الشباب المسلم بين العقل والعاطفة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلَّى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الدرس خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً به، إنه سميعٌ مجيب.

وبعد..

إننا نسير -ولله الحمد- مسيرةً طيبة مباركة، وأمتنا الإسلامية -والحمد لله- تعيش هذه الأيام عودة وتوبة وإنابة إلى الله تبارك وتعالى مشهودة يراها كل ناظر، ولكن توجيه هذه الأوبة وتسديدها، والنصح لأهلها ولشبابها هو من أعظم ما ينبغي على من لديه شيءٌ مما يظن أنه ينفع الله تبارك وتعالى به في تصحيح المسيرة، وفي توجيه هذه الطريق إلى السداد، وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولذلك فإنني أحب أن أتناول القضايا بمنتهى الإيضاح والتفصيل.

وموضوعنا هو: قضية العقل والعاطفة.

الله تبارك وتعالى خلق الإنسان مركباً من أمور، ومنها هذان الشيئان: العقل، والعاطفة، ومن نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الإنسان أن النفس الإنسانية مرنة واسعة وأن الله شرع لها هذا الدين القويم، الذي يلبي احتياجاتها أياً كانت، وفي أي زمان وفي أي مكان، وبأي طبعٍ ركب في الإنسان أو جبل عليه.

أما العقل فهناك من يبالغ فيه، وهم الحكماء كما يسمون، فيجعلون كل الأمور بالعقل المحض المجرد، وهناك من يبالغ في العاطفة كالشعراء وأمثالهم، فيجعلون الأمور عواطف بحتة.

والحق أنه لا هكذا ولا هكذا؛ فالإنسان مزيج ومركب من مشاعر كثيرة.

وأقول هذا كمقدمة؛ لأننا لا نتنكر للعقل ولا نتنكر للعاطفة، وليس الأمر خياراً بين هذا أو ذاك، ولكن كيف نستطيع أن نوفق بين التصرفات المحكمة؟ بين تصرفٍ أفكر فيه وأستشير وأستخير ثم أعمل، وأيضاً مع ذلك أتوقع الخطأ، وأتابع العمل لئلا يقع فيه الخلل حتى ينتهي، وبين عملٍ يأتيني فأتدفق حماساً، وأفيض مشاعر وإقدام، فأعمل ما تمليه عليَّ العاطفة في تلك اللحظات الحاسمة، دون حسابٍ لأية عاقبة من العواقب.

كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وما تمليه العاطفة

أقول: هذه هي القضية، وهذه هي قضية الشباب، والعاطفة مطلوبة، ولا يمكن أن يقوم دينٌ ولا دعوة إلا بهذه العاطفة، والله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن، الذي فيه الشفاء والموعظة والعبرة، ومع ذلك فإن أقوى الحجج العقلية في كتاب الله تبارك وتعالى تصاغ بأكثر الأساليب إثارةً للعاطفة والوجدان، وهكذا عباداتنا كلها -ولله الحمد- عبادات تنمي في الإنسان جانب التهذيب الأخلاقي، والانضباط، والسلوك العقلي القويم، وفي نفس الوقت تنمي فيه الإيمان والإحساس، والمشاعر الوجدانية الإيمانية، وأيضاً تنمي فيه المعاملة والتعامل، فالكل شيء واحد.

لكن نحن الشباب نحتاج إلى أن نضبط أمورنا لتوافق هذا المنهج الرباني القويم، وإلا فإنه سوف يقع الخلل عندما يطغى أحد الجانبين على الآخر، وكلا الجانبين موجود، إما طغيان عقلي، أو قد يسمى علمي -وأنا أردت وتعمدت أن أقول هو عقلي- أو طغيان عاطفي.

والجانب العقلي هو أن تؤخذ القضايا دائماً بقوالب منطقية جامدة، أن تؤخذ مجردة عن المشاعر، وعن العواطف، فالأخ الذي يربي يربي وهو لا يتنبه لهذه الأمور، والأخ المتلقي يتلقى بعيداً عن هذه الأمور.

وأقول: لم تقم دعوة مجردة على الإطلاق من العاطفة الجياشة القوية، وقد كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم العبرة في ذلك عندما يقوى هذا الجانب، ولكنه وجدانٌُ وعاطفةٌ قويمة مستقيمة.

أمثلة من حال الأنبياء

الخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه يحطم الأصنام، ويجعلها جذاذاً إلا كبيرها، بهذه القوة، وبعاطفة الشباب المتحمس، لكنها قوة في الحق وبأسلوب سليم وبموقف قويم، حسب حسابه، وانتصر في النهاية، ولله الحمد، ولو أن هذا الفتى أو هذا الشاب كان مسايراً لوضعه ولعصره دون أن تحدث منه هذه التي عدَّها قومه طيشاً ونزوة، لما غيَّر شيئاً.

أمثلة من حال الصحابة

وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه إنما كانوا يواجهون هذه الدعوة، ويتحملون أعباءها بتلك القوة العاطفية الوجدانية، التي أخرجوا بها الناس من الظلمات إلى النور، كيف كانت شجاعتهم؟ وكيف كان إقدامهم؟ وكيف كان تعاونهم؟ وكيف كانت هجرتهم؟ لم تكن مواقفهم وثباتهم إلا نتيجةً لهذه العاطفة ولهذا الوجدان، ولكنه وجدانٌ إيمانيٌ منضبط.

وقد يقع أن تثور العاطفة، ولكنها أيضاً تضبط وتنضبط، وفي مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة المتعددة ما يبين ذلك، فمثلاً في موقفه يوم الحديبية، عندما كاد أن يعترض على ما اتفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقره مع الكفار: كان يقول: (يا رسول الله، ألسنا المؤمنين؟ أليسوا مشركين؟ فكيف نرضى الدنية في ديننا ) ويصرخ ويضطرب ويتألم.

فهذه عاطفة إيمانية، وموقفٌ حميدٌ في أصله من حيث المنبع، لكن في إخراجه وفي كيفيته خطأ، ولهذا يقول بعد ذلك الموقف: عملت لذلك أعمالاً، حيث كان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إذا تذكر موقفه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف.

وأيضاً موقفه من المنافقين، فالرجل الذي ترك التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراد أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة، كيف كان موقف عمر رضي الله تعالى عنه منه؟ وأيضاً الرجل اليهودي الذي أراد أن يختبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرى هل الصفات التي في التوراة موجودة فيه أو غير موجودة، فيأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشده شداً، ويجذبه جذباً، فيقول عمر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه).

ومواقف كثيرة يقول فيها الفاروق: ( يا رسول الله! دعني أضرب عنقه) لكن ماذا حصل للفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أصبح هو الخليفة، هل ضرب عنق أحد بمثل هذه السرعة؟ إنما بذلك الموقف كان هيبة وقوة للدين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فإن فعل أمراً فبأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نتيجة عاطفته هو واندفاعه، وإن لم يفعله حصل المراد، وهو الهيبة لهؤلاء المنافقين وأمثالهم، وحصل إظهار لعزة الدين ولمنعة المؤمنين، وفي نفس الوقت لم تحصل المفسدة التي لا يريدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مثال من أمثلة كثيرة.

أقول: هذه هي القضية، وهذه هي قضية الشباب، والعاطفة مطلوبة، ولا يمكن أن يقوم دينٌ ولا دعوة إلا بهذه العاطفة، والله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن، الذي فيه الشفاء والموعظة والعبرة، ومع ذلك فإن أقوى الحجج العقلية في كتاب الله تبارك وتعالى تصاغ بأكثر الأساليب إثارةً للعاطفة والوجدان، وهكذا عباداتنا كلها -ولله الحمد- عبادات تنمي في الإنسان جانب التهذيب الأخلاقي، والانضباط، والسلوك العقلي القويم، وفي نفس الوقت تنمي فيه الإيمان والإحساس، والمشاعر الوجدانية الإيمانية، وأيضاً تنمي فيه المعاملة والتعامل، فالكل شيء واحد.

لكن نحن الشباب نحتاج إلى أن نضبط أمورنا لتوافق هذا المنهج الرباني القويم، وإلا فإنه سوف يقع الخلل عندما يطغى أحد الجانبين على الآخر، وكلا الجانبين موجود، إما طغيان عقلي، أو قد يسمى علمي -وأنا أردت وتعمدت أن أقول هو عقلي- أو طغيان عاطفي.

والجانب العقلي هو أن تؤخذ القضايا دائماً بقوالب منطقية جامدة، أن تؤخذ مجردة عن المشاعر، وعن العواطف، فالأخ الذي يربي يربي وهو لا يتنبه لهذه الأمور، والأخ المتلقي يتلقى بعيداً عن هذه الأمور.

وأقول: لم تقم دعوة مجردة على الإطلاق من العاطفة الجياشة القوية، وقد كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم العبرة في ذلك عندما يقوى هذا الجانب، ولكنه وجدانٌُ وعاطفةٌ قويمة مستقيمة.

الخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه يحطم الأصنام، ويجعلها جذاذاً إلا كبيرها، بهذه القوة، وبعاطفة الشباب المتحمس، لكنها قوة في الحق وبأسلوب سليم وبموقف قويم، حسب حسابه، وانتصر في النهاية، ولله الحمد، ولو أن هذا الفتى أو هذا الشاب كان مسايراً لوضعه ولعصره دون أن تحدث منه هذه التي عدَّها قومه طيشاً ونزوة، لما غيَّر شيئاً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2573 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2458 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2346 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2254 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2247 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع