تفسير سورة النساء [94]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94]. في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى كفارة القتل الخطأ، ثم بين حكم القتل العمد، ثم هنا يحذر تبارك وتعالى عما يؤدي إلى القتل العمد، فإذا كانت الآية الكريمة قد تناولت القتل العمد، فهنا بيان لأمر يؤدي إلى القتل العمد، وهو عدم الاكتراث وقلة المبالاة وعدم التحرز في الأمور التي تؤدي إلى وقوع هذا القتل العمد. ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم)) يعني: إذا ذهبتم. ((في سبيل الله)) يعني: مجاهدين في سبيل الله إلى أرض العدو. ((فتبينوا)) يعني: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ولا روية. ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبين، فبعدما حثنا الله عز وجل على التبين والتثبت وعدم التعجل في الأمور، عين مادة مهمة وموضعاً مهماً من المواضع التي يتأكد فيها التبين والتثبت والاهتمام، وهي: (( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )) يعني: لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الإسلام: لست مؤمناً في الباطن، وإنا لن نقبل ظاهرك؛ لأن باطنك يخالفه، وإنما قلت ذلك باللسان لتطلب الأمان من القتل فقط. فيقول الله تبارك وتعالى: من انقاد لدعوتكم وأعلن ذلك بقوله: لا إله إلا الله، أو قال لكم: السلام عليكم، لا تقولوا له: لست مؤمناً في الباطن، وإن أظهرت لنا هذا في الظاهر لتتقي به أو لتطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه، يعني: إذا كنت ترى المسلم يقاتل الكفار وظل يطارد رجلاً من الكفار ثم في النهاية حصره المسلم في مكان ورفع السيف ليقتله فقال الكافر: لا إله إلا الله، في هذه الحالة يجب عليه أن يكف عن قتله، حتى لو كان الظاهر أنه إنما قال ذلك ليلوذ بالكلمة ليحقن بها دمه، ما دام قالها فيجب الكف عن قتله. ((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) يعني: تطلبون بقتله عرض الحياة الدنيا كالمال الذي معه كغنيمة، وهذا العرض من أعراض الحياة الدنيا هو سريع النفاد وجملة ((تبتغون)) حال من فاعل ((لا تقولوا)) فهي منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني، ((تبتغون)) يعني: والحال أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا. ((فعند الله مغانم كثيرة)) تعليل للنهي عن أخذ ماله لما فيه من الوعد الضمني يعني: كأنه قيل: لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ويغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه. ((كذلك كنتم من قبل)) هذا تعليل للنهي عن القول المذكور، فيعلل الله سبحانه وتعالى هذا النهي الذي أتى في هذه الآية عن أن نقول للرجل الذي يظهر الإسلام أو شعيرة من شعائر الإسلام: لست مؤمناً، يقول تعالى: ((كذلك)) يعني: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بل اقبلوا ظاهره وكلوا سريرته إلى الله؛ فإنكم كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم. ((فتبينوا)) أي: كنتم مثل هذا الرجل الذي ألقى إليكم السلام في أول إسلامكم، ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها. ((فمن الله عليكم)) بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم. والفاء في قوله: ((فتبينوا)) فصيحة، يعني: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم، فهذه المرحلة أنتم أنفسكم مررتم بها من قبل، وما كان يظهر منكم إلا مثلما ظهر من هذا الرجل من شعائر الإسلام، فقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فُعِلَ بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على الباطن، فنحن البشر حينما يتعامل بعضنا مع بعض إنما نقف عند حد الظاهر، أما البواطن وما في القلوب فهذا ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه. كل أحكام الدنيا إنما تبنى على ما يظهره الناس بعضهم لبعض، أما تواطؤ الظاهر والباطن فهذا لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى. ((إن الله كان بما تعملون خبيراً)) يعني: فلا تتهاونوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)

قال ابن كثير في سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب الحديث المعروف عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، وروى البخاري عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك هذه الآية). وقال البخاري : قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : (إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل) هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً. إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه خوفاً من الكفار؛ لأنه يعيش بينهم، فلما أتى المسلمون ليغيروا على هؤلاء الكفار أراد أن يعلم إخوانه أنه ليس مع هؤلاء الكفار وإنما هو مسلم مثلهم، فيبادر ويعاجل بإظهار شعيرة من شعائر الإسلام كأن يقول: السلام عليكم، التي هي تحية المسلمين، أو أن يقول: لا إله إلا الله، أو يعتصم بالركوع أو السجود أو غير ذلك مما يظهره من شعائر الإسلام، فإذا أظهر إيمانه فما قبلت ظاهره وقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل، ألم تمر أنت بنفس المرحلة، مرحلة الاستضعاف في مكة وكنت تستخفي بإيمانك؟ فهذا ما رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس مرفوعاً. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح المكان، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد ، فقال: يا مقداد ! أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟! قال: فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل). وقوله: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم)) أي: قد كنتم من قبل في هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. وقال ابن أبي حاتم : إن أسامة أقسم ألا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل الذي سبق الإشارة إليه، حيث قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وكيف اشتد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإنكار على أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فأسند ابن أبي حاتم : (أن أسامة حلف لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وبعد ما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العتاب والتوبيخ في قتل هذا الرجل). يقول: قال بعض المفسرين: وبهذا القسم واليمين الذي حلفه اعتذر إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه حين تخلف عن المشاركة مع علي في قتال معاوية وجيشه قال: (إني حلفت ألا أقتل أحداً يقول: لا إله إلا الله) وبعض العلماء يقول: وإن كان عذراً غير مقبول؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة، وكان عليه أن يكفر عن يمينه. قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له لما ذكر له هذا القسم.

المقصود من قوله تعالى: (يأ أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ...)

قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه؛ لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف. وفي (الإكليل) استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة السلام إذا قرأناها: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم). وفي الآية وجوب التثبت في الأمور خصوصاً القتل. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري : في الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة. وأما على قراءة السلم: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) السلم المراد به: الانقياد، والانقياد علامة من علامات الإسلام.

ثمرة الآية الكريمة وفوائدها وأحكامها

قال بعض المفسرين أيضاً: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة؛ لقوله: ((فتبينوا)) وهذه قراءة الأكثر بالنون، وقراءة حمزة والكسائي : (فتثبتوا) أي: هي من الثبات، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأحكام وسائر الأعمال. الحكم الأول: وجوب التثبت والتأني، وعدم العجلة في الأمور. الحكم الثاني: أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئاً من شعائر الإسلام لا يكذب، بل يقبل منه، ويدخل في هذا الملحد والمنافق، وهذا هو مذهب كثير من العلماء، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد خلافاً لـأحمد ، وقبول توبة الزنديق وهذا قول عامة الأئمة. وقال مالك : لا تقبل؛ لأن عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون. أيضاً تدل هذه الآية على أن التوصل للسبب المحرم من المال لا يجوز، وقد ذكر العلماء صوراً مختلفة في التوصل إلى المباح بالمحظور، والمقصود بذلك قوله: ((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) هذا هو محل الشاهد لهذا المعنى المذكور، وإظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فالقتل توصل بمحظور إلى محظور. وقوله تعالى: ((لمن ألقى إليكم السلام)) أو السلم ((لست مؤمناً)) السلم هو: الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقيل: السلام بالألف بمعنى: التحية. قال أبو منصور : فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة والنهي عن الإقدام عندها، وكذلك الواجب على المؤمن التثبت عند الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: (( فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )) وقال في الخبر: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فأمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة كما أمر في الأفعال حيث قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]. وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لمن قال أنه مسلم: لست مؤمناً ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، فهم يعاندون القرآن الكريم، مع أن من يقصدونه لا يقول: إني مسلم، مرة واحدة كحال هذا الذي تكلمت عنه الآية، لكنه يقولها ألف مرة. فإذا نهى أن يقولوا: لست بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: أنت مؤمن، فيقال لهم: أأنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك.

حقيقة بدعة التوقف والتبين وآثارها وحكمها

هذه الآية تعتبر عمدة رائد الخوارج المعاصرين شكري مصطفى صاحب بدعة التوقف والتبين، فإنه لسوء فهمه وتحريف معاني كلام الله سبحانه وتعالى بنى مذهبه على فهمه الضال لهذه الآية الكريمة وأخواتها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث ليستدل به على ما ذهب إليه، إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه. فكل إنسان مبتدع أو ضال يستدل بآية من القرآن أو بحديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليؤكد به بدعته وضلالته، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفس هذا الدليل رد عليه وإبطال نفس هذه البدعة، ونظائر ذلك كثير جداً. فهو إذاً أتى ببدعة التوقف والتبين، وخلط خلطاً عجيباً في الكلام في هذا الموضوع، فهو يقول: إن الناس الآن اختلط بعضهم ببعض وهم مشتركون في المظهر، هذا يسلم وهذا يسلم.. هذا يصلي وذاك يصلي، لكن حقيقة ما في باطن هؤلاء الناس وموقفهم الحقيقي من التوحيد ومن الإسلام يحتاج للاختبار والتبين، فنحن نتوقف عن الحكم بإسلام الشخص مهما أظهر من شعائر الإسلام في هذا المجتمع إلى أن نتبين هل هو مسلم أم غير مسلم؟! ووضع حداً وسماه: الحد الأدنى للإسلام، واعتبر الحد الأدنى للإسلام إقامة الفرائض، وخلط في ذلك خلطاً شديداً، وكان يكثر من ضرب المثل بالحرير الصناعي والحرير الطبيعي مبيناً أن الاثنين في الظاهر ملمسهما واحد لكن في الحقيقة هذا يختلف عن هذا. وهل من العقل أن الإنسان إذا أراد أن يقارن شيئاً بشيء فإنه يأتي بأوجه الشبه؟ لا، حتى الذي يدرس أي علم من العلوم ويعمل مقارنة بين شيئين، فإنه في هذه المقارنة يذكر وجوه الافتراق لا وجوه الشبه، كذلك أنت عندما تأتي لتفرق بين المسلم والكافر أتقول: هذا يصلي وهذا يصلي، وهذا يصوم وهذا يصوم، وغير ذلك من شعائر الإسلام بزعمه؟! لا، وإنما لما تأتي تقارن تأتي بوجوه الافتراق وليس بوجوه الاتفاق، فالمسلم يقول: لا إله إلا الله، والكافر لا يقول: لا إله إلا الله.. المسلم يلقي السلام.. المسلم يصلي.. المسلم يزكي، وهكذا، والكافر لا يفعل هذه الأشياء!! أما هذا فجعل كل الناس في المجتمع الأصل فيهم أنهم كفرة مهما أظهروا من الإسلام. وخطورة هذه البدعة لم تقف عند حد الترف الفكري، وإنما انتقلت إلى ما هو أكبر وهو التطبيق العملي، واستحلال دماء المخالفين بصورة بشعة جداً، تماماً كما كانت صفة الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. فهنا في نفس هذه الآية ما يدل على بطلان ما ذهبوا إليه: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )) فيفهم من الآية أن نثبت له صفة الإيمان وأحكام الإيمان. ثم انظر إلى قوله تعالى: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا)) أي: كنتم مستضعفين قبل ذلك وتكتمون إيمانكم أيضاً، أليس هذا كله في حق المؤمنين، أم في حق الكافرين؟! في الحقيقة الكلام يطول في هذا وأعتقد أننا قد غطينا قضية التوقف والتبين من قبل في سلسلة بحوث الكفر والإيمان. فليس هناك شيء في الإسلام أن مسلماً ما متوقف في وصفه بأنه مسلم أو غير مسلم.