تفسير سورة مريم [61-68]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61].

خلق الله الجنة وأكد أنها جنات عدن، أي: جنات إقامة دائمة، يقال: عَدِنَ في المقام في المكان إذا أقام فيه، فهؤلاء في الجنات سرمداً لا خروج ولا موت أبداً.

والجنة جنات وليست جنة واحدة، وهي جنات عدن مقيمة باستمرار يمتع فيها أهلها وسكانها، تلك الجنة التي وعد الله سبحانه بها عباده بالغيب، والله خير من يوفي بوعده، فقد وعدهم غيباً وهم لم يروها، أي: وعدهم بشيء آمنوا به بالغيب، قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] .

والإيمان بالغيب أصل الدين؛ لأن الذين أخبرونا بذلك عباد لله مكرمون صادقون مصدقون، لا تعرف عنهم كذبة في حياتهم فكيف بالكذب على الله؟! هذه الجنات التي وعد الله عباده غيباً قبل أن يراها أهلها وسكانها سيدخلونها مع الأنبياء والصديقين، وحتى العصاة والمذنبون إذا تابوا وأنابوا وعادوا للطاعة مستغفرين من ذنوبهم نادمين على ما سلف منهم.

قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61] أي: كان موصولاً إليه، وذكر بصيغة اسم المفعول، وذلك أسلوب من أساليب العرب، يكون المفعول فاعلاً ويكون مفعولاً، فتقول: بلغت علي ستون سنة، وبلغت ستين سنة، ووصلني الخير من فلان، ووصلت الخير الذي لفلان، فسواء وصلك أو وصلته فأنت قد أتيته وأتاك، فأنت آت مأتي.

وكذلك وعد الله بدخول الجنان هو آت، بحيث سيبلغك وستكون فيه، وستمتع بما فيه من متع أهل النعيم، من المرسلين والصديقين والشهداء، وستبلغ أنت له فتمتع به، والشيء واحد، أتيته أو أتاك المهم أنه قد بلغك، وبلغت ما وعدك الله به ولقد كان وعد ربنا مأتياً، أي: لا بد أن يؤتى ويأتي، أن يأتي عباد الله الصادقين التائبين ويأتونه.

قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62].

هذه الجنان عندما يكرمون بالدخول إليها لا يسمعون فيها لغواً، أي: لا يكون فيها من قول الباطل شيء، ولا من الكلام الذي لا يفيد، فهم لا يسمعون لغواً إلا سلاماً، وهذا استثناء منقطع، فالمستثنى من غير جنس المستثنى منه، أي: لا يجدون فيها إلا الأمان والسلام واليقين والراحة والسعادة.

كذلك يسلم عليهم الله جل جلاله فهو السلام ومنه السلام، وتسلم عليهم ملائكة الرحمة، وما السلام إلا العيش في سلام وأمان ويقين وكل ما يريد أن يعيش فيه المتنعم من سكان أهل الجنة.

فقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم:62] أي: آذانهم لا تسمع إلا الحق والصواب، فلا تسمع اللغو ولا الباطل ولا ما لا يليق سماعه إلا سلاماً، فلا يسمعون إلا الأمان والسلام والتحية من الله ومن الملائكة من حين يصبحون وإلى أن يمسوا.

قال تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] فأهل الجنة يأتيهم رزقهم، ويأتيهم النعيم والطعام والشراب بكرة وعشياً، صباحاً ومساءً، ومع ذلك فالجنة لا بكرة فيها ولا عشي، أي: لا ليل ولا نهار، ولا حر ولا زمهرير، ولا ما يؤذي، إن هو إلا النور والإشراق.

فإذا أرخيت السبل فهو وقت النهار في دار الدنيا، فإذا أرخيت الحجب فذلك معناه وقت الراحة، مع أنهم لا يتعبون ليستريحوا، فهم في راحة أبدية مستمرة، ولكن ذلك باعتبار الدنيا، فقد كان أهل النعيم في الدنيا يأكلون صباحاً ويأكلون مساءً.

فالزمن الذي كانوا يأكلون فيه صباحاً ومساءً في الدنيا يرزقون فيه في الآخرة باعتبار زمن الدنيا، لا أن الآخرة فيها ليل أو نهار أو شمس.

فقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] بحسب تقدير البكور والعشايا في دار الدنيا، وإلا فإن الآخرة لا بكرة فيها ولا عشي، فالوقت كله نور وإشراق.

قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

تلك الجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وتلك الجنة التي يأتي الرزق فيها بكرة وعشياً، وتلك الجنة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها ولا صخب ولا غم ولا هم، تلك الجنة يرثها المتقون من عباد الله، فهم ورثتها وسكانها وأهلها والقائمون عليها وفيها.

كما قال ربنا في تلك الصفات الكريمة النبيلة من سورة المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] ، حين قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9] إلى أن قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11].

فأولئك هم ورثة جنة النعيم، الذين يورثهم الله جنته وجنانه خالدة دائمة.

قال تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] .

هذه الآية سبب نزولها مجيء كفار قريش يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف من هم؟ وعن الروح ما هي؟ وعن قوم كانوا في أول الزمان فتاهوا فلم يعرف لهم مقام؟

فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (غداً نخبركم) ، ولم يستثن ولم يقل: إن شاء الله، فلم يأته جبريل إلا بعد خمسة عشر يوماً، وقيل: أربعين يوماً، حتى ظن الظانون من كفار قريش أن الله قد قلى محمداً.

فعندما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي: (قد أطلت علي البعد حتى اشتقت إليك، قال: أنا لك أشوق، ولكننا عباد مأمورون، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:64]) أي: لا ننزل إليك من السماء ولا إلى خلق من خلق الله إلا بأمر من الله، فإن أمرنا نزلنا وإن لم يفعل بقينا.

قال تعالى: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ [مريم:64] أي: له ما بين أيدينا من مستقبلنا ومستقبل العالم والكون، قوله: وَمَا خَلْفَنَا [مريم:64] أي: وما سبقنا من دهور وعصور منذ كانت السماء دخاناً، والعرش على الماء، إلى أن خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، ثم خلق ما خلق، ثم خلق آدم ومن جاء بعده من أولاده من الأنبياء والرسل، إلى أن جاء خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.

فهو سبحانه يملك المستقبل وعلمه، ولا يملكه أحد معه، ويملك الماضي وعلمه، ولا يملكه أحد معه، وله ما يستقبلنا من حياة وأعمال، فنحن لله بجسومنا وبأرواحنا وبتفاصيل أعمالنا، وبكوننا الذي نوجد فيه، ولذلك لا نأتي كمخبرين ولا معلنين ولا موحين إلا بشيء يوحيه إلينا، فإن أمرنا فعلنا.

قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] أي: لم ينسك ربك ولم يتركك، كقوله تعالى: وَالضُّحَى [الضحى:1] إلى قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] أي: لم يدعك ربك ولم يهملك ولم يقلك ولم يبغضك، ولكن ذاك شيء يقوله خصومك وأعداؤك من الكافرين.

ولكل من الآيتين سبب في النزول، فسورة الضحى نزلت عندما تأخر الوحي سنتين أو ثلاثة سنين بعد نزول الوحي في غار حراء، بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقت نفسه لتمام الوحي والرسالة، فكان المشركون من أهل مكة يقولون عنه: ولقد قلاك ربك وودعك، فنزل قوله تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5]، فدع هؤلاء في هذيانهم وهرائهم وباطلهم، فكل ثانية تمضي من وجود الكون إلا ولك فيها من الإفضال والأجر والثواب والخير والصلاح، بل وأكثر من ذلك.

ثم قال: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] أي: لا كما زعمت قريش بغضاً وكفراً وتمنياً في العداوة.

وعن أبي الدرداء كما في مسند أحمد وكما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حرم الله فهو حرام، وما أحله فهو حلال، وما سكت عنه فهو عفو، فخذوا من الله عافيته) أي: ما لم ينص على كونه حراماً فهو حلال، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، فربك لا ينسى ولا تأخذه سنة ولا نوم، فالله جل جلاله لا ينسى خلقه ولا ينسى تدبيرهم ولا رزقهم ولا عطاءهم ولا عقوبة أهل العقوبة منهم.

قال تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] أي: ليس هو ربك وحدك، بل هو رب السماوات ورب الأرضين ورب ما بينهما من هذه النجوم التي نرى، والتي لا يحصي عددها إلا الله، ومن هذه المجرات التي تعد بالملايين، وما بين ذلك، فهو رب كل شيء سبحانه.

فقوله تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [مريم:65] أي: رب كل سماء وكل أرض، ورب ما بين كل سماء وأرض.

قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] أي: لا تكل ولا تمل، بل اعبد الله حتى يأتيك اليقين، واعبد الله ما دمت حياً، واعبده بما أمرك به، ولا تكون العبادة اختراعاً أو اجتهاداً، ولا تكون بالأماني والأحلام، فقد أمرنا بخمس صلوات في أوقاتها المعهودة، فمن نقص أو زاد أو صلاها قبل الوقت أو بعده يكون متلاعباً لا تقبل منه صلاة، وما كان كذلك هو بالجهالة أو بالمستهزئين أقرب إلى صفة المسلم.

فقوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] أي: لا تمل ولا تكل، بل قم بالعبادات والطاعات كلها، فأمر بالصلاة فعلينا أن نصلي، وأمرنا بالصيام فعلينا أن نصوم، وأمرنا بالحج فعلينا أن نحج، وأمرنا بالعطاء فعلينا أن نعطي، وأمرنا بالجهاد فعلينا أن نجاهد، وهكذا في جميع أبواب الخير.

قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] أي: هل تعلم لله شبيهاً يخلق السموات والأرض كما خلقها سبحانه؟ الجواب: لا، لا نعلم ولا يوجد، فليس له شريك ولا شبيه ولا ند، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4].

قال تعالى: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم:66].

هذا الإنسان الطاغية المتجبر والضعيف الخلقة والنشأة مع ضعفه وهوانه وخلقه من ماء مهين، يأبى إلا الطغيان والكفر والشرك والخروج عن أمر الله.

فقوله تعالى: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم:66] أي: أيعقل أنني إذا مت وصرت فتاتاً في التراب سوف أرجع كما كنت؟! أيعقل أن أخلق مرة أخرى وأن أكون شيئاً مذكوراً؟! أيعقل أن أخرج من الأرض سميعاً بصيراً حياً متكلماً؟! وإذا بالله يقرعه ويوبخه بالدليل العقلي القطعي الذي لا يرده إلا مجنون.

فيقول الله له: أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:67] أي: أنسي الإنسان أننا عندما خلقناه أخرجناه لهذا الوجود ولم يكن قبل البتة، فلم يكن له ذكر ولا وجود ولا كيان، ثم بعد ذلك كان وأخرجناه، فأيهما أصعب: الإيجاد من عدم أو تجديد الحياة بعد أن كانت؟ وذلك أهون عليه، والكل هين عليه جل جلاله.

فالله يقول: ألا يذكر هذا المخلوق الضعيف أنا خلقناه وأبدعناه وكوناه وأوجدناه ولم يكن شيئاً مذكوراً، قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، نعم قد أتى.

قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم:68].

يقسم الله بذاته العليا أنه سيحضر يوم القيامة هؤلاء المنكرين للبعث وسيأتي بهم يوم القيامة مقرنين مع الشياطين، ثم يجمعهم معهم جمعاً.

فقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ [مريم:68] أي: يحشرون يوم القيامة، ثم يؤكد الله ذلك باللام الموطئة للقسم تأكيداً للقسم الأول ليحشرنهم مع الشياطين، ويقسم بأنه سيقذف بهم في جهنم مع الشياطين.

قال تعالى: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم:68] أي: ثم لنأتين بهم ليحضروا محاطين بجهنم جثياً، أي: قائمين على الركب، وهو جمع جاثٍ؛ لذلهم وهوانهم وكفرهم وإشراكهم، نعوذ بالله من أحوالهم.