدمة عليه.

الجواب الثالث: أن يقال: إن ما دل عليه حديث غالب من التحليل والإباحة هو خاص بالضرورة؛ لأنه قال: ( يا رسول الله أصابتنا سنة ولا أجد ما أطعم أهلي ) فدل على أنه في حالة ضرورة، وهذا الوجه ما رأيكم فيه هل هو قوي، أم عليه مأخذ؟

هذا الوجه عليه مأخذ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له بعدما قال: ( أطعم أهلك ).. قال: ( فإني إنما حرمتها من أجل جوال القرية )، فبعد أن أباح له الأكل قال: ( إني إنما حرمتها من أجل جوال القرية )، فدل الظاهر على أن التحريم خاص بهذا الجوال الذي يأكل العذرة، ولكن مادام الحديث ضعيفاً ومعارضاً للأحاديث الصحيحة فلا يشتغل به، وقد وردت أحاديث أخرى عند الطبراني وغيره في هذا الموضوع.

الخلاصة: أن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين وسائر الأئمة ذهبوا إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية، والأحاديث الصحيحة الكثيرة تدل على ذلك، بل قد ورد عن ابن عباس نفسه رضي الله عنه أنه رجع عن هذا القول وأنه قال: [ ثلاث أرجع عنهن: منها القول بالمتعة -بجواز المتعة فرجع إلى القول بتحريمها- ومنها رجوعه عن ربا الفضل وقوله بتحريمه، ومنها: رجوعه عن القول بجواز أكل لحوم الحمر إلى القول بتحريمها ].

فحتى ابن عباس رجع عن هذا القول، ولذلك ذكر من ذكر من العلماء باتفاق الأمة على تحريم لحوم الحمر.

علة تحريم لحوم الحمر الأهلية

وقد اختلف في العلة التي حرمت من أجلها، فإن ابن عباس رضي الله عنه قال -كما في صحيح البخاري : [ لا أدري هل منعها الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها حرمت، أم من أجل أنها كانت حمولة الناس ]، يعني: كانوا يحتاجونها في الركوب فمنع من ذبحها؛ لئلا تفنى هذه الحمولة، ولذلك ورد في رواية صحيحة: ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أفنيت الحمر، ثم جاءه أخرى فقال: يا رسول الله! أفنيت الحمر، ثم جاءه في الثالثة فقال: أفنيت الحمر، فأمر من ينادي )، ولكن يرد على هذا القول بما ذكره في حديث جابر : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل )، فلو كان النهي من أجل أنها حمولة الناس لكان النهي عن لحوم الخيل أولى؛ لأن استعمالها في الركوب أكثر، وقيل: إن النهي كان لأمر آخر، وهو أنها جلالة كما في حديث غالب بن أبجر، وقيل: إن النهي كان لأنها لم تخمس يعني: لم تقسم، وقيل: إن النهي لأنها رجس، وهذا ما صرح به في حديث أنس وغيره، قال: ( فإنها رجس ) أي: نجسة، وفيما يتعلق بهذه العلة، إما أن يقال: بأن عدداً من هذه العلل صحيحة ولا مانع من اتفاقها، وإما أن يقال بأن الصحيح في العلة أنها رجس؛ لأنه ثبت في الحديث المتفق عليه: ( فإنها رجس ) والفاء هاهنا للتعليل.

هذه هي المسألة الأولى في الحديث.

الآية في قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145] قد تكون منسوخة بالمحرمات الأخرى التي نزلت بعد ذلك، وقد تكون الآية كما سبق أن المقصود أنها حين نزولها ليس هناك محرم إلا ما ورد، وقد يكون هذا رداً على ما يدعيه المشركون من تحريم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. على كل حال يحتمل ذلك؛ أن الصحابة كانوا محتاجين، وبناء عليه يكون ادعاء الضرورة في حديث غالب ليس بقوي، وحديث غالب أصلاً هو ضعيف كما سبق، فلا يشتغل به، والضرورة لها أحكام تخصها كما هو معروف، فالإنسان عند الاضطرار يأكل هذه الأشياء المحرمة؛ لأن الله عز وجل لما ذكر المحرمات، قال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173].

وفي الواقع مجرد وصفها بأنها رجس قد يعني أنها نجسة نجاسة عينية، وقد يعني أنها مستخبثة مستقذرة، فلذلك نهى عنها وأمر بإكفاء القدور، ولكن مما يؤكد أن المقصود النجاسة العينية أنه أمر بكسر القدور فقالوا: ( أو نغسلها يا رسول الله؟ قال: أو اغسلوها )، فالأمر بالغسل يؤكد أن المقصود النجاسة العينية.

وقد يقال حينئذ: إن الآية منسوخة.

حكم آسار الحمر

المسألة الثانية في الحديث: هي حكم آسار الحمر، والآسار: جمع سؤر، والسؤر المقصود به ما يفضل من الإناء بعد أن يشرب منه الحيوان، فما حكم الماء إذا شرب منه الحمار أو غيره من السباع والحيوانات التي لا يؤكل لحمها؟

أما الكلب فقد سبق الكلام فيه، إنما غير الكلب من الحمار ونحوه، اختلف العلماء في حكم سؤره على قولين:

القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم أحمد ومالك والشافعي : أن سؤره طاهر، يعني: طاهر مطهر، يجوز الوضوء والغسل منه.. وغير ذلك، واستدلوا لذلك بأدلة: منها ما ورد في طهارة آثار السباع، ومن أصرحها ما رواه الدارقطني والشافعي والبيهقي عن جابر : ( أنهم قالوا: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها )، والحديث ورد -كما يقول البيهقي - بطرق إذا انضم بعضها إلى بعض صارت قوية، فهو دليل على طهارة آسار الحمر، وكذلك ما سبق في طهارة آسارها كحديث عمر وابن عمرو وغيرهما.

الدليل الثاني: أن هذه الحيوانات جائزة الاستعمال بلا كراهة، فحكمها حكم مأكول اللحم في ذلك.

الدليل الثالث: هو أنها مما يكثر استعماله وحاجة الناس إليه، وهذا مدعاة إلى التخفيف بحل سؤرها وطهارته، ولذلك سبق معنا في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: ( إنها ليست بنجس )، ثم قال ماذا؟

( إنها من الطوافين عليكم )، فعلل عدم النجاسة بكونها من الطوافين، يعني: من الحيوانات التي يكثر ملابستها للناس، فلو كان سؤرها نجساً لكان في هذا مشقة عظيمة على الناس، فتكون الحمر مثلها في ذلك، فهؤلاء قالوا: بأن سؤرها طاهر.

القول الثاني وهو للحنفية: أنهم قالوا: إن سؤر الحمر هو طاهر في نفسه، لكن مشكوك في رفعه للحدث، ولذلك عندهم لو كان الإنسان في سفر مثلاً: وعنده ماء قليل شرب منه حمار، فما الحكم في هذه الحالة؟ قالوا: الحكم أنه يتوضأ به ثم يتيمم -هذا عند الحنفية- يتوضأ به ثم يتيمم للشك؛ لأنهم عندهم أن سؤره مشكوك فيه؛ مشكوك في رفعه للحدث وإلا فهو طاهر. ولماذا وجد الشك عندهم؟ قولوا: الشك لتكافؤ الأدلة؛ لأنه قد ورد عن ابن عباس القول برفعه للحدث، وورد عن ابن عمر خلاف ذلك، فتكافأت عندهم الأدلة -فيما يرون- ولذلك قالوا: بأنه مشكوك فيها، والواقع أن الشك ليس حكماً شرعياً، وإنما هو موقف فقهي؛ لأن القول بأن هذا مشكوك فيه ليس بياناً لحكم الشرع فيه؛ لأن الشرع ليس فيه شك، وإنما الشك في نفس الفقيه، في موقف الفقيه من هذا الأمر، وعلى كل حال فالقول الأول هو القول الصحيح، القول بأن آسارها طاهرة؛ لقوة الأدلة في ذلك وعدم وجود ما يعارضها.

قال: ( لما كان يوم خيبر )، نريد لغوياً يبين لنا ما إعراب قوله: ( لما كان يوم خيبر

(كان) هاهنا تامة، يعني: ليست (كان) الناقصة التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، أو ترفع الاسم وتنصب الخبر، وإنما كان هاهنا تامة، فعل ماضٍ تام يرفع فاعلاً، و(يوم) هو فاعلها، وكأنه قال: لما حدث أو حصل يوم خيبر، وهي المعركة المشهورة.

( لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة

)، المأمور في هذا الحديث بالنداء هو أبو طلحة، وهذه الرواية -كما رأيتم- متفق عليها، وقد ورد في صحيح مسلم أن الذي نادى هو بلال رضي الله عنه، وورد في سنن النسائي أن الذي نادى هو عبد الرحمن بن عوف، فكيف نجمع بين هذه الأقوال؟ أو هذه الأخبار الثلاثة؟ هل المنادي أبو طلحة أم بلال أم عبد الرحمن بن عوف؟

يجمع بأن المعسكر كان واسع الأرجاء فنادى هؤلاء كلهم بهذا الأمر، ويمكن أن يكون أبو طلحة رضي الله عنه اختص بالنداء بأنها رجس؛ أنه نادى وأضاف: ( فإنها رجس ) بخلاف الآخرين فقد اقتصر على المنع منها والنهى عنها، لكن لا مانع أن يكون كل من الثلاثة نادى في جانب من جوانب المعسكر في النهي عن لحوم الحمر الأهلية.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4761 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4393 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4212 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4094 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4045 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4019 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3972 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3916 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3898 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3877 استماع