تفسير سورة التوبة [73-80]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]. (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف، يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، مع أن ظاهر الآية يقتضي مقاتلتهم جميعاً بالسيف، مع أن المنافقين غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فبما أنهم لا يظهرون الكفر وإن كانوا كفاراً في الحقيقة، بل شر من الكفار؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولكن مع أنهم يظهرون الإسلام فقد فسر الآية السلف بغير ظاهر الآية؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام، وأحكام الدنيا تجري على من يظهر الإسلام من الناس، فمن ثم فرق السلف في تفسير هذه الآية بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين، وقالوا: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بالحجة واللسان، كما قال تبارك وتعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52] يعني: بالقرآن الكريم وبحججه؛ وذلك بناءً على أن معنى الجهاد هو: بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان هذا الدفع بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في هذه الآية. إذاً: المنافقون يكون جهادهم بإقامة الحجج عليهم، ويتنوع هذا الجهاد إما بإقامة الحجة، وبإظهارها عليهم، أو بترك الرفق بهم، أو بالانتهار، أو بزجرهم ونهرهم، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجب هذه الحدود، وهذا روي عن الحسن في تفسير الآية. ورد على هذا التفسير، وهو: أن جاهد الكفار والمنافقين بإقامة الحدود: لا يلزم أن الإنسان إذا كان يفعل شيئاً يستوجب الحد أن يكون منافقاً، يعني لا تختص إقامة الحدود بالمنافقين لكن من عصاة المسلمين أيضاً من يأتي بموجبات إقامة الحد. فأجاب الفريق الذي قال بأن تفسير الآية هو إقامة الحدود عليهم بأن الحدود في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت على المنافقين. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كاملاً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، فالنفاق الأكبر يتعلق بكتمان الكفر في القلب، ولا يتعلق بالأفعال أو المعاصي التي يظهرها الإنسان، وأخبار المحدودين -الذين أقيم عليهم الحد- في زمن البعثة يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين. فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين ظهر أصحابه فلم يقتلهم مع أنهم شر من الكفار؟ فالجواب: أنه إنما أمر بقتال من أظهر بلسانه كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا اطلع على كفره أنكر وحلف، وقال: إني مسلم؛ فإنه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره. فالقتال هو قتال الكافر الذي يظهر كلمة الكفر، لكن إذا وجد شخص اطلع على أنه قد قال كلمة الكفر، ثم عند المواجهة ينكل عن ذلك، ويقول: ما فعلت، وما قلت، ويحلف الأيمان المغلظة كما هو شأن المنافقين، وأنكر أن يقع منه كفر، وقال: إني مسلم؛ فيعمل حينها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقبل ظاهر أمره ولا يبحث عن سره، كما في الحديث: ( إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق عن بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كثير : روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين، ودليله قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] .. إلى آخره. وسيف للكفار أهل كتاب: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29]، إلى آخره. وسيف للمنافقين وهو في هذه الآية: (( جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ )). وسيف للبغاة: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]). وهذا الكلام إذا صح نسبته إلى علي رضي الله تعالى عنه فهو يقتضي أن يجاهد المنافقون بالسيوف إذا جاهروا بالنفاق، وهذا هو اختيار الإمام شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى. وفي الإكليل: استدل بالآيات من قال: بقتل المنافقين إذا أظهروا النفاق. قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) يعني: شدد على كلا الفريقين بالقول والفعل. (ومأواهم جهنم) في الآخرة (وبئس المصير). قال بعض المفسرين في قوله: (واغلظ عليهم): إن الضمير (هم) يعود إلى الفريقين: الكفار والمنافقين. وقال مقاتل : بل يعود فقط إلى المنافقين. وقال ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: (واغلظ عليهم): يريد شدة الانتهار والزجر لهم، والنظر بالبغض والمقت. وقال ابن مسعود : لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر. قال عطاء : نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح. إذاً: هذه الآية فيها: الزجر، والشدة، والغلظة على هؤلاء المنافقين بعد جهادهم بالحجة وبالبيان، بخلاف ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في حق المؤمنين، فقال في حقهم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال أيضاً: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. وقال الزمخشري : (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف، (والمنافقين) باللسان، (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً على الكفار إذا كنت تجاهدهم بالسيف، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] .. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فهذا في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم. ثم قال الزمخشري : وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه؛ يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن. يعني: كل من وقف منه على فساد في العقيدة فله من الغلظة والشدة والزجر ما يليق بفساده، إن كان كافراً فبما يليق بكفره، أو مبتدعاً فبما يليق ببدعته، ولا شك أن الزمخشري نفسه ممن نال حظاً من هذا الزجر والشدة للفساد المعروف في عقيدته، فهو معتزلي، وكم تطاول على أهل السنة والجماعة، فانتصف منه الناصر في الكشاف في الرد عليه كما هو معلوم. وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهجهم بالشعر -المؤمن يجاهد بنفسه وماله- والذي نفس محمد بيده! كأنما تنضحهم بالنبل)، وهذا نوع من الجهاد؛ بالقول أو بالكلام أو باللسان، إما بإقامة الحجة، وإما بالغلظة على المنافقين بالشعر أو غير ذلك من أساليب البيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـحسان بن ثابت في حق المشركين: (اهجهم وروح القدس معك) يعني: يؤيدك ويثبتك، فهذا أيضاً بيان بأن من أنواع الجهاد الغلظة على المشركين، سواءً بالهجاء، أو بإقامة الحجة، أو بالإعراض عنهم، أو بالاكفهرار في وجوههم؛ فكل من ظهر منه نفاق ينبغي أن يعامل بهذه الطريقة. ونلاحظ أحياناً حينما يقوم بعض أهل العلم بالرد على ملاحدة هذا الزمان وزنادقته ومنافقيه من الصحفيين أو بعض الشيوخ الضالين، كهذا الضال المضل الذي يطعن في الصحابة ويكفرهم وهو أحد الشيوخ الضالين؛ فتحت له (روز اليوسف) أبوابها، ونشرت له حواراً في هذه الأفكار الضالة المضلة في التطاول على أبي بكر وعمر ، وهي نفس أفكار الشيعة من إباحة نكاح المتعة وغير ذلك من الضلال المبين، ومع ذلك نجد بعض الناس كما فعلوا من قبل أيضاً مع نجيب محفوظ وغيره؛ نجده يقول: أستاذي الكبير نجيب محفوظ قال: كذا وكذا! وهذا لا ينبغي، ويتكلمون بطريقة فيها لين في غير موضع اللين، وتعظيم لإنسان كافر أو فاسق أو مبتدع أو منافق أو قل ما شئت، فمثل هذا يتنافى مع هذا الأدب الذي علمناه القرآن مع المنافقين: (( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))، فلا يقال في حق أمثال هؤلاء الصحفيين، أو الذين يسمونهم مفكرين: الأستاذ الكبير، ولا يذكر بنوع من الاحترام والتوقير، ونحو ذلك من الكلام المهذب الذي لا يليق بهؤلاء المعتدين المتطاولين على دين الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا نقع في هذا الفخ، وألا نظهر أي نوع من الاحترام أو التقدير لمن شاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74]. (يحلفون بالله ما قالوا) يعني: يحلفون بالله ما قالوا فيك شيئاً يسوءك، وينكرون الكلام الذي قالوه. (ولقد قالوا كلمة الكفر) اختلف العلماء في المقصود بكلمة الكفر: قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله سبحانه وتعالى من الفتح. وقيل: هي قول الجلاس بن سويد -كما سيأتي- : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير. وقيل: هي قول عبد الله بن أبي : يا بني الأوس والخزرج! ألا تنصرون أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال أيضاً: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فهذه هي كلمة الكفر. وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. (وكفروا) يعني: أظهروا الكفر. (بعد إسلامهم) يعني: بعد أن أظهروا الإسلام، وهم لم يكونوا مسلمين، فهم كفار في الحقيقة، لكن أظهروا الكفر بعد أن كانوا يظهرون الإسلام. وقوله تعالى: (وكفروا بعد إسلامهم) متعلق بالظاهر في الحالين فقط، فهم قد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3]، وفي هذا دليل قاطع على أن المنافق كافر.

سبب نزول قول: (يحلفون بالله ما قالوا...)

قال قتادة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك لما اقتتل رجلان جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري -تشاجرا والجهني غلب الأنصاري وعلا عليه- فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فسعى بها رجل من المسلمين -هو زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله فيه هذه الآية. إذاً: هذا دليل من قال: إن هذا هو المراد بكلمة الكفر في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر). وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين، لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس ! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى -يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: (( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع. إذاً هناك قول: بأنها نزلت في حق عبد الله بن أبي ، وقول: بأنها نزلت في حق الجلاس بن سويد بن الصامت ، وهناك قول ثالث ولعله أرجح وأصح، وهو: أن هذا هو قول جميع المنافقين. إذاً: هذه الآية ليست في شخص بعينه وإنما تشمل هذين الرجلين، وتشمل غيرهما من المنافقين، وهذا هو قول الحسن البصري . وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم. لو تأملتم الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) جمع، (ولقد قالوا) جمع (كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا)، وهكذا تلاحظون صيغ الجمع كثيرة في هذه الآية، قال ابن العربي: لعموم القول ووجود المعنى في هؤلاء وفي غيرهم ممن فعل مثل فعلهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي عليه الصلاة والسلام. (ولقد قالوا كلمة الكفر)، كل هذه الأفعال إنما يجمعها شيء واحد، وهو: أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال القاضي : يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع -يعني: أن يكون فقط المقصود بالآية وقائع معينة سواء واقعة عبد الله بن أبي أو غيره- وذلك لأن قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) .. إلى آخره، كلها صيغ الجموع، وحمل صيغ الجمع على الواحد خلاف الأصل، فإن قيل: قد يكون نزلت في واحد، لكن سمع هذا الكلام جملة من المنافقين فأقروه، فمن ثم نزلت، فيقال: إن هذا أيضاً خلاف الأصل، فهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مفسرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكن تعيين شيء منها في هذه الآية الكريمة.

سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا)

قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير : قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد ؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد). والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار ؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـحذيفة : قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار ! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. هذا ما قيل في قوله تعالى: (( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم. (ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي : أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم. (( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )). ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات : ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر. ومنه أيضاً قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح. ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.

دعوة الله المنافقين إلى التوبة

دعا الله تعالى المنافقين إلى التوبة فقال عز وجل: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )). (فإن يتوبوا) أي: من الكفر والنفاق، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعنى: إن يأتوا طوعاً تائبين، والمقصود بهم أن هذا في حق الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر. (فإن يتوبوا) إن أتوا بعدما فعلوه تائبين بأنفسهم فتقبل توبتهم، أما إن ادعوا -الزنادقة- التوبة بعد القدرة عليهم فلا تقبل، وللعلماء خلاف في هذه المسألة، فمن ثم فسروا قوله تعالى: (فإن يتوبوا) يعني: إن يأتوا تائبين طوعاً لأنفسهم، بخلاف ما إذا تابوا بعدما قدر عليهم. (فإن يتوبوا) من الكفر النفاق، (يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) يعني: بالقتل والهم والغم، وقيل: بالعذاب الذي يلقونه عند معاينة الملائكة والاحتضار، وقيل: عذاب القبر، (والآخرة) أي: بالنار وغيرها. (وما لهم في الأرض من ولي) يشفع لهم في دفع العذاب، (ولا نصير) أي: معين فيدفعه عنهم بقوته، فلا يستطيع أن يشفع لهم، ولا هو نفسه يستطيع أن يدفع عنهم العذاب الذي يستحقونه. وقيل: المراد بقوله تعالى: (فإن يتوبوا يكن خيراً لهم) استعطاف قلوبهم بعدما صدرت عنهم الجناية العظيمة، وليس الأمر على ظاهره، ولا يؤخذ من ظاهر هذه الآية أنهم تابوا بالفعل، وليس في ظاهرها إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، لكن لا يستدل بالآية على أنهم تابوا بالفعل.

قال قتادة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك لما اقتتل رجلان جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري -تشاجرا والجهني غلب الأنصاري وعلا عليه- فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فسعى بها رجل من المسلمين -هو زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله فيه هذه الآية. إذاً: هذا دليل من قال: إن هذا هو المراد بكلمة الكفر في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر). وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين، لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس ! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى -يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: (( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع. إذاً هناك قول: بأنها نزلت في حق عبد الله بن أبي ، وقول: بأنها نزلت في حق الجلاس بن سويد بن الصامت ، وهناك قول ثالث ولعله أرجح وأصح، وهو: أن هذا هو قول جميع المنافقين. إذاً: هذه الآية ليست في شخص بعينه وإنما تشمل هذين الرجلين، وتشمل غيرهما من المنافقين، وهذا هو قول الحسن البصري . وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم. لو تأملتم الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) جمع، (ولقد قالوا) جمع (كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا)، وهكذا تلاحظون صيغ الجمع كثيرة في هذه الآية، قال ابن العربي: لعموم القول ووجود المعنى في هؤلاء وفي غيرهم ممن فعل مثل فعلهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي عليه الصلاة والسلام. (ولقد قالوا كلمة الكفر)، كل هذه الأفعال إنما يجمعها شيء واحد، وهو: أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال القاضي : يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع -يعني: أن يكون فقط المقصود بالآية وقائع معينة سواء واقعة عبد الله بن أبي أو غيره- وذلك لأن قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) .. إلى آخره، كلها صيغ الجموع، وحمل صيغ الجمع على الواحد خلاف الأصل، فإن قيل: قد يكون نزلت في واحد، لكن سمع هذا الكلام جملة من المنافقين فأقروه، فمن ثم نزلت، فيقال: إن هذا أيضاً خلاف الأصل، فهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مفسرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكن تعيين شيء منها في هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير : قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد ؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد). والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار ؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـحذيفة : قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار ! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. هذا ما قيل في قوله تعالى: (( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم. (ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي : أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم. (( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )). ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات : ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر. ومنه أيضاً قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح. ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.

دعا الله تعالى المنافقين إلى التوبة فقال عز وجل: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )). (فإن يتوبوا) أي: من الكفر والنفاق، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعنى: إن يأتوا طوعاً تائبين، والمقصود بهم أن هذا في حق الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر. (فإن يتوبوا) إن أتوا بعدما فعلوه تائبين بأنفسهم فتقبل توبتهم، أما إن ادعوا -الزنادقة- التوبة بعد القدرة عليهم فلا تقبل، وللعلماء خلاف في هذه المسألة، فمن ثم فسروا قوله تعالى: (فإن يتوبوا) يعني: إن يأتوا تائبين طوعاً لأنفسهم، بخلاف ما إذا تابوا بعدما قدر عليهم. (فإن يتوبوا) من الكفر النفاق، (يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) يعني: بالقتل والهم والغم، وقيل: بالعذاب الذي يلقونه عند معاينة الملائكة والاحتضار، وقيل: عذاب القبر، (والآخرة) أي: بالنار وغيرها. (وما لهم في الأرض من ولي) يشفع لهم في دفع العذاب، (ولا نصير) أي: معين فيدفعه عنهم بقوته، فلا يستطيع أن يشفع لهم، ولا هو نفسه يستطيع أن يدفع عنهم العذاب الذي يستحقونه. وقيل: المراد بقوله تعالى: (فإن يتوبوا يكن خيراً لهم) استعطاف قلوبهم بعدما صدرت عنهم الجناية العظيمة، وليس الأمر على ظاهره، ولا يؤخذ من ظاهر هذه الآية أنهم تابوا بالفعل، وليس في ظاهرها إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، لكن لا يستدل بالآية على أنهم تابوا بالفعل.

ثم بين تبارك وتعالى بعض من نقم بإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله، وذكر أنموذجاً من هؤلاء المنافقين ممن أغناهم الله تبارك وتعالى بما آتاهم من فضله، ثم نكث في يمينه وتولى عن التوبة، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة:75]. (ومنهم من عاهد الله) أي: حلف به، (لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) يعني: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في وجوه الخير. (ولنكونن من الصالحين) يعني: نعطي كل ذي حق حقه. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:76]. (فلما آتاهم من فضله) ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما عاهدوا، (وتولوا) من العهد وهم معرضون عن عهدهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع