أرشيف المقالات

بين عمق التأثر والأسى وترك العمل

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
بين عمق التأثر والأسى وترك العمل


ما أعمق الحياة! وما أكثر صفحاتها وألوانها التي تُلبسنا إياها ونحن معها، ما بين ارتسام ابتسامة وتقوسها، ونمو شعور جميل وقطفه، وسعادة روحٍ وشقائها! ولا نعرف لونًا للحياة آخر، فهي دائمًا في تقلب.
 
دعنا ننتقل سويةً على بساط لون بهيٍّ من ألوانها، فنصطبغ به، ونزيله من أرواحنا بكل خفة.
 
حديث اليوم ليس حديثَ صابغ ألوان على عمارة قيد البناء في أحد الأزقة، وإنما حديثٌ قد يُصطبغ بأرواحنا دونما إذنٍ منا، فإما أن يزيدها إشراقًا أو يزيدها عَتَمة كما هو شأن الأصبغة.
 
كن على يقين أنك ستصطبغ بلون يليق بك، تنثر على قسماته لامعًا تتألق به، ما أن يراك الرائي من بعيد حتى يبتسم ويشرق لشروقك.
 
وسوف تراني أحاول أن أقدم لك بمقدمة تليق بهذا الدين: الألوان، الأصباغ، الشروق، الابتسامة، اللمعة، البناء...
إلخ، هذا هو الدين حينما تراه بعين المصلح، والإصلاح لا يأخذنا الحديث عنه بعيدًا عن الألوان وجمالها.
 
دعنا نعود أدراجنا قليلًا، ودعني أفترض أنه جاءك على الواتساب أو التويتر، أو قرأت في كتاب، أو شاهدت في التلفاز، أو في أي مكان كان، المهم أنك رأيت مقطعًا أثارك وأثَّر بك أيما تأثير.
 
هب أن هذا المقطع دينيٌّ، ولفرط تأثُّرك توجهت سريعًا لمشاركته وإرساله إلى أقرب صديق، أو ربما لكل من عرفت؛ علَّه يلامس فيهم الشعور الذي لامسك فتسكته، يعصف بهم كما عصف بك، يجذبهم كما جذبك وهزك، واصطبغ فيك دون إذن منك.
 
قد يكون هذا المقطع بصيغة نصٍّ لأحد الكُتَّاب المعروفين، أو لفذٍّ مغمور، أو حديث لسيد المرسلين، أو لعله من كلام رب العالمين جلَّ جلاله.
 
هب أن ما شاهدته - كما أسلفنا - كان "مقطعًا عن مشاهد يوم القيامة"، وما يتخللها من قوارعَ تفزع لها القلوب الحية، وما أكثر ما تمر على نواظرنا الآيات والمشاهد ولا نتأثر بها!
 
دعني أعرض عليك شيئًا منها، يقول الله عزَّ وجلَّ في ذكر مشاهد يوم القيامة وما يسبقه من الأهوال:
﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ [المعارج: 8]، أي: الفضة المذابة، ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾ [المعارج: 9]، أي: الصوف المصبوغ، ﴿ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ [المعارج: 10]، أي: لا يسأل قريب عن حال قريبه لاشتغاله بنفسه عنه، ويقول: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، أي: ذهب نورها، ﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [التكوير: 2]، أي: تهاوت من السماء، ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 3]، أي: أُزيلت عن مواضعها، ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ [التكوير: 4]، أي: أُهْمِلَتْ وهي أعزَّ ما يملكه العربي ورمزه في قديم الزمان، لفرط روعه أهملها، ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 5]، وإذا الوحوش على تعددها وأشكالها حُشِرت، ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ [الانفطار: 3]، أي: اجتمعت من كل صوب، وصارت مجتمعة ببحر واحد، وفي مشهد آخر مشابه له يقول الله: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، أي: تشقَّقتْ، ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 2]، أي: تساقطت، الشمس، القمر، عطارد، الزهرة...
إلخ، تساقطت فكأنما هي حجارة رُمِيت بالسماء فعادت إليك، يا لهول المطلع والموقف وشدته! سنن الكون تبدلت في لمح البصر، لا الشمس هي الشمس التي تعرفها، ولا البحر هو البحر الذي تعرفه، ولا السماء هي السماء التي اعتادت عيناك عليها.
 
نكتفي إلى هنا، ولو تحدثنا لطال بنا المقال والمقام...
 
♦ دعني أشدك معي كما شدتني سورة عبس، قال عزَّ من قال: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 33 - 37].
 
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴾ [عبس: 33]، أي: الداهية العظيمة وهي نفخة البعث، يومها ﴿ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ [عبس: 34]، دعنا نقف هنا قليلًا:
♦ حينما يحزنك أمر ويهولك ويتعبك، أتذهب لأخيك لتشاركه همك ويشدَّ من أزرك أم تفر وتهرب منه؟
 
♦ ﴿ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾ [عبس: 35]، أمك الرؤوم التي منذ فتحت عينيك على هذه الدنيا ما تركتك وحدك، تفديك بنفسها، المهم ألَّا يمسك الونى والأذى بجانبها، وأبوك الذي منذ طرق صوتك أذنيه، أخذ العهد على نفسه ألَّا يتوانى عن خدمتك وتوفير سبل العيش الكريم لك، وما أكثر مشاهد برِّهما لك! أيحسن بك بعد كل هذا الإحسان أن تفر منهما بدل أن تفر إليهما؟
 
♦ ﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 36]، فررت من أخيك ومن أمك وأبيك، أتفرُّ من زوجك وبنيك الذين تسكن إليهم بعد يوم طويل شاق، ترى في أعينهم القرار لروحك وجسدك المنهك - أتفرُّ منهم؟
 
♦ ممَّ تهرب يا أخي؟ ما الذي دهاك؟ تأملْ معي أرجوك، هربت من أخيك، من أمك وأبيك، من زوجك وأولادك، ما الذي أفزعك؟ هؤلاء أهلك وعشيرتك الأدنون، أين تفر؟
 
♦ ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 37]، لكل منهم ما يشغله عن الآخر من شدة الكرب في ذلك اليوم.
 
هل فكرت يومًا بهذه المشاهد؟ هل صادفت هروبًا أقسى من هذا؟
هل جلست يومًا خاليًا تأملت شدة هذا اليوم وحالك فيه؟
هل استعددت له؟ أم إنه لم يتجاوز مدَّ بصرك في صفحات كتابه جلَّ جلاله؟
 
هل كنت يومًا بين زوجك وأولادك أو أخيك أو صديقك على مائدة يعلوها الحب والقرب والفداء، وجال ببالك هذا اليوم وحالك فيه، فأطرقت رأسك وعينيك، وعلمت أنهم "متاع" بهذه الدنيا، وأنك سوف تفرُّ منهم مع شدة حبك لهم، هنا تعلم حقيقة قوله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
 
• في سورة عبس بعد هذه المشاهد التي تنخلع لها القلوب، عرَّج بعدها إلى ذكر مَن حاز الفوز الأعظم فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس: 38، 39]، أكنتَ تظن بعد هذا الروع والهروب أن يسفر وجهك ويضيء، أن تضحك وتفرح؟
 
أيُعقل أن يأتي بعد كل هذا الخوف والعَتَمة هذا الأمانُ والضياء؟ نعم يأتي برحمته عز وجل؛ فاعمل كي تكون بعد هذا الهول ضاحكًا مستبشرًا، ولا تكون كحال المجرم في سورة المعارج، يود لو يقدم أولاده وزوجه وأخاه وعشيرته الأقربين للعذاب بدلًا عنه، ومَن في الأرض جميعًا من الإنس والجن وغيرهما، ثم يسلمه هذا الافتداء وينقذه من النار، ولكن هيهات هيهات فليس الأمر كما تمنى، ثم يأتيك بذكر النار وحرِّها - وقانا الله وإياكم برحمته منها - والعرض عليها.
 
هبْ أن ما وصلك وطرق حواسك - كما أسلفنا الذكر عن مشاهد يوم القيامة - ففزعت وأفزعت من حولك؛ علَّك تطمئن، ولكن لنقف قليلًا ونتأمل ما أنت - أيها القارئ - فاعل بعد هذا الفزع والتأثر، قُل لي بربك وأجب بينك وبين نفسك ما أنت صانع.
 
♦ سأجيبك أنا.
ستبقى مدة قليلة - ساعةً على الأقل تزيد أو تنقص - ثم يخبو تأثرك ويبهت لونك الذي اصطبغت به بسبب هذا المقطع، وتمضي وتنسى وتلهو وأنت في الحقيقة تقترب لتلك المشاهد، وما أعددتَ لك زادًا يقيك، لن أُكثرَ عليك الوعظ، ولكن أستجدي ضميرًا داخلك أَشعَرَك بالأسى لحالك، وهزَّك، فحافظ عليه ألَّا يموت.
 
♦ نحن اليوم في زمن التأثر والأسى والضمير الباكي بلا عمل، أو بعمل قليل، ولن أطيل عليك الحديث فأذكر أهمية العمل وحجمه، وقدره بالدين والحياة وبكل شيء، فأنت بلا عمل لن تغادر مكانك لو مضت عليك القرون وقرعت أذنيك المواعظ.
 
• تسألني يا أخي بعد أن قرعت أذنيك الموعظة ولامستك: ما الواجب عليَّ القيام به؟
أولًا: أشكر لك ضميرك الحي وخشيتك اليقِظة، فوالله إن الأمر جلل، والغفلة والشهوات قد أحاطت بنا فأماتت منا الضمير والشعور، فما دام ضميرك يقِظًا فهذا مؤشر على فلاحك، ولكن انتبه أن يخبو وأن تميته بكثرة عرض الفتن والشهوات عليه، فلا يتأثر بعد ذلك.
 
ثانيًا: حافظ على مستوى التأثر والإيمان في قلبك: ذهبت فأرسلت المقطع، تأثر غيرك وربما عمل وأعدَّ العُدَّة، ولكن أنت أولى بها منه، "أعد عُدَّتك" تذكر أنها رسالة لك وما أكثر الرسائل التي تريد أن توقظك؛ لكي يضحكك في يوم البكاء، وتأمن يوم الفزع الأكبر، ويكون لك كل شيء يوم تفر من كل شيء، فالله ربك قريب منك يراك ويسمعك.
 
رابعًا: العمل العمل، تأثرت فحزنت وأحزنتَ، ثم ماذا؟ نسيت، غفلت، عصيت؛ فلا زاد إيمانك ولا نقص.
 
♦ عدت لتأخير الصلوات، ووادي "الويل" الذي لو أُدخلت الجبال به؛ لذابت من شدة حره ينتظرك.
 
♦ عدت لقطع رحمك، ونسيت أن كلاليب الصراط تنتظرك.
 
♦ هجرت القرآن، وما علمت أنه نورك الذي تمشي به على ظهر جهنم.
 
قل لي بربك: ما فائدة التأثر بلا عمل؟ ما نفع الأسى بلا هدى؟ وأين من شاركتهم ذلك المقطع منك في تلك الأحوال، عصمني الرحيم برحمته وإياك منها؟
 
خامسًا: تفقَّد حالك، أسرع بإصلاح الخطأ، قُصَّ عنق المعصية بالتوبة، أتبع الحسنة السيئة تمحها، لن أطيل عليك النصح، افتح محركات البحث لترى العجب، وانظر إلى حالنا ترى الأعجب، وما ذاك إلا لأنَّ أكثرنا يتأثر بالنصح لكن بلا عمل، نسكته بالتأثر والأسى الذي ما يلبث أن يمضي.
 
♦ هذه صبغة مقطع مرَّ بك ولون من ألوان الحياة، فلا تدعه يغادرك دون أن تضيف عليه لمستك وتضيء قلبك بلمعته.
 
♦ يقول عزَّ من قائل: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138]، ما معنى الصبغة هنا؟ هي دين الله عزَّ وجلَّ، هي هُويَّتُك التي تمشي بها إليه بين هذه الجموع الغفيرة إليه، وهي صبغة لظهور أعمال الدين وسِمته على المسلم، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب.
 
♦ يجدر بكلٍّ منا أن يسأل نفسه: إلى أي مدى تظهر صبغة الإسلام وسمته عليَّ؟ هل تظهر جلية في تعاملاتي وأخلاقي وهمتي واهتماماتي؟ أم أنا بحاجة إلى أن أجدد صبغ نفسي به من جديد؟
 
♦ أعتذر لك؛ أطلت الحديث عليك في زمن السرعة، تفقَّد يا أخي صبغتك ولونك، أشرق بدينك، ودعه يشرق من خلالك...
والسلام.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢