درجات إنكار المنكر


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

وفي بداية هذا اللقاء أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي فضيلة الشيخ كل خير, فإنه كان له الفضل بعد الله عز وجل في تيسيره والدعوة إليه, وأسأله تعالى أن يشكر سعيكم وأن يعظم أجركم وأن يجزل لنا ولكم المثوبة وأن يجمعنا جميعاً في دار كرامته.

أيها الأحبة في الله:

الإخلاص شرط العبادة وأساسها

هناك أمر هو أهم الأمور، به تطمئن القلوب وتنشرح الصدور, هو أساس الدين ووصية الله للخليقة أجمعين, هذا الأمر جعله الله قاعدة الفلاح ومنبع الخير والإصلاح, ما هدى الله قلب عبد إليه إلا سدده ووفقه, وأرشده ويسر له, هذا الأمر هو الإخلاص لله جل جلاله, فاتحة الأمور وأساس كل خير, قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليخلصوا له وليوحدوه سبحانه وتعالى.

الإخلاص الذي جعل الله فيه السعادة والنجاة والخلاص, اختار الله منا قلوبنا فلن ينظر إلى ألواننا وأحسابنا وأنسابنا ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا, من تكلم وعمل لله أسعده ووفقه وسدده وثبته, وهي وصية الله للأولين والآخرين, التي عليها مدار كل خير, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.

أول ما ينبغي أن نتواصى به جميعاً وأن يشد بعضنا من أزر بعض فيه؛ تصفية القلوب لله جل جلاله, الداعية المخلص لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لله في قوله فتح الله له القلوب, وشرح الله له الصدور، وأصبحت كلماته ومواعظه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه كالغيث لتلك القلوب, يحيي الله عز وجل به تلك القلوب بما نظر من إخلاصه وإرادة وجهه العظيم, قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله, وإذا عمل عمل لله] وقال بعض السلف: كم من عمل قليل كثرته النية.

الإخلاص خير وبركة ورحمة وهدى, إذا نظر الله إليك وأنت تأمر واطلع على قلبك فلم يجد فيه شيئاً سواه جل جلاله, بارك في هذا الكلام, وتلقته الملائكة في صحيفة عملك؛ لكي تراه خالصاً لوجهه الكريم، في يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] .. أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:9-11] وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10] هل أرادت وجه الله، أو أرادت أي شيء سواه؟

الإخلاص هو الوصية الأولى التي لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها عبدٌ صالح, ونحتاج دائماً أن نتواصى بهذا الأمر العظيم, نحتاج دائماً أن نكون مخلصين، فبمجرد أن تخرج من بيتك تخرج وليس في قلبك إلا ابتغاء وجه الله, وبمجرد أن تقعد في عملك تقعد وليس في قلبك إلا رجاء رضا الله, وإذا تكلمت جعلت الله نصب عينيك, وإذا عملت جعلت الله نصب عينيك, فيشرح صدرك وييسر أمرك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29] وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] كم فتح الله بالإخلاص من القلوب! وكم أنار به من مناهج ودروب! كل ذلك بالإخلاص, ولما أخلص الأئمة والسلف الصالح جعل الله الخير في كلامهم ومواعظهم وأوامرهم ونواهيهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بالإخلاص لوجهه الكريم.

أيها الأحبة في الله:

إنه والله لشرف عظيم, أيُّ أمانة حملتموها؟ وأي مسئولية قُلدتموها؟ حينما حملتم هذه الرسالة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه الرسالة التي تولى الله أمرها من فوق سبع سماوات, فأمر سبحانه بالمعروف ونهى عن المنكر, فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد هؤلاء الرسل, ولكي تقوم عليهم الحجة وتنقطع عنهم المعذرة, تولاها الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, كانوا حملة النور؛ اطمأنت بهم القلوب وانشرحت بهم الصدور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كانوا يأمرون بما أمر الله به, وينهون عما نهى الله عنه, فرفع الله ذكرهم وأعز شأنهم وأبقى في القلوب حبهم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أهم الأمور وأعظمها في قلوب الأخيار والصالحين, فكما أنه رسالة الكتاب والسنة التي اعتنى بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد اعتنى بها العلماء والحكماء والأخيار والصلحاء, وإذا أردت أن تنظر إلى مقام الإنسان في دين الله عز وجل ومقدار تعظيمه لله سبحانه وتعالى فانظر إليه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأنه إذا عظم الله في قلبه عظم أمره ونهيه, فكان وجهه يتمعر لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت حرماته, وكان لسانه ينطلق بالتذكير والموعظة والتوجيه والإرشاد والدلالة على الله سبحانه وتعالى؛ لعظيم شعوره بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم حقه جل جلاله.

ولذلك وصَّى لقمان ابنه فقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فأمره أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, فهي الرسالة السامية والمرتبة الشريفة الكاملة العالية، التي ينال الإنسان بها الفلاح، قال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

فشهد الله أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه مفلح، وإذا شهد الله لعبد أنه مفلح فهو المفلح, فلا أصدق من الله حديثاً ولا قيلاً.

الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مرحوم في رحمة الله, متى ما تكلمت بما أمر الله به ومتى ما نهيت عما نهى الله عنه, فأنت تخوض في رحمة الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] أي: لما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فإني سأرحمهم, ولذلك تجد الإنسان كلما أقام حجة الله على عباده أصابته الرحمة, وجعل الله عز وجل في قلبه من الطمأنينة والثبات واليقين، ولا يزال المبلغ لرسالة الله الآمر بما أمر الله الناهي عما نهى الله عنه لا يزال له من الله معين وظهير متى ما كان مخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من الخسارة: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

فلذلك -أيها الأحبة في الله- نحمد الله من كل قلوبنا, ونشكره على عظيم فضله علينا حينما يسر لنا وسهل لنا أن نبلغ رسالته, وأن نقيم حجته, وإنه لمن دلائل حب الله للعبد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يضع له القبول في الأرض, فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لوجه الله عز وجل، وعلم الله من قلبه أنه يريد وجهه ويريد ما عنده؛ فتح له أبواب الخير, ويسر له الدعوة، ووضع له القبول في الأرض, ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه).

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ذلك الرجل.

تصور! لو أنه نودي في السماء: إني أحب فلاناً باسمك، أليس هذا شرفاً عظيماً ومقاماً كريماً؟ قال: (فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً -باسمه- فأحبوه, فيحبه أهل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ثم يوضع له القبول في الأرض).

استشعار فضل مقام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

الوصية الثانية بعد الإخلاص الذي كان حديثنا عنه في النقاط الماضية: أن نستشعر فضل هذه الرسالة وفضل هذا المقام, فنحن إذا أخلصنا لوجه الله وشعرنا بأن الله نفحنا برحمته, ووهبنا نعمته, أجللنا هذه النعمة وأحسسنا بعظيم فضلها, فشعر الإنسان أن عليه واجباً لله سبحانه وتعالى, وعندها يستطيع أن يقوم بهذه الأمانة على أتم وجوهها.

الاهتمام بقضية القدوة الصالحة

وقبل أن نخوض في كيفية قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن نركز على أمر ثالث مهم جداً لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر, هذا الأمر هو: القدوة الصالحة.

فالإنسان إذا أراد أن يأمر بما أمر الله به, وأن ينهى عما نهى الله عنه, ينبغي أن يخاف ويخشى أن يمقته الله جل جلاله, وأن يجعله ممن -والعياذ بالله- يأمرون ولا يأتمرون, وينهون فيفعلون ما ينهون عنه -نسأل الله السلامة والعافية- أولئك الذين سمّى الله وحذر عباده منهم، فقال سبحانه وتعالى يعتب على بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أليس لديكم عقول تعقلكم وتحبسكم عن هذا الأمر الذي هو ضرب من الغي والهوى والضلال؟ نسأل الله السلامة والعافية.

لا يمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يضع الله له القبول في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى يكون قدوة, وهذه القدوة ظاهرة بينك وبين الناس, إذا أحب الناس العبد هابوه, والهيبة بالمحبة لها أثر في السلوك والتقويم والتوجيه.

ولذلك لما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمل أخلاقه وجمل آدابه وانعقدت القلوب على حبه, والشهادة له بالخير والصلاح والقدوة الحسنة, فكان يسمى بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

فإذا أراد الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فينبغي أن تظهر شمائل الإسلام وآدابه وأخلاقه ورحمته وفضله وبره وجميع ما فيه من خير من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته, فإذ سمع الناس كلام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, فإنهم أول ما ينظرون إلى أخلاقه وأفعاله وآدابه, فإن وجد التوافق بين القول والفعل أحبوه وهابوه, ووقع ذلك الكلام موقعاً بليغاً في النفوس, ليست القضية أن نتكلم ولكن القضية أن نكون دعاة ونحن صامتون, قال بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم وكان من العلماء العاملين، قال لطلابه يوماً من الأيام: ادعوا الناس وأنتم صامتون, قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: تأدبوا بآداب الإسلام, وتخلقوا بأخلاقه، وادعوا الناس بأفعالكم قبل أن تدعوهم بأقوالكم.

الرجل الكامل المهذَّب الفاضل، الذي إذا رأيته كأنما ترى أخلاق الإسلام وآدابه إذا سمعته أو تفقدت أحواله كأنك تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم, تظهر من خلال الأقوال والأفعال والسلوك والتصرفات، وتجده في مجتمعه محبوباً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محبوباً لا تنفر القلوب منه, ولا تمله ولا تسأمه, ومن رآه أحبه, إذا قابل الناس يقابلهم بالبشر والسرور، قال جرير بن عبد الله : (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي), فالرجل إذا كانت آداب الإسلام في وجهه وأخلاقه وأفعاله أَثَّرَ, قال أنس رضي الله عنه وهو صبي صغير يقوم على شأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم, ولا قال لي يوماً قط: أف).

انظروا! هذا بالنسبة لصغار الناس ما قال له قط: أف، وهو أنس وناهيك عن أبي حمزة رضي الله عنه وأرضاه فضلاً ونبلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما بالنسبة لـجرير فمن كبارهم, وأما بالنسبة لأهله وزوجه تقول عائشة رضي الله عنها: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وضع بين يديه), ما كان يتكلم ولا يجرح المشاعر من كمال أدبه وأخلاقه وشمائله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

الإسلام والدعوة بالأعمال والأخلاق والآداب, الرجل إذا رأى شمائل الإسلام من خلال الأقوال والأفعال تأثر, بعض الناس يدعو ولو لم يتكلم, فالناس فيهم فطرة، وهذه الفطرة جبلوا فيها على حب الخير والقرب منه وتعظيم صاحبه, وعلى كراهية الشر والنفرة منه واحتقار صاحبه -مهما كان- مهما رأيت لأهل الشر من تعظيم فإنه في الظاهر, وأما في القلوب أو عن قناعة فلا, ومهما رأيت من خير فاعلم أن في الباطن تعظيمه وحبه؛ لأنها فطرة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير, ولن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً.

فالقلوب تنتظر قبل الكلمة الفعل, فليحرص الإنسان على تطبيق شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه, فالسنة أصبحت اليوم غريبة بين الناس, حتى أصبحت غريبة بين الأخيار فضلاً عن غيرهم, فالناس إذا رأوا من هذا الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شمائل الإسلام, أحسوا عندما ينهاهم أنَّ وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه قلباً يخاف الله جل جلاله, وأن وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه حب الخير, وليس المراد به الشماتة والاحتقار والانتقاص والغفلة عن الذات والنفس, وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88] فلا يوفق إلا الله سبحانه وتعالى.

إذاً لا بد من أن نقدم بالقدوة الحسنة التي فيها التأثير, ويكون لها عمق الأثر في النفوس.

الصبر والتحمل

الأمر الرابع: أن نهيئ أنفسنا للدعوة إلى الله, وتهيئة النفوس للدعوة إلى الله عز وجل تدور حول نقطة مهمة من أهم النقاط وهي: الصبر والتحمل, فإنك تقوم برسالة عظيمة وأمانة جليلة جسيمة تحتاج إلى صبر, ولذلك قال الله لنبيه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].

الإسلام بشمائله وآدابه ومعاملاته وعباداته ثقيل, قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وقال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] يحتاج الأمر إلى صبر وإلى جلد.

أقوى وأعظم صبر هو صبر النفوس الذي يكون بتمالك النفس عند الغضب, وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فلا بد من الصبر والتحمل الذي أشار إليه لقمان وهو يوصي ابنه: أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] أي: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراءه التعب والعناء والنصب, يكون التعب نفسياً؛ لأنك تتحمل هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مثلاً: لو كان في نطاق حيك أو مسئوليتك منكر فإنك ستحمل همين:

أولاً: جمع النصوص والأدلة التي اعتنت بمعالجة هذا المنكر, فتتأملها وتنظرها وتبحث فيها، فهذا همٌ يحتاج إلى صبر على العلم والبصيرة التي تأمر بها وتنهى.

ثانياً: تحمل هم المواجهة: كيف تواجه؟ كيف تتكلم؟ كيف تقف في وجه الإنسان؟ ولذلك سأل موسى عليه السلام ربه أن يثبت قلبه لهمّ المواجهة، ولذلك قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] فلا نستطيع أن نفعل شيئاً إلا بالله جل جلاله، قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28], فإذاً لا بد للإنسان أن يتحمل هذا الهم.

بعد ذلك تأتي النتائج والآثار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيأتيك السفيه بسفهه, والإنسان الغوي بغيه وفجوره, ويأتيك الناس على اختلاف طبقاتهم, وعلى اختلاف منازلهم في مجابهة الخير وكراهيته، والتنفير منه وسوء الظن بأهله, وهذا يحتاج إلى صبر, ونفس قوية وشكيمة وعزيمة.

هناك أمر هو أهم الأمور، به تطمئن القلوب وتنشرح الصدور, هو أساس الدين ووصية الله للخليقة أجمعين, هذا الأمر جعله الله قاعدة الفلاح ومنبع الخير والإصلاح, ما هدى الله قلب عبد إليه إلا سدده ووفقه, وأرشده ويسر له, هذا الأمر هو الإخلاص لله جل جلاله, فاتحة الأمور وأساس كل خير, قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليخلصوا له وليوحدوه سبحانه وتعالى.

الإخلاص الذي جعل الله فيه السعادة والنجاة والخلاص, اختار الله منا قلوبنا فلن ينظر إلى ألواننا وأحسابنا وأنسابنا ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا, من تكلم وعمل لله أسعده ووفقه وسدده وثبته, وهي وصية الله للأولين والآخرين, التي عليها مدار كل خير, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.

أول ما ينبغي أن نتواصى به جميعاً وأن يشد بعضنا من أزر بعض فيه؛ تصفية القلوب لله جل جلاله, الداعية المخلص لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لله في قوله فتح الله له القلوب, وشرح الله له الصدور، وأصبحت كلماته ومواعظه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه كالغيث لتلك القلوب, يحيي الله عز وجل به تلك القلوب بما نظر من إخلاصه وإرادة وجهه العظيم, قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله, وإذا عمل عمل لله] وقال بعض السلف: كم من عمل قليل كثرته النية.

الإخلاص خير وبركة ورحمة وهدى, إذا نظر الله إليك وأنت تأمر واطلع على قلبك فلم يجد فيه شيئاً سواه جل جلاله, بارك في هذا الكلام, وتلقته الملائكة في صحيفة عملك؛ لكي تراه خالصاً لوجهه الكريم، في يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] .. أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:9-11] وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10] هل أرادت وجه الله، أو أرادت أي شيء سواه؟

الإخلاص هو الوصية الأولى التي لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها عبدٌ صالح, ونحتاج دائماً أن نتواصى بهذا الأمر العظيم, نحتاج دائماً أن نكون مخلصين، فبمجرد أن تخرج من بيتك تخرج وليس في قلبك إلا ابتغاء وجه الله, وبمجرد أن تقعد في عملك تقعد وليس في قلبك إلا رجاء رضا الله, وإذا تكلمت جعلت الله نصب عينيك, وإذا عملت جعلت الله نصب عينيك, فيشرح صدرك وييسر أمرك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29] وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] كم فتح الله بالإخلاص من القلوب! وكم أنار به من مناهج ودروب! كل ذلك بالإخلاص, ولما أخلص الأئمة والسلف الصالح جعل الله الخير في كلامهم ومواعظهم وأوامرهم ونواهيهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بالإخلاص لوجهه الكريم.

أيها الأحبة في الله:

إنه والله لشرف عظيم, أيُّ أمانة حملتموها؟ وأي مسئولية قُلدتموها؟ حينما حملتم هذه الرسالة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه الرسالة التي تولى الله أمرها من فوق سبع سماوات, فأمر سبحانه بالمعروف ونهى عن المنكر, فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد هؤلاء الرسل, ولكي تقوم عليهم الحجة وتنقطع عنهم المعذرة, تولاها الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, كانوا حملة النور؛ اطمأنت بهم القلوب وانشرحت بهم الصدور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كانوا يأمرون بما أمر الله به, وينهون عما نهى الله عنه, فرفع الله ذكرهم وأعز شأنهم وأبقى في القلوب حبهم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أهم الأمور وأعظمها في قلوب الأخيار والصالحين, فكما أنه رسالة الكتاب والسنة التي اعتنى بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد اعتنى بها العلماء والحكماء والأخيار والصلحاء, وإذا أردت أن تنظر إلى مقام الإنسان في دين الله عز وجل ومقدار تعظيمه لله سبحانه وتعالى فانظر إليه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأنه إذا عظم الله في قلبه عظم أمره ونهيه, فكان وجهه يتمعر لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت حرماته, وكان لسانه ينطلق بالتذكير والموعظة والتوجيه والإرشاد والدلالة على الله سبحانه وتعالى؛ لعظيم شعوره بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم حقه جل جلاله.

ولذلك وصَّى لقمان ابنه فقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فأمره أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, فهي الرسالة السامية والمرتبة الشريفة الكاملة العالية، التي ينال الإنسان بها الفلاح، قال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

فشهد الله أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه مفلح، وإذا شهد الله لعبد أنه مفلح فهو المفلح, فلا أصدق من الله حديثاً ولا قيلاً.

الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مرحوم في رحمة الله, متى ما تكلمت بما أمر الله به ومتى ما نهيت عما نهى الله عنه, فأنت تخوض في رحمة الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] أي: لما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فإني سأرحمهم, ولذلك تجد الإنسان كلما أقام حجة الله على عباده أصابته الرحمة, وجعل الله عز وجل في قلبه من الطمأنينة والثبات واليقين، ولا يزال المبلغ لرسالة الله الآمر بما أمر الله الناهي عما نهى الله عنه لا يزال له من الله معين وظهير متى ما كان مخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من الخسارة: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

فلذلك -أيها الأحبة في الله- نحمد الله من كل قلوبنا, ونشكره على عظيم فضله علينا حينما يسر لنا وسهل لنا أن نبلغ رسالته, وأن نقيم حجته, وإنه لمن دلائل حب الله للعبد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يضع له القبول في الأرض, فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لوجه الله عز وجل، وعلم الله من قلبه أنه يريد وجهه ويريد ما عنده؛ فتح له أبواب الخير, ويسر له الدعوة، ووضع له القبول في الأرض, ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه).

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ذلك الرجل.

تصور! لو أنه نودي في السماء: إني أحب فلاناً باسمك، أليس هذا شرفاً عظيماً ومقاماً كريماً؟ قال: (فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً -باسمه- فأحبوه, فيحبه أهل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ثم يوضع له القبول في الأرض).

الوصية الثانية بعد الإخلاص الذي كان حديثنا عنه في النقاط الماضية: أن نستشعر فضل هذه الرسالة وفضل هذا المقام, فنحن إذا أخلصنا لوجه الله وشعرنا بأن الله نفحنا برحمته, ووهبنا نعمته, أجللنا هذه النعمة وأحسسنا بعظيم فضلها, فشعر الإنسان أن عليه واجباً لله سبحانه وتعالى, وعندها يستطيع أن يقوم بهذه الأمانة على أتم وجوهها.

وقبل أن نخوض في كيفية قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن نركز على أمر ثالث مهم جداً لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر, هذا الأمر هو: القدوة الصالحة.

فالإنسان إذا أراد أن يأمر بما أمر الله به, وأن ينهى عما نهى الله عنه, ينبغي أن يخاف ويخشى أن يمقته الله جل جلاله, وأن يجعله ممن -والعياذ بالله- يأمرون ولا يأتمرون, وينهون فيفعلون ما ينهون عنه -نسأل الله السلامة والعافية- أولئك الذين سمّى الله وحذر عباده منهم، فقال سبحانه وتعالى يعتب على بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أليس لديكم عقول تعقلكم وتحبسكم عن هذا الأمر الذي هو ضرب من الغي والهوى والضلال؟ نسأل الله السلامة والعافية.

لا يمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يضع الله له القبول في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى يكون قدوة, وهذه القدوة ظاهرة بينك وبين الناس, إذا أحب الناس العبد هابوه, والهيبة بالمحبة لها أثر في السلوك والتقويم والتوجيه.

ولذلك لما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمل أخلاقه وجمل آدابه وانعقدت القلوب على حبه, والشهادة له بالخير والصلاح والقدوة الحسنة, فكان يسمى بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

فإذا أراد الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فينبغي أن تظهر شمائل الإسلام وآدابه وأخلاقه ورحمته وفضله وبره وجميع ما فيه من خير من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته, فإذ سمع الناس كلام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, فإنهم أول ما ينظرون إلى أخلاقه وأفعاله وآدابه, فإن وجد التوافق بين القول والفعل أحبوه وهابوه, ووقع ذلك الكلام موقعاً بليغاً في النفوس, ليست القضية أن نتكلم ولكن القضية أن نكون دعاة ونحن صامتون, قال بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم وكان من العلماء العاملين، قال لطلابه يوماً من الأيام: ادعوا الناس وأنتم صامتون, قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: تأدبوا بآداب الإسلام, وتخلقوا بأخلاقه، وادعوا الناس بأفعالكم قبل أن تدعوهم بأقوالكم.

الرجل الكامل المهذَّب الفاضل، الذي إذا رأيته كأنما ترى أخلاق الإسلام وآدابه إذا سمعته أو تفقدت أحواله كأنك تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم, تظهر من خلال الأقوال والأفعال والسلوك والتصرفات، وتجده في مجتمعه محبوباً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محبوباً لا تنفر القلوب منه, ولا تمله ولا تسأمه, ومن رآه أحبه, إذا قابل الناس يقابلهم بالبشر والسرور، قال جرير بن عبد الله : (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي), فالرجل إذا كانت آداب الإسلام في وجهه وأخلاقه وأفعاله أَثَّرَ, قال أنس رضي الله عنه وهو صبي صغير يقوم على شأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم, ولا قال لي يوماً قط: أف).

انظروا! هذا بالنسبة لصغار الناس ما قال له قط: أف، وهو أنس وناهيك عن أبي حمزة رضي الله عنه وأرضاه فضلاً ونبلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما بالنسبة لـجرير فمن كبارهم, وأما بالنسبة لأهله وزوجه تقول عائشة رضي الله عنها: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وضع بين يديه), ما كان يتكلم ولا يجرح المشاعر من كمال أدبه وأخلاقه وشمائله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

الإسلام والدعوة بالأعمال والأخلاق والآداب, الرجل إذا رأى شمائل الإسلام من خلال الأقوال والأفعال تأثر, بعض الناس يدعو ولو لم يتكلم, فالناس فيهم فطرة، وهذه الفطرة جبلوا فيها على حب الخير والقرب منه وتعظيم صاحبه, وعلى كراهية الشر والنفرة منه واحتقار صاحبه -مهما كان- مهما رأيت لأهل الشر من تعظيم فإنه في الظاهر, وأما في القلوب أو عن قناعة فلا, ومهما رأيت من خير فاعلم أن في الباطن تعظيمه وحبه؛ لأنها فطرة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير, ولن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً.

فالقلوب تنتظر قبل الكلمة الفعل, فليحرص الإنسان على تطبيق شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه, فالسنة أصبحت اليوم غريبة بين الناس, حتى أصبحت غريبة بين الأخيار فضلاً عن غيرهم, فالناس إذا رأوا من هذا الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شمائل الإسلام, أحسوا عندما ينهاهم أنَّ وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه قلباً يخاف الله جل جلاله, وأن وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه حب الخير, وليس المراد به الشماتة والاحتقار والانتقاص والغفلة عن الذات والنفس, وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88] فلا يوفق إلا الله سبحانه وتعالى.

إذاً لا بد من أن نقدم بالقدوة الحسنة التي فيها التأثير, ويكون لها عمق الأثر في النفوس.

الأمر الرابع: أن نهيئ أنفسنا للدعوة إلى الله, وتهيئة النفوس للدعوة إلى الله عز وجل تدور حول نقطة مهمة من أهم النقاط وهي: الصبر والتحمل, فإنك تقوم برسالة عظيمة وأمانة جليلة جسيمة تحتاج إلى صبر, ولذلك قال الله لنبيه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].

الإسلام بشمائله وآدابه ومعاملاته وعباداته ثقيل, قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وقال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] يحتاج الأمر إلى صبر وإلى جلد.

أقوى وأعظم صبر هو صبر النفوس الذي يكون بتمالك النفس عند الغضب, وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فلا بد من الصبر والتحمل الذي أشار إليه لقمان وهو يوصي ابنه: أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] أي: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراءه التعب والعناء والنصب, يكون التعب نفسياً؛ لأنك تتحمل هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مثلاً: لو كان في نطاق حيك أو مسئوليتك منكر فإنك ستحمل همين:

أولاً: جمع النصوص والأدلة التي اعتنت بمعالجة هذا المنكر, فتتأملها وتنظرها وتبحث فيها، فهذا همٌ يحتاج إلى صبر على العلم والبصيرة التي تأمر بها وتنهى.

ثانياً: تحمل هم المواجهة: كيف تواجه؟ كيف تتكلم؟ كيف تقف في وجه الإنسان؟ ولذلك سأل موسى عليه السلام ربه أن يثبت قلبه لهمّ المواجهة، ولذلك قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] فلا نستطيع أن نفعل شيئاً إلا بالله جل جلاله، قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28], فإذاً لا بد للإنسان أن يتحمل هذا الهم.

بعد ذلك تأتي النتائج والآثار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيأتيك السفيه بسفهه, والإنسان الغوي بغيه وفجوره, ويأتيك الناس على اختلاف طبقاتهم, وعلى اختلاف منازلهم في مجابهة الخير وكراهيته، والتنفير منه وسوء الظن بأهله, وهذا يحتاج إلى صبر, ونفس قوية وشكيمة وعزيمة.

ثم إذا يسَّر الله عز وجل للإنسان الصبر فإنه يحتاج إلى أمر مهم يقوي قلبه على الصبر, هذا الأمر يتلخص في نقطتين:

الأولى: عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة.

والثانية: ما ينتظرك عند الله جل جلاله, فلربما أنك هذا اليوم تهان وتسب وتشتم فتغيب عليك الشمس وقد كتب في صحيفة عملك: يوماً من الأيام أوذيت فيه في الله.

عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة

أما أمر الدنيا فإن الله تكفل لك بالعاقبة, لن يقف أحد يبلغ رسالة الله جل جلاله فيؤذى ويهان إلا جعل الله عاقبته أفضل العواقب, وأسماها وأشرفها، ولو احتقره الناس, ويظهر ذلك جلياً من قوله سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] .. وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] يعني: لا تنظر إلى حالك الآن، ضع النظرة إلى الغد، ولا تنظر إلى حالك فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُمي الساحر والأفَّاك والأبتر والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين, واسمه صلى الله عليه وسلم يقرن بالنداء: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4], ليس المهم أن تهان الآن, وليس المهم أن يسخر منك الرجل اليوم, ولكن الأهم ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟

أذكر حادثةً لطيفةً يقول فيها عروة بن الزبير رحمة الله عليه -هذا الإمام العظيم من أئمة السلف- كلمة تنبه على هذه النقطة: [والله ما من عبد يقف موقفاً لله فيهان فيه، إلاَّ أوقفه الله موقفاً أعز منه وأكرم] وتوضيح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فريد في قلة وضعف من أصحابه, والرسالة أيامها سرية، والدعوة سرية، فجاءه أمر الله عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214], فوقف عليه الصلاة والسلام على الصفا فنادى في قريش فعمم وخصص أي: نادى بطون قريش كلها, فجاءت بطون قريش بقضها وقضيضها ووقفت بين يديه, فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال كلمته المشهورة: (قولوا: لا إله إلا الله) هذه الكلمة التي قامت عليها السماوات والأرض، ومن أجلها سيكون الحساب والسؤال والعرض, هذه الكلمة العظيمة التي من أجلها خلقوا ومن أجلها بعثوا، لما قالها لهم كان جواب أبي لهب عليه لعنة الله أن قال له على رءوس الأشهاد: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ تصوروا -أيها الأحبة في الله- النبي صلى الله عليه وسلم على رءوس الناس, ثم يقول له على رءوس الملأ: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهو عمه, وحينما تأتي الأذية من قريب لك تكون الأذية صعبة جداً, فظلم ذوي القربى أشد من ظلم الأبعدين؛ لأن القريب لا تستطيع أذيته؛ لأنك إن آذيته كأنما آذيت نفسك, فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فاحتقره وسفهه وآذاه.

ثم تمضي الأيام وتتابع السنون والأعوام، فيوقف الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الصفا -التي بالأمس شتم عليها وأهين- ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رده الله إلى مكة عزيزاً كريماً رفيع الذكر, يقول أنس : [أنظر أمامي فإذا الناس مد البصر, وأنظر وراءي فإذا الناس مد البصر, كلهم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] ولذلك لما رقى على الصفا كأنه ذكر ذلك اليوم الذي كُذِّب فيه على الصفا فكان أول ما رقى عليها قال: (الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) عظمت عنده، فالعاقبة من الله مضمونة, فالذي يقوم برسالة الله ويؤدي حجة الله على العباد، مهما جاءه من المهانة والمذلة فمهانته كرامة, ومذلتة معزة, لا تنظر إلى كلام الناس واحتقارهم وأذيتهم ولكن انظر إلى عاقبتك عند الله جل جلاله.

فهذا فيما يكون في الدنيا, ولذلك كلما وجدت الإنسان يقوم لله بحجته ويبلغ لله عز وجل عظيم رسالته، وجدت الله عز وجل يضع في قلوب العباد حبه والهيبة منه والقبول له، ووجدته في أسمى المنازل, الناس تشتري السمعة بالأموال, ولكن العلماء والدعاة إلى الله والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر نشر الله ذكرهم, وأبقى في العباد حبهم بما قدموا لله جل جلاله من صالح القول والعمل.

لا تنظر إلى كلام الناس ولا يهمك أن يتكلم من تكلم, فإن اللسان الذي يتكلم على الحق أخرس، ولو كان صاحبه أبلغ الناس, واللسان الذي يقف في وجه الحق مقطوع ولو بعد حين, ولذلك قطع الله دابر المجرمين, وقطع الله دابر المفسدين, وجعل العاقبة للمتقين, فهذا أمر مهم جداً لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

عاقبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

أما بالنسبة للعاقبة التي تكون، فإن الإنسان إذا أهانه أحد أو تكلم عليه أو عنفه أو وبخه فما عليك، فأنت بريءٌ من المسئولية إذا كنت تسير على نهج الله عز جل, مثلاً: لو مررت على رجل فأنكرت عليه منكراً أو غيرت منكراً, فقال: يا ظالم .. أو قال يا كذا .. فسبك وشتمك وأهانك فإنما يتسلط على الحق, ولا يتسلط عليك؛ لأن الذي فعلته هو أمر الله جل جلاله, والذي نهيت عنه هو نهي الله جل جلاله, فالشتم الذي يكون منه والأذية ليس في عرضك منه شيء, وأنت في سلامة منه، ولكن الله هو الذي يتكفل بأمره, ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يهين أحداً من أولياء الله عز وجل والدعاة والهداة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يسلم من سوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- وقل أن تجد إنساناً يحتقر العلماء أو يتنقصهم أو يذمهم أو يحاول دائماً أن لا يمكنه من دعوته إلى الله عز وجل أن يسلم كذلك من سوء الخاتمة كما يحصل لبعض الفساق حينما يؤذيك بلسانه أو يحتقرك أو يشيع في حيه أنك شديد وأنك عنيف كل هذا لا تبالي به, لكن المهم للداعية والآمر بالمعروف أن يوطن نفسه على هذه الأمور حتى يصبر؛ لأنها عزيمة على الرشد، وتقوي النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى, وتقويها على محبة الله جل جلاله.

ثم لنا قدوة في الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم، حينما أوذوا في الله, وكان لهم ما كان, فأعظم الله أجرهم, قال الله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69].

الأولى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى [الأحزاب:69] وهنا أذية، ومعناها: إذا أوذي موسى فإننا سنؤذى، هذا هو الأصل الذي نتكلم عليه أولاً. ثم قال تعالى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] فالذي برأ موسى سيبرئك؛ لأن الرسالة واحدة والمصدر واحد.

الثانية: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] قال بعض العلماء: من أمر بطاعة الله ونهى عن معصية الله فأوذي؛ فإنه وجيهٌ عند الله سبحانه وتعالى, وله كرامة عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.