أرشيف المقالات

شرح حديث: رأى عبدالرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
شرح حديث: رأى عبدالرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبدالرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مهيم؟" فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، فقال: "ما أصدقتها؟"، قال: وزن نواة من ذهب، قال: "بارك الله لك، أولم ولو بشاة".
 
قوله: (عن أنس) في رواية عن حميد أنه سمع أنسًا، قال سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار كم أصدقتها، قال وزن نواة من ذهب، وعن حميد سمعت أنسًا قال: لَما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار، فنزل عبدالرحمن بن عوف على سعد بن الربيع، فقال: أقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتي، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، فخرج إلى السوق فباع واشترى، فأصاب شيئًا من أقط وسمن، فتزوج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوْلِمْ ولو بشاة"، وفي رواية: ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فأطلِّقها فإذا حلَّت تزوَّجها.
 
قوله: (وعليه ردع زعفران)، في رواية: ثم تابع الغدو يعني إلى السوق، ثم جاء وعليه وضر صفرة، وعند أحمد وعليه وضر من خلوق، وفي رواية: فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاشة العرس.
 
قال الحافظ: والردع هو أثر الزعفران، والمراد بالصفرة صفرة الخلوق، والخلوق طيب يصنع من زعفران وغيره[1].
 
قوله: "مهيمْ" أي: ما شأنك، أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون.
 
قال الحافظ: ووقع في رواية للطبراني في الأوسط، فقال له: مهيم، وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء، قوله: فقال: "ما أصدَقتها"، في رواية: ما سقت إليها، قوله: "وزن نواة من ذهب"، وفي رواية: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب بالشك، قيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل: كان قدرها يومئذ ربع دينار، وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق في رواية للبيهقي: وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم، وقال الشافعي: النواة ربع النش، والنش نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، فيكون خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية.
 
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة).
 
قال الحافظ: (ليست لو هذه الامتناعية، وإنما هي التي للتقليل انتهى، وفي آخر الحديث قال عبدالرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا أو فضة.
 
قال الحافظ: فكأنه قال ذلك إشارة إلى إجابة الدعوة النبوية بأن يبارك الله له، وفي رواية معمر عن ثابت، قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف، وفي الحديث دليل على توكيد أمر الوليمة؛ قال عياض: وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسَّر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حال الزوج.
 
قال الحافظ: وفي الحديث منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر، ولعبدالرحمن بن عوف في تنزهه عن شيء يستلزم الحياء والمروءة اجتنابه، ولو كان محتاجًا إليه، وفيه استحباب المؤاخاة، وحسن الإيثار من الغني للفقير، حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رد مثل ذلك على من آثر به لِما يغلب في العادة من تكلُّف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز، وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عوَّضه الله خيرًا منه، وفيه استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله، وكراهة قبول ما يتوقع منه الذل من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة أو حركة، أَولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها، وفيه استحباب الدعاء للمتزوج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد، وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره، واستدل به على جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال[2]؛ انتهى.
 

تتمة:
قال البخاري: باب ضرب الدف في النكاح والوليمة، حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد بن ذكوان قال: قالت الربع بنت معوذ بن عفراء: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل حين بنى علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر؛ إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين[3].
 
قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة، أو عند الأمن من الفتنة.
 
قال الحافظ: قوله: فقال: دعي هذه؛ أي: اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنع عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة: لا يعلم ما في غد إلا الله، فأشار إلى علة المنع، قوله: وقولي بالذي كنت تقولين، فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرئية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهنَّ يغنين، وأهدى لها كبشًا تنحنح في المربد، وزوجك في البادي، وتعلم ما في غد، فقال: لا يعلم ما في غد إلا الله، قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العرس، وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح، وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه.
 
قال الحافظ: وسياق القصة يشعر بأنهما لو استمرتا على المرائي لم ينههما، قال: وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء؛ حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص بالله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]، وقوله لنبيه: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾ [الأعراف: 188]، وسائر ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر به من الغيوب بإعلام الله تعالى إياه، لا أنه يستقل بعلم ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27][4]؛ انتهي.
 
وقال البخاري أيضًا: باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، ودعائهن بالبركة، حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إسرائيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو[5].
قال الحافظ: وقوله: ما كان معكم لهو، في رواية شريك: فقال فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني، قلت: تقول ماذا قال، تقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم، قال: وفي حديث جابر عند المحاملي أدركتها يا زينب امرأة كانت تغني بالمدينة، قال: وأخرج النسائي من طريق عامر بن سعد عن قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاريين قال: إنه رخص لنا في اللهو عند العرس؛ الحديث، وصحَّحه الحاكم.
 
وللطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل له: أترخِّص في هذا، قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، اشهدوا النكاح، وفي حديث عبدالله بن الزبير عند أحمد وصحَّحه ابن حبان والحاكم: أعلنوا النكاح؛ زاد الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة: واضربوا عليه بالدف، وسنده ضعيف، ولأحمد والترمذي والنسائي من حديث محمد بن حاطب فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف، واستدل بقوله: واضربوا على أن ذلك لا يختص بالنساء، لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال؛ لعموم النهي عن التشبه بهن)
[6]؛ انتهى.
 
وقال البخاري أيضًا: باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، حدثنا عبدالرحمن بن المبارك، حدثنا عبدالوارث، حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك به، قال أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساء وصبيانًا مقبلين من عرس، فقام ممتنًّا، فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ[7].
 
قال الحافظ: قوله: فقام ممتنًّا؛ أي قام قيامًا قويًّا مأخوذ من المنة بضم الميم، وهي القوة؛ أي: قام إليهم مسرعًا ممتدًّا في ذلك فرحًا بهم[8]؛ انتهى.
 
وقال البخاري أيضًا: باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة، ورأى ابن مسعود صورة في البيت، فرجع ودعا ابن عمر أبا أيوب، فرأى في البيت سترًا على الجدار، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعامًا فرجع.
 
حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب، فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بال هذه النمرقة، قالت: فقلت: اشتريتها لك؛ لتقعد عليها وتوسَّدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة[9].
 
قال الحافظ: (قال ابن بطال: فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه، لما في ذلك من إظهار الرضا بها، ونقل مذاهب القدماء في ذلك، وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله، فلا بأس، وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه، فلا يخفى الورع، ومما يؤكد ذلك ما وقع في قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة في دخول البيت الذي سترت جدره، ولو كان حرامًا ما قعد الذين قعدوا، ولا فعله ابن عمر، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعًا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة)[10]؛ انتهى.
 
وقال البخاري أيضًا: باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، قال: حدثني أبو حازم عن سهل، قال: لما عرس أبو أسعد الساعدي دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فما صنع لهم طعامًا، ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد بلَّت تمرات في صور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطعام أماثته له، فسقته تتحفه بذلك[11].
 
قال الحافظ: (وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها، ومن يدعوه ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك، وشرب ما لا يسكر في الوليمة، وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه)[12]؛ انتهى.
 
عن خالد بن دريك عن عائشة "أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفَّيه"؛ رواه أبو داود، وقال: هذا مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة.
 
قال الشوكاني: فيه دليل لمن قال أنه يجوز نظر الأجنبية، قال ابن رسلان: وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة، فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجنَ سافرات الوجوه، ولا سيما عند كثرة الفساق، وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يلزمها ستر وجهها في طريقها وعلى الرجال غض البصر للآية[13]؛ انتهى.
 
وعن عمرو بن يحيى المازني عن جده أبي حسن "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف، ويقال: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نُحييكم"؛ رواه عبدالله بن أحمد في المسند، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادمًا أو دابة، فليأخذ بناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبَلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه"؛ رواه ابن ماجه وأبو داود بمعناه، وعن معاوية أنه قال: وتناول قصة من شعر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن مثل هذه، ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم"؛ متفق عليه، وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريسًا، وأنه أصابها حصبة، فتمزِّق شعرها، أفأصله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الواصلة والمستوصلة"؛ متفق عليه.
 

تتمة:
قال في الاختيارات: ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول، والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يهجر، وأعدل الأقوال أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل، فالأكل أفضل وإن لم ينكسر قلبه، فإتمام الصوم أفضل، ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع، فإن كلا الأمرين جائز، فإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسدُ أن يمتنع، فإن فِطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزمًا لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبًا، قال: ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى، ونقله مهنأ عن أحمد، وبيعه لهم فيه، ويخرج من رواية منصوصة عن الإمام أحمد في منع التجارة إلى دار الحرب إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب، وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه، ويحرم بيعهم ما يعلمونه كنيسة أو مثالًا، ونحو ذلك، وكل ما فيه تخصيص لعيدهم، أو ما هو بمنزلته.
 
قال أبو العباس: لا أعلم خلافًا أنه من التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا، وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، ولَما صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء من شعارهم، حَرُم لُبسها، قال: والخلاف في كسوة الحيطان إذا لم تكن حريرًا أو ذهبًا، فأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال، والحيطان والأثواب التي تختص بالمرأة ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر؛ إذ ليس هو بين اللباس، ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير، ولا سيما إن كانت خزًّا أو مغصوبة، ورخص أبو محمد ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد، ومقتضى كلام القاضي المنع لإطلاقه على مقتضى كلام الإمام أحمد، ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة، لوجود إغلاق غيرها من أبواب ونحوها، وكذلك الستور في الدهليز لغير حاجة، فإن ما زاد على الحاجة فهو سرف، وهل يرتقي إلى التحريم؟ فيه نظر، قال المروزي: سألت أبا عبدالله عن الجوز ينثر فكرهه، وقال: يعطون أو يقسم عليهم، وقال في رواية إسحاق بن هانئ: لا يعجبني انتهاب الجوز إلا أن يأكل منه، والسكر كذلك؛ قال القاضي: يُكره الأكل التقاطه من النثار، سواء أخذه، أو أخذه ممن أخَذه، وقول الأمام أحمد: هذه نهبة تقتضي التحريم، وهو قوي، وأما الرخصة المحضة، فتبعد جدًّا ويُكره الأكل والشرب قائمًا لغير حاجة، ويكره القرآن فيما جرت العادة بتناوله إفرادًا، واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يًتخم، هل يكره أو يَحرم، وجزم أبو العباس في موضع آخر بتحريم الإسراف، وفسر بمجاوزة الحد، وإذا قال عند الأكل: بسم الله الرحمن الرحيم، كان حسنًا، فإنه أكمل بخلاف الذبح، فإنه قد قيل: إن ذلك لا يناسب، ويشكل الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحرزه عنه[14]؛ انتهى والله أعلم.
 

فصل:
وقال في الاختيارات أيضًا: ولو عضلها لتفتدي نفسها منه، ولم تكن تزني، حرمت عليه، قال ابن عقيل: العوض مردود والزوجة بائن.
 
قال أبو العباس: وله وجه حسن، ووجه قوي إذا قلنا: الخلع يصح بلا عوض، فإنه بمنزلة من خلع على مغصوب أو خنزير ونحوه، وتخريج الروايتين هنا قوي جدًّا وخلع الحبلى لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل؛ لأنه ليس المقصود به القربة، وإنما يقصد به بقاء المرأة تبع زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل وطئها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به بعض مقصوده، وإذا لم يصح لم تبن به الزوجة، ويجوز الخلع عند الأئمة الأربعة، والجمهور من الأجنبي، فيجوز أن يختلعها كما يجوز أن يفتدي الأسير، وكما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيدها العبد عوضًا لعِتقه، ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطًا بما إذا كان قصده تخليصها من رِقِّ الزوج لمصلحتها في ذلك، قال: وفي معنى الخلع من الأجنبي العفو عن القصاص وغيره على مال من الأجنبي؛ كما ذكره الفقهاء في الغارم لإصلاح ذات البين، يضمن لكل من الطرفين مالًا من عنده، والتحقيق أنه يصح ممن يصح طلاقه بالملك أو الوكالة والولاية؛ كالحاكم في الشقاق، وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء والعنة، أو الإعسار أو غيرها من المواضع التي يَملِك الحاكم الفرقة؛ لأن العبد والسفيه يصح طلاقهما بلا عوض، فبالعوض أولى، قال: والأظهر أن المرأة إذا كانت تحت حجر الأب أن له أن يخالع بمالها إذا كان لها فيه مصلحة، ويوافق ذلك بعض الروايات عن مالك، وتخرج أصول لأحمد، والخلع بعوض فسخ بأي لفظ كان، ولو وقع بصريح الطلاق، وليس من الطلاق الثلاث، وهذا هو المنقول عن عبدالله بن عباس وأصحابه، وعن الإمام أحمد وقدماء أصحابه، لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد بن حنبل، ولا قدماء أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ، لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، قال عبدالله: رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس، وابن عباس صح عنه أنه كل ما أجازه المال فليس بطلاق، والذي يقتضيه القياس أنهما إذا طلقها النكاح ثبت صداق المثل، فهكذا الخلع، وأَولى، قال: وإذا خالعته على الإبراء مما يعتقد أن وجوبه اجتهاد أو تقليد مثل أن يخالفها على قيمة كلب أتلفته معتقدين وجوب القيمة، فينبغي أن يصح، ولو تزوَّجها على قيمة كلب له في ذمتها، فينبغي ألا تصح التسمية؛ لأن وجوب هذا نوع غرر، والخلع يصح على الغرر، بخلاف الصداق، نقل مهنا عن الإمام أحمد في رجل خلع امرأته على ألف درهم لها على أبيه أنه جائز، فإن لم يعطه أبوه شيئًا، رجع على المرأة، وترجع المرأة على الأب، وكلام الإمام أحمد صحيح على ظاهر، وهو خلع على الدَّين، والدَّين من الغرر، فهو بمنزلة الخلع على البيع قبل القبض، فلما لم يحصل العوض بعينه، رجع في بدله كما قلنا فيمن اشترى مغصوبًا يقدر على تخليصه، فلم يقدر[15]؛ انتهى.
 

فائدة:
قال الموفق: وقال عمر في العنين: يؤجل سنة، فإن هو غشيها، وإلا أخذت الصداق كاملًا، وفرق بينهما، وعليها العدة.



[1] فتح الباري: (9/ 233).


[2] فتح الباري: (9/ 235).


[3] صحيح البخاري: (7/ 25).


[4] فتح الباري: (9/ 203).


[5] صحيح البخاري: (7/ 28).


[6] فتح الباري: (9/ 226).


[7] صحيح البخاري: (7 /32)


[8] فتح الباري: (9 /248).


[9] صحيح البخاري: (7/ 33).


[10] فتح الباري: (9/ 250).


[11] صحيح البخاري: (7/ 33).


[12] فتح الباري: (9/ 251).


[13] نيل الأوطار: (6/ 174).


[14] الاختيارات الفقهية: (1/ 558).


[15] الاختيارات الفقهية: (1/ 565).

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن