خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب الأذان - حديث 203-205
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عندنا اليوم أربعة أحاديث إن شاء الله تعالى نأخذها بالوفاء والتمام:
حديث جابر رضي الله عنه يقول المصنف رحمه الله: (وله) فمرجع الضمير في قوله: (وله) يعني: لـمسلم رحمه الله، والحديث رواه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ضمن حديث جابر الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أتم وأوفى وأحسن من ساق تفاصيل تلك الحجة؛ ولذلك اعتمده أهل العلم وبنى عليه بعضهم كتبهم في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث جابر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين).
والحديث رواه أيضاً أبو داود والنسائي وغيرهما، وهو حديث مشهور معروف.
شواهد الحديث
وقوله رضي الله عنه: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بـجمع )، ما المقصود بجمع؟
جمع هي المزدلفة؛ وسميت جمعاً إما لأن الناس يجتمعون فيها، أو لأنهم يجمعون بين الصلاتين المغرب والعشاء فيها، أو لأن آدم اجتمع مع حواء فيها كما تقول بعض الروايات الإسرائيلية.
و سميت المزدلفة أيضاً إما لأنها تقرب إلى منى، فهي أقرب إلى منى من عرفة، فالناس يقتربون إلى منى حين يدفعون من عرفة إلى المزدلفة، والازدلاف هو القرب، كما قال تعالى: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:13] يعني: قُرِّبت لأهلها ليدخلوها، فقيل: سميت مزدلفة لقربها من منى، وقيل: لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى فيها بالطاعات والقربات، يعني: يتعبَّدون، وقيل: لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، بعضهم في أول الليل وبعضهم في وسطه بحسب ما يتمكنون، وقيل: لأن آدم اقترب إلى حواء ودنا منها بـالمزدلفة فسميت بذلك.
المهم أن جمعاً هي المزدلفة، فقول ابن عمر رضي الله عنه: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بـجمع -هي المزدلفة - بإقامة لكل واحدة منهما ) لكل واحدة من الصلاتين.
وقوله في حديث جابر وابن عمر : ( ولم يسبح بينهما شيئاً ).
أي: لم يصل الراتبة، فالمقصود بنفي التسبيح أنه لم يصل الراتبة، وذلك أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا كان مسافراً أنه لا يصلي الرواتب إلا راتبة الفجر، أما راتبة الظهر والمغرب والعشاء فإنه كان لا يصليها عليه الصلاة والسلام، بخلاف السنن والنوافل المطلقة كصلاة الضحى وقيام الليل والصلاة بين الأذان والإقامة.. وما أشبه ذلك، فإنه كان يصليها عليه الصلاة والسلام حتى في السفر لا يتركها، إنما السنن والرواتب كان يدعها عليه السلام؛ ولذلك جاء في الصحيح أيضاً -في مسلم وغيره- من حديث ابن عمر: (أنه صلى ثم ذهب إلى خيمته، فنظر حيث صلى فإذا رجال يصلون، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يسبحون -يعني: يتنفلون يصلون الرواتب-، فقال رضي الله عنه: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، فالمقصود بنفي التسبيح في حديث جابر وفي حديث ابن عمر أنه لم يصل الراتبة لا راتبة المغرب ولا راتبة العشاء؛ ولذلك قال: ( لم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما )، يقول ابن عمر -يعني-: لم يسبح سبحة المغرب ولا سبحة العشاء.
ومما يشهد أيضاً لبعض حديث جابر -حديث الباب-؛ مما يشهد له أيضاً ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: ( دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى أتى الشعب فبال، -نزل عليه الصلاة والسلام فبال- وتوضأ وضوءاً خفيفاً غير مسبغ، فقلت: يا رسول الله! الصلاة، قال: الصلاة أمامك، ثم ركب حتى أتى المزدلفة فتوضأ وضوءاً مسبغاً، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقام فصلى ) يعني: العشاء.
فحديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه ودفعه من عرفة إلى مزدلفة، كان رديفه أسامة ؛ فلذلك كان خبيراً بحاله، فذكر: ( أنه نزل في شعب بين عرفة ومزدلفة فقضى حاجته -تبول عليه الصلاة والسلام- وتوضأ وضوءاً خفيفاً )، كأن يكون استجمر واستنجى بالماء، وربما غسل بعض أعضائه كيديه مثلاً، لكن لم يتوضأ وضوءه الشرعي للصلاة، ( فقلت: الصلاة، قال: الصلاة أمامك، فلما أتى مزدلفة توضأ وضوءاً مسبغاً وأقام وصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقام فصلى العشاء )، فهذا حديث أسامة يشترك مع حديث ابن عمر مع حديث جابر في إثبات إقامتين، فيشهد بعضها لبعض في ثبوت ذلك، ولكن يبقى حديث جابر متفرداً في كونه أثبت الأذان للصلاة المجموعة، هذا ما انفرد به حديث جابر لـمسلم.
وبناءً على ذلك فإننا نقول: إن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة يثبت إقامتين، وحديث جابر يثبت أذاناً، في حين أن ابن عمر وأسامة سكتوا عن الأذان فلم ينفوه ولم يثبتوه.
حديث ابن عمر في الجمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة
إما أن يقال: إن قوله: (بإقامة واحدة) فيه اختصار من بعض الرواة ترتب عليه تغيير المعنى؛ ولذلك جاء في رواية أبي داود التي ساقها المصنف بعد أنه قال: ( بإقامة واحدة لكل صلاة )، وهذه الزيادة (لكل صلاة) تقلب المعنى قلباً تاماً، بدلاً من أن تكون الإقامة واحدة للصلاتين أصبحت إقامة لكل صلاة، فيكون حديث ابن عمر هذا موافقاً لحديثه الآخر في البخاري وموافقاً لحديث أسامة وموافقاً لحديث جابر، إذاً: المحمل الأول أن يقال: إن في الحديث اختصاراً وحذفاً، فقوله: (بإقامة واحدة) أي: لكل صلاة.
والاحتمال الثاني: أن يكون قوله هذا رضي الله عنه شاذاً، ويقدَّم عليه ما ثبت في الصحيحين من حديثه ومن حديث غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين.
فيُحمل حديث ابن عمر على أحد هذين المحملين: إما أن يقال بالجمع بينهما، والجمع هو أن نقول: إن حديث ابن عمر فيه اختصار ترتب عليه تغيير المعنى، ومما يوضح هذا الاختصار رواية أبي داود، فإنه قال: ( بإقامة واحدة لكل صلاة )، وحينئذ لا إشكال.
والوجه الثاني: أن يقال بالترجيح، فترجح رواية ابن عمر الأخرى (أنه جمع بينهما بإقامتين) بإقامة لكل واحدة منهما، يعني: بإقامتين، وهذا هو الموافق -كما سلف- لحديث أسامة وحديث جابر وحديث غيرهما. هذا الحديث مخالف لما سبق من حديث جابر، رواية ابن عمر.
حديث ابن مسعود في أمره بالأذان والإقامة لكل صلاة
وحديث ابن مسعود هذا مشكل، من أي جهة يشكل هذا الحديث على ما سبق؟
من جهة أنه أثبت أذانين: أذاناً للمغرب وأذاناً للعشاء، فهو مشكل من هذا الوجه.
ويجاب على حديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً بأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا موقوف عليه، وهذا هو الصحيح، أنه من فعل ابن مسعود واجتهاده وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله في آخر الحديث (رفعه -ما فعل- إلى النبي عليه الصلاة والسلام) فليس مقصوده خصوص فعل الأذانين، إنما مقصوده جمع الصلاتين المغرب والعشاء وكذلك التبكير في صلاة الفجر، فإنه صلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها، يعني: في أول وقتها أول ما بزغ الفجر.
إذاً: الوجه الأول من أوجه الجواب على حديث ابن مسعود أن يقال: إنه موقوف من فعل ابن مسعود رضي الله عنه، وإذا كان من فعله فهل يعارض فعل ابن مسعود بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام؟ الأفعال لا تتعارض، خاصة فعل صحابي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعارض، فنقول: إن فعل ابن مسعود هذا من اجتهاده هو، وإنما رفعه في آخر الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني به عموم ما جرى في مزدلفة من الجمع بين المغرب والعشاء ومن التبكير بصلاة الفجر، وليس مقصوده خصوص الأذان لكل صلاة؛ لأن هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني من أوجه الجواب على حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن يقال: إن ابن مسعود إنما أذن لأنه تعشى بين المغرب والعشاء، تنفل ثم دعا بالعشاء ثم أمر رجلاً فأذن؛ لأن الناس تفرقوا إلى منازلهم ليتعشوا أيضاً، ويتجه حينئذ أن يقال: إن ابن مسعود رضي الله عنه لم يجمع بين الصلاتين بالصورة المعروفة من تعاقبهما بل فصل بينهما بفاصل، وهو أنه صلى راتبة المغرب بعدها ثم تعشى ثم أذن ثم أقام ثم صلى العشاء ركعتين، فيكون أذن من أجل أن الناس تفرقوا وليس لأن هذا الأمر سنة بخصوصه، ونحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام حج بعد بعثته مرة واحدة، أما قبل البعثة فقد حج عليه الصلاة والسلام، كما في حديث جبير بن مطعم قال: ( أضللت بعيراً لي فذهبت أطلبه فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بـعرفة، فقلت: هذا من الحمس فما باله واقفاً هاهنا )، كانت قريش لا تقف بـعرفة، يقولون: نحن أهل الحرم وأهل بيت الله فلا نخرج إلى الحِل، فالناس يقفون وقريش تقف بـالمزدلفة من باب التميز والامتياز عن البشر، المهم أنه عليه الصلاة والسلام حج قبل البعثة، أما بعد البعثة فلم يحج إلا حجة الوداع.
فالقصة واحدة لا إشكال في هذا، وما ورد من تعارض فيما رواه ابن عمر وجابر وابن مسعود وغيرهم فإنه لابد فيه من الجمع والتوفيق؛ لأن الحادثة واحدة، فإذا ثبت -مثلاً- أنه قد ثبت فعلاً أن ابن عمر ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أذانين، وذكر عنه أذاناً، وذكر أنه صلى بدون أذان، وذكر أنه صلى بإقامتين، وذكر أنه صلى بإقامة واحدة، هذا كله جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، فيقال حينئذ: لابد من التوفيق؛ لأن القصة واحدة والحادثة واحدة، فلابد أن يكون حصل وهم من بعض الرواة.
أقوال العلماء في الأذان والإقامة للمغرب والعشاء بمزدلفة
وفي المسألة عدة أقوال أجمعها وأشير إليها باختصار، وأذكرها تسلسلياً حتى يسهل حفظها:
القول الأول: أذانان وإقامتان وأدلته
وقد ذهب الإمام مالك في هذا إلى حديث ابن مسعود، ومثله قال الإمام مالك في عرفة في صلاة الظهر والعصر، فقال: إنه يؤذن أذانين ويقيم إقامتين. قال الإمام مالك : كل شيء إلى الأئمة، فلكل صلاة أذان وإقامة، كل شيء إلى الأئمة، يعني: يترك تنفيذه إلى الإمام إلى السلطان، فلكل صلاة أذان وإقامة، يرى أن الأمر إذا كان متعلقاً بالإمام .. بالحاكم فإنه يؤذن ويقيم للأولى ثم يؤذن ويقيم للثانية.
ولعل من مأخذ الإمام مالك إضافة إلى ما ثبت عن ابن مسعود : ما نقل عن عمر رضي الله عنه، فقد روى عنه الطحاوي بسند جيد -كما يقول ابن حجر، وإن كان ضعفه ابن عبد البر في التمهيد - روى الطحاوي عن عمر: [ أنه فعل مثل ذلك، فصلى المغرب والعشاء بأذانين وإقامتين ]، فيكون ابن مسعود في هذا متابعاً لـعمر، وابن مسعود كثيراً ما يقتدي بـعمر في مسائل الفقه، ابن مسعود رضي الله عنه كان من التلاميذ الذين استفادوا من فقه الإمام العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو يوافقه في كثير من المسائل ومنها هذه؛ ولذلك ذهب إليها الإمام مالك وإن كان لم يرو هذه الرواية في موطئه.
وقد رجح بعضهم هذا القول من حيث النظر ومن حيث المعنى، قالوا: لأن الصلاتين المجموعتين في وقت إحداهما كأنهما في حكم صلاة واحدة، وليست إحداهما بأولى بالأذان والإقامة من الأخرى؛ ولذلك يؤذن ويقيم في كل منهما.
كما أنهم قالوا: إن وقتهما واحد، الصلاتان المجموعتان، والصلاة إذا أُدِّيت في وقتها فلابد فيها من أذان ولابد فيهما من إقامة، فالصلاتان المجموعتان في وقت إحداهما يعتبر الوقت لهما جميعاً.
هذا المذهب الأول وهو مذهب مالك، فيه أذانان وإقامتان.
القول الثاني: أذان واحد وإقامتان
وحجتهم في ذلك ظاهرة، وهي: حديث جابر، حديث الباب حيث أثبت فيه أذاناً وأثبت فيه إقامتين.
وكذلك يحتجون بأمر آخر: وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـعرفة، فإن الرواية لم تختلف: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بـعرفة أذن أذاناً واحداً للظهر والعصر وأقام لكل صلاة منهما إقامة )، ذكر ذلك الطحاوي وابن القيم أن الرواية لم تختلف في صلاته صلى الله عليه وسلم بـنمرة الظهر والعصر، أنها كانت بأذان واحد وإقامتين، فقالوا: لو لم يثبت في مزدلفة شيء، أو قلنا: إن الروايات في مزدلفة متضاربة فترد جميعاً ونرجع إلى عرفة، فنقيس مزدلفة عليها ونقول: يجمع المغرب والعشاء في مزدلفة بأذان واحد وإقامتين كما جمع الظهر والعصر بـنمرة بأذان واحد وإقامتين.
ومن حججهم في ذلك أيضاً: قالوا: إن الأذان يقصد به دعاء الناس إلى الصلاة والإخبار بحضورها، فإذا كانت الصلاتان ستصليان معاً فإن الأذان يكفي عنهما أذان واحد، أما الإقامة فإن المقصود بها الدعوة إلى القيام لأداء الصلاة، وهذا لا يغني فيه صلاة عن صلاة، فلا بد من إقامة لكل صلاة، فذهبوا من حيث النظر إلى أن المقصود من الأذان النداء والدعاء إلى الصلاة، ويكفي الدعاء الأول؛ لأن الناس سيأتون ويحضرون ليؤدوا الصلاة الأولى صلاة المغرب -مثلاً- ويؤدوا بعدها العشاء مباشرة دون حاجة إلى نداء آخر، وما الداعي لأن يُنادى الناس وهم مجتمعون في المسجد حاضرون.
هذه بعض أدلتهم من حيث الأثر ومن حيث النظر.
القول الثالث: أذان واحد وإقامة واحدة
استدلوا بحديث ابن عمرالذي سبق أن ذكرته وأشار إليه المصنف فيما بعد: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة )، فقالوا: حديث ابن عمر لم يذكر الأذان ولم يذكر إلا إقامة واحدة، فالأذان يفهم من نصوص أخرى كحديث جابر وغيره وحديث ابن مسعود أيضاً، وأما الإقامة فنفهم أن ابن عمر نص على أنها واحدة فقط وليست إقامتين؛ ولذلك قالوا: إنه يؤذن مرة واحدة ويقيم مرة واحدة.
وأما ما ورد عن عمر وابن مسعود من ذلك فإن الأحناف يحملونه على ما سبق أن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما فصلا بين المغرب والعشاء بفاصل طويل، فتحتاج إلى النداء الثاني حتى يدعو الناس إلى الصلاة.
القول الرابع: إقامتان دون أذان وأدلته
واستدلوا بما سبق، مثل حديث أسامة بن زيد في الصحيحين حيث قال: ( أقام فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره ثم أقام فصلى العشاء )، ولم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك.
ومثله رواية عن ابن عمر في حديثه، فمثلاً قوله: ( بإقامة لكل واحدة منهما )، رواية أبي داود : ( بإقامة لكل واحدة منهما أو لكل صلاة )، هذا يدل على أنه جمع بينهما بإقامتين دون أن يذكر الأذان، فقال هؤلاء: لا داعي للأذان إنما يقيم لكل صلاة.
ومما عزز به هؤلاء قولهم: إنه ورد في رواية عند أبي داود -أشار إليها المصنف وذكرها الشافعي أيضاً- أنه قال: ( ولم يناد في واحدة منهما ) يعني: لم يؤذن لا للمغرب ولا للعشاء، فقالوا: هذا دليل على أنه لا يؤذن لهما وإنما يُقام لكل صلاة.
القول الخامس: إقامة واحدة دون أذان وأدلته
وهذا المذهب ذكره ابن عبد البر في التمهيد ولم يعزه لأحد بعينه، ومما يشهد لهذا القول حديث ابن عمر برواية مسلم، فإنه قال: ( جمع بينهما بإقامة واحدة )، قالوا: وظاهر الحديث يدل على أنه أقام مرة واحدة ولم يذكر لا أذاناً ولا إقامة أخرى.
القول السادس: اعتبار أن الروايات في ذلك من اختلاف التنوع
الراجح في المسألة
والأصح ما جاء في حديث جابر، نرجحه من وجوه عديدة:
أولها: أن جابراً هو أضبط من روى صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سرد وساق هذه الحجة أحسن وأتم من ساق كما قال ابن عبد البر، حتى إن جابراً رضي الله عنه ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ثم تفاصيل حجته حتى رجوعه إلى المدينة في حديث طويل، فهذا يدل على ضبط جابر رضي الله عنه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم.
المرجح الثاني: أنه أيد جابراً في ذكر الإقامتين روايتان عن ابن عمر وأسامة بن زيد رضي الله عنهما.
المرجح الثالث: أن الرواية لم تضطرب عن جابر في ذلك، على أن رواية الباقين قد اضطربت، فـابن عمر -مثلاً- اضطربت عنه الرواية رضي الله عنه ما بين إثبات الأذان ونفيه وإثبات الإقامتين ونفي إحداهما، نقل عنه وجوه عديدة وكلها صحيحة، مما دل على الاضطراب في ذلك.
المرجح الرابع: أن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أثبت الإقامتين، ومن المعلوم أن أسامة كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- من عرفة إلى مزدلفة، وما دام أنه رديفه على دابته على بعيره أو على ناقته فمعنى ذلك: أنه كان من أكثر الناس معرفة ودراية بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بـمزدلفة .
إضافة إلى المرجحات المعنوية التي سبق ذكرها ضمن أدلة القول الثاني الذي يقول بأذان واحد وإقامتين.
ولذلك فالراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين.
الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صلى المغرب والعشاء بـالمزدلفة جمعاً، وأذن للأولى وأقام لكل واحدة منهما، فالأذان واحد ولكن بإقامتين، وهذا المعنى الذي دل عليه حديث جابر رضي الله عنه وجد ما يشهد لبعضه: ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بـجمع بين المغرب والعشاء كل واحدة بإقامة ولم يسبح بينهما شيئاً )، فـابن عمر أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، وأثبت الإقامة لكل واحدة من المغرب والعشاء، وأثبت أنه لم يسبح بينهما، وهذا أيضاً ثابت في حديث جابر، فإن مسلماً رواه بلفظ: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً )، وهذا ضمن حديث جابر، فوافقه ابن عمر رضي الله عنه في روايته في صحيح البخاري على الجمع وعلى الإقامتين وعلى أنه لم يسبح بينهما شيئاً.
وقوله رضي الله عنه: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بـجمع )، ما المقصود بجمع؟
جمع هي المزدلفة؛ وسميت جمعاً إما لأن الناس يجتمعون فيها، أو لأنهم يجمعون بين الصلاتين المغرب والعشاء فيها، أو لأن آدم اجتمع مع حواء فيها كما تقول بعض الروايات الإسرائيلية.
و سميت المزدلفة أيضاً إما لأنها تقرب إلى منى، فهي أقرب إلى منى من عرفة، فالناس يقتربون إلى منى حين يدفعون من عرفة إلى المزدلفة، والازدلاف هو القرب، كما قال تعالى: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:13] يعني: قُرِّبت لأهلها ليدخلوها، فقيل: سميت مزدلفة لقربها من منى، وقيل: لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى فيها بالطاعات والقربات، يعني: يتعبَّدون، وقيل: لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، بعضهم في أول الليل وبعضهم في وسطه بحسب ما يتمكنون، وقيل: لأن آدم اقترب إلى حواء ودنا منها بـالمزدلفة فسميت بذلك.
المهم أن جمعاً هي المزدلفة، فقول ابن عمر رضي الله عنه: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بـجمع -هي المزدلفة - بإقامة لكل واحدة منهما ) لكل واحدة من الصلاتين.
وقوله في حديث جابر وابن عمر : ( ولم يسبح بينهما شيئاً ).
أي: لم يصل الراتبة، فالمقصود بنفي التسبيح أنه لم يصل الراتبة، وذلك أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا كان مسافراً أنه لا يصلي الرواتب إلا راتبة الفجر، أما راتبة الظهر والمغرب والعشاء فإنه كان لا يصليها عليه الصلاة والسلام، بخلاف السنن والنوافل المطلقة كصلاة الضحى وقيام الليل والصلاة بين الأذان والإقامة.. وما أشبه ذلك، فإنه كان يصليها عليه الصلاة والسلام حتى في السفر لا يتركها، إنما السنن والرواتب كان يدعها عليه السلام؛ ولذلك جاء في الصحيح أيضاً -في مسلم وغيره- من حديث ابن عمر: (أنه صلى ثم ذهب إلى خيمته، فنظر حيث صلى فإذا رجال يصلون، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يسبحون -يعني: يتنفلون يصلون الرواتب-، فقال رضي الله عنه: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، فالمقصود بنفي التسبيح في حديث جابر وفي حديث ابن عمر أنه لم يصل الراتبة لا راتبة المغرب ولا راتبة العشاء؛ ولذلك قال: ( لم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما )، يقول ابن عمر -يعني-: لم يسبح سبحة المغرب ولا سبحة العشاء.
ومما يشهد أيضاً لبعض حديث جابر -حديث الباب-؛ مما يشهد له أيضاً ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: ( دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى أتى الشعب فبال، -نزل عليه الصلاة والسلام فبال- وتوضأ وضوءاً خفيفاً غير مسبغ، فقلت: يا رسول الله! الصلاة، قال: الصلاة أمامك، ثم ركب حتى أتى المزدلفة فتوضأ وضوءاً مسبغاً، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقام فصلى ) يعني: العشاء.
فحديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه ودفعه من عرفة إلى مزدلفة، كان رديفه أسامة ؛ فلذلك كان خبيراً بحاله، فذكر: ( أنه نزل في شعب بين عرفة ومزدلفة فقضى حاجته -تبول عليه الصلاة والسلام- وتوضأ وضوءاً خفيفاً )، كأن يكون استجمر واستنجى بالماء، وربما غسل بعض أعضائه كيديه مثلاً، لكن لم يتوضأ وضوءه الشرعي للصلاة، ( فقلت: الصلاة، قال: الصلاة أمامك، فلما أتى مزدلفة توضأ وضوءاً مسبغاً وأقام وصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقام فصلى العشاء )، فهذا حديث أسامة يشترك مع حديث ابن عمر مع حديث جابر في إثبات إقامتين، فيشهد بعضها لبعض في ثبوت ذلك، ولكن يبقى حديث جابر متفرداً في كونه أثبت الأذان للصلاة المجموعة، هذا ما انفرد به حديث جابر لـمسلم.
وبناءً على ذلك فإننا نقول: إن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة يثبت إقامتين، وحديث جابر يثبت أذاناً، في حين أن ابن عمر وأسامة سكتوا عن الأذان فلم ينفوه ولم يثبتوه.
لكن ينبغي أن نعلم أنه وردت رواية أخرى قد تختلف مع هذه الروايات في حكاية ما حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، لكن ما سبق هو الأصح، أصح وأجود وأثبت وأوثق، ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وقد ورد ما يخالف هذا، فمما ورد ما يخالف هذا؛ ما رواه مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة ) فعله ابن عمر، وذكر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله بـالمزدلفة )، فهذا يخالف ما سبق، وهذه الرواية عن ابن عمر لابد لها من أحد أجوبة:
إما أن يقال: إن قوله: (بإقامة واحدة) فيه اختصار من بعض الرواة ترتب عليه تغيير المعنى؛ ولذلك جاء في رواية أبي داود التي ساقها المصنف بعد أنه قال: ( بإقامة واحدة لكل صلاة )، وهذه الزيادة (لكل صلاة) تقلب المعنى قلباً تاماً، بدلاً من أن تكون الإقامة واحدة للصلاتين أصبحت إقامة لكل صلاة، فيكون حديث ابن عمر هذا موافقاً لحديثه الآخر في البخاري وموافقاً لحديث أسامة وموافقاً لحديث جابر، إذاً: المحمل الأول أن يقال: إن في الحديث اختصاراً وحذفاً، فقوله: (بإقامة واحدة) أي: لكل صلاة.
والاحتمال الثاني: أن يكون قوله هذا رضي الله عنه شاذاً، ويقدَّم عليه ما ثبت في الصحيحين من حديثه ومن حديث غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين.
فيُحمل حديث ابن عمر على أحد هذين المحملين: إما أن يقال بالجمع بينهما، والجمع هو أن نقول: إن حديث ابن عمر فيه اختصار ترتب عليه تغيير المعنى، ومما يوضح هذا الاختصار رواية أبي داود، فإنه قال: ( بإقامة واحدة لكل صلاة )، وحينئذ لا إشكال.
والوجه الثاني: أن يقال بالترجيح، فترجح رواية ابن عمر الأخرى (أنه جمع بينهما بإقامتين) بإقامة لكل واحدة منهما، يعني: بإقامتين، وهذا هو الموافق -كما سلف- لحديث أسامة وحديث جابر وحديث غيرهما. هذا الحديث مخالف لما سبق من حديث جابر، رواية ابن عمر.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4784 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4021 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |