خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الآنية - حديث 17-19
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الأسبوع الماضي انتهينا تقريباً من الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبين من البهيمة -أو ما قطع من البهيمة- وهي حية فهو ميت، أو فهو ميتة ).
وبقي مسألة واحدة عرضتها في آخر الدرس الماضي, ونبدأ بها الآن إن شاء الله, ألا وهي حكم الميتة, هل هي نجسة أم لا؟ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حين حكم بما قطع من البهيمة وهي حية بأنه ميت، أراد إلحاق هذا المقطوع من البهيمة بحكم الميتة في تحريم الأكل بلا شك, كما هو ظاهر من سبب الحديث, وفي غيرها من الأحكام أيضاً.
وما دام أن الأكل من الميتة حرام بالإجماع كما سلف, فيبقى السؤال: هل الميتة نجسة كلها أم في ذلك تفصيل؟ والجواب أنه يمكن تقسيم الميتة إلى قسمين:
الأول: الأشياء الرطبة منها, كاللحم ونحوه, فهذه نجسة بالإجماع, ولم أقف على أحد من الفقهاء ذكر في هذه المسألة خلافاً, أن لحم الميتة، والمقصود بطبيعة الحال ميتة البر لا ميتة البحر, ويخرج من ذلك أيضاً كما سبق ما لا نفس له سائلة, فهذا كله معروف, فلحم الميتة نجس بالإجماع فيما قرأت واطلعت عليه.
أما الأشياء الصلبة من الميتة ففيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها نجسة كلها, وهذا مذهب الشافعي , وهو رواية مشهورة في مذهب الإمام أحمد , والأشياء الصلبة معروفة مثل: القرن, العظم, الظلف, الشعر, ونحوه, فعلى مذهب الإمام الشافعي أن جميع هذه الأشياء نجسة.
والقول الثاني: هو مذهب الإمام أبي حنيفة ورواية عن أحمد ومالك أنها طاهرة كلها, وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونسبه إلى جمهور السلف, قال: وهو قول جمهور السلف.
القول الثالث: التفصيل, فقالوا: الشعر والوبر والصوف والريش هذه الأربع طاهرة, وأما السن والعظم والظلف والظفر ونحوها فهي نجسة, السن والعظم والظلف والظفر, وكذلك القرن نجسة. وهذا هو مذهب الإمام مالك في المشهور عنه، ورواية عن الإمام أحمد .
هذه ثلاثة أقوال في الأشياء الصلبة أو اليابسة من الميتة, ولكل قول من هذه الأقوال مأخذ واستدلال.
والذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني بطهارة هذه الأشياء, وذلك للأدلة التالية:
أولاً: لأنه الأصل, فقد سبق أن الأصل في الأعيان الطهارة, والقول بالنجاسة يفتقر إلى دليل صريح صحيح.
وثانياً: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: ( إنما حرم من الميتة أكلها). وسيأتي هذا الحديث في درس قادم إن شاء الله, ( إنما حرم من الميتة أكلها). وكما هو معلوم فإن (إنما) تسمى أداة حصر, فحصر التحريم في الأكل, ( إنما حرم من الميتة أكلها). ومعلوم أن الأكل لا يتناول هذه الأشياء التي وقع فيها الاختلاف غالباً.
واستدل أيضاً من قالوا بأن هذه الأشياء طاهرة وليست نجسة: بأن هذه الأشياء ليست تحلها الحياة المطلقة, لا تحلها الحياة المطلقة التي تتميز بالنمو والتحرك بالإرادة, فهي لا تتحرك إلا تبعاً, فلا يقال عنها: إنها ميتة بالإطلاق, ولذلك سبق في الدرس الماضي أن ما جز من البهيمة وهي حية من الشعر ونحوه فهو طاهر وجائز الاستعمال, بل نقل بعض أهل العلم الإجماع على هذا, ومثله ما هو معروف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من أنهم كانوا يأخذون شعرات النبي صلى الله عليه وسلم فيضعونها عندهم ويتبركون بها, فدل هذا على أنها طاهرة، سواء كانت من إنسان أو غيره, فهذه الأشياء لا تنجس بالموت, بل تبقى طاهرة. ولهم مآخذ وأدلة أخرى غير هذه.
أما ما استدل به الآخرون من تحريم الميتة, كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] فظاهر أنه لا يدل على النجاسة, إنما يدل على تحريم أكلها كما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام: ( إنما حرم من الميتة أكلها). وإن كان الشعر والقرن يعتبر من الميتة تبعاً, فالإنسان يشير مثلاً إلى حيوان ميت في شعره وظفره وقرنه ويقول: هذه ميتة. تبعاً, لكن لا يلزم من ذلك أن تشترك في الحكم, وهو النجاسة.
هذه خلاصة آراء أهل العلم في الميتة, وهي أن الأشياء الرطبة نجسة إجماعاً, أما اليابسة ففيها ثلاثة أقوال, أولاها وأصحها القول بطهارتها. هذا المسألة المتبقية من الحديث السابق.
بعد ذلك ننتقل إلى الحديثين الأول والثاني من باب الآنية.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة). متفق عليه.
وزاد البخاري ومسلم أيضاً في أوله: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة).
وقال ابن مندة عن هذا الحديث: مجمع على صحته. وهو كما سبق متفق عليه, اتفق على إخراجه البخاري ومسلم رحمهما الله.
معاني ألفاظ الحديث
( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة, ولا تأكلوا في صحافهما). الصحاف جمع صحفة, وهي إناء يؤكل به, يقول أهل اللغة: إنه يشبع الخمسة من الرجال , ومن المعلوم أن العرب يسمون آنية الأكل بحسب سعتها, وبحسب من تشبع, فإن كانت إناءً ضخماً عظيماً سموه الجفنة, وإن كانت دون ذلك بحيث تشبع العشرة ونحوهم سموها القصعة, وإن كانت دون ذلك تشبع الخمسة سموها الصحفة, كما هاهنا, وإن كانت تشبع الاثنين والثلاثة سموها المِأكلة , فهذا معنى قوله: (في صحافهما).
( ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا). فإنها يعني: آنية الذهب والفضة, (لهم في الدنيا), من هم المقصودون؟
الكفار والمشركون, ومع ذلك فإن الكفار والمشركين لم يسبق لهم ذكر في الحديث حتى يرجع النبي صلى الله عليه وسلم الضمير إليهم, ولكن اللغة العربية واسعة جداً, فيعاد الضمير وإن لم يكن إلى مذكور إذا فهم هذا من السياق, وهو كثير جداً, ومن جميله قول أحد الشعراء, يقول:
وإني لأهوى وهو يغتال مدتي مرور الليالي ..............
وإني لأهوى وهو يغتال مدتي, (وهو) الضمير الآن جاء قبل أن يأتي ما يعود عليه الضمير, ثم جاء بعد الاسم الذي عاد عليه الضمير في قوله:
مرور الليالي كي يشب حكيم
مخافة أن يغتالني الموت دونه فيغشى بيوت الحي وهو يتيم
فالضمير قد يعود على متأخر, وقد يعود على ما لم يذكر إذا فهم من السياق.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإنها لهم في الدنيا ), ما معنى كونها لهم في الدنيا؟ هل معناه: أنها مباحة لهم في الدنيا؟
هذا باعتبار الواقع.. لهم في الدنيا باعتبار الأمر الواقع القائم؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله, ولا يرعوون عن ترك هذا الأشياء, فلذلك صارت لهم في الدنيا, وإلا فالواقع أنها محرمة عليهم كما هي محرمة على غيرهم, ويعاقبون عليها في الآخرة كما يعاقبون على سائر الذنوب والمعاصي التي فعلوها, كما ذكر الله عز وجل في كتابه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]. فيعذبون على كل ذنب عملوه, فهي حرام عليهم في الدنيا, لكنها لهم باعتبار الأمر الواقع القائم, ( ولكم في الآخرة ).
تحريم لبس الحرير على الرجال وحله للنساء
فمن فوائد الحديث: تحريم لبس الحرير على الرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج). وأما النساء فيجوز لهن لبسه؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم عن نحو تسعة من الصحابة: ( أنه أخذ بيده اليمنى قطعة حرير وبيده الأخرى ذهباً، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي ). زاد ابن ماجه : ( حلال لإناثها). فالحرير حرام على الذكور, أما على الإناث فهو مباح حلال, وكذلك الذهب من حيث اللبس.
تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة
ففيه تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، وهذا الحكم نقل عدد من أهل العلم الإجماع عليه, فنقل النووي الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا ما يذكر من أحد قولي الشافعي , فقد نسب للإمام الشافعي في مذهبه القديم أنه يقول بالكراهة لا بالتحريم؛ وذلك لأن العلة المذكورة من الخيلاء والإسراف أو التشبه بالكفار -كما يقول بعض فقهاء الشافعية- لا تدل على التحريم. وهذا بعيد؛ لأن العلة هذه دالة على التحريم؛ هذه العلة بعينها دليل على التحريم, وعلى فرض صحة هذا القول عن الشافعي في مذهبه القديم، فهل يجوز أن يكون مذهباً له الآن؟ هل يجوز؟ لا, ليس مذهباً له؛ لأنه رجع عنه, وقال في قوله الجديد بتحريم الشرب في آنية الذهب والفضة, فنسبة القول القديم إليه إنما هي على سبيل المجاز, وإلا فالواقع أنه لا تصح نسبته إليه؛ حيث قد رجع عنه.
وكذلك نقل الإجماع على التحريم ابن المنذر، إلا ما نقل عن معاوية بن قرة من عدم القول بالتحريم, ولعل الحديث لم يبلغه في ذلك.
وكذلك ذهب داود الظاهري إلى قصر التحريم على الشرب فحسب, قال: إن المحرم هو الشرب فحسب, ولعله والله أعلم وقف على رواية حديث أم سلمة الذي قرأتموه, ولفظه المتفق عليه: ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ). فلم يذكر فيه الأكل في الرواية المتفق عليها, وإن كان مسلم ذكر الأكل كما سيأتي. فهؤلاء ثلاثة نقل عنهم المخالفة في تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب: الشافعي في مذهبه القديم وقد رجع عنه, ومعاوية بن قرة , وكذلك داود الظاهري قصر القول بالتحريم على الشرب دون الأكل. ولا شك أن وضوح النصوص والأحاديث وصراحتها في ذلك، قاضية بتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة, بل بكونهما من كبائر الذنوب, وما الدليل على كونهما من الكبائر؟
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة : ( إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، هذا وعيد بالنار على من أكل أو شرب في إناء ذهب أو فضة, وهو دليل على أن الأكل والشرب فيهما من كبائر الذنوب, وليس محرماً فحسب. هذا فيما يتعلق بالأكل والشرب. وهذه هي المسألة الأولى.
حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة للقنية والزينة
الأدلة على التحريم ما يلي:
أولاً: قالوا: العلة التي من أجلها حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة هي موجودة في الاتخاذ, بل ربما تكون في الاتخاذ أشد منها في الأكل والشرب, أياً كانت العلة, وذلك لأن الذي أكل أو شرب وإن كان وقع في محرم، إلا أنه استفاد من هذا الإناء, أما الذي اتخذه ولم يشرب أو يأكل فيه فهو لم ينتفع فيه بوجه من وجوه الانتفاع, فأضاف إلى العلة علة أخرى, وهي تضييع المال فيما لا فائدة فيه, فالعلة موجودة في الاتخاذ, كما هي موجودة في الأكل والشرب, وربما أشد من ذلك.
الأمر الثاني: أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه , وذلك كآلات اللهو وكالخمر وغيرها, فلا يجوز إبقاء هذه الأشياء.
الأمر الثالث أو الدليل الثالث: أنه من باب سد الذريعة؛ لأن من وجد عنده إناء ذهب أو فضة فهذا ذريعة إلى أن يستعمله في أكل أو شرب, أو يستعمله بعض من عنده من الأهل والأولاد والخدم وغيرهم, ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى القول بتحريم الاتخاذ.
أما القول الثاني في الاتخاذ فهو مذهب أبي حنيفة، ورواية في مذهب الشافعي وأحمد القول بجوازه؛ وذلك لأن النص ورد في الأكل والشرب, ولم يرد في ما عداهما, فيقصر التحريم على ما ورد في النص.
والقول الأول أقوى دليلاً, وأكثر تمشياً مع مقاصد الشرع؛ لأن الأغراض والعلل التي من أجلها منع الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة هي موجودة في هذه الصورة التي هي الاتخاذ.
حكم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
وهذه المسألة ذهب أيضاً جمهور أهل العلم إلى تحريم استعمال الذهب والفضة فيها, بل حكى النووي الإجماع على التحريم, ولكن حكاية الإجماع لا تصح, وإنما ذكر القرطبي أنه رأي الجمهور, وقال ابن القيم رحمه الله: إن هذا مما لا يشك فيه عالم. يعني: القول بمنع استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
وحجة من قالوا بالمنع ظاهرة, وهي أنهم قالوا:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نص على الأكل والشرب في الحديث: ( لا تأكلوا), ( لا تشربوا)، الذي يشرب أو يأكل، حين نص على الأكل والشرب فإنما ذلك لأنه الغالب من فعل الناس, فيدخل فيه غيره تبعاً. أرأيت قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] هل يجيز للإنسان أن يتعاطى الربا دون أن يأكله؟ هل يجوز له ذلك؟ إجماعاً لا يجوز له ذلك.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. هل يجوز للإنسان أن يأخذ أموال اليتامى فيحتفظ بها ولا يأكلها, يطعمها أقاربه أو أولاده مثلاً, أو يخزنها؟ إجماعاً لا يجوز أيضاً.
إذاً: فقوله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى عبر بالأكل لأنه الغالب, والمقصود من هذه الأشياء, ويدخل فيه غيره تبعاً, فقالوا: إن نصه عليه الصلاة والسلام على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لأنها الغالب من فعل الناس, ويدخل فيه غيره. هذا وجه.
الوجه الثاني: قالوا: إن العلة في تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة هي متحققة في جميع الاستعمالات, وما هي العلة؟ ما هي العلة في تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة؟
قيل: العلة هي الخيلاء. وقيل التشبه بالمشركين. وهذه العلة مسألة التشبه وإن كان ضعفها بعض أهل العلم إلا أن لها وجهاً؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا)، دليل على أن هذا من صفات المشركين وخصائصهم, فاستعمال الذهب والفضة تشبه بالمشركين بلا شك, وقيل في العلة: أنه كسر قلوب الفقراء.
وقيل: الإسراف. وقيل: لكونها أثماناً للأشياء.
وقيل -وهذا ما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قرأتموه-: إنها من شأن أهل الجنة, ( ولكم في الآخرة ). فهذه ست علل. وذكر ابن القيم رحمه الله علة قوية - وقال: هي الصواب-: أن استعمال الذهب والفضة ينافي حقيقة العبودية لله عز وجل والتذلل له؛ فلذلك منعت.
وهذه العلل سواء قلنا بها جميعاً أو ببعضها توجد في استعمال الذهب والفضة في أي أمر آخر، كما توجد في استعماله للأكل والشرب, انظر مثلاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ). هذه الكلمة قد يفهم منها ثلاث علل.
يفهم منها العلة الأولى: أن في استعمال الذهب والفضة تشبهاً بالمشركين؛ لأنها لهم في الدنيا, فهذا شأنهم.
ويفهم منها أن في استعمال الذهب والفضة تشبهاً بأهل الجنة, وهذا ورد النهي عنه, كما في ( قصة الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يده خاتماً من ذهب فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة ).
والعلة الثالثة: هي ما أشار إليه ابن القيم -وقد تفهم ضمناً- أن استعمال الذهب والفضة في الدنيا لا ينبغي للمتقين العابدين لله, إنما هو شأن من فرطوا في العبودية لله عز وجل، وأصبحوا عبيداً لأهوائهم وشهواتهم. فهذه العلل الثلاث تتحقق في جميع الاستعمالات للذهب والفضة غير الأكل والشرب.
أهل الجنة مثلاً لا يستعملون الذهب والفضة إلا في الأكل والشرب فقط؟ الظاهر أنه لا يمكن القول بالحصر, بل قد يستعملونها سرراً وكراسي وخياماً وغير ذلك, وورد هذا في نصوص منها -وإن كان فيه ضعف-: ( قصة مؤتة وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم
فإذا قلنا بذلك أتت العلة المذكورة, ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ). فأنتم في الآخرة تتنعمون فيها معاشر المؤمنين كيف شئتم, والكفار في الدنيا يتنعمون فيها كيف شاءوا, فمن أين جاء الحصر بالأكل والشرب ما دام أن العلة مطردة في كل شيء؟ فهذا يقوي القول الأول, أن النهي عام في جميع الاستعمالات.
القول الثاني: أنه يقصر النهي على الأكل والشرب. وهذا القول نسب للشافعي وبعض أصحابه, ونسب لـداود الظاهري , يعني: أنه قصره على الشرب فقط كما سبق, وهو رواية ضعيفة في مذهب الإمام أحمد . ومن الغريب أن الشوكاني في نيل الأوطار، والصنعاني في سبل السلام رجحا هذا القول, بل ورجحاه بقوة, حيث قال الشوكاني رحمه الله: فالأصل المعتضد بالبراءة الأصلية -أو هذا القول يعني- القصر على الأكل والشرب .. هذا القول يعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور, يعني: القول بقصر المنع على الأكل والشرب هو وظيفة الإنسان المنصف الذي لا يخشى من مخالفة الجمهور, وإنما يهمه الوصول إلى الحق.
وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام ما معناه: أن القول بتعميم المنع في جميع الاستعمالات من شؤم تغيير اللفظ النبوي, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تأكلوا ولا تشربوا), وقال: (الذي يأكل أو يشرب). فجاء الفقهاء فغيروها إلى الذي يستعمل أو لا تستعملوا, فعدلوا عن اللفظ النبوي إلى ألفاظ من عند أنفسهم, ورجح القول بقصر التحريم على الأكل والشرب.
وهذا القول ضعيف؛ لما سبق في القول الأول من اطراد العلة في كل شيء, وأن ذكر الأكل والشرب في الحديث لا يعني القصر عليه. ونسبة هذا القول لـلشافعي كما نسب إليه في نيل الأوطار فيها نظر, ولعله لا يصح؛ وذلك لأن الإمام الشافعي رحمه الله نص في كتاب الأم على أنه معصية, وقال: وأنا أكرهه. فقوله: أكرهه ماذا يفهم منه؟ هل يفهم منه كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ يفهم منه كراهة تحريم؛ لأن قوله قبل ذلك: إنه معصية يدل على أنه يعني بالكراهة كراهة التحريم لا كراهة التنزيه. وهذه هي المسألة الثالثة.
حكم الوضوء في آنية الذهب والفضة
وهذه المسألة أذكرها لأنها ذات علاقة بالموضوع, فالوضوء في آنية الذهب والفضة وإن كان حراماً كما سبق، ومعصية ويأثم فاعله إلا أنه صحيح, فلو توضأ إنسان في إناء ذهب أو فضة ثم صلى, هل نقول له: أعد صلاتك مثلاً؟ لا, نقول: الوضوء صحيح والصلاة صحيحة وأنت آثم, آثم بوضوئك من هذا الإناء. وهذا القول بصحة الوضوء مع الإثم هو رأي جماهير العلماء, بل حكى النووي والمرداوي وابن هبيرة الإجماع على صحة الوضوء.
من قال بعدم صحته؟ ذهب بعض شيوخ المذهب الحنبلي إلى عدم صحة الوضوء, ونسبه بعض المشايخ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وقد راجعت كلامه في الفتاوى فلم أجد فيه ما يدل من قريب أو بعيد على أنه يقول بعدم صحة وضوئه, بل ظاهر كلامه يدل على أنه يرى أنه يصح وضوءه مع الإثم, وقد يكون له كلام آخر غير هذا الكلام, ولا شك أن القول بصحة الوضوء هو القول الصحيح؛ وذلك لأن هذا الوضوء مكتمل الشروط والواجبات, وربما السنن أيضاً, فهو وضوء شرعي صحيح, وكونه في إناء محرم يأثم به صاحبه, لكن لا يلزم من ذلك أن يكون وضوءه غير صحيح.
حكم استعمال الإناء المضبب بالفضة
وهذه المسألة أجازها أيضاً أكثر أهل العلم, بل حكى المرداوي ثم الصنعاني الإجماع على جواز الضبة اليسيرة من فضة لحاجة في الإناء, كأن ينكسر الإناء فيشده بسلسلة أو خيط من فضة أو ما أشبه ذلك, أجازها أكثر أهل العلم, وممن أجازها الأئمة الأربعة رحمهم الله, بشروط ذكروها توجد مفصلة في كتب الفقه.
وما هي حجتهم في جواز استعمال الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة؟
استدلوا أولاً: بأن الإناء الذي يوجد فيه ضبة يسيرة هل يسمى إناء فضة؟ لا يسمى إناء فضة, فلا يشمله النهي.
واستدلوا ثانياً: بما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: ( أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سِلسلة من فضة أو سَلسلة من فضة ). وسواء كان المتخذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنس - كما سيأتي إن شاء الله تفصيله في حينه- فهو دليل على جواز اتخاذ الضبة اليسيرة من الفضة لحاجة في الإناء.
وما معنى قولنا: لحاجة؟ هل معناه ألا يجد ما يضبب به هذا الإناء إلا فضة؟ هل هذا معنى قولنا: لحاجة؟
لا. فلو كان عنده إناء انكسر ويستطيع أن يضببه بأي شيء آخر من غير الفضة, فضببه بفضة هل نقول: إن هذا لحاجة أو ليس لحاجة؟ لحاجة. يعني قولهم: لحاجة مثل هذه, ولو كان يستطيع أن يضببه بشيء آخر, أما لو كان لا يجد أصلاً شيئاً يضببه به إلا الفضة فهذه تسمى عند العلماء ضرورة, والضرورة يجوز فيها حتى الذهب, فالكلام بالحاجة أي: أنه ليس لغير غرض بل لغرض, كما لو انكسر أو انشعب فضببه بفضة, فيجوز ذلك.
حكم التضبيب بالذهب
حكم التضبيب بالذهب لا يجوز إلا لضرورة، يجوز للإنسان أن يستعمل الذهب فيما دعت إليه الضرورة, كما يستعمله في الأسنان، أو في الأنامل، أو في الأنف، أو في غير ذلك.
فأما كونه لا يجوز من الذهب ويجوز من الفضة؛ فلأن الفضة ورد فيها نصوص عديدة تدل على التيسير فيها أكثر من الذهب, كما سبق في حديث أنس : ( أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب من سلسلة من فضة ).
وكذلك روى أهل السنن: ( أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من فضة ). وقبيعة السيف هي: ما يكون في أعلى قائم السيف، أو ما يكون في نهاية حدي السيف مما يقع خارج غمده . فروى أهل السنن: ( أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من فضة ). وهذا الحديث قال فيه الترمذي :حديث حسن, وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في التلخيص الحبير . فهو يدل على نوع من التيسير في شأن الفضة.
وكذلك من المعلوم أنه يجوز اتخاذ خاتم من فضة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها). أما الذهب فقد ورد التشديد فيه كما سمعتم في هذه الأحاديث, وفي نصوص أخرى كثيرة مشهورة غيرها, فلا يجوز إلا للضرورة, وجوازه للضرورة يدل عليه ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عرفجة بن أسعد التميمي العطاردي… ويوم الكلاب: بضم الكاف هو يوم معركة كانت في الجاهلية, وقعت قريباً من ماء يقال له ماء الكلاب, فسميت هذه المعركة باسم الماء, وقال بعض العلماء: إنهما كانا يومان في الجاهلية, يسمى الأول يوم الكلاب الأول, ويسمى الثاني يوم الكلاب الثاني . فـعرفجة رضي الله عنه قطع أنفه يوم الكلاب, فاتخذ أنفاً من ورق - والورق هي الفضة- فأنتن عليه, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب. والحديث حسنه الترمذي والنووي في المجموع , ( أن
هذه أهم المسائل المتعلقة بأحكام آنية الذهب والفضة وما يتعلق بهما, وهي تفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
فوائد الحديث
أحمد
وأبو يعلى
والطبراني
وغيرهم، عنعبد الله بن عمر
رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج)، الديباج: هي ثياب تتخذ وتصنع من الإبريسم, الديباج: ثياب تتخذ وتصنع من الإبريسم, وهو نوع نفيس من الحرير, بخلاف الخز مثلاً فهو من رديء الحرير . فقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج) هذا في اللغة العربية يسمى من باب عطف الخاص على العام, لأن الديباج هو أحد أقسام أو أنواع الحرير, ومع ذلك عطفه عليه تنبيهاً على شدة النهي.
( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة, ولا تأكلوا في صحافهما). الصحاف جمع صحفة, وهي إناء يؤكل به, يقول أهل اللغة: إنه يشبع الخمسة من الرجال , ومن المعلوم أن العرب يسمون آنية الأكل بحسب سعتها, وبحسب من تشبع, فإن كانت إناءً ضخماً عظيماً سموه الجفنة, وإن كانت دون ذلك بحيث تشبع العشرة ونحوهم سموها القصعة, وإن كانت دون ذلك تشبع الخمسة سموها الصحفة, كما هاهنا, وإن كانت تشبع الاثنين والثلاثة سموها المِأكلة , فهذا معنى قوله: (في صحافهما).
( ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا). فإنها يعني: آنية الذهب والفضة, (لهم في الدنيا), من هم المقصودون؟
الكفار والمشركون, ومع ذلك فإن الكفار والمشركين لم يسبق لهم ذكر في الحديث حتى يرجع النبي صلى الله عليه وسلم الضمير إليهم, ولكن اللغة العربية واسعة جداً, فيعاد الضمير وإن لم يكن إلى مذكور إذا فهم هذا من السياق, وهو كثير جداً, ومن جميله قول أحد الشعراء, يقول:
وإني لأهوى وهو يغتال مدتي مرور الليالي ..............
وإني لأهوى وهو يغتال مدتي, (وهو) الضمير الآن جاء قبل أن يأتي ما يعود عليه الضمير, ثم جاء بعد الاسم الذي عاد عليه الضمير في قوله:
مرور الليالي كي يشب حكيم
مخافة أن يغتالني الموت دونه فيغشى بيوت الحي وهو يتيم
فالضمير قد يعود على متأخر, وقد يعود على ما لم يذكر إذا فهم من السياق.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإنها لهم في الدنيا ), ما معنى كونها لهم في الدنيا؟ هل معناه: أنها مباحة لهم في الدنيا؟
هذا باعتبار الواقع.. لهم في الدنيا باعتبار الأمر الواقع القائم؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله, ولا يرعوون عن ترك هذا الأشياء, فلذلك صارت لهم في الدنيا, وإلا فالواقع أنها محرمة عليهم كما هي محرمة على غيرهم, ويعاقبون عليها في الآخرة كما يعاقبون على سائر الذنوب والمعاصي التي فعلوها, كما ذكر الله عز وجل في كتابه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]. فيعذبون على كل ذنب عملوه, فهي حرام عليهم في الدنيا, لكنها لهم باعتبار الأمر الواقع القائم, ( ولكم في الآخرة ).
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4784 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4021 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |