تفسير سورة هود [36-49]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:36-39]. ثم قال تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]: (( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا )) أي: حتى إذا جاء أمرنا بإهلاك قومه، وحتى هنا هي غاية لقوله تبارك وتعالى: (( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ))، أي: أنه كان مستمراً في صناعة الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه، يعني: ويصنع الفلك وحاله أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه إلى آخره، (ويصنع الفلك) حتى إذا جاء أمرنا. و(( سَخِرُوا مِنْهُ )) جواب (( َكُلَّمَا )). (( وَفَارَ التَّنُّورُ )) أي: وجه الأرض أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر، هذه أقوال حكاها اللغويون والمفسرون. بعض المفسرين زادوا على ما ذكره اللغويون والمفسرون: أن هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: حمي الوطيس، والوطيس: هو التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه. يقول القاسمي : وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده. فـالقاسمي يختار أن قوله: (وفار التنور) كناية عن اشتداد الأمر؛ فكأنه قيل: واشتد الأمر وقوي انهمار الماء ونبوعه من الأرض. وهذا الإيجاز في قوله: (وفار التنور) في مجازه الرهيب قد بينته آيات آخر، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن هذه الآيات قوله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، فكل هذه المعاني التي فصلت في هاتين الآيتين في سورة القمر قد ركزت وأجملت في قوله تعالى: (( وَفَارَ التَّنُّورُ )). ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فهذا الشمول يطابق هذه الآيات: (( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ )) من السماء ومن الأرض (( عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ )). أما قول من قال: إن معنى قوله تعالى: ( وفار التنور) أي: وجه الأرض، أو المكان الذي ينفجر منه الماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، كل هذه الأقوال إنما تشير فقط إلى الأرض ولا تعم السماء بخلاف قولنا إنه كناية عن شدة الأمر من السماء والأرض. وجلي أن الأمر كان أعم، وأنه لم يقتصر على ما خرج من الأرض، وإنما التقى ماء السماء مع الماء الذي انفجر من الأرض. (( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا )) أي: في السفينة. (( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ )) أي: من كل صنف من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض (( زَوْجَيْنِ اثنين )) ذكراً وأنثى. وقال أبو البقاء : (كل) فيها قراءتان: القراءة الأولى: (( قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين ))، بالإضافة فيكون فيها وجهان: الأول: أن المفعول هو (اثنين) على أساس أن (من كل زوجين) حال. الوجه الثاني: أن (من) زائدة، فالمفعول هو (كل)، فتكون كلمة (اثنين) توكيداً. القراءة الثانية: (( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين )) بالتنوين، فزوجين هنا مفعول للفعل (احمل) و(اثنين) توكيد له، و(من) متعلقة باحمل أو هي حال. (( وَأَهْلَكَ )) أي: من يتصل بك من أقاربك الذين هم موافقون لك في الدين والإيمان، وفي السيرة والهدي. (( إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ )) أي: إلا من وجب عليه القول، والمقصود بالقول هو الإغراق بسبب ظلمه، كما قال تعالى: (( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا )) فبين له أن ابنه كان من الذين ظلموا، فهو في الحقيقة ليس من أهله أي: ليس من أهل دينه. (( وَمَنْ آمَنَ )) أي: واحمل في السفينة من آمن معك، وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ: (من) للإيذان بقلة المؤمنين، بدليل قوله بعدها مباشرة: (( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )).

قال تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود:41]. (( وقال اركبوا فيها )) أي: قال نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين: اركبوا في السفينة. (( باسم الله مجراها ومرساها )) قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالاً من الواو بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين باسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها؛ إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج، ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في باسم الله من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. ثم يقول: والكلامان أن يكون: (( باسم الله مجراها ومرساها )) جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة أي: باسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: باسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: باسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما، كما قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرة الله وبأمره تبارك وتعالى. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضبة؟ قلت: معناه: أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضبة بأن تكون في موضع الحال من ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله. وأخذ بعض العلماء من الوجه الأول استحباب التسمية وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وعندنا ما يؤيد ذلك القول من القرآن الكريم في موضعين: في سورة المؤمنون، وفي سورة الزخرف. في سورة المؤمنون: وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]. وفي سورة الزخرف: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]. وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه أيضاً، لكن هناك فرق بين اللفظ الذي ورد في القرآن واللفظ الذي ورد في السنة، ففي القرآن: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا [الزخرف:13] أما في السنة فقد جاء بصيغة: (الحمد لله الذي سخر لنا هذا). قوله عز وجل: (( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )): جملة مستأنفة بياناً لموجب الإنجاء من الغرق، يعني: أن الذي يوجب الإنجاء هو محض رحمة الله عز وجل، فلولا مغفرة الله ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم. وقيل: إن قوله: (( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )) تعليل لاركبوا؛ لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.

قال تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42]. (( وهي تجري بهم )) هذا متصل بكلام محذوف، يدل عليه قوله تعالى: (( اركبوا )) فيكون الكلام المقدر: فركبوا مسمين كما أمر نوح وهي تجري بهم. (( في موج كالجبال )): وذلك عندما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض، فتعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعاً، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من عظمة هذه الأمواج فإنك تراها في علوها مثل الجبال، يعني: انظر الأمواج حينما تغمر وجه الأرض وترتفع فوق أعالي رءوس الجبال الموجودة على ظاهر الأرض، ليس هذا فحسب بل الأمواج نفسها التي تكونت بعد ذلك كانت كالجبال في حد ذاتها! (( ونادى نوح ابنه وكان في معزل )) أي: في منحنىً عن أبيه: (( يا بني اركب معنا )) أي: ادخل في ديننا واصحبنا في السفينة الخاصة بالمؤمنين، وليس المقصود أن نوحاً عليه السلام ينادي ابنه أن يركب في السفينة وهو ليس من المؤمنين، وإنما المقصود أن ائت بالسبب الذي ينجيك من الهلاك، بأن تدخل أولاً في ديننا ثم تركب معنا في هذه السفينة. (( ولا تكن مع الكافرين )) أي: لا تكن مع الهالكين، فدين الكفر هالك، والانعزال والانزواء إلى معسكر الكافرين أيضاً نهايته الهلكة. أو: (( ولا تكن مع الكافرين )) أي: في دينهم وفي عزلتهم.

(( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ )) يعني: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وبالتالي لن أغرق. (( قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ )) أي: لا مانع اليوم من أمر الله وبلاء الله، أي: الطوفان. (( إلا من رحم )) أي: إلا الذي يرحم، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن بدل أن يقول: إلا الله، ذكره بصفته وهي الرحمة. والمعنى: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحمه الله فهو المعصوم. قال الناصر : الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم وهو الله. أو: لا معصوم إلا مرحوم. أو: لا عاصم إلا مرحوم. أو: لا معصوم إلا راحم. أو: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم وهو السفينة. والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل؛ لأنه زعم أن الجبل يعصمه: (( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ )) يعني: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمكان المرحوم هو السفينة. (( وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ )) أي: صار حائلاً بين نوح وابنه. وقيل: بين ابنه والجبل لارتفاعه فوقه. على القول الأول يكون المعنى: أنه بينما نوح يخاطب ابنه ويرد عليه ابنه، إذا بالموج يحسم هذه المناقشة وهذا الحوار، فصار الموج حائلاً بين نوح وابنه. وعلى الثاني يكون المعنى: أنه حال الموج بين ابن نوح وبين الجبل الذي زعم أنه يعصمه من الماء؛ لأنه واقف على الجبل يرد على أبيه، فإذا بالموج الذي هو أعلى من الجبل يطيح به ويغرقه. (( فكان من المغرقين )) أي: مع كونه فوق الجبل فقد كان من الهالكين بالغرق. وفي الآية دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان. يعني: إذا كان هذا مصير ابن نوح الذي صعد إلى أعلى جبل وظن أنه يعصمه من الماء، فكيف بمن كان في مكان دونه من سائر الكفرة؟! لذلك لم يتعرض القرآن لإهلاك سائر الكفرة؛ لأنه يفهم من كون ابن نوح هلك وأغرق مع أنه كان في أعلى جبل، وكان واثقاً من أنه سيعصمه من الماء، فمن الأولى أن من كان دونه قد أهلك، فلا يفتقر إلى البيان. ولا شك أن في إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم، فلم يقل الله تعالى: وحال بينهما الموج فصار من المغرقين، لكنه قال: (( فكان من المغرقين )).

قال تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]. فيها إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض ولم يبق ممن كفر بالله ديار استجابة لدعاء نوح عليه السلام، رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26] أمر الله تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك، ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً، وظهرت رءوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل. (( وقيل بعداً )): مصدر منصوب بمقدر، أي: وبعدوا بعداً، والعرب يقولون ذلك إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحوه، ولذلك اختص بدعاء السوء. وبعداً له مثل: سحقاً أو جدعاً. (( للقوم الظالمين )) فاللام متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بقيل، أي: قيل لأجلهم هذا القول: بعداً للقوم الظالمين! لم يقل تعالى: وقيل بعداً لهم، أو بعداً للمغرقين وإنما قال: (( وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )) للإشعار بأن علة الإهلاك هي الظلم الذي تلبسوا به، ولتذكر ما سبق من قوله: (( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ )).

جهات الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

كما أشرنا من قبل أن إعجاز القرآن الكريم علم مستقل من علوم القرآن الكريم، وهو من العلوم المهمة التي نحن في أشد الحاجة إلى تدارسها، ولاشك أن كل آية من القرآن الكريم فيها إعجاز، وهذه الآية من الآيات التي فيها من مظاهر الإعجاز ما حير ألباب فطاحل البلاغة والبيان والبديع وسائر علوم الإعجاز. وقد ذكر القاسمي هنا فصلاً طويلاً نسبياً في هذا الموضوع، وسنمر عليه بدون تعليقات كثيرة. يقول القاسمي : (هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها، وقد اهتم علماء البيان بإيضاح تحب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالاً في مضمار معارفها الإمام السكاكي فقد أطال وأطاب في كتابه المفتاح، وتلطف في البيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه، قال عليه الرحمة في بحث البلاغة والفصاحة، وتعريفها الأول: بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقديمه للفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد، وإلى اللفظ وهو كونه عربياً أصلياً، جارياً على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، وأكثر في الاستعمال. يقول: وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها. يعني: أن من تحدوا بها من جهابذة اللغة والبلاغة والبيان والأدب وهم فحول قريش، قد رأوا بما عندهم من مفاهم البلاغة ومعرفتها ما أعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فهذه المعاني أدركها هؤلاء لعلو شأوهم في الفصاحة وفي البلاغة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها. يقول: وهي قوله علت كلمته: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، والنظر في هذه الآية من أربعة جهات: من جهة علم البيان. ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية.

الجهة الأولى: علم البيان في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجازم النافذ في تكوين المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وعدماً، ولمشيئته تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته. لا شك أنه لا ينبغي القول بأن القرآن فيه مجاز، لأنه لا مانع على الإطلاق أن الله سبحانه وتعالى يخلق في الأرض إدراكاً بحيث تخاطب، كما في هذا الموضع: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) ما المانع أن يخاطب الله الأرض فتمتثل حقيقة هذا الأمر؟! وكذلك قوله: (( ويا سماء أقلعي ))، وقد قال تعالى: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، ما الذي يمنع أن يكون القول حقيقياً، وأن تكون الإجابة منهما أيضاً حقيقية. يقول: كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته، كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز المرسل عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض!) (ويا سماء!). ثم قال كما ترى: (يا أرض!) (ويا سماء!) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لمرور الماء في الأرض البلع: (ابلعي ماءك) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء. ثم قال: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، يعني: كأن الأرض تملك هذا الماء. واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل فعله للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً: (( ويا سماء أقلعي )) بمثلما تقدم في (( ابلعي )) ثم قال: (( وغيض الماء )) فلم يصرح بمن غاض الماء. (( وقضي الأمر )): ولم يصرح أيضاً بمن قضي عليه الأمر، ومن سوى السفينة. (( وقيل بعداً )) كما لم يصرح بقائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) في صدر الآية. سلك في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، بمعنى: أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائلاً: (يا أرض!) (ويا سماء!). هذه حقيقة مقررة لا تحتاج لبيانها وتوضيحها؛ لأنه لا يتصور أن يقدر على هذه الأفعال إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]. فهو قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم أن يكون غيره -جلت عظمته- هو قائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) ولا غائض مثلما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره، ثم ختم الكلام بالتعريض بالدعاء على قوم نوح بالهلاك: (( وقيل بعداً للقوم الظالمين )) تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم، وإظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.

الجهة الثانية: علم المعاني في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

قال: أما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة. المقام هنا مقام إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، فيناسب أن تنادى الأرض والسماء بنداء البعيد: (يا أرض!) (ويا سماء!) فمقام العظمة يستدعي وجود البعد بين مرتبة الخالق الآمر والمخلوق الذي يؤمر هنا. قال: وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرضي بالإضافة؛ لإبداء التهاون. يعني: لو أنه قال: يا أرضي ابلعي ماءك، فمثل هذه الإضافة يكون فيها تكريم للأرض وتشريف، لكنه قال: (يا أرض ابلعي ماءك) لإبداء التهاون، فترك هذه النسبة. ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام. واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؛ لكونها أخف وأدوم، دون سائر أسمائها. أي: كالغبراء أو المقلة من أسماء الأرض؛ لكنه استعمل لفظة الأرض. واختير لفظ السماء بمثلما تقدم في الأرض. أي: لم يقل: الخضراء أو المظلة أو غير ذلك من أسماء السماء، مع قصد المطابقة؛ لأنها في مقابلة الأرض. واختير لفظ: (ابلعي) على ابتلعي؛ لكونه أقصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي). (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، وإنما لم يقل: ابلعي بدون المفعول؛ لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء؛ لأنه ممكن أن الأرض تبتلع الجبال وتبتلع التلال وتبتلع البحار، لكن قال: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )). ثم بيَّن المراد واختصر الكلام مع أقلعي: (( ويا سماء أقلعي )) ولا يحتاج هنا إلى أن يذكر أقلعي عن الماء؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه. وهو الوجه في أن (( قيل يا أرض ابلعي ماءك )) فبلعت (( ويا سماء أقلعي )) فأقلعت. واختير غيض على غيّض المشدد لكونه أقصر. وقيل: (( وغيض الماء )) ولم يقل: وغيض ماء طوفان السماء. وقيل: (( وقضى الأمر )) دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاقتصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. وقيل: (( واستوت على الجودي )) ولم يقل: سويت على الجودي؛ بمعنى: أقرت على الجودي. وقيل: وغيض وقضي بالبناء للمفعول اعتباراً ببناء الفعل للفاعل مع السفينة، في قوله: (( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ))، فلما جاء ذكر السفينة بني الفعل للمعلوم فناسب أن يقول هنا: (( واستوت )) ولم يقل: وسويت على الجودي جرياً على السياق الذي جرى من قبل وهو قوله: (( وهي تجري بهم في موج )) مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قال: (( وقيل بعداً للقوم )) ولم يقل: ليبعد القوم؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بعداً) وحده منزلة ليبعدوا بعداً، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع بعداً الدال على معنى أن البعد لصيق بهم وحق له؛ لأنه لو قال: ليبعد القوم لما ظهرت اللام. (( الظالمين )) هنا أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلمة والألفاظ، وأما من حيث النظر إلى تركيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر: (( وقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي )) ولم يقل: ابلعي يا أرض! ولم يقل: أقلعي يا سماء! جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليمكن الأمر الوارد عقبه في نفس المنادى. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ))؛ لأن الطوفان ابتدأ من الأرض، وبنزولها منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى. ثم أتبعهما قوله: (( وغيض الماء )) لاتصاله بقصة الماء، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: (( وقضي الأمر )) أي: بإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: (( واستوت على الجودي ))، ثم ختمت القصة بما ختمت وهو التعريض الذي سبق بيانه. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

الجهة الثالثة: الفصاحة المعنوية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

أما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية: فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، وفي أوجز وأقصر عبارة وأبلغها يقول عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، لا تعقيد يعكر الفكرة في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المراد، بل إذا جربت نفسك عند اجتماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك. وهذا من أعظم مظاهر الإعجاز في هذه الآية الكريمة، فكأن المعنى في مسابقة مع اللفظ حتى كاد المعنى يسبق إلى قلبك قبل أن يصل اللفظ إلى أذنك من شدة الوضوح وسلاسة التعبير.

الجهة الرابعة: الفصاحة اللفظية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

أما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر. ولا تظنن هذه الآية الكريمة مقصورة على ما ذكرت من البلاغة والفصاحة، وإنما هذه مجرد إشارات، لكن من تمعن وتحرى سيجد ما هو أضعاف أضعاف هذه الفوائد، ولعل ما تركت أكثر مما ذكرت، لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإشارة بكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ منهما عن المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع على وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه، ولكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماؤها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]. انتهى كلام السكاكي .

ذكر من ألف ذكر شيئاً في إعجاز الآية الكريمة

وقد تصدى أبو حيان أيضاً في تفسيره المسمى بالنهر للطائفها، وساق أحداً وعشرين نوعاً من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في هذه الآية الكريمة سماها: النهر المورود في تفسير آية هود، وهي في استخراج أوجه الإعجاز والبلاغة في هذه الآية الكريمة، أورد تلك الأنواع البديعية أيضاً وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وحسن التقسيم، والاحتراف، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف. إن هذا البحث يحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا، لكن هذا أنموذج من الثمرات التي يقطفها العلماء من علم إعجاز القرآن الكريم، انظر كم من عناوين لبعض البحوث لا نعرف معناها مثل: التسهيم والاحتراف والإيضاح، وغير هذه من الاصطلاحات الفنية في علم البلاغة، ومن خبرها وسبر غورها فإنه يستطيع أن يتذوق حلاوة القرآن الكريم. فهذه إشارة وأنموذج لما يمكن أن يستنبط من الكنوز من كلام الله سبحانه وتعالى فإنه لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]. فإذاً علم الإعجاز علم ضخم جداً وعلم عالي القدر، وهو من أشرف علوم القرآن الكريم. المؤلفات في إعجاز القرآن كثيرة جداً، لكن هذا بحر لا يتمكن من الغوص فيه إلا من كان خبيراً بهذا الغوص؛ حتى يستطيع أن يستخرج هذه اللآلئ.

كما أشرنا من قبل أن إعجاز القرآن الكريم علم مستقل من علوم القرآن الكريم، وهو من العلوم المهمة التي نحن في أشد الحاجة إلى تدارسها، ولاشك أن كل آية من القرآن الكريم فيها إعجاز، وهذه الآية من الآيات التي فيها من مظاهر الإعجاز ما حير ألباب فطاحل البلاغة والبيان والبديع وسائر علوم الإعجاز. وقد ذكر القاسمي هنا فصلاً طويلاً نسبياً في هذا الموضوع، وسنمر عليه بدون تعليقات كثيرة. يقول القاسمي : (هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها، وقد اهتم علماء البيان بإيضاح تحب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالاً في مضمار معارفها الإمام السكاكي فقد أطال وأطاب في كتابه المفتاح، وتلطف في البيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه، قال عليه الرحمة في بحث البلاغة والفصاحة، وتعريفها الأول: بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقديمه للفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد، وإلى اللفظ وهو كونه عربياً أصلياً، جارياً على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، وأكثر في الاستعمال. يقول: وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها. يعني: أن من تحدوا بها من جهابذة اللغة والبلاغة والبيان والأدب وهم فحول قريش، قد رأوا بما عندهم من مفاهم البلاغة ومعرفتها ما أعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فهذه المعاني أدركها هؤلاء لعلو شأوهم في الفصاحة وفي البلاغة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها. يقول: وهي قوله علت كلمته: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، والنظر في هذه الآية من أربعة جهات: من جهة علم البيان. ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية.

أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجازم النافذ في تكوين المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وعدماً، ولمشيئته تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته. لا شك أنه لا ينبغي القول بأن القرآن فيه مجاز، لأنه لا مانع على الإطلاق أن الله سبحانه وتعالى يخلق في الأرض إدراكاً بحيث تخاطب، كما في هذا الموضع: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) ما المانع أن يخاطب الله الأرض فتمتثل حقيقة هذا الأمر؟! وكذلك قوله: (( ويا سماء أقلعي ))، وقد قال تعالى: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، ما الذي يمنع أن يكون القول حقيقياً، وأن تكون الإجابة منهما أيضاً حقيقية. يقول: كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته، كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز المرسل عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض!) (ويا سماء!). ثم قال كما ترى: (يا أرض!) (ويا سماء!) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لمرور الماء في الأرض البلع: (ابلعي ماءك) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء. ثم قال: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، يعني: كأن الأرض تملك هذا الماء. واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل فعله للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً: (( ويا سماء أقلعي )) بمثلما تقدم في (( ابلعي )) ثم قال: (( وغيض الماء )) فلم يصرح بمن غاض الماء. (( وقضي الأمر )): ولم يصرح أيضاً بمن قضي عليه الأمر، ومن سوى السفينة. (( وقيل بعداً )) كما لم يصرح بقائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) في صدر الآية. سلك في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، بمعنى: أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائلاً: (يا أرض!) (ويا سماء!). هذه حقيقة مقررة لا تحتاج لبيانها وتوضيحها؛ لأنه لا يتصور أن يقدر على هذه الأفعال إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]. فهو قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم أن يكون غيره -جلت عظمته- هو قائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) ولا غائض مثلما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره، ثم ختم الكلام بالتعريض بالدعاء على قوم نوح بالهلاك: (( وقيل بعداً للقوم الظالمين )) تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم، وإظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.

قال: أما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة. المقام هنا مقام إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، فيناسب أن تنادى الأرض والسماء بنداء البعيد: (يا أرض!) (ويا سماء!) فمقام العظمة يستدعي وجود البعد بين مرتبة الخالق الآمر والمخلوق الذي يؤمر هنا. قال: وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرضي بالإضافة؛ لإبداء التهاون. يعني: لو أنه قال: يا أرضي ابلعي ماءك، فمثل هذه الإضافة يكون فيها تكريم للأرض وتشريف، لكنه قال: (يا أرض ابلعي ماءك) لإبداء التهاون، فترك هذه النسبة. ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام. واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؛ لكونها أخف وأدوم، دون سائر أسمائها. أي: كالغبراء أو المقلة من أسماء الأرض؛ لكنه استعمل لفظة الأرض. واختير لفظ السماء بمثلما تقدم في الأرض. أي: لم يقل: الخضراء أو المظلة أو غير ذلك من أسماء السماء، مع قصد المطابقة؛ لأنها في مقابلة الأرض. واختير لفظ: (ابلعي) على ابتلعي؛ لكونه أقصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي). (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )) لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، وإنما لم يقل: ابلعي بدون المفعول؛ لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء؛ لأنه ممكن أن الأرض تبتلع الجبال وتبتلع التلال وتبتلع البحار، لكن قال: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك )). ثم بيَّن المراد واختصر الكلام مع أقلعي: (( ويا سماء أقلعي )) ولا يحتاج هنا إلى أن يذكر أقلعي عن الماء؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه. وهو الوجه في أن (( قيل يا أرض ابلعي ماءك )) فبلعت (( ويا سماء أقلعي )) فأقلعت. واختير غيض على غيّض المشدد لكونه أقصر. وقيل: (( وغيض الماء )) ولم يقل: وغيض ماء طوفان السماء. وقيل: (( وقضى الأمر )) دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاقتصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. وقيل: (( واستوت على الجودي )) ولم يقل: سويت على الجودي؛ بمعنى: أقرت على الجودي. وقيل: وغيض وقضي بالبناء للمفعول اعتباراً ببناء الفعل للفاعل مع السفينة، في قوله: (( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ))، فلما جاء ذكر السفينة بني الفعل للمعلوم فناسب أن يقول هنا: (( واستوت )) ولم يقل: وسويت على الجودي جرياً على السياق الذي جرى من قبل وهو قوله: (( وهي تجري بهم في موج )) مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قال: (( وقيل بعداً للقوم )) ولم يقل: ليبعد القوم؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بعداً) وحده منزلة ليبعدوا بعداً، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع بعداً الدال على معنى أن البعد لصيق بهم وحق له؛ لأنه لو قال: ليبعد القوم لما ظهرت اللام. (( الظالمين )) هنا أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلمة والألفاظ، وأما من حيث النظر إلى تركيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر: (( وقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي )) ولم يقل: ابلعي يا أرض! ولم يقل: أقلعي يا سماء! جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليمكن الأمر الوارد عقبه في نفس المنادى. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء: (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ))؛ لأن الطوفان ابتدأ من الأرض، وبنزولها منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى. ثم أتبعهما قوله: (( وغيض الماء )) لاتصاله بقصة الماء، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: (( وقضي الأمر )) أي: بإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: (( واستوت على الجودي ))، ثم ختمت القصة بما ختمت وهو التعريض الذي سبق بيانه. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

أما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية: فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، وفي أوجز وأقصر عبارة وأبلغها يقول عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، لا تعقيد يعكر الفكرة في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المراد، بل إذا جربت نفسك عند اجتماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك. وهذا من أعظم مظاهر الإعجاز في هذه الآية الكريمة، فكأن المعنى في مسابقة مع اللفظ حتى كاد المعنى يسبق إلى قلبك قبل أن يصل اللفظ إلى أذنك من شدة الوضوح وسلاسة التعبير.

أما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر. ولا تظنن هذه الآية الكريمة مقصورة على ما ذكرت من البلاغة والفصاحة، وإنما هذه مجرد إشارات، لكن من تمعن وتحرى سيجد ما هو أضعاف أضعاف هذه الفوائد، ولعل ما تركت أكثر مما ذكرت، لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإشارة بكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ منهما عن المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع على وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه، ولكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماؤها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]. انتهى كلام السكاكي .




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع