الأحاديث المعلة في الطهارة [18]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأول حديث في هذا اليوم: هو حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه توضأ ومسح على قفاه ).

هذا الحديث جاء موقوفاً وجاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر , والموقوف في ذلك أصح, فرواه البيهقي من حديث فضيل عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الحديث -أعني: الحديث المرفوع- حديث منكر, ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه, وقد تقدم الكلام على إعلال المرفوع.

وأما الموقوف فعن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى من فعله, وربما فعل عبد الله بن عمر مسح القفا في حال وضوئه وهو الرقبة من الخلف, مبالغة في وضوئه، فإنه كان يبالغ في تحري بعض السنن, وهذا معلوم عنه, وكذلك أيضاً جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه شدة التحري والمبالغة في غسل مالم يغسل.

وبالنسبة لمسح القفا في الوضوء فلا يقال إنه من السنة؛ لعدم ثبوت شيء مرفوع في هذا.

الحديث الثاني: حديث معاذ بن جبل عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم مسح وجهه ويديه بثوبه ), وهذا الحديث رواه الترمذي في كتابه السنن من حديث رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عتبة بن حميد عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به, وهذا الخبر خبر منكر؛ وذلك أنه تفرد به من هذا الوجه رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم , وكلاهما ضعيف, وقد تكلم عليهما غير واحد من النقاد, بل لو قيل إنهما ضعفاء باتفاق الأئمة ما كان ذلك بعيداً, وإن كان عبد الرحمن أحسن حالاً من رشدين بن سعد , فإنه قد تكلم فيه بعضهم بأنه مقارب الحديث, كما أشار إلى هذا البخاري عليه رحمة الله, وإنما أراد بذلك أنه ربما يأتي ببعض الحديث المقارب لكلام الثقات, وما يتفرد به هو وأمثاله فإنه لا يعد مقبولاً, وقد تفرد بهذا الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنشف في وضوئه ), وهذا الحديث لا يصح لا من هذا الوجه ولا من غيره كما يأتي بيانه.

فقد روى الطبراني هذا الخبر من وجه آخر من حديث محمد بن سعيد المصلوب عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل , و محمد بن سعيد المصلوب متهم بالكذب, بل كذبه غير واحد, وحديثه في ذلك مردود, ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ مسح وجهه ويديه بطرف ثوبه ), وهذا الخبر منكر.

وقد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى بنحوه, كما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة عليها رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له خرقة يتنشف بها بعد وضوئه ), وهذا الحديث تفرد به من هذا الوجه زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, و أبو معاذ هو: سليمان بن الأرقم , وقد ضعفه غير واحد من الأئمة ولا يحتج به, بل هو واهي الحديث, وقد وهم في ذلك الحاكم كما في كتابه المستدرك, فظن أن أبا معاذ هو: الفضل بن موسى وليس كذلك, وقد قواه بعضهم, والصواب في ذلك أنه سليمان بن الأرقم .

و سليمان بن الأرقم قد تكلم عليه غير واحد, وهو مضعف, وقد نص على أن هذا الحديث قد تفرد به سليمان بن الأرقم الترمذي , كما في كتابه السنن وأعله به, وكذلك ابن عدي و الدارقطني و البيهقي وغيرهم, على أن هذا الحديث من مفاريد سليمان بن الأرقم .

طرق تمييز الرواة في الأسانيد

وهنا مسألة في أمور تمييز الرواة, وهو أن طالب العلم إذا وقع له في حديث اختلاف في أبواب الرواة, وذلك أن الأئمة إذا أشاروا إلى أن هذا الراوي هو فلان وأشار آخرون إلى أنه فلان؛ فإنه يقع لديه شيء من الاضطراب, فيحتاج في ذلك إلى التمييز, فتمييز الرواة في الأسانيد يحتاج طالب العلم فيه إلى طرق حتى يميز:

الطريقة الأولى: أن ينظر في ذلك إلى الشيوخ, وإذا نظرنا إلى شيوخ أبي معاذ في هذا الحديث فإننا نجد أن شيخه في ذلك هو: محمد بن شهاب الزهري , ونجد أن تلميذه في ذلك هو زيد بن حباب , وإذا أردنا أن ننظر إلى سليمان بن الأرقم نجد أن العلماء ذكروا في الرواة عنه زيد بن حباب , وأن من شيوخه محمد بن شهاب الزهري , وأما بالنسبة لمن ذكره الحاكم في كتابه المستدرك فلم يذكر العلماء أن من شيوخه الزهري .

الطريقة الثانية ويعضد بعضها بعضاً: النظر إلى التلاميذ, فإن الشيوخ قد يتفقون على راو من الرواة, فيروي الراوي عن شيخ ويشاركه في ذلك التلميذ أيضاً, فيكون كل من وصف في هذا الحديث ربما يروي عن ذلك الشيخ فيتحدان في الرواية عنه, وتمييز ذلك بعد ذلك ينظر إلى التلاميذ, فإن اتفقوا في التلاميذ فالوسيلة الثالثة .

الطريقة الثالثة: أن يُنظر إلى المكثر منهم, تُسبر مرويات الراوي الذي اتفق وغيره في الرواية عن شيخ واتفق أيضاً تلاميذه في الرواية عنه, فيُنظر إلى أيهم أكثر أخذاً عن الشيخ, وأي التلميذ أكثر أخذاً عنه, فتُسبر هذه المرويات؛ فإذا كان لأحدهما مائة حديث وللثاني عشرة فيغلب على الظن صاحب المائة؛ لأنه من المكثرين, وأما صاحب العشرة فإن الأئمة إذا رووا عن مقل اشترك مع غيره في الإسناد يميزونه؛ لأن الأصل أن الرواية هي رواية المكثر, والعلماء يسكتون عن رواية المشهور المكثر ولا يسكتون عن رواية المقل إذا اشترك معه مكثر؛ حتى لا يختلط على النقلة في ذلك.

الطريقة الرابعة: أن ينظر إلى المتون, فبعد سبر مرويات الرواة الذين اشتركوا بالرواية عن شيخ ورواية التلاميذ عنهم يُنظر في المتون التي يرويها هؤلاء, فغالباً نجد أن بعض الرواة يميل إلى نوع من المتون, فبعضهم يروي الأحكام, وبعضهم مثلاً في الأحكام له نفسٌ معين؛ فيروي أبواب الطلاق مثلاً, أو أبواب العقود, أو أبواب العبادات ونحو ذلك, فإذا سبرنا مرويات الراوي غلب على الظن أننا نستطيع أن نميز مرويه هذا عن مروي غيره, وإذا استطعنا بذلك التمييز فإننا ربما نستطيع أن نرجح إذا انفصل عنه أو عن مشاركته بالمتون غيره؛ فإذا كان الراوي مثلاً يروي باباً معيناً والراوي الآخر لا يشاركه في ذلك فإننا نستطيع التمييز في هذا, وأما إذا شاركه فيه؛ فإذا كان مثلاً يروي في أمور العقود ولا يخرج عنها, وذاك يروي أيضاً في أبواب ومنها العقود, فإننا نغلب في ذلك الأكثر, فإذا كان المتن لدينا مثلاً في أمور الطهارة فهذا إشارة إلى أن الراوي ينبغي أن يكون من أهل الاهتمام بأمور العبادات, فننظر إلى أيهما أكثر في أمور العبادات رواية, فإذا كان أحدهما من المكثرين فإننا نغلب على الظن أن هذا الراوي هو هذا المكثر في باب من الأبواب, ولا ينبغي لنا أن نميل إلى وجه من وجوه الترجيح وندع الآخر, فإن الراوي مثلاً إذا كان من المكثرين - وهذه كما تقدم وهي الطريقة الثالثة - فإننا نغلب الأكثر على الإطلاق، أو نغلب المقل إذا كان مختصاً بالمروي؛ لأنه قد يختلف راو عن غيره بالإكثار, فيروي ذاك خمسين أو مائة, والذي يشاركه في الاحتمال روى معه لكنه يروي عشرة أحاديث, وهذا المتن هو موافق لأحاديث صاحب العشرة من جهة الاختصاص, وليس هو من أهل الموافقة لحديث صاحب المائة أو الخمسين, فحينئذ غلبنا الاختصاص على الكثرة, وحينئذ نقول: بأن المترجح في ذلك هو الاختصاص على الكثرة في حالة الموافقة في التعديل, فإذا اشترك الرواة في التعديل فكان الراوي الأول ثقة والثاني ثقة فإن العلماء في التصحيح والتمييز بينهما يغتفرون ويتسامحون ذلك, أما في حال الضعف فإننا نتشدد في ذلك ونتحرى, ونغلب جانب الثقة إلا إذا كان الراوي في ذلك مدلساً أو متهماً بالتدليس, وينبغي أن يُحتاط في هذا أن بعض الرواة ربما يُسقط تمييزه, عن غيره من راو يأتي بعد ذلك أو من ناسخ أو مصنف؛ فيقولون مثلاً حدثنا أبو معاذ يعني: سليمان بن الأرقم , وهذه اللفظة قول: يعني: سليمان بن الأرقم هي تمييز للراوي عن غيره, فهذه اللفظة قد يسقطها بعض النُسَّاخ؛ وذلك لأنهم يرون أن لا حاجة إليها, وربما يكون عند الناسخ معروف فيظن أنه عند غيره كذلك معروف, فينبغي أن يحتاط في أمثال هذه الأمور.

وهذا الحديث هو خبر منكر لتفرد أبي معاذ سليمان بن الأرقم به عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.

التنشف بعد الوضوء

والتنشف بعد الوضوء لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك غير واحد؛ كـالترمذي في كتابه السنن وهذه المسألة هي من مواضع الخلاف عند السلف, فجاء عن غير واحد أنه كان يتنشف, منهم سعيد بن جبير و الحسن و مسروق بن الأجدع و عامر بن شراحيل الشعبي وغيرهم, وجاء عن بعضهم أنه كره ذلك, كابن شهاب , و سعيد بن المسيب , ويدل على نكارة الحديث المرفوع أن ابن شهاب جاء عنه كراهة التنشف, وهذا الحديث من طريق ابن شهاب , وفيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنشف بعد وضوئه ), و ابن شهاب هو من متأخري التابعين الثقات, فهو من أواخر التابعين طبقة وهو من الثقات الفقهاء, فكيف روى عنه القول بالكراهة, مع أنه يروي هذا الحديث المرفوع بتنشف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذا لا يقال باستقامته.

ومن السلف من قال بالتنشف في الغسل وعدم التنشف في الجنابة, وهذا جاء عن عبد الله بن عباس كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عبد الله بن عباس , وهذا التفصيل من عبد الله بن عباس محتمل من جهة الصحة, وإن كان قابوس قد تكلم فيه بعضهم إلا أن روايته عن أبيه عن عبد الله بن عباس مما يحتمل.

وقد جاء في هذا الحديث أعني: في حديث التنشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث الموضوعة, وهذا لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بعض وجوه النكارة في الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم مسح وجهه ويديه بثوبه)

ومن وجوه النكارة أيضاً: أن هذا الحديث يتعلق بمسألة مما تمس الحاجة إليه ومما تعم به البلوى؛ وذلك أن الإنسان يتلبس بمثل هذه الأحكام في يومه وليلته مراراً, ومثل هذا الفعل إذا أردنا أن نسبره بنظر التشريع فإنه لا يخلوا من حالين:

الحالة الأولى: أن يقال: إن التنشف في ذلك عبادة, والعبادة في مثل هذا يلزم منها الديمومة أو التغليب, تغلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفعل ذلك, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل سنة أدامها أو غلبت عليه فتركها عرضاً حتى لا يقال بوجوبها, وهذا هو الأغلب في الأفعال الذاتية, بخلاف السنن المتعدية, فالتزام رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بالحاجة.

أما اللازمة مما تعم بها البلوى على سبيل الدوام إما في اليوم والليلة أو الأسبوع ونحو ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمها أو تغلب على فعله, وإذا قلنا بذلك فإنه ينبغي أن يرد النص في هذا بما هو أقوى من هذه الطرق, وقد جاءت في ذلك النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة وضوئه في أحاديث كثيرة, تبلغ درجة التواتر بمجموعها, ويكفي في ذلك ما جاء في حديث عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب وغيرها في الصفة, وحديث أيضاً عبد الله بن زيد , وغيرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يرد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تنشف في وضوئه, ولو ثبت عنه وكان سنة لنقل.

الحالة الثانية في هذا: أن تكون من جملة العادة أو فُعلت لأجل الحاجة, والعادة والحاجة لا تدخل في باب التعبد, ولا تنقل من غير بيان المقتضي لها؛ وذلك أن الذي يتنشف بعد وضوئه احتمال أن يكون فعله ذلك لأجل برد, وذلك أن الإنسان إذا توضأ في حال شتاء وأراد أن يخرج من داره فإنه يتنشف حتى لا يتضرر من برودة الجو, فربما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل الاعتراض, فإذا فعله على سبيل الاعتراض وكان من جملة الحاجة فإنه لا ينقل إلا بتمييز, فإذا نقله الثقات ميزوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله على سبيل الاحتياط وعلى سبيل الاحتراز, و النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه لا هذا ولا هذا.

وعلى هذا فنقول: إن التنشف بعد الوضوء يبقى على أصله من جهة الإباحة, فإذا فعله الإنسان للحاجة ساغ له ذلك, وإذا لم يفعله فهو كذلك سائغ, وإن ترك ذلك لحاجة أو لعلة ونحو ذلك فإن هذا في أبواب الترك كأبواب الفعل من جهة الجواز, وقد جاء الخبر في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها, وهذا الحديث ليس في بابنا, فنحن نتكلم هنا على مسألة التنشف؛ وذلك أن بعض الفقهاء قالوا باستحباب التنشف بعد الوضوء, ويستدلون بهذه الأحاديث، وكذلك ببعض الموقوفات, حيث جاء ذلك عن عثمان بن عفان , و علي بن أبي طالب و عبد الله بن عمر وهي معلولة, لا يثبت منها شيء عنهم, وإنما جاء ذلك عن غيرهم وعن جماعة أيضاً من التابعين.

اعتضاد المرفوع بالموقوف والمقطوع

وهنا مسألة وهي: هل الموقوفات والمقطوعات التي وردت في هذا الباب تعضد المرفوع؟

أولاً: بالنسبة للموقوفات فليست محل إجماع حتى تعضد المرفوع، ويكون هذا الحديث من جملة الأحاديث المضعفة التي عليها العمل, وذلك للاختلاف الذي قد ورد في هذه المسألة, فإن جماعة من السلف قالوا بجواز المسح وهذا مروي عن سعيد بن جبير و مسروق بن الأجدع و الحسن البصري و عامر بن شراحيل الشعبي وغيرهم, وجماعة قالوا بكراهة ذلك, وهذا مروي عن ابن شهاب الزهري و سعيد بن المسيب , ومروي أيضاً عن أصحاب عبد الله بن مسعود كما رواه عنهم إبراهيم النخعي ؛ قال: كانوا يكرهون التنشف بعد الوضوء, والمراد بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود , فإن إبراهيم النخعي إذا روى حكاية وقال: وكانوا يفعلون أو كانوا يتركون فالمراد بذلك هم أصحاب عبد الله بن مسعود كما لا يخفى, وكما نص على ذلك هو بنفسه كما روى ابن أبي خيثمة في كتابه التاريخ من حديث الأعمش عن إبراهيم النخعي .

وأصحاب عبد الله بن مسعود هم أهل الكوفة؛ كـعلقمة و الأسود و أبي الأحوص وغيرهم من فقهاء الكوفة, فعلى هذا نقول: إن القول بالسنية وعضد المرفوع بالموقوف والمقطوع فيه نظر؛ وذلك لضعف الموقوف بمجموعه وكذلك للخلاف الوراد أيضاً في المقطوعات, بل إننا إذا أردنا أن ننظر إلى مسألة الترجيح في هذه المسألة فإننا نرجح أقوال المدنيين على غيرهم, فإن سعيد بن المسيب و ابن شهاب من رءوس الفقه في المدينة, والذين خالفوهم في ذلك هم من أهل الكوفة وأهل البصرة وأحد علماء الحجاز؛ وذلك أنه مروي عن سعيد بن جبير و عطاء , والغالب في مثل هذه الأحوال -خاصة العملية التي تنقل- أن يُنظر إلى عمل أهل المدينة لأن النقل عنهم أوسع.

النقل القولي والفعلي في الرواية

ولدينا في نقل الرواية، وهذان أمران ينبغي أن يلتفت إليههما:

الأمر الأول: نقل قولي, وهذا هو الملموس والموجود في الكتب المصنفة, والذي يعزوه الراوي عن شيخه وهكذا.

الأمر الثاني: هو عزو بالأفعال من غير قول, وهذا أضعف من الأول, فالقول أصرح, والفعل في ذلك ضعيف, فإنه إذا استقر عمل فئة أو أهل بلد على عمل من الأعمال واجتمعوا عليه فهو متوارث؛ لأنهم لا يمكن أن يتواطؤوا عليه إلا وقد جاء منقولاً يفعله الواحد عن الواحد أو الجماعة عن الجماعة, ولهذا العلماء ينظرون إلى القوادح في الأفعال, ومن أظهر القوادح في الأفعال هو تغاير البلد؛ لأن أهل الكوفة لا يمكن أن يرثوا الفعل عملاً ويتواتر لديهم عن أهل مكة من غير أن يُنقل قولاً؛ لأنهم لو كان في أهل الكوفة ووصل لديهم فلا بد أن يصل إليهم عن طريق قول, فإذا لم يوجد هذا القول دل على عدم صحته, أو وجد فإنه كذلك أيضاً معلول.

وأما بالنسبة للبلد الواحد فقد لا يوجد القول ويوجد النقل من جهة العمل, فيتوارثونه في ذلك من جهة العمل, ولهذا نقول: إن ما يتوارث فيه من جهة العمل سواء في أمور الصلاة أو من أمور الطهارة وأشباهها ينظر إلى أهل المدينة, وهذا في بعض الأبواب.

كذلك أيضاً مما يترجح فيه عمل أهل المدينة على مكة الوارد في أمور المزارعة؛ لأن أهل مكة ليسوا بأهل مزارعة, ولهذا سفيان لما قال لـيحيى قال له: إن أهل مكة يروون حديث العرايا, قال: وما يدري أهل مكة بالعرايا؟ أهل مكة يروونه عن جابر بن عبد الله , يعني: يسمعون بالعرايا سمعاً, والتمر يجلب إليهم جلباً, فلهذا ترجح أمثال هذه القرائن عن أهل المدينة وقولهم أولى من قول غيرهم, فلهذا ينبغي لطالب العلم حال وجود المخالفة أن ينظر إلى الرواة في الإسناد والبلد, وأن ينظر أيضاً إلى المتن حتى يترجح لديه شيء في ذلك.

وهنا مسألة في أمور تمييز الرواة, وهو أن طالب العلم إذا وقع له في حديث اختلاف في أبواب الرواة, وذلك أن الأئمة إذا أشاروا إلى أن هذا الراوي هو فلان وأشار آخرون إلى أنه فلان؛ فإنه يقع لديه شيء من الاضطراب, فيحتاج في ذلك إلى التمييز, فتمييز الرواة في الأسانيد يحتاج طالب العلم فيه إلى طرق حتى يميز:

الطريقة الأولى: أن ينظر في ذلك إلى الشيوخ, وإذا نظرنا إلى شيوخ أبي معاذ في هذا الحديث فإننا نجد أن شيخه في ذلك هو: محمد بن شهاب الزهري , ونجد أن تلميذه في ذلك هو زيد بن حباب , وإذا أردنا أن ننظر إلى سليمان بن الأرقم نجد أن العلماء ذكروا في الرواة عنه زيد بن حباب , وأن من شيوخه محمد بن شهاب الزهري , وأما بالنسبة لمن ذكره الحاكم في كتابه المستدرك فلم يذكر العلماء أن من شيوخه الزهري .

الطريقة الثانية ويعضد بعضها بعضاً: النظر إلى التلاميذ, فإن الشيوخ قد يتفقون على راو من الرواة, فيروي الراوي عن شيخ ويشاركه في ذلك التلميذ أيضاً, فيكون كل من وصف في هذا الحديث ربما يروي عن ذلك الشيخ فيتحدان في الرواية عنه, وتمييز ذلك بعد ذلك ينظر إلى التلاميذ, فإن اتفقوا في التلاميذ فالوسيلة الثالثة .

الطريقة الثالثة: أن يُنظر إلى المكثر منهم, تُسبر مرويات الراوي الذي اتفق وغيره في الرواية عن شيخ واتفق أيضاً تلاميذه في الرواية عنه, فيُنظر إلى أيهم أكثر أخذاً عن الشيخ, وأي التلميذ أكثر أخذاً عنه, فتُسبر هذه المرويات؛ فإذا كان لأحدهما مائة حديث وللثاني عشرة فيغلب على الظن صاحب المائة؛ لأنه من المكثرين, وأما صاحب العشرة فإن الأئمة إذا رووا عن مقل اشترك مع غيره في الإسناد يميزونه؛ لأن الأصل أن الرواية هي رواية المكثر, والعلماء يسكتون عن رواية المشهور المكثر ولا يسكتون عن رواية المقل إذا اشترك معه مكثر؛ حتى لا يختلط على النقلة في ذلك.

الطريقة الرابعة: أن ينظر إلى المتون, فبعد سبر مرويات الرواة الذين اشتركوا بالرواية عن شيخ ورواية التلاميذ عنهم يُنظر في المتون التي يرويها هؤلاء, فغالباً نجد أن بعض الرواة يميل إلى نوع من المتون, فبعضهم يروي الأحكام, وبعضهم مثلاً في الأحكام له نفسٌ معين؛ فيروي أبواب الطلاق مثلاً, أو أبواب العقود, أو أبواب العبادات ونحو ذلك, فإذا سبرنا مرويات الراوي غلب على الظن أننا نستطيع أن نميز مرويه هذا عن مروي غيره, وإذا استطعنا بذلك التمييز فإننا ربما نستطيع أن نرجح إذا انفصل عنه أو عن مشاركته بالمتون غيره؛ فإذا كان الراوي مثلاً يروي باباً معيناً والراوي الآخر لا يشاركه في ذلك فإننا نستطيع التمييز في هذا, وأما إذا شاركه فيه؛ فإذا كان مثلاً يروي في أمور العقود ولا يخرج عنها, وذاك يروي أيضاً في أبواب ومنها العقود, فإننا نغلب في ذلك الأكثر, فإذا كان المتن لدينا مثلاً في أمور الطهارة فهذا إشارة إلى أن الراوي ينبغي أن يكون من أهل الاهتمام بأمور العبادات, فننظر إلى أيهما أكثر في أمور العبادات رواية, فإذا كان أحدهما من المكثرين فإننا نغلب على الظن أن هذا الراوي هو هذا المكثر في باب من الأبواب, ولا ينبغي لنا أن نميل إلى وجه من وجوه الترجيح وندع الآخر, فإن الراوي مثلاً إذا كان من المكثرين - وهذه كما تقدم وهي الطريقة الثالثة - فإننا نغلب الأكثر على الإطلاق، أو نغلب المقل إذا كان مختصاً بالمروي؛ لأنه قد يختلف راو عن غيره بالإكثار, فيروي ذاك خمسين أو مائة, والذي يشاركه في الاحتمال روى معه لكنه يروي عشرة أحاديث, وهذا المتن هو موافق لأحاديث صاحب العشرة من جهة الاختصاص, وليس هو من أهل الموافقة لحديث صاحب المائة أو الخمسين, فحينئذ غلبنا الاختصاص على الكثرة, وحينئذ نقول: بأن المترجح في ذلك هو الاختصاص على الكثرة في حالة الموافقة في التعديل, فإذا اشترك الرواة في التعديل فكان الراوي الأول ثقة والثاني ثقة فإن العلماء في التصحيح والتمييز بينهما يغتفرون ويتسامحون ذلك, أما في حال الضعف فإننا نتشدد في ذلك ونتحرى, ونغلب جانب الثقة إلا إذا كان الراوي في ذلك مدلساً أو متهماً بالتدليس, وينبغي أن يُحتاط في هذا أن بعض الرواة ربما يُسقط تمييزه, عن غيره من راو يأتي بعد ذلك أو من ناسخ أو مصنف؛ فيقولون مثلاً حدثنا أبو معاذ يعني: سليمان بن الأرقم , وهذه اللفظة قول: يعني: سليمان بن الأرقم هي تمييز للراوي عن غيره, فهذه اللفظة قد يسقطها بعض النُسَّاخ؛ وذلك لأنهم يرون أن لا حاجة إليها, وربما يكون عند الناسخ معروف فيظن أنه عند غيره كذلك معروف, فينبغي أن يحتاط في أمثال هذه الأمور.

وهذا الحديث هو خبر منكر لتفرد أبي معاذ سليمان بن الأرقم به عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.

والتنشف بعد الوضوء لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك غير واحد؛ كـالترمذي في كتابه السنن وهذه المسألة هي من مواضع الخلاف عند السلف, فجاء عن غير واحد أنه كان يتنشف, منهم سعيد بن جبير و الحسن و مسروق بن الأجدع و عامر بن شراحيل الشعبي وغيرهم, وجاء عن بعضهم أنه كره ذلك, كابن شهاب , و سعيد بن المسيب , ويدل على نكارة الحديث المرفوع أن ابن شهاب جاء عنه كراهة التنشف, وهذا الحديث من طريق ابن شهاب , وفيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنشف بعد وضوئه ), و ابن شهاب هو من متأخري التابعين الثقات, فهو من أواخر التابعين طبقة وهو من الثقات الفقهاء, فكيف روى عنه القول بالكراهة, مع أنه يروي هذا الحديث المرفوع بتنشف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذا لا يقال باستقامته.

ومن السلف من قال بالتنشف في الغسل وعدم التنشف في الجنابة, وهذا جاء عن عبد الله بن عباس كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عبد الله بن عباس , وهذا التفصيل من عبد الله بن عباس محتمل من جهة الصحة, وإن كان قابوس قد تكلم فيه بعضهم إلا أن روايته عن أبيه عن عبد الله بن عباس مما يحتمل.

وقد جاء في هذا الحديث أعني: في حديث التنشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث الموضوعة, وهذا لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن وجوه النكارة أيضاً: أن هذا الحديث يتعلق بمسألة مما تمس الحاجة إليه ومما تعم به البلوى؛ وذلك أن الإنسان يتلبس بمثل هذه الأحكام في يومه وليلته مراراً, ومثل هذا الفعل إذا أردنا أن نسبره بنظر التشريع فإنه لا يخلوا من حالين:

الحالة الأولى: أن يقال: إن التنشف في ذلك عبادة, والعبادة في مثل هذا يلزم منها الديمومة أو التغليب, تغلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفعل ذلك, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل سنة أدامها أو غلبت عليه فتركها عرضاً حتى لا يقال بوجوبها, وهذا هو الأغلب في الأفعال الذاتية, بخلاف السنن المتعدية, فالتزام رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بالحاجة.

أما اللازمة مما تعم بها البلوى على سبيل الدوام إما في اليوم والليلة أو الأسبوع ونحو ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمها أو تغلب على فعله, وإذا قلنا بذلك فإنه ينبغي أن يرد النص في هذا بما هو أقوى من هذه الطرق, وقد جاءت في ذلك النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة وضوئه في أحاديث كثيرة, تبلغ درجة التواتر بمجموعها, ويكفي في ذلك ما جاء في حديث عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب وغيرها في الصفة, وحديث أيضاً عبد الله بن زيد , وغيرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يرد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تنشف في وضوئه, ولو ثبت عنه وكان سنة لنقل.

الحالة الثانية في هذا: أن تكون من جملة العادة أو فُعلت لأجل الحاجة, والعادة والحاجة لا تدخل في باب التعبد, ولا تنقل من غير بيان المقتضي لها؛ وذلك أن الذي يتنشف بعد وضوئه احتمال أن يكون فعله ذلك لأجل برد, وذلك أن الإنسان إذا توضأ في حال شتاء وأراد أن يخرج من داره فإنه يتنشف حتى لا يتضرر من برودة الجو, فربما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل الاعتراض, فإذا فعله على سبيل الاعتراض وكان من جملة الحاجة فإنه لا ينقل إلا بتمييز, فإذا نقله الثقات ميزوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله على سبيل الاحتياط وعلى سبيل الاحتراز, و النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه لا هذا ولا هذا.

وعلى هذا فنقول: إن التنشف بعد الوضوء يبقى على أصله من جهة الإباحة, فإذا فعله الإنسان للحاجة ساغ له ذلك, وإذا لم يفعله فهو كذلك سائغ, وإن ترك ذلك لحاجة أو لعلة ونحو ذلك فإن هذا في أبواب الترك كأبواب الفعل من جهة الجواز, وقد جاء الخبر في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها, وهذا الحديث ليس في بابنا, فنحن نتكلم هنا على مسألة التنشف؛ وذلك أن بعض الفقهاء قالوا باستحباب التنشف بعد الوضوء, ويستدلون بهذه الأحاديث، وكذلك ببعض الموقوفات, حيث جاء ذلك عن عثمان بن عفان , و علي بن أبي طالب و عبد الله بن عمر وهي معلولة, لا يثبت منها شيء عنهم, وإنما جاء ذلك عن غيرهم وعن جماعة أيضاً من التابعين.