وصية نبوية


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده ألهمه فعل الخيرات وترك الفواحش والمنكرات، وحبب إلى قلبه الباقيات الصالحات، فالحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ولقد وجبت محبة ربك للمتحابين فيه، وللمتجالسين فيه، وللمتزاورين فيه، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

إخواني في الله! إن الله بعث نبيه بالهدى والنور، فشرح به القلوب، وأنار به الصدور، بعثه شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل هدى ولا بر ولا طاعة إلا هدانا إليه، أخذ بمجامع قلوب الناس إلى ربها، ودلهم على الله خالقها وفاطرها، فيا لها من كلمات وعظات بالغات خشعت لها قلوب الصحابة والصحابيات! يوم وقف النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وصدع بكلمة الله في رحابهم، ففتح الله له قلوبهم وأسماعهم؛ فخشعت تلك القلوب لربها، وأصغت إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ويعظها، وهذه كلمة من تلك الكلمات ووصية من الوصايا البالغات حفظها أبو ذر الصحابي الأغر البر، صاحب العلم والزهد جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل طيب الجنة مسكنه ومثواه، رضي الله عن أبي ذر -صفحات الإيمان والتضحية والصبر- يوم خرج ودان أهله وعشيرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج بقربة من الماء صغيرة، ولكن بقلب كبير يريد أن يضع فيه الإيمان بالله اللطيف الخبير، وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه التوحيد والإيمان، عرض عليه الوحي والقرآن، وعرض عليه نبذ الجاهلية والأوثان، فما فارقت قدما أبي ذر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رضي الله عنه وأرضاه يوم أسلم لربه ومولاه؛ فبرقت أسارير السرور في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.

رضي الله عنه وأرضاه يوم أن أرضى رسول الله وأدخل السرور على حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل ذلك الإيمان إلى ذلك القلب حتى تغلغل في سويدائه فقال: (والله لأصدعن بكلمة الحق بين ظهرانيهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك أن يقتلوك) فخرج رضي الله عنه وأرضاه مؤمناً موقناً متوكلاً، خرج لكي يقول كلمة الله، فخرج في يوم كان فيه خامس من أسلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مسجد الكعبة وقد جلست فيه قريش برجالها وأبنائها، فوقف أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه عليهم وصاح صيحته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فما بقي رجل إلا قام إليه وضربه؛ حتى سالت دماؤه رضي الله عنه وأرضاه، فلما سالت دماؤه كتب أجره وعظم ثوابه، وخرج من الدنيا وله صفحة يوم ابتلي فيها في جنب الله، خرج من الدنيا وله يومٌ أوذي فيه في جنب الله وفي ذاته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ومحبته وإيمانه أمره أن يسير إلى قومه مسير البشير النذير فخرج هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فأسلمت غفار عن بكرة أبيها، وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله وتشهد بالنبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في ذلك اليوم عليه الصلاة والسلام، فلما رأى إسلامها قال عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها) وغفار هم قوم أبي ذر ، بل ثمرة أبي ذر اليانعة، فرضي الله عنه وأرضاه.

وما زال أبو ذر يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد المشاهد، يجاهد ويجالد حتى ابتلى ربك أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالغزوات والمشاهد المباركات، فجاءت غزوة العسرة في زمان شديد الحر والقر، في شدة الصيف إلى عدو شديد كلبه، عظيم خطره، فندب النبي صلى الله عليه وسلم رجال الإيمان إلى أهل الجاهلية والأوثان، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصليب وعبدة الأوثان، فخرج أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مع نبي الهدى يجاهد العدى حتى سار المفازات، وقطع المسافات الشاسعات، لا يصيبه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا أُجر، حتى تعطل به بعيره عن المسير فوضع متاعه على ظهره وخرج في شدة الهاجرة والظهيرة -والمتاع على ظهره- يتصبب عرقاً فرآه الصحابة من بعيد فقالوا: فلان، لا بل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا ذر رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحيداً، وتموت فريداً) فعاش رضي الله عنه وأرضاه عيشة الإيمان والإحسان.

في هذا اللقاء نقف أمام وصية من الوصايا سمعتها أذنا أبا ذر ووعاها قلبه، ونجلس اليوم نعطر مجالسنا بذكرها، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجره وثوابه عليها، اللهم اجعل قبره في هذه الساعة أنواراً، اللهم عظم أجره، اللهم نور قبره يا ذا الجلال والإكرام!

وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يا من تؤمن بالله، ويا من تؤمنين بالله، إليك يا من ترجو لقاء الله وتخافه وتتقيه، وتعلم علم اليقين أنك موقوف بين يديه، هذه الوصية ثلاث كلمات، كلمتان عظيمتان كريمتان بينك وبين الله جل جلاله، اثنان بينك وبين الرحمن، وثالثة بينك وبين الناس، من حفظ هذه الوصايا الثلاث حفظه الله جل جلاله.

الوصية الأولى: تقوى الله

هذه الوصايا الثلاث تزيد جمال المؤمن وكماله وبهاءه وزينته عند الله، استفتحها نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه وأرضاه: (اتق الله).

التقوى وصية الله للأولين والآخرين ووصيته للأنبياء والمرسلين.

التقوى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عقابه.

التقوى ألا يراك الله حيث يحب أن يفقدك، ولا يفقدك حيث يحب أن يراك.

التقوى نور في القلوب، ظهرت آثاره على الجوارح والقوالب، نور أسكنه الله في قلوب المؤمنين، فلا يعلم قدره أحد سواه، فالله أعلم بالمتقين والخائفين، وبالصادقين المخلصين.

التقوى صفات أهل الإيمان، وخلال أهل الطاعة والإحسان، وَقَرت في القلوب والجنان.

التقوى سبب الصلاح ومنبع الفلاح والإصلاح، أهلها الرابحون لا أشقياء ولا محرومون.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منها أوفر حظ ونصيب.

تقوى الله أن تتقي الله -أول ما تتقيه- في إيمانك، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك.

تقوى الله أن تلتزم بدين الله وطاعته حتى إذا جاءتك المنية جاءتك على الخيرات والباقيات الصالحات، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك وإيمانك، فتنصب وجهك لله لا لشيءٍ سواه، حتى إذا جاءك الأجل جاءك على الخيرات والباقيات الصالحات، فما زالت التقوى بأهلها حتى أخرجتهم بالروح والريحان والرحمة والرضوان ورب راض عنهم غير غضبان.

التقوى تمسكٌ بحبل الله المتين، وسير على صراطه المستبين، حتى إذا جاءك الموت نعمت عينك عن ربك، ورأيت أمامك صحائف الأعمال والأقوال فقلت: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقلت بلسان الحال والمقال: اللهم إني راضٍ عنك فارض عني.

يخرج التقي من الدنيا نقياً، خالياً من المعاصي سرياً، تحجر قلبه عند حدود الله، وتحفظت جوارحه عن محارم الله، فالله أعلم كم رجفت قلوب المتقين من هيبته، والله أعلم كم خافت قلوب المتقين من جلاله وخشيته.

التقوى نور في القلوب وأثره في الجوارح والقوالب كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره وقلبه صلى الله عليه وسلم) قال بعض العلماء: اختار الله للتقوى أجلَّ الأماكن وأشرفها وهو القلب؛ حتى يكون العبد مخلصاً لوجهه جل جلاله. وأول ما ينبغي على المتقي أن يتقي الله في دينه وإيمانه، فلا يضحي بشيء من هذا الدين والإيمان، إذا التزمت واستقمت وآمنت تمسكت بحبل الله، واتقيت الله في نوره الذي قذفه في قلبك.

هذا الإيمان والالتزام والهداية نور وضعه الله في قلبك وحرمه سواك، فاحمد الله على نعمته، واشكره على فضله ومنه وكرمه، لم يجعلك ساجداً لحجر، ولا معظماً لوثن ولا بقر، ولكن جعلك ساجداً لوجهه، ذلت له رقابنا، وخشعت له قلوبنا، وسجدت له جباهنا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي، فكل يوم يمر على المهتدين حق عليهم أن يتقوا الله رب العالمين في التزامهم، ومن دلائل تقوى الملتزم لله أنه تثبت قدمه على طاعة الله جل جلاله، هذه الهداية رحمة فازدد منها حتى تكون من المهتدين، تزداد بعلم نافع وعمل صالح، تزداد منها بغشيان حلق الذكر وبمجالسة العلماء والصلحاء، تزداد منها بعشرة الأخيار والأبرار، تزاد منها بكلمة ترضي الله عنك أو خصلة من خصال الخير في يدك أو رجلك أو في جوارحك كلها.

تقوى الله رحمة من الله، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه هذه الرحمة، وهذه الرحمة لا تنال بالأماني ولا بالشهوات والدعوات، ولكن بالدعاء الصادق لله جل جلاله أن يجعلك من المتقين، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى) اللهم يا رب الأرباب! ويا سامع الدعاء! ويا واهب الخير وكاشف البلاء! أسألك أن تهب لي الهدى والتُقى، فاسأل الله أن يهبك هذا النور، سله في السجود وأدبار المكتوبات والأسحار والأذان والإقامة، وتحين حالة يخشع فيها قلبك، وتسأل فيها حاجة إلا قرنتها بتقوى الله جل جلاله، إن اتقيت الله أحبك، والله يحب المتقين، إن اتقيت الله فرج كربك، والله يفرج كرب المكروبين: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً؛ ومن كل ضيق مخرجاً، ويجعل له نوراً وفرقاناً يسير به إلى لقائه سبحانه وتعالى: (اتق الله حيث ما كنت) التقوى لا تكون في بيوت الله وحدها حتى إذا خرج الإنسان إلى تجارته أو مسكنه أو عمارته أو مزرعته كشَّر عن أنيابه لدنياه، وغفل عن لقاء ربه وأخراه، ولكنها لزمت القلوب وتعلقت بها حيثما كان الإنسان، إن سافر كان من المتقين، وإن أقام كان من المتقين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السفر: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) تقوى الله في كل زمان ومكان، وتقوى الله في الأقوال والأحوال، فإذا رضيت فاتق الله واشكره، وإذا أنعم عليك فاتق الله وتشكره، وإذا قرت عينك اتقيت الله وحمدته، فإن الله يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، تقوى الله تكون في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وبين الناس وفي أهلك وولدك.

الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة

أما الوصية الثانية: فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل ولكنها وصية للمؤمنين والمؤمنات، وصية للصالحين والصالحات، ووصية للعاصين والعاصيات، هذه الوصية ما أحوج المؤمن أن يتأملها وأن يتدبرها وأن ينظر فيها، فما أحكمه وما أعلمه صلوات ربي وسلامه عليه يوم جعل هذه الوصية تلو الوصية بتقوى الله! هذه الوصية الثانية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) السيئة: سماها الله وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والبرزخ والآخرة.

السيئة تسيء إلى صاحبها في الحياة وفي الممات، فلا تزال السيئة مكتوبة في ديوان العبد حتى يمحصه الله منها، إما ببلية في الدنيا أو بتوبة صادقة إلى الله قبل الموت، أو ببلية يصيبه بها أو بعذاب يبتليه به في قبره، أو بعذاب يبتليه به في حشره ونشره، السيئة بلاء وشقاء وعناء، من سلم منها فقد سلم، ومن بلي بها فقد حرم، إلا أن يرحمه الله برحمته.

أعظم السيئات كفر بالله جل جلاله، وردة عن الإسلام وإعراض عن الله بالكلية: بالاستهزاء بالدين، أو الاستخفاف بالصالحين، أو التهكم بشعائر رب العالمين.

أعظم السيئات: إطلاق اللسان في الفواحش والمنكرات، وإطلاق الجوارح في الفواحش والمنكرات، واستباحة حدود الله، وانتهاك محارم الله بسفك الدماء، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك -والعياذ بالله- من معاصٍ وفجور، كلها شقاء وبلاء وعناء ينطمس بها نور الإيمان على قدرها عند الله العظيم الرحمن.

ما زالت السيئة بصاحبها حتى أظلم وجهه وقلبه وتنكد عيشه، ولربما حجبت الرزق عنه والعياذ بالله.

قال الفضيل رحمه الله: إذا رأيت الناس سبوك أو شتموك أو أهانوك؛ فاعلم أن لك ذنباً بينك وبين الله، وإذا رأيت الناس احتقروك أو ذموك أو عابوك فاعلم أنها السيئات جنت عليك في الحياة قبل الممات. فتب إلى الله قبل أن ينتقم الله منك.

السيئة تسوء صاحبها في دينه فتطمس نور الإيمان من قلبه، قالوا: إنه ما من عاص يعصي الله إلا حرم من العلم على قدر معصيته، وقد يكون من الحفاظ فيسلبه الله نعمة الحفظ، وقد يكون من الخاشعين فيسلب نعمة الخشوع، وقد يكون من القائمين والذاكرين والمخبتين والمنيبين والصائمين فترفع هذه الحسنات بسبب ذنب بينه وبين الله جل جلاله.

السيئة تسوء صاحبها حتى إذا حرم هذا الخير بكى حين لا ينفع البكاء والندم إلا أن يشاء الله جل جلاله.

فلما علم صلى الله عليه وسلم -بل علم ربه الذي أرسله وبعثه- أننا لا نستطيع أن نتقيه كمال التقوى إلا أن يرحمنا برحمته، وعلم أن منا هنات وزلات وعيوب ومنكرات دلنا على علاجها، وأرشدنا إلى دوائها، فقال: (أَتبع السيئة الحسنة تمحها) قال بعض العلماء: الحسنة قول العبد الصالح: أستغفر الله .. أستغفر الله .. حسنة من أعظم الحسنات التي تمحو السيئات، وما من إنسان إلا عنده عورات وخطيئات ولو كان من صالح المؤمنين والمؤمنات، ولكن الله جل جلاله برحمته يرحمك، فأولاً: لا يبادرك بعقوبته، وثانياً: يتولى بجميل لطفه وعظيم رحمته وحلمه سترك وأنت تعصيه، سبحانه ما أحلمه وما أرحمه! حين يغلق العبد بابه على حد من حدود الله وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه، وهو يعلم أن هذه الأرض التي يعصي عليها الله لو أذن لها لخسفت به، وأن هذه السماء التي يستظل بها لو أذن الله لها لأرسلت عليه ما يهلكه، ومع هذا كله يتولاه الله بالرحمة والستر تفضلاً منه وكرماً وجوداً سبحانه وتعالى، حتى إذا انتهى الإنسان من معصيته انطفأ نور الإيمان من قلبه على قدر ما أصاب من السيئات، فعاد قلبه مظلماً بعد النور، وعاد منقبضاً بعد الانشراح والسرور، عاد قلبه ضيقاً عليه فأرشده الله جل وعلا على لسان رسوله أن يتبع السيئة الحسنة، وأن يقول بقلب يستشعر الندم مليءٍ بالحزن والألم: اللهم إني أسأت وأنت المحسن إلي، وأذنبت وأنت الغافر الجواد الذي تمن عليَّ، فيريق دمعة من دموع الندم فلعلها تمحو ذنبه فلا يراه أبداً.

علم الله أنا مذنبون ومقصرون، لكنه فتح أبواب رحمته، قال له إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني، فالله رحيم بعباده وحليم بخلقه.

(اتبع السيئة الحسنة تمحها) إن كنت من الصالحين، فهذا نداء من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن صالح، ضعفت نفسه الأمارة بالسوء، فدعته إلى المنكرات والفواحش والشهوات فأصابه الهم أن يرجع إلى الله جل جلاله، ثم هذه الدعوة الطيبة المباركة لأقوام كانوا بيننا فابتعدوا عنا، كانوا فينا فأصبحوا ليسوا منا، لأقوام انتكسوا ورجعوا على أعقابهم فارتكسوا، هذا النداء الرحيم الحليم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها).

يا من أذنبت وأسرفت وبعدت عن الله! يا من تغربت عن الله! أتبع السيئة الحسنة تمحها، قل في ساعة المعصية بقلب صادق: أستغفر الله، فإن الله يغفر الذنوب، قل في هذه الساعة: أتوب إلى الله، فإن الله يرحم التوابين والمستغفرين، تب إلى الله قبل أن يداهمك الممات وتصير إلى اللحود والرفات، فالله جل جلاله جعل هذه الوصية سلواناً للمسيئين والمذنبين، فرحماك يا أرحم الراحمين! ما أرحمك وما أحلمك بهذا الخلق من بني آدم! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].

ما زال ربنا يكرمنا ونهين أنفسنا، ويرحمنا ونعذب أرواحنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك.

الوصية الثالثة: حسن الخلق مع الناس

أحبتي في الله: الوصية الثالثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصية بينك وبين خلق الله، سيرة عطرة، ومواقف جميلة جليلة، نظرة تحقق بها الإسلام والعبودية والهداية والالتزام، هذه الوصية العظيمة قسمة من الله جل وعلا، لا يعطيها إلا من أحب، ألا وهي الخلق الحسن، الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، سأله الصحابة رضوان الله عليهم وكلهم شوق إلى رحمة الله وجنته، سمعوا القرآن يدعوهم إلى الجنة، فوجهوا السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجنة التي وصفها الله في كتابه، أي شيء يكون سبباً في دخولها؟ وما هو أكثر ما يدخل الناس إلى الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق) أكثر ما يُدخل الناس إلى الجنة تقوى الله وحسن الخلق.

وإذا نصبت الموازين ونشرت الدواوين، فإن الإنسان أحوج ما يكون إلى الحسنات، حتى إذا قدم على الله جل وعلا وفي صحائف أعماله الأخلاق الكريمة ثقل الله ميزانه بها، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: تقوى الله وحسن الخلق).

وإذا دخلت إلى الجنة كانت أمنيتك مرافقة النبيين وجوار الصالحين مع الذين أنعم عليهم رب العالمين، نسأل الله العظيم أن يبلغنا الجنة بمنه ورحمته وهو أرحم الراحمين.

يدخل العبد الجنة وكله شوق أن تكون منزلته في أعالي المنازل، فإذا دخلها وكان طيب الخلق رفعت درجاته ومنازله، ورأى أمام عينيه عواقب الأخلاق الحميدة، ومعاملة الناس والعطف عليهم، والشفقة على المسلمين وتفريج النكبات والفجائع عن المنكوبين، رآها أمام عينيه جزاءً وفاقاً، فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ، رآها عند رب كريم منان لا يضيع عمل العاملين وسعي الساعين، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (ألا أنبئكم) أي: ألا أحدثكم، ألا أخبركم، فنبأنا بأمر غيبـي لا تراه عيوننا ولا تسمعه آذاننا، عالم غير العالم الذي نحن فيه، ألا أنبئكم عن أمر من غيب أطلعه الله علي جل جلاله: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) فما أعظمها من كلمة! وما أعظمه من وصف! (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أن تكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من يدك ولسانك وزلات جوارحك وأركانك، تستقيم على طاعة الله، حتى إذا رآك العبد كأنه يرى شمائل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن من الأخيار من لو رأيته ذكرت الله عند رؤيته، من الأخيار من إذا سمعت قوله في حال الغضب أو سمعت قوله في حال الرضا علمت أن وراء هذا القول قلباً يخاف الله جل جلاله، الأخلاق الحميدة تعيش بها حميداً، وتموت بها قرير العين راضياً عن ربك سعيداً، مات أناس وهم في الناس أحياء بسيرتهم العطرة وأخلاقهم الجليلة الجميلة النظرة، عاشوا في الناس وهم أموات في القبور، يذكرون بالجميل، ويترحم عليهم الحقير والجليل، فرحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وتلك الجوارح التي أرادت وجه الله جل جلاله في سعيها.

أحبتي في الله! الأخلاق عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة والقلوب التي مُلئت حمقاً وغيظاً على المسلمين، ولكن قول سديد وعمل صالح رشيد، تعلم أن وراءه عبداً يرجو الوعد ويخاف الوعيد.

الأخلاق منحة من الله جل جلاله، ألا وإن أحق الناس بأخلاقك وأحق الناس بعطفك وحنانك وبرك وإحسانك ومن تظهر له الخلق الحسن والداك: أمك وأبوك: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24]، كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا وقف على الباب وأمه بالبيت قرع الباب وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا أماه كما ربيتني صغيراً، فقالت أمه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا بني كما بررتني كبيراً.

وكان عثمان رضي الله عنه وأرضاه لا يرفع بصره في وجه أمه كما تقول عائشة : [كان أبر الناس بأمه لا يرفع بصره إلى وجهها].

وسئل بعض السلف: ما بلغ بك من برك لأبيك؟ قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي.

وقيل لثالث: ما بلغ بك من برك لوالديك؟ قال: والله ما طعمت معهما من قصعة واحدة، قيل: أو ذاك من البر؟ قال: أخشى أن تمتد يدي إلى طعام يحبانه.

وكان بعض الأخيار إذا قدم بالمال إلى والديه يضع المال أمام والده، فقيل له: ما هذا؟ قال: إنني أخشى إذا مددت يدي أن تعلو يدي على يد أبي فيكون فضلي على أبي، وفضله عليَّ على فضلي عليه.

وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم إذا طلبت أمه الحاجة ولم يفهم كلامها، لم يستطع أن يستبين منها حتى يخرج ويسأل من كان جالساً: ماذا تقول أمه؟.

وكان محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وإماماً من العلماء المجتهدين، رحمة الله عليهم أجمعين، هذا الإمام العظيم كان ديواناً في العلم من تلامذة أنس بن مالك ، وكان في غاية من العلم والصلاح والورع وتقوى الله جل جلاله، قال بعض من صحبه وقد جاوره: كان إذا جن الليل سمعنا بكاءه بالقرآن في الظلمات، وكان إذا جلس مع أصحابه ضحك ومزح وأدخل السرور عليهم، فإذا دخلت أمه عليه خشع كأنه مصاب بمصيبة رحمة الله عليه.

كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبرون بالوالدين، أحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك والداك، فمن مجلسك هذا تعاهد الله على أن تغير في أخلاقك ومعاملتك، قال بعض السلف: من عبس وجهه بحضور والديه فقد عق والديه.

وقال بعضهم: من نادى أباه باسمه فقد عقه، ومن نادى أمه باسمها فقد عقها، إنما يقول: يا أماه، ويقول: يا أبتاه. هذه من البر والأخلاق الحميدة، فلا تزال تبر الوالدين فتقوم من عندهما وقد رفعت الدعوات إلى الله لك بالأمور التي تنشرح بها الصدور وتأمن بها من هول البعث والنشور، وما زال البار يبر والديه حتى استجاب الله دعوته وفرج الله نكبته وكربته، كما في حديث الثلاثة الذين في الغار، وما زال البار يبر والديه حتى عزت عند الله دعوته فما رد له دعوة سأله فيها، كما في قصة أويس القرني رحمة الله عليه.

أحق الناس بأخلاقك الحميدة زوجتك وأهلك وأولادك، تكون على شمائل عطرة، سل عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، سل عن أخلاقه العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة مع الصغير والكبير، وخذ ذلك المثال الذي يحتذى به، هذا هو الالتزام وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: (وخالق الناس بخلق حسن) فتبدأ أول ما تبدأ بوالديك ثم بأهلك وأولادك، تدخل إليهم حليماً رفيقاً براً رقيقاً، حتى تكسب تلك القلوب بالحنان والمودة والإحسان، وكم من أب ما زال يحسن إلى أهله حتى خرج من الدنيا وقد أسر قلوبهم بالجميل، وكم من زوج صالح خرج من الدنيا وقد أسر قلب امرأته بالجميل والعمل الصالح الجليل.

أحبتي في الله! الأهل أحوج ما يكونون إلى الأخلاق الحميدة، فالعفو عن زلتهم، والصبر على أذيتهم، واحتساب الأجر فيما يكون منهم.

كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة العلماء والدعاة إلى الله، فيذكرون بالجميل، ومن ذكرهم بغير ذلك تنقصاً فقد ضل عن سواء السبيل.

العلماء مشاعل الحكمة والنور، أهل الهدى والخير والرحمة والبشر والسرور -فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجورهم، وأن يشرح صدورهم، وأن يخلد حبهم في العباد- فحبهم في الله قربى، والدعاء لهم بظهر الغيب حسنة، لا يحبهم إلا مؤمن يخاف الله، ولا يذكرهم بالجليل إلا من يتقي الله، فهم أحق الناس بالأخلاق الحميدة، فإذا رأيت العالم فتواضع له وأجله وأكرمه، كان ابن عباس رضي الله عنهما -حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أرفع الناس علماً ونسباً وفضلاً ونبلاً- كان ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلماء حقهم كبير، عيون سهرت وقد نامت عيون الناس، سهرت على مشاكل المسلمين وهمومهم وغمومهم ومسائلهم، فالله أعلم كم تكبدوا من مشاق، وصدعوا بحق دمغ أهل الزيغ والنفاق، العلماء حقهم كبير، فكن -رحمك الله- من أحسن الناس خلقاً مع العلماء، وإذا جلست بين يدي عالم فكن التلميذ المبرز في الخلق الحميد، وإذا جلست في مجلسه فكن التلميذ المبرز في الكلمات الطيبة التي تدل على إجلال من أمر الله بإجلاله، وتعظيم من أمر الله بتعظيمه، وتوقير من أمر الله بتوقيره، فتلك سنة الصالحين، ودأب عباد الله المتقين جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين.

ثم أحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى، فتواضع لهم فإن رحمة الله في التواضع لهم، وأدخل السرور عليهم فمن سرهم سره الله يوم المساءة، تفقد عورات المسلمين والضعفة والمحتاجين، وافتح قلبك لهمومهم وأحزانهم، واحتسب عند الله جل جلاله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولعل مالاً تنفقه يحجبك الله به عن النار، ولعل كربة تفرجها يفرج الله عنك بها كربة يوم القرار، احتسب عند الله في ضعفة المسلمين فإنهم أحق الناس بعطفك وحنانك، واحتسب عند الله جل وعلا ألا يراك العبد إلا على فعل جليل، وألا يسمع الناس منك إلا القول الجميل.

أحبتي في الله! عشنا مع وصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشنا مع هذه الوصية وقد نقلت اليوم إلينا فهي إما حجة لنا أو حجة علينا.

اللهم إن نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وكمالك أن تجعل علمنا نافعاً وصالحاً، وأن تجعله حجة لنا لا حجة علينا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

هذه الوصايا الثلاث تزيد جمال المؤمن وكماله وبهاءه وزينته عند الله، استفتحها نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه وأرضاه: (اتق الله).

التقوى وصية الله للأولين والآخرين ووصيته للأنبياء والمرسلين.

التقوى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عقابه.

التقوى ألا يراك الله حيث يحب أن يفقدك، ولا يفقدك حيث يحب أن يراك.

التقوى نور في القلوب، ظهرت آثاره على الجوارح والقوالب، نور أسكنه الله في قلوب المؤمنين، فلا يعلم قدره أحد سواه، فالله أعلم بالمتقين والخائفين، وبالصادقين المخلصين.

التقوى صفات أهل الإيمان، وخلال أهل الطاعة والإحسان، وَقَرت في القلوب والجنان.

التقوى سبب الصلاح ومنبع الفلاح والإصلاح، أهلها الرابحون لا أشقياء ولا محرومون.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منها أوفر حظ ونصيب.

تقوى الله أن تتقي الله -أول ما تتقيه- في إيمانك، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك.

تقوى الله أن تلتزم بدين الله وطاعته حتى إذا جاءتك المنية جاءتك على الخيرات والباقيات الصالحات، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك وإيمانك، فتنصب وجهك لله لا لشيءٍ سواه، حتى إذا جاءك الأجل جاءك على الخيرات والباقيات الصالحات، فما زالت التقوى بأهلها حتى أخرجتهم بالروح والريحان والرحمة والرضوان ورب راض عنهم غير غضبان.

التقوى تمسكٌ بحبل الله المتين، وسير على صراطه المستبين، حتى إذا جاءك الموت نعمت عينك عن ربك، ورأيت أمامك صحائف الأعمال والأقوال فقلت: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقلت بلسان الحال والمقال: اللهم إني راضٍ عنك فارض عني.

يخرج التقي من الدنيا نقياً، خالياً من المعاصي سرياً، تحجر قلبه عند حدود الله، وتحفظت جوارحه عن محارم الله، فالله أعلم كم رجفت قلوب المتقين من هيبته، والله أعلم كم خافت قلوب المتقين من جلاله وخشيته.

التقوى نور في القلوب وأثره في الجوارح والقوالب كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره وقلبه صلى الله عليه وسلم) قال بعض العلماء: اختار الله للتقوى أجلَّ الأماكن وأشرفها وهو القلب؛ حتى يكون العبد مخلصاً لوجهه جل جلاله. وأول ما ينبغي على المتقي أن يتقي الله في دينه وإيمانه، فلا يضحي بشيء من هذا الدين والإيمان، إذا التزمت واستقمت وآمنت تمسكت بحبل الله، واتقيت الله في نوره الذي قذفه في قلبك.

هذا الإيمان والالتزام والهداية نور وضعه الله في قلبك وحرمه سواك، فاحمد الله على نعمته، واشكره على فضله ومنه وكرمه، لم يجعلك ساجداً لحجر، ولا معظماً لوثن ولا بقر، ولكن جعلك ساجداً لوجهه، ذلت له رقابنا، وخشعت له قلوبنا، وسجدت له جباهنا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي، فكل يوم يمر على المهتدين حق عليهم أن يتقوا الله رب العالمين في التزامهم، ومن دلائل تقوى الملتزم لله أنه تثبت قدمه على طاعة الله جل جلاله، هذه الهداية رحمة فازدد منها حتى تكون من المهتدين، تزداد بعلم نافع وعمل صالح، تزداد منها بغشيان حلق الذكر وبمجالسة العلماء والصلحاء، تزداد منها بعشرة الأخيار والأبرار، تزاد منها بكلمة ترضي الله عنك أو خصلة من خصال الخير في يدك أو رجلك أو في جوارحك كلها.

تقوى الله رحمة من الله، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه هذه الرحمة، وهذه الرحمة لا تنال بالأماني ولا بالشهوات والدعوات، ولكن بالدعاء الصادق لله جل جلاله أن يجعلك من المتقين، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى) اللهم يا رب الأرباب! ويا سامع الدعاء! ويا واهب الخير وكاشف البلاء! أسألك أن تهب لي الهدى والتُقى، فاسأل الله أن يهبك هذا النور، سله في السجود وأدبار المكتوبات والأسحار والأذان والإقامة، وتحين حالة يخشع فيها قلبك، وتسأل فيها حاجة إلا قرنتها بتقوى الله جل جلاله، إن اتقيت الله أحبك، والله يحب المتقين، إن اتقيت الله فرج كربك، والله يفرج كرب المكروبين: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً؛ ومن كل ضيق مخرجاً، ويجعل له نوراً وفرقاناً يسير به إلى لقائه سبحانه وتعالى: (اتق الله حيث ما كنت) التقوى لا تكون في بيوت الله وحدها حتى إذا خرج الإنسان إلى تجارته أو مسكنه أو عمارته أو مزرعته كشَّر عن أنيابه لدنياه، وغفل عن لقاء ربه وأخراه، ولكنها لزمت القلوب وتعلقت بها حيثما كان الإنسان، إن سافر كان من المتقين، وإن أقام كان من المتقين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السفر: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) تقوى الله في كل زمان ومكان، وتقوى الله في الأقوال والأحوال، فإذا رضيت فاتق الله واشكره، وإذا أنعم عليك فاتق الله وتشكره، وإذا قرت عينك اتقيت الله وحمدته، فإن الله يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، تقوى الله تكون في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وبين الناس وفي أهلك وولدك.