الحديث ذو شجون
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
للدكتور زكي مبارك
على ميعاد - في بناء الجيل الجديد - ظرف المكان - ضيوف القاهرة - شارع الشريف وغيط الشريف
على ميعاد
مع من؟ مع الربيع بعد أن كاد يخلف الميعاد
في صباح كل يوم من هذه الأيام أطالع وجوه الأشجار الضواحك، عساني أنسى عبوسها في الشتاء الذي طال ثم طال، إلى حد الإملال. ومن العجب أن أرى أشجاراً لم تورق بعد، كأنها تخشى أن يكون انصرام الشتاء خبراً لم يقم على صحته دليل.
فلتقرأ هذه الأشجار هذا الكلام، ولتصدق أننا في (مايو) شهر الأزهار والرياحين لا شتاء بعد اليوم من هذا العام، فلنفرح بقدوم الربيع الأول وهو مطلع الصيف، إلى أن يجيء الربيع الثاني، الربيع الحقيقي في الديار المصرية، وهو الذي يقع في الأشهر الثلاثة: أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، وهي أشهر الصفاء والرخاء في هذه البلاد مرحباً بالصيف، والصيف المصري جدير بالترحيب.
فبفضله نتذوق نسمات في المساء لا تجود بمثلها الطبيعة في أي أرض.
والقيظ في مصر يُتقى بالطل؛ وفي غير مصر لا يُتقى القيظ إلا بوسائل يغلب عليها الافتعال وطعم الظل في مصر لعهد الصيف جميل المذاق إلى أبعد الحدود.
ولا أدري كيف تركناه بلا تنويه فيما كتبنا عن خصائص الطبيعة المصرية ولا بد من النص على حقيقتين من حقائق الحياة في مصر قبل أن أنسى وينسى الناس: الحقيقة الأولى هي جمال الشتاء المصري قبل التمدن الحديث، ولا يعرف قيمة هذا الجمال إلا من نشأ في الريف، فقد كان هنالك طعمٌ لذيذ للدفء في (القاعة المحمية)، وكان لتلك القاعات فضلٌ في خلق شعور السعادة بالتغلب على قسوة الشتاء الحقيقة الثانية هي جمال الزّير المعلَّق في أيام الصيف، وهو يمنح الماء طعماً لا يمنحه الثلج بأي حال وبالقرب من دار الرسالة حارة تسمى حارة الزير المعلق، فمن كان يجهل أصل هذه فليعرف أن (الزير المعلق) هو قصر شيرين باشا.
ولعل صاحب القصر سماه بهذا الاسم للمعنى المضمر في لطافة الزير المعلق أيام الصيف.
وقد سُجِّل اسم هذا القصر في قصيدة من قصائد الشاعر إبراهيم الدباغ، أنعم الله عليه بالشفاء، فقد سمعت أنه مريض. أما بعد فماذا أريد أن أقول؟ هذا ربيع، وهذا صيف، وهذه ليالي النسائم الرفيقة بمصر الجديدة والجيزة والمعادي وحلوان والزيتون فأين صبواتك يا قلبي؟ وأين أيامك؟ وأين لياليك؟ وأين أحبابٌ كنت معهم على ميعاد؟ لقد بخلت الأقدار بالتلاقي، وتركتنا نصطرع في لجج اليأس العجّاج مضى الشتاء وأورقت أشجارٌ ثم أزهرت، وما لك يا قلبي أملٌ في إزهار ولا إيراق الوجود كله ربيع، فأين نصيبك من هذا الربيع يا قلبي؟ ربيعك هنالك، فامض إليه إن استطعت، وإن استطاعت تلك الأزهار أن تطمس أبصار الرقباء سيمر زمن وأزمان، وستفعل المقادير ما تفعل بمصاير ممالك وشعوب، ثم يبقى لك هواك يا قلبي، هواك الذي لا يجوز عليه الخمود، لأنه من أقباس الخلود وهل يعرف أحبابك هنالك أنك معهم على ميعاد؟ لقد يئسوا من وفائك يا قلبي، لأنك آثرت الكتمان، فمتى تفتضح في هواهم ليعودوا مع الربيع؟ أنتِ على بالي في كل وقت، ...
يا مَهاةً لا تخطر إلا في البال ولو أنني أستغفر الله كلما ...
ذكرتكِ لم تُكتبْ علىّ ذنوبُ في بناء الجيل الجديد أعتقد أن الأساس لبناء الجيل الجديد هو خلق الإيمان بالعدل في تقسيم الحظوظ، بحيث يصير من المفهوم عند الجميع أن في مقدور كل فرد أن يصل إلى أعظم المناصب، إذا زوّد نفسه بالزاد الذي يؤهله لما يتسامى إليه، بلا احتياج إلى وسيط أو شفيع ولكي نصل إلى هذه الغاية يجب أن نروض أنفسنا على فهم المراد من العدل، فقد يصرخ ناس ثم يصرخون بدعوى أنهم لم يؤهلوا أنفسهم لخوض معارك الحياة واقتحام أسوار المجد.
وهذه آفة لم يسلم منها الناس في أي زمان نحن في الغالب نطالب بأكثر مما نستحق، وندّعي لأنفسنا حقوقاً لم نبذل في سبيلها ما يجب بذله من الجهود، ثم نطيل التوجع والتفجع والتحسر على انعدام العدل.
وهل عدلنا مع أنفسنا حتى نطالب غيرنا بالعدل؟ لا يجوز تضييع لحظة واحدة بلا استفادة علمية أو أدبية، ولا يجوز تضييع لحظة واحدة في القيل والقال إذا كنا نريد أن يكون لنا في الحياة السامية مكان ومن آفات الناس في هذا العصر أن تكون المظاهر غاية ما يطلبون، فمن النادر أن نجد من يتشهى أن يكون نعيمه مقصوراً على المغانم الروحية، ومن النادر أن نجد من يفرح لأن جيرانه في رغد وإن كان في حرمان والاعتماد على الحكومة في جميع الشؤون أخطر آفات هذا الجيل؛ فالحكومة هي التي تصد بغي الناس بعضهم على بعض، والحكومة هي التي تضمن وجود الرغيف في السوق، والحكومة هي المسئولة عن كف يد القريب عن ظلم القريب نحن نشغل بعدِّ المنافع عن عدِّ المآثم، وننسى محاسبة أنفسنا على الكسل البغيض، الكسل الذي يشل مواهبنا المكنونة ويضيفنا إلى جماعة المتواكلين ما هذا الذي نعاني من كوارث وخطوب؟ أقول هذا لأني أعرف أننا لا نلتفت لغير المصاعب التي تساق إلينا من بُعد، ونغفل عن المصاعب التي نخلقها بأيدينا، وهي المصاعب الناشئة عن غفوتنا الروحية والذوقية والعقلية.
وصدق الرسول حين قال: (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) الجهل الدميم بقوانين الوجود هو الذي يجعلنا نلقي المسئولية على من لا يحملون عنا أية مسئولية، والفرار من التبعات هو أعظم شواهد الخذلان لو أنفقنا في محاسبة أنفسنا معشار ما ننفق في محاسبة الحكومة والمجتمع لوصلنا في جهاد النفس إلى أشياء.
ولو تجنَّينا على أنفسنا كما نتجنى على الحكومات والمجتمعات لتكشفت أنفسنا عن حقائق تهدينا في ظلمات الوجود محاسبة النفس لا تقع إلا عند يقظة النفس، فلنفهم أن رضانا عن أنفسنا في جميع الأحوال من دلائل السبات وأغرب ما نتورط فيه أننا نبالغ في تعقب عيوب الحكومات والمجتمعات، ثم ننتظر أن لا ترى فينا الحكومات والمجتمعات غير الجميل وما هي الحكومة؟ هي مجموعة أشخاص يتعرضون لما يتعرض له سائر الناس في المعاملات الفردية والاجتماعية، ومن حقهم أن يعاملوك بالعدل في الإساءة كما تحب أن يعاملوك بالعدل في الإحسان وما هو المجتمع؟ هو تلك الخلائق المبثوثة في القرى والمدن والأسواق، وهي على تنوعها العجيب قد تلتقي في المشاعر والعواطف من حين إلى حين وقد نخطئ فنتوهم أن تلك الخلائق تعجز عن تعقب العيوب فيمن لا يرى فيها غير العيوب والمصلح في الجيل الجديد سيُسأل أمام ضميره عن تجسيم المحاسن الأصيلة في المجتمع، وهي سر التماسك الاجتماعي، وبفضلها استطاع المجتمع المصري أن يقهر مصاعب كثيرة عانتها مصر من جيل إلى جيل وخلاصة القول أني أدعو إلى محاسبة النفس قبل محاسبة الحكومة والمجتمع، وأرجو أن يؤمن كل فرد بأنه حجر الأساس في بناء الحكومة وبناء المجتمع، إن صحت النية على أن نكون من رجال الأخلاق ظرف المكان في يوم واحد ظهر لي مقال في مجلة الرسالة ومقال في مجلة الاثنين رداً على الأستاذ عباس محمود العقاد؛ ومع أن المعاني واحدة أو كالواحدة في المقالين فقد اختلف الأداء كل الاختلاف، فما السر في ذلك؟ يرجع السر إلى ظرف المكان، فقد بدا لي العقاد في (الاثنين) وهو خصم، وبدا لي في (الرسالة) وهو زميل وما أبعد الفرق بين الخصم والزميل! قال قائل إن اللطف الذي بدا في مقال الرسالة بدد العنف الذي ظهر في مقال الاثنين.
وأقول إني لا أندم على كلمة الخير بأي حال.
وليس في نيتي أن اصطنع العنف في معاملة زملائي، إلا أن يحرجوني.
والرجل الغضبان يستبيح ما لا يباح وأنا مع ذلك أشعر بفداحة الخسارة في العراك الذي ثار بيني وبين الأستاذ العقاد؛ فلا هو وصل إلى شيء، ولا أنا وصلت إلى شيء، لأن ذلك العراك لم يزد عن ملاحاة لا أرضاها منه ولا يرضاها مني خصومتي مع الدكتور طه حسين هدتني إلى حقائق أدبية وفلسفية وخصومتي مع الأستاذ أحمد أمين كانت السبب في أبحاث جياد أفصحت فيها عن سرائر الأدب العربي وخصومتي مع الأستاذ توفيق الحكيم كانت السبب في أن أنشئ مقالي عن (رجال الأدب ورجال القضاء) وخصومتي مع الأستاذ إبراهيم المازني كانت الباعث لبعث مواهبي الشعرية فما مصير خصومتي مع الأستاذ العقاد؟ إن بوادر لا تبشر بالخير، فهل تقع معجزة تحولها إلى الاختصام حول حقائق تكون دساتير في فهم أصول الأدب والبيان؟ أنا أنتظر أن نخوض في أحاديث تصل بنا إلى نفائس، وأكره أن تكون المعارك الأدبية في مصر مقصورة على مجادلات ينفر منها الذوق في أكثر الأحايين وإلى اللقاء على صفحات (الرسالة) الصديق ضيوف القاهرة كان من المألوف أن يصطاف المصريون في فلسطين أو سورية أو لبنان، لينعموا بالرخاء الذي لا تعرفه مصايف الإسكندرية أو رأس البر أو بور سعيد، فما تمتع بلدٌ قبل هذه الحرب بمثل الرخاء الذي كان يتمتع به أهل فلسطين ولبنان واليوم نسمع أن تلك البلاد تعاني متاعب عنيفة من الغلاء ونرى بين أعيانها أفواجاً تزور القاهرة لتعيش في رفاهية بضعة أسابيع، فما الذي نصنع في إكرام أولئك الضيوف؟ يعزّ عليّ أن أعترف بأننا لم نتخذ خطة واضحة في استقبال من يزور مصر من أبناء الشرق العربي والإسلامي.
وإلى وزير الشئون الاجتماعية أوجه هذا الحديث شارع الشريف وغيط الشريف في يناير سنة 1931 شكا إليّ المسيو فوشيه مراسل (الأهرام) في باريس من أن جريدة الأهرام لا تدعوه إلى الإقامة في القاهرة شهراً أو شهرين من كل عام، ليعرف الجو السياسي فيراعيه فيما يرسل من البرقيات وفي أغسطس من سنة 941 زرت مدينة المنصورة لأتحدث مع الأستاذ الزيات فيما يجب أن نراعيه من التوجيهات الأدبية والاجتماعية وفي إحدى السهرات قال فلان: هل سمعتم باسم الشارع الجديد؟ - وما اسم الشارع الجديد؟ - شارع الشريف الرضي فابتسم الأستاذ الزيات وقال: هذا من وحي الدكتور المبارك وفي يناير من سنة 1942 رفعت قضية شفعة على غيط يجاور أملاكي في سنتريس.
ولم أكن أملك من ثمنه غير دنانير كسبتها من كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، وقد كسبت القضية وسميت الغيط (غيط الشريف) أمر الأرواح عجب في عجب، وما أعجب أمور الأرواح! كان الشريف يتحدى خلفاء بغداد بأن له في مصر أنصاراً يستنصر بهم حين يشاء، وقد وفت مصر للشريف بعد عشرة قرون، فسمَّت باسمه شارعاً في المنصورة وغيطاً في سنتريس، ولن يموت رجلٌ يحفظ اسمه في المنصورة وسنتريس الشريف هو الذي يعبِّر عن أشواقي إلى أحبابي في العراق حين يقول: ومن عجبٍ لا أسأل الركب عنكم ...
وأعلاق وجدي باقيات كما هيا ومن يسأل الركبان عن كل غائب ...
فلا بد أن يلقى بشيراً وناعيا وقد فجعتني الأقدار بموت الصديقين الكريمين: إبراهيم العمر وصادق الوكيل، وكانا عدوين لا يقرب بينهما غير الاتفاق على ودادي، وما أكثر ما صنعت في تبديد الخلاف بين المتخاصمين من أدباء العراق! كنت أقول إني أحب العراق لأخلق فيه صداقات لوطني؛ واليوم أقول إني أحب العراق، لأنه العراق ومن الذي يكره بلداً لا يفارقه بغير الدمع؟ من الذي يكره بلداً رجاله طه الراوي ورضا الشبيبي؟ العراق وطني، لأنه أصدق الأصدقاء لوطني، ولأنه العراق، ولأنه دار الذين يئسوا من وفائي، مع أنني أوفى الأوفياء أنا الجاني على نفسي، فقد تهاونت في نقل تلك البُنية إلى وطني، ومعها تلك الأم السمراء، ويا لها من سمراء! جنى الهوى ما جنى، وجنيت ما جنيت، فعلى أيام الهوى وعلى أيامي ألف تحية وألف سلام، إلى أن نلتقي في ظل الموصلية التي تسكن بغداد، وهي ملثوغة الراء، لأنها حواء، وأنا أول الحافظين لعهد الوفاء. زكي مبارك