ما فسره الزركشي من سورة الفتح
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
ما فسره الزركشي من سورة الفتح﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 1 - 3].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، ولم يقل: "لنغفر لك" تعليقًا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمن لسائر أسمائه الحسنى ولهذا علّق به النصر فقال: ﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 3] [1]، وقد حكى الهروي عن أبي حاتم [2] أن "اللام" جواب القسم، والمعنى: ليغفرن الله لك، فلما حذفت النون كسرت اللام، وإعمالها إعمال "كي"، وليس المعنى: فتحنا لك لكي يغفر الله لك، فلم يكن الفتح سببًا للمغفرة.
قال: وأنكره ثعلب، وقال هي لام "كي"، ومعناه: لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع، حَسُن معه "كي"[3].
﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [الفتح: 6].
قوله تعالى: ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6]، كرر "السوء"؛ لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لالتبس بأن يكون الضمير عائدًا إلى الله تعالى، قاله الوزير المغربي في تفسيره[4]، ونظيره: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا ﴾ [5]، وتبيينه: الأول النطفة أو التراب، والثاني الوجود في الجنين أو الطفل، والثالث الذي بعد الشيخوخة وهو أرذل العمر، والقوة الأولى التي تجعل للطفل التحرك والاهتداء للثدي، والثانية بعد البلوغ، قاله ابن الحاجب ويؤيد الغيرية التنكير[6].
﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 9].
قوله تعالى: ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 9]، فالضمير في "التعزير" و"التوقير"، راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "التسبيح" عائد إلى الله تعالى، وهو متقدم على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد الضمير على غير الأقرب[7]، قال الزمخشري[8] في الآية: الضمائر لله عز وجل، والمراد بتعزيز الله: تعزيز دينه ورسوله، ومن فرق الضمائر فقد أبعد.
أي فقد قيل: إنها للرسول إلا الأخير، لكن قد يقتضي المعنى التخالف، كما في قوله تعالى ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 22] [9]، الهاء والميم في "فيهم" لأصحاب الكهف، والهاء والميم في "منهم" لليهود، قاله ثعلب والمبرِّد[10].
﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 12].
قال رحمه الله: كلُّ ظن يتصل بعده "إنْ" الخفيفة فهو شك كقوله تعالى: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ ﴾ [الفتح: 12] [11].
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 20].
وقوله تعالى: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ [الفتح: 20] فالغنيمة تكون الغُنْم.
فإن قلت: الغُنْم حدث لا يؤخذ، إنما يقع الأخذُ على الأعيان دون المعاني.
قلت: يجوز أن يكون سُمِّى باسم المصدر، كالخلق والمخلوق، أو يُقَدَّر محذوف، أي تمليك مغانم[12].
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25].
قوله تعالى: ﴿ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الفتح: 25]، التفات إلى أنهم لا يقصدون ضرر مسلم[13].
﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27].
قوله تعالى: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [الفتح: 27]، مع أن مشيئة الله محققة، فجاء على تعليم الناس كيف يقولون، وهم يقولون في كل شيء على جهة الإتباع، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24] [14]، فيقول الرجل في كل شيء: "إن شاء الله"، على مُخْبَرٍ به، مقطوعًا أو غير مقطوع، وذلك سنة متبعة.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ![15] ويحتمل أن تكون للإبهام في وقت اللحوق متى يكون[16].
وقال رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [الفتح: 27]، فالاستثناء مع تحقق الدخول تأدبًا بأدب الله في المشيئة، والاستثناء من الداخلين لا من الرؤيا؛ لأنه كان بين الرؤيا وتصديقها سنة، ومات بينهما خلق كثير، فكأنه قال: "كلكم إن شاء الله"[17].
وقوله تعالى: ﴿ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ [الفتح: 27]، فإن الحلق أفضل من التقصير[18].
[1] سورة الفتح:3.
البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الالتفات من التكلم إلى الخطاب 3/ 198.
[2] هو الإمام العلامة، أبو حاتم، سهل بن عثمان، السجستاني، المقرئ النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، أخذ عن يزيد بن هارون، والأصمعي، ويعقوب الحضرمي، وقرأ عليه القرآن، وتصدر للإقراء والحديث والعربية، حدَّث عنه أبو داود، والنسائي في كتابيهما، وأبو بكر البزّار في "مسنده"، وعدد كثير، وتخرَّج به أئمة، وكان جمَّاعةً للكتب يتَّجِرُ فيها، له باع طويل في اللغات والشعر، والعروض، وله كتاب "إعراب القرآن"، وغير ذلك، عاش ثلاثًا وثمانين سنة، ومات في آخر سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، وقيل: مات سنة خمسين.
(تهذيب سير أعلام النبلاء 1/ 465، رقم الترجمة (2089).
[3] البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات - اللام العاملة نصبا معانيها 4/ 212.
[4] هو الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم المغربي: وزير، من الدهاة، العلماء، الأدباء، يقال إنه من أبناء الأكاسرة، ولد بمصر، وقتل الحاكم الفاطمي أباه، فهرب إلى الشام سنة 400هـ ثم رحل إلى بغداد، تقلَّبت به الأحوال إلى أن استوزره مشرف الدولة البويهي ببغداد، عشرة أشهر وأياما، له كتب منها "السياسة"، و"اختيار شعر أبي تمام" و"اختيار شعر البحتري" و"مختصر إصلاح المنطق" وغير ذلك، مات بديار بكر سنة 418هـ.
(الأعلام للزركلي 2/ 245).
[5] سورة الروم: 54.
[6] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - أسباب الخروج على خلاف الأصل 2/ 300.
[7] المصدر السابق: علم المتشابه 1/ 98.
[8] الكشاف 5/ 537.
[9] سورة الكهف: 22.
[10] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - قواعد في الضمائر 4/ 26.
[11] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - ظن 4/ 100.
[12] المصدر السابق: لفظ "وعد" 4/ 106.
[13] المصدر السابق: الاحتراس 3/ 44.
[14] سورة الكهف: 23-24.
[15] رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الطهارة، باب "استحباب إطالة الغرة والتحجيل عند الوضوء" ص/ 132، رقم الحديث (249)، ونص الحديث «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَومٍ مُؤْمِنِينَ، وَإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أنَّا قَدْ رَأَيْنَا إخْوانَنَا»، قالوا: أوَلَسْنَا إخْوَانَكَ يَا رسول الله؟ قَالَ: «أنْتُمْ أصْحَابِي، وَإخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأتُوا بَعْدُ»، قالوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسولَ الله؟ فَقَالَ: «أرَأيْتَ لَوْ أنَّ رَجُلاً لَهُ خَيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يَعْرِفُ خَيْلَهُ»؟ قالوا: بَلَى يَا رسول الله، قَالَ: «فإنَّهُمْ يَأتُونَ غُرًّا مُحَجَّلينَ مِنَ الوُضُوءِ، وأنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الحَوْضِ».
[16] البرهان: أقسام معنى الكلام 2/ 224.
[17] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - إِنْ 4/ 139.
[18] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الشرف 3/ 164.