خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة يوسف [1-18]
الحلقة مفرغة
سميت سورة يوسف بهذا لأن معظم ما ذكر في هذه السورة هو قصة يوسف عليه السلام. وتناسب آي القرآن هو علم من علوم القرآن، أي: أن هناك حكمة ووجوه مناسبة بين ترتيب سور المصحف الشريف، وبين ترتيب الآيات فيما بينها في السورة الواحدة. وفيما يتعلق بمناسبة هذه السورة لما قبلها، فإن السورة التي قبلها وهي سورة هود ختمت بقوله تبارك وتعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] فجاء في هذه السورة نبأ من أنباء الرسل، بالإضافة إلى ما مضى. ففي سورة هود ذكر تبارك وتعالى ما لقي الأنبياء عليهم السلام من قومهم، أما في هذه السورة فقد ذكر عز وجل ما لقي يوسف من إخوته؛ ليعلم ما قاساه الأنبياء من أذى الأجانب والأقارب معاً. فسورة هود ذكر فيها أنباء الرسل وما لاقوه من أذى الأجانب، أما سورة يوسف ففيها ذكر ما لقي يوسف عليه السلام من أذى الأقارب وكيد إخوته له، فبين السورتين مناسبة تامة أكيدة، والمقصود بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. ويكفي أن عمه أبا لهب كان يكيد له أشد الكيد حتى نزلت سورة في شأنه. فجاءت هذه السورة لمواساته عليه الصلاة والسلام مما يلقاه من الأذى، وأنه ليس أول من لقي الأذى من الأقارب ومن الأباعد.
معنى اسم يوسف وحقيقته اللغوية وتعريبه
وقع سورة يوسف على اليهود وتأثيرها
يوسُف اسم عبراني ينطق يوسِف، كذلك يونُس ينطقونها يونِس، فلما عرب هذا الاسم عدل عن يوسِف إلى يوسُف؛ لأن في يوسِف معنى الإيساف والأسف، ولو همزت الواو تقول: يؤسف، كذلك في يونس لما عربت قيل: يونُس ولم يقولوا يونِس؛ لأن فيه معنى الإيناس. فاجتنب في التعريب كسر السين؛ لما فيه من معنى المؤاسفة فصارت يوسُف، ومعناه: يزيد أو زيادة؛ وذلك لما روي أن أمه راحيل قعدت عن الحمل مدة، وكان لها ضرات يلدن فلحقها الحزن، ولما وهبها الله تعالى ولداً بعد سنين سمته يوسف، وقالت: يزيدني به ربي ولداً آخر بعد ما أنعم علي بيوسف.
هذه السورة مكية اتفاقاً وآيها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف، وقد روى البيهقي في الدلائل (أن طائفة من اليهود حين تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم هذه السورة أسلموا) لموافقتها ما عندهم. والسورة لا توافق ما عندهم فحسب، بل هي أوضح في بيان الأحداث، ولو حصلت مقارنة منصفة بين ما ذكر في التوراة وما في القرآن لتبين الفرق الشاسع بينهما، فهناك مواقف محورية حذفت من التوراة فهي غير موجودة، هذا بجانب فقد الترابط، بخلاف ما في القرآن من روعة الأسلوب القرآني وبلاغته، واستكمال المواقف والأحداث.
قال تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1]. تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. ((تلك آيات الكتاب المبين)) الإشارة بتلك راجعة إلى آيات هذه السورة الكريمة، فكأنه قد قرأ هذه الآيات التي في سورة يوسف، ثم أشار إليها فقال: ((تلك آيات الكتاب المبين)) مع أنه لم يأت بعد ذكرُ هذه الآيات، فيكون قد نزَّل ما يأتي بعد منزلة الذي قد تقدم، والإشارة بلفظ (تلك) للبعد، وذلك لعظمتها وعلو مرتبتها، وأنها آيات عالية المقام. ((تلك آيات الكتاب المبين)) أي: أن المراد بالكتاب هو السورة؛ لأنه بمعنى المكتوب فيطلق عليها، أو المقصود القرآن كله؛ لأنه كما يطلق على كله يطلق على بعضه، فهذا يطلق عليه قرآن، وهذا يطلق عليه قرآن. ((المبين)) أي: الظاهر أمرها وإعجازها، إن جعل من باب (فعل) اللازم، أما إن جعل من المتعدي فالمفعول مقدر.
قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]. ((إنا أنزلناه)) أي: الكتاب المنعوت السابق الإشارة إليه. ((قرآنا عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لكي تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ [فصلت:44] فمن ثم لا يجوز أن يطلق على تراجم معاني القرآن الكريم لفظ القرآن، كما فعله بعض المستشرقين الملاحدة أعداء الدين، وأيضاً بعض جهلة المسلمين الذين يصنعون تراجم لمعاني القرآن ويسمونها قرآناً، فلا يمكن أن يكون القرآن غير عربي، لذلك لابد أن يقولوا: معاني القرآن الكريم، وألا يقولوا: القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((ولو جعلناه قرآناً أعجمياً)) أي: لو أن القرآن نزل بلغة أخرى غير العربية ((لقالوا لولا فصلت آياته)) لأن اللغات الأخرى غير العربية تعجز عن التعبير عن المعاني القرآنية، وهذا بين لمن قارن بين تراجم هذه المعاني، وبين القرآن الكريم. ((لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تتدبرون بعقولكم أن القصص الموجود في القرآن ومنه قصة يوسف عليه السلام خاصة مع وروده بهذه الكيفية من شخص لم يتعلم القصص. إذا أضفنا إلى ذلك خصيصة أخرى من خصائص القصص القرآني، وهي التي عبر تبارك وتعالى عنها في وصف القرآن الكريم بأنه مهيمن على ما سبق من الكتب، فالقرآن يفصل في جميع القضايا التي تنازع فيها أهل الكتاب، فيأتي فاصلاً وحاكماً بينهم ومهيمناً على ما عندهم، فهو السلطان الأعلى على ما عندهم، وهذا لا يكون إلا من عند الله تبارك وتعالى، ولا يكون إلا بواسطة الوحي. أو ((إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تعقلون بإنزاله عربياً ما تضمن من المعاني والأسرار التي لا تتضمنها ولا تحتملها غيرها من اللغات؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأثبتها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوذ. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب (القرآن) بأشرف اللغات (اللغة العربية) على أشرف الرسل صلى الله عليه وسلم، بسفارة أشرف الملائكة (جبريل عليه السلام)، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض (مكة)، وفي أشرف شهور السنة (رمضان) وفي أشرف ليلة من هذا الشهر الكريم وهي ليلة القدر، فكمل له الشرف من كل الوجوه. ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنه نزل على أشرف أمة؛ لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3]. ((نحن نقص عليك أحسن القصص)) أي: أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوباً، وأصدقه أخباراً، وأجمعه حكماً وعبراً. ((بما أوحينا إليك)) أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن. ((وإن كنت من قبله لمن الغافلين)) أي: من الغافلين عنه، حتى إنه لم يكن القرآن الكريم من قبل يخطر ببالك، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة؛ لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يستعمل الكلمة التي تقوم مقام الغفلة، حتى لا يصف النبي بعدم العلم.
قال تعالى: (( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ ))أي: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. والظرف (إذ) بدل اشتمال من المفعول قبله. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] نادى يوسف أباه بهذه الرؤيا؛ لأن يوسف عليه السلام كان يحب أباه يعقوب عليه السلام، وكان يعتقد في أبيه أنه كامل في علمه، فقد كان نبياً من أنبياء الله، وأيضاً اجتمع إلى كمال علمه حلمه عليه وحبه له وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه، وهذا معلوم في عامة الناس. فلذلك تجد الابن دائماً ينظر إلى أبيه على أنه أكمل الناس وأنه أعلم الناس وأكرم الناس وأحسن الناس وهكذا، فلذلك ينظر إليه بصورة فيها اعتقاد علو الشأن بهذه الدرجة، فيوسف عليه السلام لا شك أنه محق في ذلك الاعتقاد. قال القاشاني : قوله: ((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير؛ لأن بعض المنامات تكون أضغاثاً لا تعبير لها ولا يتكلف لها تعبير، لكن هذه كانت واضحة أنها رؤيا حق. ((يا أبت)) أصله: يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرت تاء التأنيث لأن الياء مكسورة، فناسبها أن تكسر التاء التي هي عوض عنها، وقرئ بفتحها، (يا أبت) على حركة أصلها، أو لأن أصلها (يا أبتا) فحذفت الألف وبقيت الفتحة، وقرئ بالضم: (يا أبتُ)، إجراءً لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض. ((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذا استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها. والتكرار في قوله أولاً: (رأيت)، ثم قوله: (رأيتهم) له فائدة، فهو استئناف من أجل بيان كيفية رؤيته هذه الأشياء التي رآها، وعلى هذا فلا تكرار، أو أنه كرر الفعل تأكيداً، وذلك لطول العهد كما في قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]. وإنما أجريت المرئيات المذكورة مجرى العقلاء في ضميرهم، وجمع صفتهم جمعاً مذكراً سالماً (ساجدين)؛ لأنه وصفها بفعل من أفعال العقلاء، وهو السجود. ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال القاشاني : ولم أر من تعرض لهيئة السجود. أي: كيف كان سجود الشمس والقمر، هل حركت جانبها الأعلى إلى الأسفل، أو ظهرت مستديرة أو مستطيلة؟! وهذا كله من التكلف، وإنما ينبغي أن يوكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
قال تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5]. ((قال يا بني)) صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر، فإن الصغير كما يكون أحياناً للتحقير يكون أحياناً للتمليح، فهنا المقصود به التعبير عن عذوبة اللفظ المصغر. ((فيكيدوا لك كيداً)) أي: فيفعلوا لهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك. ((إن الشيطان للإنسان عدو مبين)) أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه. قال القاشاني : هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب. يعني: أن الله سبحانه وتعالى ربما يكون أوقع في قلب يعقوب عليه السلام ما يريده إخوته له، فيقع في النفس من ذلك خوف واحتراز إن كان مكروهاً، فهذا النوع من الإلهام يسمى: إنذارات، وإذا كان الإلهام مما يسر فيسمى بشارات. فخاف يعقوب عليه السلام من وقوع ما سيقع قبل وقوعه، وهذا شيء مجرب، ويعبرون عن الإلهام أحياناً بالحاسة السادسة. وهذا يحصل كثيراً ونسمع كثيراً من هذا للأمهات بالذات، لأن قلوب الأمهات رقيقة، فنسمع قصصاً كثيرة عن أمهات قالت في نفس الوقت الذي حصل فيه حادث للابن في مكان بعيد: إني أشعر بقلبي أن حادثاً حدث لابني، وهذا من الإلهام الذي يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، فكذلك ربما يكون ما وقع ليعقوب عليه السلام حينما قص عليه يوسف الرؤيا مثل هذا الخوف، فنهاه عن إخبارهم برؤياه؛ احترازاً واحتياطاً. ويجوز أن يكون احترازه من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وأن قدره سيزيد على قدر إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. وتعلمون أن من آداب الرؤيا: ألا تقص الرؤيا إلا على حبيب أو لبيب، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحبيب لا يحسد، أما إذا قصصت الرؤيا على عدوك المناوئ لك فقد يحمله الحسد على أن يتعمد الإساءة في تعبيرها بشر؛ لأنها تقع على ما تعبر به. أو (لبيب) أي: رجل عاقل له علم ودراية بالأصول وقواعد تفسير وتعبير الرؤى. قال السيوطي في الإكليل: قال الكياالهراسي : هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه. قال ابن العربي : في حكم العادة أن الإخوة والقرابة يحسدون، أي: أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لهذا الأمر الذي يقع عادةً بين الناس، وهو أن الإخوة والقرابة يتحاسدون، والسبب هو أن الحسد يكون أقوى إذا كان هناك قاسم مشترك أو وصف مشترك بين طرفين. مثلاً: اثنان مشتركان في علم، أو مشتركان في مهنة، أو مشتركان في قرابة من نفس النسق، فغالباً ما يقع الحسد بينهما. فلذلك يكثر الحسد في الأقارب إلا من عصم الله سبحانه وتعالى. ثم يقول ابن العربي : وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فهذا فيه إشارة إلى قاعدة مقررة ينطق بها كل الناس: وهي أن الشخص الوحيد الذي يحب لك أن تكون أفضل منه هو أبوك، لذلك يعقوب عليه السلام ما تأذى بذلك، بل فرح لعلو مقام ابنه يوسف عليه السلام كما تنبئ عنه هذه الرؤيا فلم يتأثر بذلك، بل خشي من حسد إخوته له. أما الأخ فإنه لا يود ذلك لأخيه، بخلاف المؤمن فإنه لا يكره خيراً لأخيه؛ لأن المؤمن لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ لكن ربما يكون الكلام هنا فيما زاد على القدر المتساوي، وإلا فهذه درجة من الإيمان موجودة كما وجدت في المهاجرين والأنصار: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] فهناك نماذج في التقوى من البشر لكنها قليلة، فتجد من يحب لأخيه من الخير مثل ما يحب لنفسه. أما الأب فهو الذي يحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه غالباً. قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة؛ تحرزاً من الحسود إذا عرف منه ذلك.
حكم كتم الحق عند خوف الفتنة
يقول الحاكم : وهذا داخل في قولنا: إن الحسد إذا كان سبباً للقبيح قبح، يعني: تفريعاً على قاعدة: أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد، ومن ذلك قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] فسب آلهة الكفار حسنة؛ لكنه إذا أدى إلى قبيح وهو المقابلة بالمثل، فإنه يقبح. وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين من قوله: إني لأكتم من علمي جواهـره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا لأن بعض العلم إذا ألقيته إلى غير أهله يسيء فهمه، فهناك من العلوم ما يكتم بحسب مستوى الشخص الذي تكلمه. فإذا فتحت عليه باب شبهة ربما أفسدت عليه دينه، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف ألا يقص رؤياه على إخوته، فلا معنى لزعم من يزعم أن العلم لا يحل كتمه، نقول: عليه أولاً أن ينظر إذا كان إظهار العلم مما يضر المخاطبين فإنه يكتم عنهم؛ لأن هناك من العلوم ما يحتاج إلى درجة معينة من الفهم، المقصود من هذا أن خوف شر الأشرار أمر معتبر شرعاً، وهو من الصوارف التي تجيز كتم الحق أحياناً. قال السيد المرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق): مما زاد الحق غموضاً وخفاءً خوف العارفين -مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور. إن هذا الاستبداد والظلم الحاصل من سلاطين الجور قد يكون عذراً لبعض الناس ألا يجهروا بالحق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] أو قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] وإجماع أهل الإسلام أيضاً على جواز ذلك، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق، وذكر من قبل في الاستدلال على التقية أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، ووصفه بالإيمان، مع أنه كان يكتم إيمانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28] وقد كان يكتم إيمانه تقية، وسميت به سورة غافر فهي تسمى أيضاً سورة المؤمن، أي مؤمن آل فرعون. وصح أمر عمار بالتقية وتقريره عليها حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد) ونزل فيه قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما: فبثثته لكم -أي: نشرته فيكم وأعلمتكم به- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم) أي: من أمراء الجور والظلم إذا جهر بهذا العلم. ولذلك قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من جهل الحق جدير بأن يتعامى، لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. ومن ثم كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى أن العالم ليس له أن يأخذ بالتقية؛ لأن العلماء العاملين الذين يعلمون الحق قلة، فإذا سكت العالم عن إظهار الحق الذي عنده مع جهل الناس؛ فمتى تقوم الحجة على هؤلاء الناس؟ والإمام أحمد أنكر أشد الإنكار على من اتقى القول في فتنة خلق القرآن، وصمد هو وقلة معه رحمه الله تعالى. ومن الشعر الذي قيل في علي بن المديني وهو إمام جليل رحمه الله تعالى: يا ابن المديني الذي عرضت له دنيـا فجـاب بدينـه لينالهـا ماذا دعاك إلى انتحال مقالةٍ قد كنت تزعم كافـراً من قالهـا فهذا من العتاب الذي يكون بين العلماء في قضية الصدع بالحق وعدم التقية، لكن أغلب العلماء يرون جواز التقية عند الإكراه.
قال تعالى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]. ((وكذلك يجتبيك ربك)) أي: كما اصطفاك بهذه الرؤيا العظيمة الشأن يصطفيك للنبوة والسيادة. ((ويعلمك من تأويل الأحاديث)) أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلاً لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، والتعبير يكشف عما ستئول إليه هذه الرؤيا. والأحاديث اسم جمع للحديث سميت به الرؤيا؛ لأن الرؤيا إما حديث ملك، وإما حديث نفس، وإما حديث شيطان، فلذلك سماها الأحاديث. ((ويتم نعمته عليك)) أي: بما سيئول إليه أمرك فيما بعد. ((وعلى آل يعقوب)) وهم أهله من بنيه وحاشيتهم، أي: يبرز نعمته عليهم بك. ((إن ربك عليم)) بمن هو مستحق للاجتباء والاصطفاء ((حكيم)) في صنعه.