الأحاديث المعلة في الطهارة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فتكلمنا في الدرس الماضي على جملة من المسائل والتقعيدات فيما يتعلق بأبواب العلل، وما يرد من مزيد مسائل في هذا الباب نتكلم عليه في موضعه بإذن الله عز وجل تحت كل حديث تناسب تلك العلة التي ترد في ذلك الحديث بإذن الله تعالى.

ولهذا من المهم لكل طالب علم يستمع لمثل هذا الكلام أن يقيد ما يند عن ذهنه أو عن معلوماته من المسائل حتى لا يحوجنا إلى تكرارها مرة أخرى في الدروس القادمة.

الحديث الذي نتكلم عنه في هذا اليوم حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وهو ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه , كلهم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

هذا الحديث حديث عبد الله بن عمر من الأحاديث المشهورة المعلومة في كتب السنة، ودواوين الفقه عند المذاهب الأربعة، وكذلك عند الظاهرية، وهذا الحديث قد رواه حماد بن أسامة أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وقد اختلف في هذا الخبر من عدة أوجه في راويين:

الراوي الأول: هو ابن عبد الله بن عمر هل اسمه عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله تعالى؟

فجاء في هذا الخبر من طريق حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فجاء بهذا الوجه بـعبد الله بن عبد الله ، وجاء أيضاً عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رواه بالتعبيد حماد بن أسامة ، وعباد بن صهيب ، كلهم عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وقد جاء أيضاً من هذا الوجه من حديث حماد بن أسامة ، وقد توبع على ذلك كما جاء فيما تقدم في حديث عباد بن صهيب، وقد رواه البيهقي و الدارقطني بقوله: عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و عبيد الله و عبد الله كلهم من الثقات، وقيل في قول بعض المتأخرين: إنهما واحد، وهما اثنان إن شاء الله تعالى.

وموضع الإشكال الثاني، وهو الاضطراب في هذا الإسناد: فتارة يقال: محمد بن جعفر بن الزبير وتارة يقال: محمد بن عباد بن جعفر وهو شيخ الوليد بن كثير، وكذلك ما يروي عن ابن عبد الله بن عمر , فتارة يقال: محمد بن جعفر بن الزبير وهذا الذي رواه الإمام أحمد وكذلك أهل السنن، ورجحه أبو داود عليه رحمة الله في كتابه السنن، أن الصواب في هذا، محمد بن جعفر بن الزبير وليس محمد بن عباد بن جعفر ؛ وذلك أن أبا داود عليه رحمة الله تعالى يرويه من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

وجاء وجه آخر أنه عن محمد بن عباد بن الزبير ، و محمد بن عباد بن جعفر ، وهذا قد رواه أيضاً الإمام أحمد وغيره من حديث الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن العلماء من رجح محمد بن جعفر بن الزبير كقول أبي داود ، ومنهم من رجح محمد بن عباد بن جعفر وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة من الحفاظ من المتأخرين، ومنهم من رجح الوجهين، وأنه محمد بن جعفر بن الزبير و محمد بن عباد بن جعفر ، وذهب إلى هذا أيضاً جماعة, وهو ظاهر كلام الدارقطني و البيهقي ، وجماعة من الحفاظ المتأخرين؛ وأن الحديث صحيح على الوجهين, باعتبار أن كلا الراويين من الرواة الثقات، وكذلك أيضاً حماد بن أسامة من الرواة الثقات الكبار في أبواب الرواية، ويبعد أن يكون اضطرب مثله في مثل هذا الحديث.

وهذا كله محتمل.

اختلاف العلماء في علة حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)

والحديث هذا قد اختلف فيه هل هذا الاضطراب الذي وقع في الإسناد مما يعل به الإسناد أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك, منهم من قال: إنه معلول بالاضطراب، فقالوا: لا يصح.

ومنهم من قال: إن الصواب في ذلك الوقف، باعتبار أنه جاء من وجه آخر موقوفاً على عبد الله بن عمر من قوله، ويأتي الكلام على الموقوف بإذن الله تعالى.

ومنهم من قال: إن ذلك الاضطراب لا يعل به الحديث، وذهب إلى هذا أكثر الأئمة الأوائل وعلى هذا فالحديث صحيح، وذهب إليه جماعة من الحفاظ كـيحيى بن معين , والإمام الترمذي ، والدارقطني و ابن خزيمة و ابن حبان و ابن منده وجماعة من الأئمة, وعمل به سائر السلف من جهة المدلول العام في المعنى, في التفريق بين القليل والكثير, على خلاف في تحديد القلة والكثرة مما يأتي الكلام عليه في كلامهم بإذن الله تعالى, وقد عمل به وصححه كذلك الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما في كتابه الأم.

ومن الأئمة من أعله بالاضطراب, وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة، وهو قول ابن القيم عليه رحمة الله تعالى، وتبعه بعض أهل الحديث من المتأخرين.

ومنهم من قال: إن الصواب في هذا الحديث الوقف، يعني: الوقف على عبد الله بن عمر , وقد رجح الوقف جماعة كالحافظ المزي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

وذهب بعض العلماء إلى أن ترجيح الوقف في ذلك هو في بعض الأوجه لا في أصل الحديث، وهذا ظاهر في كلام الدارقطني عليه رحمة الله تعالى، وظاهر قول البيهقي كما في كتابه السنن، وذلك أن حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى قد جاء عنه مرفوعاً وموقوفاً، فقد رواه معاوية عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وخالفه في ذلك محمد بن كثير المصيصي عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتوبع على ذلك أعني: على الوقف, فقد رواه أبو نعيم كما رواه ابن المنذر في كتابه الأوسط عن أبي نعيم عن عبد السلام عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى موقوفاً، ومال إلى صحته موقوفاً على هذا الوجه جماعة من الحفاظ وهو قول الدارقطني عليه رحمة الله والبيهقي .

وذهب بعض العلماء إلى أن الحديث من جهة الأصل موقوف ولا يصح مرفوعاً، وما جاء في الطريق السابق من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير ، أو محمد بن عباد عن عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح من هذا الوجه.

وأما ما جاء في حديث زائدة فالصواب في ذلك الوقف.

وقد اضطرب في حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، وقد تفرد بروايته من هذا الوجه ليث في أبواب الوقف والرفع، وقد رواه غيره كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد من قوله، وهذه ثلاثة أوجه في هذا الطريق، فتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وتارة يجعل من غير حديث ليث عن مجاهد موقوفاً عليه، يعني: مقطوعاً في اصطلاح أهل المصطلح، وهذا من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد .

ولكن يقال: إن ثمة قاعدة تذكر في بعض كلامهم على سبيل الإشارة، ومن أراد أن يستنبطها يجدها في كلام كثير من أهل العلل وبالأخص الدارقطني وهي: أن ما كان على سبيل الفتوى وتضمن حكماً من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تارة تروى مرفوعة وموقوفة ومقطوعة؛ لأن مقتضاها الفتوى، فيفتون بهذا القول، فهذا يخرج عن مسألة الرواية.

التفريق بين رواية الفقيه والمحدث

فإذاً: حينما يأتي حديث في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، فلا بأس أن يفتي الإنسان بهذا الأمر في نازلة تنزل به، فيقول لشخص: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيكون من قوله، وهذا لا يغير كونه مرفوعاً، بخلاف الأحاديث الملفوظة التي تأتي في أمور التعبد ونحو ذلك, فإن ذلك من جهة الأصل ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يلتفت إليه، ولهذا لا حرج أن يقال: إن ما جاء في قول مجاهد أنه فتوى، وما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أيضاً أنه فتوى، وما جاء أيضاً مرفوعاً فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه, ولهذا نجد في كثير من المواضع في كلام الأئمة الذين لهم أصحاب فقهاء أقوالاً يروونها عن أصحابهم، كما جاء عن عبد الله بن عباس وله أصحاب كثر من الفقهاء, فهؤلاء أصحابه الذين يروون عن عبد الله بن عباس تارة يروون نفس القول الذي يروونه عن عبد الله بن عباس مرفوعاً أو موقوفاً عليه، وتارة يروونه من أقوالهم، فبعض الناس حينما ينظر إلى ذلك لا يفرق بين رواية الفقيه ورواية غيره، وهذه من الأمور والمسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يفرق وأن يمايز فيها بين رواية الراوي الفقيه وغير الفقيه.

والرواة في كتب الرجال على قسمين:

القسم الأول: رواة رواية، وليس لهم دراية.

الثاني: رواة ولهم دراية، أي: لهم فقه وفتوى، فهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار، ومن لم يميز بين هذين فإنه يقع في الوهم والاضطراب وعدم إدراك كثير من سياقات الأئمة في أبواب التعليل، فيجد بعض الأئمة يعل في موضع ولا يعل في موضع آخر في ذات المسألة المتشابهة في ذلك، وهذا باب دقيق ينبغي لطالب العلم أن يعتني بأجزائه، فثمة بعض الرواة هو من أهل الدراية والفقه في باب، ولكنه في باب من أهل الرواية لا من أهل الدراية، فإنه في مثل ذلك لا يسوغ أن يقال: إنه صاحب دراية فيروي ويفتي من قوله باعتبار عدم اختصاصه في هذا الباب، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك.

كذلك أيضاً فإن من الأحاديث ما لا يحتمل فيه الفتوى؛ كأخبار الفضائل، وأشراط الساعة ونحو ذلك فإن هذا ليس من مسائل الفتوى، وإنما هي من الأخبار التي ينقلها الراوي، فجانب الفتوى في ذلك ضعيف، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بأبواب المتون، ومسائل الفقهيات التي تروى عن الأئمة عليهم رحمة الله.

ومن الوجوه التي أعل بها بعض العلماء هذا الحديث، أعني: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى: ما جاء من علل في أبواب المتن، فإن هذا الحديث قد وقع فيه اضطراب في متنه، فتارة يقال: ( قلتين أو ثلاثاً )، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى في بعض وجوهه، مثل ما جاء في حديث حماد بن سلمة عن عاصم عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( قلتين أو ثلاثاً )، فجاء بصيغة الشك، وقد اختلف فيه على حماد بن سلمة في روايته هذه, فرواه وكيع و عفان و يزيد بن هارون و هدبة عن حماد بن سلمة بالشك، ورواه جماعة آخرون بغير شك، رواه في ذلك عفان أيضاً و يزيد بن هارون , رووه أيضاً عنه بلا شك فرووه بالوجهين، وكذلك أيضاً رواه الطيالسي و العلاء كلهم عن حماد به، ولكن جعلوه بلا شك، فمنهم من رجح رواية الشك فأعل الحديث، ومنهم من لم يرجح رواية الشك باعتبار أنها وهم واضطراب من حماد بن سلمة .

وهذا الحديث قد صححه جماعة كما تقدم وأعلم من صححه في ذلك هو يحيى بن معين عليه رحمة الله، وعمل به أيضاً كثير من الأئمة، ووقع فيه نزاع واضطراب، وقد صنف فيه جماعة من العلماء جملة من المصنفات بين راد ومردود، منهم ابن العربي عليه رحمة الله فقد صنف جزءاً في ذلك، وأراد بذلك أن يرد على الشافعي في عمله بهذا الحديث، وكذلك أيضاً رد به على بعض الأئمة, وأعله بعض الأئمة كـابن عبد البر عليه رحمة الله، وقد رد عليه في ذلك المقدسي عليه رحمة الله، وهذا أمر سائغ فيه وهو في أبواب الاجتهاد، وهذا الحديث محتمل التعليل ومحتمل التصحيح, وهو أصل في بابه على من قال بظاهر لفظه، ولم يقل بدلالة الخطاب في بقية الأحاديث التي تلغي دلالة الخطاب ومفهومه في هذا الحديث، وهذا ليس محل كلام على معانيه وفقهه, وإنما له موضع آخر يرجع إليه.

علاقة علم العلل بعلم الفقه

وينبغي الإشارة إلى مسألة في هذا السياق وهي أنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن علم العلل لا ينفك ولا ينفصل عن علم الفقه أي: معرفة فقه الأوائل على سبيل الخصوص من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهؤلاء علمهم لا يمكن أن ينفصل عن علم العلل، وبقدر نقص الإنسان في هذا الباب، ينقص إدراكه لمسائل التعليل؛ وذلك من وجوه متعددة:

منها ما تقدم أن الرواة منهم أصحاب دراية، ومنهم من ليس بصاحب دراية، ومن له رأي ومن ليس بصاحب رأي، وكذلك أيضاً منهم من له بلدان تعتني بفقه يختلف عن الفقه الآخر، كما في فقه المكيين فإنهم يعتنون بفقه المناسك ونحو ذلك، فمن لم يعرف الرواة لم يعرف أصلاً المكي من غيره، ولم يعرف أيضاً من يعتني بباب عن غيره.

وكذلك المسائل التي تكون متونها في أبواب المناسك تختلف وجوداً لذات الرواة عن الأحاديث التي تكون في غير أبواب المناسك وهكذا، ومنها أحاديث تهتم بفضائل البلدان، وكذلك أيضاً أبواب السير والمغازي والفتن والملاحم ونحو ذلك؛ وذلك أن مدارسها يعتنون بهذا النوع، وعلى هذا ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية ودراية به؛ وذلك لأسباب ووجوه عريضة ربما يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

وقد جاء من وجوه الاضطراب في هذا الحديث: أنه جاء في أخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله , وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر, اضطرب في تحديد القلال، هل هي قلتان أو ثلاث أو أكثر من ذلك؟ وقيل: أربعين.

فجاء في حديث جابر بن عبد الله من حديث القاسم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة )، وهذا الحديث قد أنكره غير واحد؛ لأنه تفرد به القاسم في روايته عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله .

وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة )، وجاء في رواية ( ذنوبين أو أكثر لم يحمل الخبث )، وهذا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى من حديث الزمعاء عن هدبة عن عكرمة عن عبد الله بن عباس.

وجاء أيضاً من قول عكرمة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة)، ولهذا قالوا: لما وجد هذا الفقه في كلام بعض السلف فإنه يحتمل إعلال أصل الحديث، ولكن يقال: إن بعض هذه الطرق مما لا يحتج به، وربما كانت الزيادة عن القلتين إشارة إلى سياق قد وردت فيه تلك الرواية, فينبغي ألا تنتزع منه, وأن تؤخذ تلك الفتاوى أو تلك الأقوال بحسب سياقها، وألا تنقل على أنها روايات وأخبار منفردة قد ألقاها الإنسان مثلاً في مجلس عام ونحو ذلك.

وكثير من الفتاوى التي يلقيها الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إنما كانت في مسائل أعيان، فنقلها الرواة عنهم على سبيل الاجتزاء والاختصار، ولم يبينوا أسباب الورود، فجهل كثير من الناس أسباب ذلك السياق أو ذلك اللفظ فظنوا أنها أحاديث مروية على هذا النحو، وهذا ما ينبغي أن يكون طالب العلم على انتباه فيه.

الحكم على حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)

وأما الحكم على هذا الحديث من جهة النهاية، هل هذا الحديث معلول أم ليس بمعلول؟

نقول: هذا الحديث معلول ولا شك في ذلك، ولكن هل هو مردود, لا يحتج به؟

نقول: العلة ظاهرة فيه من جهة الإسناد ومن جهة المتن.

أما من جهة الإسناد فما وقع فيه من اضطراب، ثم قد يكون هذا الاضطراب مخلاً، وقد لا يكون مخلاً، ويظهر عدم إخلاله.

وأما من جهة المتن، فهو أن المتن الأصل فيه أن هذا المعنى ينبغي أن يروى بأحاديث أشهر وأقوى من هذا، وينبغي أن يرويه في ذلك الكبار، فلما جاء فرداً من هذا الوجه فإنه على طريقة المحدثين يقال: بإعلاله، ولكن هل يقال برده، وعدم الاحتجاج به؟

الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا الحديث من جهة قبوله ورده يرجع فيه إلى فهم متنه، ثم يُتفرع بعد ذلك إلى الحكم.

فإذا قلنا: إن هذا الحديث له دلالة منطوق ودلالة مفهوم، فإننا على طريقة المحدثين النقاد الأوائل لا بد أن نقول: بإعلاله، ولا يمكن أن يصح فنقول: إنه منكر، وإذا قلنا: إن الحديث له دلالة منطوق وليس له دلالة مفهوم، وما خالفه من الأحاديث في دلالة المفهوم التي يسميها أهل الكلام بدلالة الخطاب، فإننا نقول حينئذ: إن منصوص الأدلة يقدم على دلالة الخطاب؛ فعلى هذا فإنا نقول بقبوله، وعلى هذا -فيما يظهر- يحمل سياق التصحيح الذي جاء عن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كما جاء في كلام يحيى بن معين وكذلك الترمذي و الدارقطني وغيرهم, الذين قالوا بصحة الحديث وقوته.

والذي يظهر والله أعلم أن حمل الحديث على معناه الثاني هو الأولى, وعلى هذا الوجه نقول: إن الحديث يحتمل، والإشكال إنما طرأ على كثير من المتأخرين بسبب دلالة المفهوم، ولما كانت دلالة المفهوم تقتضي تنجيس الماء لمجرد ورود النجاسة وأنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث بمجرد الملاقاة، قالوا: هذا لا بد من أن يحمله رواة كثر؛ لأنه فيصل في أمر الماء، والماء يحتاجه الناس، والناس لا يحترزون للماء في أزمنتهم كما نحترز في زماننا بأوعية وحافظات وخزانات ونحو ذلك، وإنما كانت مياه موجودة في متناول كثير مما يطرأ عليه النجاسة من السباع والبهائم والكلاب وغير ذلك.

وعلى هذا قالوا: لا بد أن يحمل ذلك من الرواة الكبار، فلماذا تنكبه الرواة الكبار ورواه من هو دونهم الذين هم في عداد المتوسطين وإن كانوا من الثقات كـالوليد بن كثير و محمد بن جعفر و محمد بن عباد ؟ لكن إذا قلنا بخلاف ذلك: وهو أن الحديث له دلالة منطوق، وأما دلالة المفهوم فيشار إلى أهمية الاحتراز، وأنه ينبغي للإنسان أن يحتاط، وأنه لا يحكم على هذا الحديث بنجاسة إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث أبي سعيد الخدري في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا ينجس )، وما جاء أيضاً في حديث أبي أمامة : ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه )، وهذا محل إجماع عند العلماء.

وكما تقدمت الإشارة إليه أن فهم الحديث هو فرع عن الحكم عليه، فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين نهج الأوائل وقوتهم في إدراك دلالات مفهوم الأحاديث، ثم ما يبنون عليه من الإعلال، وكذلك أيضاً طرائق المتأخرين وما يبنون عليه من إعلال، وهذا من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها.

وثمة فروع لهذه المسألة في ألفاظ القلة والذنوب أو الدلو ونحو ذلك، واختلاف الروايات في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلها لا يصح، وأصح ما جاء في ذلك هو قلتان، وإنما جاء في بعض الروايات في فتاوى بعض الفقهاء من السلف، وتفرع عنه قول بعض من لا عناية له: إن هذا من وجوه الاضطراب وليس كذلك.

والحديث هذا قد اختلف فيه هل هذا الاضطراب الذي وقع في الإسناد مما يعل به الإسناد أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك, منهم من قال: إنه معلول بالاضطراب، فقالوا: لا يصح.

ومنهم من قال: إن الصواب في ذلك الوقف، باعتبار أنه جاء من وجه آخر موقوفاً على عبد الله بن عمر من قوله، ويأتي الكلام على الموقوف بإذن الله تعالى.

ومنهم من قال: إن ذلك الاضطراب لا يعل به الحديث، وذهب إلى هذا أكثر الأئمة الأوائل وعلى هذا فالحديث صحيح، وذهب إليه جماعة من الحفاظ كـيحيى بن معين , والإمام الترمذي ، والدارقطني و ابن خزيمة و ابن حبان و ابن منده وجماعة من الأئمة, وعمل به سائر السلف من جهة المدلول العام في المعنى, في التفريق بين القليل والكثير, على خلاف في تحديد القلة والكثرة مما يأتي الكلام عليه في كلامهم بإذن الله تعالى, وقد عمل به وصححه كذلك الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما في كتابه الأم.

ومن الأئمة من أعله بالاضطراب, وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة، وهو قول ابن القيم عليه رحمة الله تعالى، وتبعه بعض أهل الحديث من المتأخرين.

ومنهم من قال: إن الصواب في هذا الحديث الوقف، يعني: الوقف على عبد الله بن عمر , وقد رجح الوقف جماعة كالحافظ المزي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

وذهب بعض العلماء إلى أن ترجيح الوقف في ذلك هو في بعض الأوجه لا في أصل الحديث، وهذا ظاهر في كلام الدارقطني عليه رحمة الله تعالى، وظاهر قول البيهقي كما في كتابه السنن، وذلك أن حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى قد جاء عنه مرفوعاً وموقوفاً، فقد رواه معاوية عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وخالفه في ذلك محمد بن كثير المصيصي عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتوبع على ذلك أعني: على الوقف, فقد رواه أبو نعيم كما رواه ابن المنذر في كتابه الأوسط عن أبي نعيم عن عبد السلام عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى موقوفاً، ومال إلى صحته موقوفاً على هذا الوجه جماعة من الحفاظ وهو قول الدارقطني عليه رحمة الله والبيهقي .

وذهب بعض العلماء إلى أن الحديث من جهة الأصل موقوف ولا يصح مرفوعاً، وما جاء في الطريق السابق من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير ، أو محمد بن عباد عن عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح من هذا الوجه.

وأما ما جاء في حديث زائدة فالصواب في ذلك الوقف.

وقد اضطرب في حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، وقد تفرد بروايته من هذا الوجه ليث في أبواب الوقف والرفع، وقد رواه غيره كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد من قوله، وهذه ثلاثة أوجه في هذا الطريق، فتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وتارة يجعل من غير حديث ليث عن مجاهد موقوفاً عليه، يعني: مقطوعاً في اصطلاح أهل المصطلح، وهذا من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد .

ولكن يقال: إن ثمة قاعدة تذكر في بعض كلامهم على سبيل الإشارة، ومن أراد أن يستنبطها يجدها في كلام كثير من أهل العلل وبالأخص الدارقطني وهي: أن ما كان على سبيل الفتوى وتضمن حكماً من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تارة تروى مرفوعة وموقوفة ومقطوعة؛ لأن مقتضاها الفتوى، فيفتون بهذا القول، فهذا يخرج عن مسألة الرواية.

فإذاً: حينما يأتي حديث في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، فلا بأس أن يفتي الإنسان بهذا الأمر في نازلة تنزل به، فيقول لشخص: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيكون من قوله، وهذا لا يغير كونه مرفوعاً، بخلاف الأحاديث الملفوظة التي تأتي في أمور التعبد ونحو ذلك, فإن ذلك من جهة الأصل ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يلتفت إليه، ولهذا لا حرج أن يقال: إن ما جاء في قول مجاهد أنه فتوى، وما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أيضاً أنه فتوى، وما جاء أيضاً مرفوعاً فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه, ولهذا نجد في كثير من المواضع في كلام الأئمة الذين لهم أصحاب فقهاء أقوالاً يروونها عن أصحابهم، كما جاء عن عبد الله بن عباس وله أصحاب كثر من الفقهاء, فهؤلاء أصحابه الذين يروون عن عبد الله بن عباس تارة يروون نفس القول الذي يروونه عن عبد الله بن عباس مرفوعاً أو موقوفاً عليه، وتارة يروونه من أقوالهم، فبعض الناس حينما ينظر إلى ذلك لا يفرق بين رواية الفقيه ورواية غيره، وهذه من الأمور والمسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يفرق وأن يمايز فيها بين رواية الراوي الفقيه وغير الفقيه.

والرواة في كتب الرجال على قسمين:

القسم الأول: رواة رواية، وليس لهم دراية.

الثاني: رواة ولهم دراية، أي: لهم فقه وفتوى، فهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار، ومن لم يميز بين هذين فإنه يقع في الوهم والاضطراب وعدم إدراك كثير من سياقات الأئمة في أبواب التعليل، فيجد بعض الأئمة يعل في موضع ولا يعل في موضع آخر في ذات المسألة المتشابهة في ذلك، وهذا باب دقيق ينبغي لطالب العلم أن يعتني بأجزائه، فثمة بعض الرواة هو من أهل الدراية والفقه في باب، ولكنه في باب من أهل الرواية لا من أهل الدراية، فإنه في مثل ذلك لا يسوغ أن يقال: إنه صاحب دراية فيروي ويفتي من قوله باعتبار عدم اختصاصه في هذا الباب، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك.

كذلك أيضاً فإن من الأحاديث ما لا يحتمل فيه الفتوى؛ كأخبار الفضائل، وأشراط الساعة ونحو ذلك فإن هذا ليس من مسائل الفتوى، وإنما هي من الأخبار التي ينقلها الراوي، فجانب الفتوى في ذلك ضعيف، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بأبواب المتون، ومسائل الفقهيات التي تروى عن الأئمة عليهم رحمة الله.

ومن الوجوه التي أعل بها بعض العلماء هذا الحديث، أعني: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى: ما جاء من علل في أبواب المتن، فإن هذا الحديث قد وقع فيه اضطراب في متنه، فتارة يقال: ( قلتين أو ثلاثاً )، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى في بعض وجوهه، مثل ما جاء في حديث حماد بن سلمة عن عاصم عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( قلتين أو ثلاثاً )، فجاء بصيغة الشك، وقد اختلف فيه على حماد بن سلمة في روايته هذه, فرواه وكيع و عفان و يزيد بن هارون و هدبة عن حماد بن سلمة بالشك، ورواه جماعة آخرون بغير شك، رواه في ذلك عفان أيضاً و يزيد بن هارون , رووه أيضاً عنه بلا شك فرووه بالوجهين، وكذلك أيضاً رواه الطيالسي و العلاء كلهم عن حماد به، ولكن جعلوه بلا شك، فمنهم من رجح رواية الشك فأعل الحديث، ومنهم من لم يرجح رواية الشك باعتبار أنها وهم واضطراب من حماد بن سلمة .

وهذا الحديث قد صححه جماعة كما تقدم وأعلم من صححه في ذلك هو يحيى بن معين عليه رحمة الله، وعمل به أيضاً كثير من الأئمة، ووقع فيه نزاع واضطراب، وقد صنف فيه جماعة من العلماء جملة من المصنفات بين راد ومردود، منهم ابن العربي عليه رحمة الله فقد صنف جزءاً في ذلك، وأراد بذلك أن يرد على الشافعي في عمله بهذا الحديث، وكذلك أيضاً رد به على بعض الأئمة, وأعله بعض الأئمة كـابن عبد البر عليه رحمة الله، وقد رد عليه في ذلك المقدسي عليه رحمة الله، وهذا أمر سائغ فيه وهو في أبواب الاجتهاد، وهذا الحديث محتمل التعليل ومحتمل التصحيح, وهو أصل في بابه على من قال بظاهر لفظه، ولم يقل بدلالة الخطاب في بقية الأحاديث التي تلغي دلالة الخطاب ومفهومه في هذا الحديث، وهذا ليس محل كلام على معانيه وفقهه, وإنما له موضع آخر يرجع إليه.

وينبغي الإشارة إلى مسألة في هذا السياق وهي أنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن علم العلل لا ينفك ولا ينفصل عن علم الفقه أي: معرفة فقه الأوائل على سبيل الخصوص من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهؤلاء علمهم لا يمكن أن ينفصل عن علم العلل، وبقدر نقص الإنسان في هذا الباب، ينقص إدراكه لمسائل التعليل؛ وذلك من وجوه متعددة:

منها ما تقدم أن الرواة منهم أصحاب دراية، ومنهم من ليس بصاحب دراية، ومن له رأي ومن ليس بصاحب رأي، وكذلك أيضاً منهم من له بلدان تعتني بفقه يختلف عن الفقه الآخر، كما في فقه المكيين فإنهم يعتنون بفقه المناسك ونحو ذلك، فمن لم يعرف الرواة لم يعرف أصلاً المكي من غيره، ولم يعرف أيضاً من يعتني بباب عن غيره.

وكذلك المسائل التي تكون متونها في أبواب المناسك تختلف وجوداً لذات الرواة عن الأحاديث التي تكون في غير أبواب المناسك وهكذا، ومنها أحاديث تهتم بفضائل البلدان، وكذلك أيضاً أبواب السير والمغازي والفتن والملاحم ونحو ذلك؛ وذلك أن مدارسها يعتنون بهذا النوع، وعلى هذا ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية ودراية به؛ وذلك لأسباب ووجوه عريضة ربما يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

وقد جاء من وجوه الاضطراب في هذا الحديث: أنه جاء في أخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله , وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر, اضطرب في تحديد القلال، هل هي قلتان أو ثلاث أو أكثر من ذلك؟ وقيل: أربعين.

فجاء في حديث جابر بن عبد الله من حديث القاسم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة )، وهذا الحديث قد أنكره غير واحد؛ لأنه تفرد به القاسم في روايته عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله .

وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة )، وجاء في رواية ( ذنوبين أو أكثر لم يحمل الخبث )، وهذا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى من حديث الزمعاء عن هدبة عن عكرمة عن عبد الله بن عباس.

وجاء أيضاً من قول عكرمة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة)، ولهذا قالوا: لما وجد هذا الفقه في كلام بعض السلف فإنه يحتمل إعلال أصل الحديث، ولكن يقال: إن بعض هذه الطرق مما لا يحتج به، وربما كانت الزيادة عن القلتين إشارة إلى سياق قد وردت فيه تلك الرواية, فينبغي ألا تنتزع منه, وأن تؤخذ تلك الفتاوى أو تلك الأقوال بحسب سياقها، وألا تنقل على أنها روايات وأخبار منفردة قد ألقاها الإنسان مثلاً في مجلس عام ونحو ذلك.

وكثير من الفتاوى التي يلقيها الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إنما كانت في مسائل أعيان، فنقلها الرواة عنهم على سبيل الاجتزاء والاختصار، ولم يبينوا أسباب الورود، فجهل كثير من الناس أسباب ذلك السياق أو ذلك اللفظ فظنوا أنها أحاديث مروية على هذا النحو، وهذا ما ينبغي أن يكون طالب العلم على انتباه فيه.

وأما الحكم على هذا الحديث من جهة النهاية، هل هذا الحديث معلول أم ليس بمعلول؟

نقول: هذا الحديث معلول ولا شك في ذلك، ولكن هل هو مردود, لا يحتج به؟

نقول: العلة ظاهرة فيه من جهة الإسناد ومن جهة المتن.

أما من جهة الإسناد فما وقع فيه من اضطراب، ثم قد يكون هذا الاضطراب مخلاً، وقد لا يكون مخلاً، ويظهر عدم إخلاله.

وأما من جهة المتن، فهو أن المتن الأصل فيه أن هذا المعنى ينبغي أن يروى بأحاديث أشهر وأقوى من هذا، وينبغي أن يرويه في ذلك الكبار، فلما جاء فرداً من هذا الوجه فإنه على طريقة المحدثين يقال: بإعلاله، ولكن هل يقال برده، وعدم الاحتجاج به؟

الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا الحديث من جهة قبوله ورده يرجع فيه إلى فهم متنه، ثم يُتفرع بعد ذلك إلى الحكم.

فإذا قلنا: إن هذا الحديث له دلالة منطوق ودلالة مفهوم، فإننا على طريقة المحدثين النقاد الأوائل لا بد أن نقول: بإعلاله، ولا يمكن أن يصح فنقول: إنه منكر، وإذا قلنا: إن الحديث له دلالة منطوق وليس له دلالة مفهوم، وما خالفه من الأحاديث في دلالة المفهوم التي يسميها أهل الكلام بدلالة الخطاب، فإننا نقول حينئذ: إن منصوص الأدلة يقدم على دلالة الخطاب؛ فعلى هذا فإنا نقول بقبوله، وعلى هذا -فيما يظهر- يحمل سياق التصحيح الذي جاء عن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كما جاء في كلام يحيى بن معين وكذلك الترمذي و الدارقطني وغيرهم, الذين قالوا بصحة الحديث وقوته.

والذي يظهر والله أعلم أن حمل الحديث على معناه الثاني هو الأولى, وعلى هذا الوجه نقول: إن الحديث يحتمل، والإشكال إنما طرأ على كثير من المتأخرين بسبب دلالة المفهوم، ولما كانت دلالة المفهوم تقتضي تنجيس الماء لمجرد ورود النجاسة وأنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث بمجرد الملاقاة، قالوا: هذا لا بد من أن يحمله رواة كثر؛ لأنه فيصل في أمر الماء، والماء يحتاجه الناس، والناس لا يحترزون للماء في أزمنتهم كما نحترز في زماننا بأوعية وحافظات وخزانات ونحو ذلك، وإنما كانت مياه موجودة في متناول كثير مما يطرأ عليه النجاسة من السباع والبهائم والكلاب وغير ذلك.

وعلى هذا قالوا: لا بد أن يحمل ذلك من الرواة الكبار، فلماذا تنكبه الرواة الكبار ورواه من هو دونهم الذين هم في عداد المتوسطين وإن كانوا من الثقات كـالوليد بن كثير و محمد بن جعفر و محمد بن عباد ؟ لكن إذا قلنا بخلاف ذلك: وهو أن الحديث له دلالة منطوق، وأما دلالة المفهوم فيشار إلى أهمية الاحتراز، وأنه ينبغي للإنسان أن يحتاط، وأنه لا يحكم على هذا الحديث بنجاسة إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث أبي سعيد الخدري في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا ينجس )، وما جاء أيضاً في حديث أبي أمامة : ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه )، وهذا محل إجماع عند العلماء.

وكما تقدمت الإشارة إليه أن فهم الحديث هو فرع عن الحكم عليه، فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين نهج الأوائل وقوتهم في إدراك دلالات مفهوم الأحاديث، ثم ما يبنون عليه من الإعلال، وكذلك أيضاً طرائق المتأخرين وما يبنون عليه من إعلال، وهذا من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها.

وثمة فروع لهذه المسألة في ألفاظ القلة والذنوب أو الدلو ونحو ذلك، واختلاف الروايات في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلها لا يصح، وأصح ما جاء في ذلك هو قلتان، وإنما جاء في بعض الروايات في فتاوى بعض الفقهاء من السلف، وتفرع عنه قول بعض من لا عناية له: إن هذا من وجوه الاضطراب وليس كذلك.