خطب ومحاضرات
وصايا للصائمين والقائمين
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وندبهم إلى التعبد له بالسجود والركوع والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تبارك اسمه ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الهادي والداعي بإذن ربه إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه واستقام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة المباركة عن شهر رمضان، وما أدراك ما شهر رمضان! شهر البر والإحسان! شهرٌ أوله رحمة وإحسان، وأوسطه عفو من الله وغفران، وآخره فكاك وعتق من الجحيم والنيران، شهرٌ تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لقاءه، إذ قال في دعائه صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)، فقبل لقائه هو في حنين إلى لقائه، كيف وهو شهر الجهاد والصبر! شهر الطاعة والشكر! شهر الإنابة والذكر! لذلك فإن المؤمن ما ودَّعه إلا وقلبه يحترق ألماً لفراقه ووداعه، وما انصرف شهر رمضان عن عبد صالح أعطاه حقه وقدره إلا ترك انصرافه في نفسه شجناً وحنيناً وحزناً لا يعلمه إلا الله.
كم دخله بعيد من الله فقربه إليه! كم دخله مسيءٌ فتاب الله عليه فيه! كم دخله محروم فأعطاه الله!
شهرٌ وأي شهر! لذلك إخواني فإن المؤمنين في شوق وحنين إلى لقائه، كان الأخيار من سلف هذه الأمة الصالحة البرة المباركة يتمنون لقاء شهر رمضان، ويدعون الله تبارك وتعالى وصوله وبلوغه.
ولي في هذا الشهر ثلاث وصايا، الوصية الأولى: للصائمين، الوصية الثانية: للقائمين، والوصية الثالثة: للمعتكفين.
تذكر نعمة الله عليك بحضور شهر رمضان
عقد النية على صلاح القلب
فما عزم عبدٌ على طاعة من الطاعات ونوى في قلبه أن يؤديها فحال بينه وبينها حائل إلا بلغه الله أجرها، فليكن من بداية الشهر نية بينك وبين الله على المسير إلى الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه جل شأنه بطاعته وذكره وشكره وإعطاء الصيام والقيام حقه، فهذا أمرٌ ينبغي على الصائم -وهو في بداية صيامه- أن يستلهمه ويتذكره، فكم من أقوام طرقوا أبواب رمضان ثم اخترمتهم المنايا قبل بلوغ آخره، فأدركهم آخره ولم يدركوه، تمنوه ولم يبلغوه، ولم يبلغوا ما تمنوه، لذلك كتبت لهم الحسنات التي كانوا يطمعون في أدائها من رب البريات.
اجتناب الرفث والجهل والصخب
يذكرنا عليه الصلاة والسلام بأن الصيام لا يقف عند الإمساك عن الشراب والطعام فحسب، بل هناك صيام بالإحجام عن الكلام الذي لا يرضي الملك العلام، فإذا جاءت بواعث الشرور وحرّكها أهلها في موقف من المواقف، وأنت قد جعت لوجه الله وظمئت لوجهه في يوم صيامك، فحرّك تلك الأشجان من نفسك غضب تريد أن تنتقم به بكلامٍ لا يرضي الله تذكر وذكَّر النفس بما أنت فيه من هذه العبادة الجليلة، وقل: إني صائم! إني صائم، فالصائم ليس خليقاً به أن يرتكب لغط الكلام أو رفثه الذي لا يرضي الله عز وجل.
قال بعض العلماء: ليقل إني صائم بصوت يسمعه من يخاطبه، وقيل: فليقل إني صائم في قرارة قلبه؛ حتى يكبح جماح نفسه عن أن تقول الخنا أو تسترسل مع أهل الشرور والغي والهوى، فليذكر العبد نفسه بالصيام إذا انبعثت أسباب الشرور.
استلهام العبر من الشهر الكريم
فكم في شهر رمضان من مواقف تذكر قلوب المؤمنين! وتنبهها من الغفلة وتقودها إلى رب العالمين! أول ما يتذكره الإنسان إذا جاعت أحشاؤه وظمئت أمعاؤه، هو تذكر ذلك اليوم الذي يشتد حره، ويعظم ظمؤه! وهو في يوم يسير يجد الجهد من دقائق وساعات يسيرة، بعدها يصيب البغية وما لذ من الشراب والطعام، ولكن من الذي له ساق إذا وقف في المحشر! ومن الذي يكف عنه الظمأ إذا اصطفت قدمه بين يدي الله تبارك وتعالى! فما ظمئ مؤمن صائم إلا تذكَّر بالظمأ ظمأ يوم القيامة، وتذكر الظمأ الذي لو شاء الله أن لا يطعم شراباً بعده ما طعم، لذلك ففي يوم الصيام تذكير بيوم القيام.
وأما العبرة الثانية للصائمين: فإن الجوع والظمأ يعود العبد على الصبر والجهاد والكفاح في طاعة رب العباد، يهيئ هذه النفس على الصبر والمصابرة والمثابرة والمرابطة في محبة الله تبارك وتعالى.
العبرة الثالثة: الصيام طريق للإخلاص، يغذِّي القلوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى، أليس الصائم قادراً -بإذن ربه- أن يصيب ما شاء من طعامه وشرابه؟ ولكن يعلم أن الله يسمعه ويراه، وأنه مطّلع عليه، فعندها تتحرك في النفس بواعث الإخلاص، ولذلك قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به) فإن أصدق عبادة وأخلصها هي عبادة الصيام، فقوله تعالى: (فإنه لي) أي: إنه يقع خالصاً له سبحانه وتعالى.
العبرة الرابعة التي يجنيها عبد الله المؤمن في يوم صيامه: أن يتذكر بذلك الصيام إخواناً له في الدين والإسلام، يتذكر أحشاءً ظامئة، ويتذكر الضعفة والمساكين والبائسين والمحرومين، يذكره الصيام بمن لا يستطيع الشراب والطعام، فيبعث في النفس بواعث الخير، ويحرك فيها المسير في طريق الجود والسخاء والمنح والعطاء علَّه أن يفوز برحمة الله ورضوانه، فعندها لا يتمالك الصائم إذا سمع عن أخٍ له في الإسلام أنه أصابه الجوع والظمأ حتى تتحرك نفسه لكي يغيثه بإذن الله من جوعه وظمئه، فكم من ساق -سقى لوجه الله- سقاه الله يوم الظمأ شربة لا يظمأ بعدها أبداً! وكم من صائم تذكَّر الجائع فأطعمه لوجه الله فوقاه الله شر يوم القيامة! إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:9-11] فالصيام يحرّك الأخيار الكرام إلى الجود والسخاء.. إلى التضحية والفداء.. إلى بذل الأكف في طاعة الله ومحبته، فتسخو اليد لكي تفوز برضوان الله تبارك وتعالى.
أما الصائمون، فوصية من الأعماق، تتحقق بها هذه العبادة الشريفة المباركة التي جعلها الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، إذا قدم عليك شهر رمضان فوضعت أول قدمٍ على أعتابه، فإنه حريٌ بك أن تتذكر نعمة من الله تبارك وتعالى أسداها، ومنةً إليك أولاها، هذه النعمة أن كتب لك الحياة إلى بلوغ شهر رمضان، فكم من قلوب حنّت واشتاقت للقاء رمضان انقطع بها القدر، وانقطع لها الأثر، فهي اليوم في الأعماق، وتحت التراب والثرى، كانت تتمنى لقاءه، فإذا وضعت -رحمك الله- القدم على أعتاب شهر رمضان فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن بلغتني شهر رمضان لا أحصي ثناءً عليك جلَّ شأنك، حتى إذا تمكنت هذه النعمة من قلبك فعرفتها واعترفت لربها بها، عندها تأذَّن الله لك بالمزيد، فكانت بداية الشكر بداية لأن تصاب برحمة الله، فما شكر عبدٌ نعمة إلا بارك الله له فيها، ويتحرك قلب المؤمن بالشكر الصادق، فيخرج من لسانه الشكر بقلب موقن لمعناه، إذا تذكر الأمة المحرومة التي حال بينها وبين الصيام الألم، يتذكر إخواناً له على الأسرِّة البيضاء منعتهم الأسقام والعلل، وحالت بينهم وبين الصيام والقيام، فإذا رأيت العافية ونظرت إلى جسدك وأنت ترفل بنعمة الصحة الغالية فعندها تذكر منة الله تبارك وتعالى عليك، واحمد الله تبارك وتعالى على الوصول والبلوغ، واسأله أن يعينك على الطاعة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.
أما الأمر الثاني لك أيها الصائم وأنت في بداية شهر رمضان: عقد النية على صلاح القول والعمل.
فما عزم عبدٌ على طاعة من الطاعات ونوى في قلبه أن يؤديها فحال بينه وبينها حائل إلا بلغه الله أجرها، فليكن من بداية الشهر نية بينك وبين الله على المسير إلى الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه جل شأنه بطاعته وذكره وشكره وإعطاء الصيام والقيام حقه، فهذا أمرٌ ينبغي على الصائم -وهو في بداية صيامه- أن يستلهمه ويتذكره، فكم من أقوام طرقوا أبواب رمضان ثم اخترمتهم المنايا قبل بلوغ آخره، فأدركهم آخره ولم يدركوه، تمنوه ولم يبلغوه، ولم يبلغوا ما تمنوه، لذلك كتبت لهم الحسنات التي كانوا يطمعون في أدائها من رب البريات.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المشكلات الزوجية وعلاجها | 3460 استماع |
رسالة إلى الدعاة | 3434 استماع |
وصية نبوية | 3327 استماع |
أهم الحقوق | 3305 استماع |
توجيه الدعاة إلى الله تعالى | 3215 استماع |
كيف نواجه الفتن؟ | 3166 استماع |
حقيقة الالتزام | 3144 استماع |
الوصايا الذهبية | 3039 استماع |
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) | 3006 استماع |
من سير الصالحات | 3000 استماع |