أرشيف المقالات

صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان

مدة قراءة المادة : 47 دقائق .
صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 63 - 77].
 
بين يدي المقطع الحادي عشر (خاتمة السورة):
آثار العقيدة في سلوك الأفراد والمجتمعات:
لكل عقيدة آثارها على مستوى الأفراد، وحضارتها على مستوى المجتمعات.
• فالعقائد القديمة الوضعية: الآيونية واليونانية والرومانية أوجدت أفراداً يهتمون بإشباع الرغبات والشهوات والنزوات، وأوجدت حضارات مادية تجسدت في التماثيل والنصب والمسارح التي ترمي إلى إشباع السعار الجنسي وشهوة الانتقام وتقديس القوة والجمال الجسدي، ولا زلنا نرى ذلك من خلال التماثيل وحلبات الصراع والمدرجات.

• والعقائد المعتمدة في أصولها على ديانات سماوية كاليهودية والنصرانية بعد إدخال أصحابها التحريفات عليها أوجدت انفصاماً في الشخصية الإنسانية حيث حصرت الجانب الروحي في المعابد، وأطلقت البهيمية للأفراد خارجها فاعتمدت على الحضارات القديمة في هذا الجانب، فنتج عن هذا الانفصام حضارة مادية قاسية لا مجال للجانب الإنساني فيها.

• والحضارة الشرقية الروحية أوجدت الشخصية المتقوقعة على نفسها التي لا تتطلع إلى أكثر من تعذيب الجسد لتضخيم الجانب الروحي، ولم تفكر في إعمار الأرض وإقامة أنظمة للمدنية لمعتقديها.

• والإسلام هو الدين الوحيد الوسط الذي لبَّى متطلبات الروح، فهذّب وربّى من غير أن يخل بالجانب المادي سواء على مستوى متطلبات النفس البشرية أو على مستوى العطاء الحضاري للإنسانية.
أ- فأوجد لدى الفرد القناعات العقلية في جانب العقائد، فلا يحس المسلم بأي تناقض بين ما يعتقد وبين ما يستنتجه العقل السليم والتفكير السوي.
ب- وأشبع الأشواق الروحية لدى الفرد بالعبادات البدنية والمالية والشرائع التفصيلية في مجالات الحياة كلها.
جـ- وأعطى للجانب المادي حقه فلبَّى الحاجات العضوية من المأكل والمشرب، وأشبع الغرائز الفطرية بعد تهذيبها بالهدايات الربانية، وما حرّم على الإنسان شهوة مادية أو نفسية إلا وأوجد له البدائل الصحيحة السليمة من الآفات والمفاسد.
فكان نتيجة المنهج الرباني الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الفئة المؤمنة من عباد الرحمن التي تتحدث عنها الآيات الكريمة في آخر سورة الفرقان.
وكانت الحضارة الإنسانية الربانية التي لم يعرف تاريخ البشرية لها مثيلاً نتيجة تطبيق عباد الرحمن لشرائع ربهم المنزلة.
 
المناسبة بين خاتمة السورة والمقطع العاشر:
لما ذكر الكفار بالفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له ومظاهرتهم على خالقهم، وختم الحديث عنهم وعن عدم انتفاعهم بالآيات الكونية، فعباد الشيطان لا يتذكرون، ولا يشكرون لما لهم من القسوة.
عطف على هذا المقدّر أضدادهم واصفاً إياهم بأضداد أوصافهم مبشراً لهم بضدِّ جزائهم، فقال: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...
﴾ فأضافهم إليه رفعة لهم، وإضافتهم إلى صفة الرحمن أبلغ عندما أنكر الكفار هذه الصفة.

لقد ختمت السورة بذكر أوصاف عباد الرحمن فكأنهم الثمرة الجنية للجهاد الشاق الذي بذله الذي أُنزل عليه الفرقان، ووصفهم بخصال تتعلق بتعاملهم مع أنفسهم، وتعاملهم مع غيرهم من الناس ومعاملتهم لربهم جلَّ جلاله.
عباد الرحمن هم المثل الحية الواقعية للفئة التي أراد الإسلام تكوينها بمنهجه التربوي الخاص، وهم الذي يستحقون أن يعبأ بهم رب السماوات والأرض، ولولاهم ولولا تضرعهم إلى ربهم لَمْ يعبء الرحمن أن ينزل بأسه بأهل الأرض جميعاً.

المعنى الإجمالي للمقطع:
جاءت خصال عباد الرحمن في خاتمة السورة للإشارة إلى أن القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قد اشتمل على الرسالة الربانية والمنهج الإلهي الذي من شأنه أن ينشئ فئة من الناس هذه أوصافها وخصائلها.
وهي شهادة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاح دعوته، فالمذكورون هم أتباع الفرقان عامة، ويدخل فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً.
 
وجاءت هذه الخصال على أربعة أقسام:
أ- قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية، وهي قوله: ﴿ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

ب- وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك[1]، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68].

جـ- وقسم من الاستقامة على شرائع الإسلام، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 64 - 72].

د- وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾[2].
[الفرقان: 74].

وجاءت هذه الصفات من خلال اثني عشر خُلقاً هي من أسس الأخلاق الإسلامية[3] وهي:
1 - خلق التواضع.
2 - والحلم.
3 - والتهجد.
4 - والخوف.
5 - وترك الإسراف والإقتار.
6 - والبعد عن الشرك.

7 - واجتناب القتل.
8 - والنزاهة عن الزنى.
9 - والتوبة.
10 - وتجنب الكذب.

11 - وقبول المواعظ.

12 - والابتهال إلى الله تعالى.
 
ومن المستحسن أن نخص كل صفة من صفات عباد الرحمن بكلام مختصر نذكر فيه أهمية هذه الصفات للمؤمن والأسلوب القرآني في التعبير عنها:
الأول: التواضع:
وهو خُلق جبلي فيهم، وذكر الأرض في سياق التعبير عن تواضعهم للتذكير بالأصل الإنساني الذي خلق من الأرض، فمن تذكر أصله لا يمكن أن يتكبر على عباد الله، وهو يعلم أنه مخلوق من هذه التربة المحقرة التي تداس بالأقدام ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [سورة طه: 55].
ولذا كان من المناسب أن يذكّر المتكبر المتعجرف على عباد الله المتمرد على أحكام شرع الله، بأصله والتربة التي خلق منها.
﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37].
والتواضع خُلُق رفيع يزين أهل العلم والفضل والنسب والجاه ويزيدهم جمالاً على جمال، وبهاء وعزاً على ما هم فيه.
 
الثاني: الحلم:
فبالإضافة إلى الكمالات الذاتية مع أنفسهم، يتحلون بالكمالات الخلقية عند تعاملهم مع غيرهم، وعلى رأس هذه الكمالات الحلم، فإذا تعرضوا لخطاب فاقدي العلم والحكمة، ظهرت آثار علمهم وحكمتهم على تصرفهم فأعرضوا عن سفاهة الجاهلين وتركوا المقابلة بالمثل، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وهو سلام متاركة وإعراض، وليس سلام تحية وترحيب، وهو شأن المؤمن في كل تصرف مع أهل السفه والطيش.

كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 54 - 55].
والحُلم على أذى الآخرين والإعراض عن الجهالات من الآداب الرفيعة والمروءات المستحسنة.
فالنزول إلى درجة السفهاء نوع من الطيش.
 
الثالث: التهجد:
وبعد ذكر تعاملهم مع أنفسهم وتعاملهم مع غيرهم، ذكرت صلتهم بخالقهم المحسن إليهم، وخصوا الليل بالصلاة والقيام ليكون أبعد عن الرياء، ولأن الخشوع فيه أكثر، كما أشارت الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6].
وعندما علّل الرب عزَّ وجلّ لتبوئ المتقين الجنات والعيون، ذكر قيامهم الليل: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18].

وقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ورائه أمته بالاستمرار والدوام على الذكر وقيام الليل، لما في الليل من الصفاء الروحي والتلذذ بالمناجاة والابتهال: فقال تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78 - 79].
وخص السجود بالذكر، والتقديم على القيام لأن العبد يكون أكثر قرباً من الله وهو ساجد، ولبيان المقابلة بين حالهم وحال المعاندين الذين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60]، فعباد الرحمن نهارهم في خشوع، وليلهم في خضوع وتذلل لباريهم عزَّ وجلّ.
 
الرابع: الخوف من سوء المآل والمصير:
إن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، فعباد الرحمن على الرغم من صلاتهم وقيامهم بالليل، يلجؤون إلى ربهم العلي القدير أن يجنبهم سوء العاقبة، فلا يحتفلون بأعمالهم، ويخشون ردها عليهم ويتهمون أنفسهم بعدم القيام بها على الوجه الأكمل من صدق النية والتوجه والإخلاص فيها، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60 - 61].
قالت عائشة: يا رسول الله أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجلّ؟ فقال لها: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجلّ"[4].
وفي وصف العذاب بالغرام، إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع، وهو الشأن في عذاب الكافر.
وفي وصف جهنم بأنها المقر السيِّئ والمقام البئيس، لبيان أنها مصير العصاة من المؤمنين والعتاة من الكافرين.
 
الخامس: ترك الإسراف والتقتير في الإنفاق:
إن الإسلام دين العدل والوسطية في جميع شؤون الحياة، والمسلم يلتزم الخلق الوسط فكلا طرفي الأخلاق ذميم، وهو التوجيه الرباني لرسوله الكريم: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وإذا علمنا أن ذاك التوجيه جاء بعد النهي عن منع الحقوق الواجبة، علمنا أن الاعتدال في الإنفاق يكون في الأمور الخاصة بالاستمتاع والشهوة.
ولا يسمى الإنفاق في الخير سرفاً (فلا سرف في الخير)، جاء ذلك بعد قوله تعالى: ﴿ وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26 - 27].

وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة، ويعين على العبادة، ويلبسون ما يستر العورة، ويكنّ من الحر والقر، قال عمر رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله[5].

قيل لأحدهم: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقيل: فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد الجوعة، فقيل له: في اللباس، قال: ما ستر عورتك ووقاك من البرد.
 
السادس: البعد عن الشرك:
قد يستغرب المتدبر للآيات الكريمة المشتملة على صفات عباد الرحمن نفي الشرك عنهم ونفي القتل، ونزاهتهم عن الزنى، بعد ذكر تحليهم تلك الخصال العظيمة، من التواضع والحلم، وقيام الليل، والوجل من الله، والعدالة في الإنفاق، فما الحكمة في ذكر هذه القبائح العظيمة في هذا السياق؟.
أجاب بعضهم: أن الحكمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من الكفار، فكأنه قيل لهم: والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم مما أنتم عليه معشر الكفار من الإشراك، وقتل النفس المحرمة كالموءودة والزنا.
وسواء أدركنا الحكمة من ذكر هذه الخصال الذميمة في السياق أو لم ندرك، فإن التذكير بالابتعاد عنها من الأمور الهامة جداً.
فإن الإشراك بالله من أكبر الكبائر، كما نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك"[6].
لذا جاءت النصوص الصريحة الواضحة، أن الذنوب كلها تحت مشيئة الله تعالى وإن لم يتب منها المذنب، إن شاء غفرها وتجاوز عنها، وإن شاء عاقب عليها، إلا الشرك فلا تجاوز عن المشرك، يقول عزَّ من قائل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].
 
السابع: اجتناب القتل:
لقد حرم الإسلام قتل النفس المعصومة إلا في حالات تستحق النفس فيها القتل، لأنها ارتكبت من الجرائر ما أزال عصمتها، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالات التي تهدر فيها النفس فتستحق القتل، بقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"[7].
قال بعض العلماء: إن الشرك والقتل والزنى كلها صور للقتل، فالشرك قتل للنفس بتخليدها في النار، وإذا ارتد المسلم فأشرك استحق القتل حداً، وقتل الغير قتل جلي.
والنوع الثالث من القتل هو القتل الخفي بتضييع نسب الولد بالزنى.
 
الثامن: النزاهة عن الزنى:
إن الإسلام نظّم الغرائز لدى الفرد فلم يطلق العنان لإشباعها، كما لم يحاربها ويكبتها لأن لها دوراً وظيفياً ينبغي أن تؤديه، وعلى رأس هذه الغرائز غريزة الجنس وحب البقاء.
إن الإسلام يهدف إلى تربية مجتمع متماسك سليم من الآفات الاجتماعية، نظيفاً من اختلاط الأنساب متماسك اللبنات، فشرع الإسلام شرائعه لحماية الكليات الخمس:
الدين، العقل، العرض، النفس، المال.
فأقام صرح المجتمع الإسلامي على اللبنة الأولى (الأسرة).
ووضع لها من التشريعات ولأفرادها من الحقوق والواجبات ما يجعلها نقية صافية من الشوائب، ووضع سياجاً من التشريعات للحفاظ على قدسية العلاقة الزوجية وسمى عقد الزوجية ميثاقاً غليظاً.
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21].
لذا سنَّ العقوبات الشديدة على من يحاول التعرض للحياة الزوجية بسوء، فمن قال فيها مقالة سوء باتهام غيره بالزنى طالبه الإسلام بإحضار أربعة شهود على ما قال، وإلا فضرب بالسياط على ظهره، ووعيد بالعذاب الأخروي على جنايته ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4].

ومن تجنى بتجاوز الحد والوقوع في الفاحشة، فإن كان بكراً جلد مئة جلدة، وإن كان محصناً فرجمه بالحجارة إلى الموت.
يقول عزَّ من قائل: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].
وحسب نظرة الإسلام الواقعية لشؤون الحياة وحل المشكلات الإنسانية على ضوء المصلحة العليا للمجتمع، سن الإسلام موضوع الملاعنة بين الزوجين حيث يتهم الزوج زوجه بالفاحشة ونظراً لولوجه وخروجه في كل وقت وليس من المكنة إحضار الشهود في مثل هذه الأحوال، لم يأمره الإسلام أن يسكت على التي خانته في أعزِّ ما يملك في عرضه وشرفه، فأجاز أن يشهد أربع شهادات بالله أنه رآها في حالة الفاحشة وإنه صادق فيما يقول، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان كاذباً في دعواه.

كما أن العدل الرباني لم يحرم المرأة من الدفاع عن عرضها وشرفها، وربما كان الزوج مفترياً عليها يريد الوقيعة بها، فأتاح لها الفرصة أن تبرز براءتها من خلال أربع شهادات بالله إنه كاذب في دعواه، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان صادقاً.

وبما أنَّ العلاقة الزوجية مبنية على المودة والرحمة والثقة المتبادلة بين الزوجين، لتكون سكناً له ويكون لها راعياً مؤتمناً، وقد انثلم كل ذلك بهذه الاتهامات والملاعنات، فكانت الخطوة المنطقية التفريق بينهما فرقة بائنة لا لقاء بعدها بينهما.
يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 6 - 9].
إن جريمة الزنى جريمة مدمرة، وما فشا هذا الوباء في مجتمع إلا وتفشت فيه أوبئة مادية وخلقية أخرى، فكان مصير المجتمع الدمار والهلاك.
 
فوائد منوعة:
1 - فوائد بيانية:
دلّت الأساليب البيانية على ضخامة الآثام الثلاثة (الشرك، القتل، الزنى) حيث جاءت في الآيات الكريمة أساليب بلاغية تبرز هذا الجانب منها:
أ- الاعتراض بين المبتدأ (وعباد الرحمن) وما عطف عليه، وبين الخبر الذي هو ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا...
[الفرقان: 75] على رأي بعض العلماء، بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة، فدل على مزيد اهتمام بشأنها.
ب- الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 68] مع قرب المذكورات فدل على أن البعد في رتبتها.
جـ- التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله ﴿ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ فهو أبلغ من: يأثم، أو يلق إثماً، أو جزاء إثمه.
د- التقييد بالمضاعفة في قوله: ﴿ يُضَاعَفْ ﴾ ومضاعفة العذاب - والله أعلم - إتيان بعضه في إثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك.
هـ- التهويل بقوله: ﴿ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس.
و- الإخبار بالخلود الذي أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً.
ز- التصريح بقوله: ﴿ مُهَانًا ﴾ إشارة إلى أن العذاب مضرة خالصة مقرونة بالإذلال والإهانة، وذلك ليجتمع على الجاني العذاب الجسماني والروحاني.
احترازاً عما يظن أن بعض عصاة هذه الأمة الذين يريد الله تعذيبهم يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة فتكون إقامتهم مع العلم بالمآل - ليست على وجه الإهانة.
هذه سبع مؤكدات جاءت لبيان عظم هذه الذنوب الثلاثة.
 
فوائد في الجمع بين الآيات:
اختلف العلماء في توبة القاتل العمد، هل تقبل أو لا؟:
• ذهب جمهور العلماء إلى أن للقاتل العمد توبة، كما أن لمرتكبي الكبائر عامة توبة، وقد دلَّت النصوص على ذلك فمنها:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].
ومنها ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ ﴾ [الفرقان: 68] الآية ونزلت: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أأسلمت"، فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله غافر لك غدراتك وفجراتك، ومبدّل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك"، فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال: "وغدراتك وفجراتك"، فولى الرجل يكبر ويهلل.
وروى قريباً منه الطبراني عن أبي فروة.

وذهب جمهور المفسرين إلى أن لا تعارض بين آية الفرقان وهي مكية، وبين آية النساء في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
فإن آية سورة النساء مطلقة، فتحمل على من لم يتب، أما آية سورة الفرقان فإنها مقيدة بالتوبة.

• روى الشيخان عن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكماً - فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"، وفي رواية "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقرّبي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له"[8].
 
فوائد في صور لطف الله العزيز اللطيف بعباده يوم القيامة، وأقوال في تبديل السيئات حسنات:
أخرج مسلم في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها قال: فقال له: عملت يوم كذا: كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكلِّ سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه"[9].
• قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادية: التبديل في الدنيا، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنى عفة وإحصاناً، فهي بشارة من الله تعالى لهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا ثوابها.
• وقال الزجَّاج: السيئة تُمحى بالتوبة وتُكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات.
• وقال سعيد بن المسيب ومكحول: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، واحتجا بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ليتمنينّ أقوام أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات"[10].
• قال القفال والقاضي: إن الله يبدل العقاب بالثواب، فذكرهما وأراد ما يستحق بهما، وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإنابة لا يكون إلا من الله تعالى[11].
والحكمة في تكرار قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 71].
أن هذا القول الثاني عمم بعد التخصيص، فالاستثناء جاء في التوبة عن الشرك والقتل والزنى، أما هذا فلبيان حال من تاب من جميع المعاصي - والله أعلم.
 
التاسع: التوبة:
من لطف الله بعباده أن فتح لهم طريق الرجوع إلى باريهم، ولم يوئسهم من رحمته مهما عظم الذنب واستمر فيه العاصي، وتوغل في المفاسد، وفي التمرد على خالقه ورازقه.
"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض، نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فأوى إلى ظل شجرة، فوضع رأسه فنام نومة تحتها، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً، حتى اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده، تجر خطامها، عليها زاده طعامه وشرابه، فأخذ بخطامها فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن براحلته وزاده"[12].
 
العاشر: تجنب الكذب (الترفع عن حضور مجالس الزور واللغو):
إن من أشد أنواع الكذب: الزور، فأثر هذه الجريمة مضاعف، لأن الأصل في الشهادة أن تكون عوناً لإبراز الحق وإيصاله إلى صاحبه، فإذا حرّف الشهادة ومال بها عن حقيقتها يكون قد عطل الشهادة عن أداء دورها، والثانية يكون قد ساهم في إلحاق الظلم بآخرين وتمكين أهل الباطل من تحقيق مآربهم.
 
لذلك قرن الزور بالشرك في أكثر من نص في القرآن الكريم وفي السنّة النبوية:
كما في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].
روى أبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك، قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف - أي من صلاته - قام قائماً فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" ثلاث مرات، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ [الحج: 30 - 31][13].

وفي حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة أضاف إلى الإثمين العظيمين إثماً ثالثاً وهو عقوق الوالدين - حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"[14].

ولئن كان الذهن ينصرف أول ما يسمع الزور إلى شهادة الزور، فإن إطلاق الزور في الآيات الكريمة تعم كل أصنافه، ولذلك قال بعض المفسِّرين: الزور يعم كل باطل عن جهة الحق.
فكأن الآية الكريمة نصت في وصف عباد الرحمن أنهم لا يشهدون مجالس الباطل، ولعلَّ ذكر مرورهم كراماً على اللغو يؤيد هذا التعميم، فإن المؤمن يكرم نفسه عن مجالس اللهو والباطل، وينزهها عن مشاركة السفهاء في لغوهم، يقول عزَّ من قائل: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].

ولربما فوجئ المرء بمجلس انقلب أهله إلى الخوض في الباطل، أو تناول قضايا إسلامية بالاستهزاء والتطاول، أو الاستهتار بأحكام الشرع، أو النيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الحط من أقدار صحابته الكرام أو اتهام دعاة الإسلام بالقدح والتجريح فكلّ ذلك ينبغي الإعراض عنه، ومغادرة المجلس ومقاطعته إن لم يستطع تغيير مجرى الحديث، يقول جلَّ جلاله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].
إن المؤمن يرى في الوقت رأس ماله الذي إذا فات لا يعوض، فالوقت الحياة، إنه يضنّ به أن يقضيه فيما لا فائدة فيه ومجالس اللغو أقل ما يقال فيها: إنها للثرثرة والعبث وضياع الوقت والغفلة، لذا كان من شأن المؤمنين عباد الرحمن ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72] مترفعين عنها.
 
الحادي عشر: قبول المواعظ:
إن من صفات المؤمنين عباد الرحمن أخذ العظة والعبرة من كلِّ شيء، وعلى رأس ما يتعظ به آيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع آيات الذكر الحكيم تتلى، أو كان على وضع فيه عليه ملحظ فذكّره أحد الناصحين بآيات من كلام الله، لم يردها عليه بل وعيها وفهم معناها متدبراً لما تهدي إليه، مقارناً حاله على ضوء هداية الآية بما ينبغي أن يكون الحال عليه، ثم عدّل من سلوكه وفعله وقوله.
ولم تأخذه العزة بالإثم فيركب رأسه ويرد على ناصحه بما لا يليق.
فكم من مخطئ أو متساهل في زماننا عندما يقال له: يا فلان اتق الله، يرد عليه ويقول بل أنت اتق الله، فأنا على الصواب.
قبل أن يتدبر عمله ويفكر في كلمة (اتق الله) لقد خاطب الله جلّ جلاله رسولَه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1].

كما أن آيات ربهم تشمل الآيات الكونية، التي يستدل من خلال مراقبتها ودراسة أوضاعها وهيئاتها على النظام التام الذي يسود أجزاءه ومجراته وأفلاكه ونجومه وكواكبه.
ويستدل من خلال ذلك على الخالق الذي أبدع هذا الكون، وأنه الواحد الذي يتولى شؤونه: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22].

إن الكافر كالبهيمة تعلف ما يقدم لها من غير بحث عن المصدر الذي زودها به، ومن غير تدبر للمنعم الذي هيأ له أسباب الرزق ومكنه منه، ولا يلتفت إلى ما حوله إلا بما يتعلق بشهوتي الفرج والبطن، فهو أصم أعمى عن هدايات تلك الآيات ما كان منها وحياً وما كان آية مرئية أو مسموعة مما يحيط به من حوله.
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44].
إن شأن المؤمن شأن أنبياء الله ورسله الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].
 
الثاني عشر: الابتهال إلى الله تعالى:
من الصفات الحميدة بل من أصول العبادة الابتهال إلى الله تعالى بالدعاء والالتجاء إليه في كل شيء، فالدعاء مخ العبادة، ولئن كان الدعاء مرغوباً فيه في شؤون الحياة الدنيا ما قل منه وما كثر، وما دق منه وجلّ.
وما عز منه أو توفر، فإن الدعاء لأمور الآخرة أهم وأعظم، ولئن كانت القضايا التي تجمع بين زينة الحياة الدنيا وبين أجر الآخرة تكون في مقام رفيع لدى
الإنسان، فإن على رأس كل ذلك الذرية الصالحة فبها تقر الأعين في الحياة الدنيا وهي استمرار لعمل المرء بعد مماته وانقطاع عمله.
ففي الذرية الصالحة حياة مديدة للآباء والأمهات، وعمل صالح مستمر، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية"[15].
فكيف إذا رزق الإنسان بولد صالح، فعلَّمه علوم الإسلام وهيأه لنشر العلم والدعوة إليه.
لذا كان من دعوة الأنبياء أن لا يذرهم فرادى من غير ذرية ترثهم في علومهم وآدابهم.
فلا غرو أن تكون دعوة عباد الرحمن منصبة على هذه الوراثة الربانية ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
إنهم - كما يقول عكرمة - لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً وإنما أرادوا أن يكونوا مطيعين، ولا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو أخاً أو حميماً مطيعاً لله.

روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً.
ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عنه، لا يدري، لو شهده كيف يكون فيه والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشر حال بعث عليها نبياً من الأنبياء، في فترة جاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إن كان الرجل يرى والده وولده وأخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74][16].

والرياسة في الدين مرغوب فيها بموجب هذه الآية الكريمة، فدعاء عباد الرحمن لم يقتصر على طلب الذرية الصالحة التي تخلفه من بعده وتستمر حياته من خلالهم، بل يدعون أن يكونوا هم وذرياتهم أئمة في الدين يقتدى بهم، هداة مهتدين يتعدى نفعهم وخيرهم إلى غيرهم من الناس.
لذا كان دعاء خليل الرحمن لربه ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84].
هذه صفات عباد الرحمن وأخلاقهم التي وعدهم ربهم عليها الدرجات الرفيعة في الجنة، بسبب صبرهم على ما لاقوه في سبيل تمسكهم بتلك المبادئ وتحليهم بتلك الخصال، فكلّ من التزم مبدأ وثبت على منهج، لا بد أن يلقى في سبيل ذلك أذى ممن لا يلتزم ولا يسلك منهجه.
لذلك لم يذكر الله سبحانه وتعالى المصبور عنه ليعم كل نوع من أنواع الصبر.

وفي تلك الغرف العالية يكرمون بالدعاء لهم بالتعمير والحياة الدائمة والدعاء بالسلامة، وكلتا الدعوتين ترجعان إلى نعيم الجنة الباقي الذي لا ينقطع، والذي خلص من شوائب الضرر والكدورات.
هذا ما قاله بعض المفسرين على أن التحية والسلام تلقى عليهم من الملائكة، ولعله أرفع لشأن عباد الرحمن وأكرم لقدرهم أن تكون التحية والسلام من الله جلَّ جلاله، يتوج بها النعيم المقيم الذي يتقلبون فيه في غرف الجنة كما صرح بذلك في قوله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 58].
والأمن من زوال النعمة عنهم أو زوالهم عنها، أو انقطاعها أمر أساسي لإدخال الطمأنينة إلى قلوبهم كما تقدم في السياق في هذه السورة: ﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ﴾ [الفرقان: 15 - 16].
فالجنة خالدة بنعيمها عليهم، وهم خالدون فيها لا يزولون عنها.
وهذا منتهى إدخال الأمن والطمأنينة إلى القلوب[17].
إن المسكن الدنيوي والإقامة المرفهة مهما كانت متكاملة المرافق واسعة الأرجاء محققة لرغبات ساكنها، فكونها معرضة لآفات التقادم والتآكل والخراب والزوال لا تجعل ساكنها قرين العين بها، أما جنات الخلد فحسنت مستقراً ومقاماً ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 108].
إن الذي لا يرفع لهدايات القرآن رأساً ولا يلقي لها بالاً هو أهون عند الله من أن يجعل له وزناً ومقداراً، وأن يكترث ببقائه أو هلاكه، فلولا التجاؤهم إلى الله في الشدائد، ولولا أن الله قطع على نفسه بإرجاء عقوبتهم إلى الآخرة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
لولا ذلك لأنزل عليهم عذاب الاستئصال ولا يبالي بشأنهم ولا يعبأ بهم، لقد استحقوه بأفعالهم وأقوالهم التي تؤدي بهم إلى البوار.
 
مناسبة الخاتمة لمحور السورة:
قلنا: إن خاتمة السورة التي اشتملت على صفات عباد الرحمن بمثابة النتيجة لمحور السورة، فالمحور اشتمل على المعجزة - القرآن الكريم - والرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه المعجزة.
فالمعجزة الرسالة وضعت المنهج الرباني الذي دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في العقائد والسلوك والتعامل مع الآخرين.
والرسول صلى الله عليه وسلم طبّق هذا المنهج في حياته العملية فكان النموذج العملي لهذا المنهج الرباني.
ودعا القوم إلى الالتزام به وناضل في سبيل ذلك ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
ومن خلال ذلك جاءت افتراءات القوم على المعجزة (القرآن) وعلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي جاء الدفاع عن المعجزة وعن صاحبها، ورد تلك الافتراءات.
 
وختم السورة بذكر صفات عباد الرحمن فيه أكثر من دلالة، منها:
• سلامة المنهج وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، حيث أدى صبره ودعوته إلى الالتزام بهدايات الرسالة إلى هذه الفئة المؤمنة الربانية.
والوصف يشمل المؤمنين إلى يوم القيامة ويدخل فيهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً.
• إن هذه الصفوة من البشرية هي التي يعبأ بها الرحمن جلَّ جلاله، ولولا وجودهم لكان لزاماً أن ينزل عقوبته بأهل الأرض ولا يبالي بهم ولا يكترث لوجودهم.
• وفي الخاتمة تسرية وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يتوقع أن تثمر جهوده مثل هذه الثمار اليانعة وهذا النتاج الطيِّب الكريم يصبر على ما يعترض سبيله من عقبات وأشواك ويبذل المزيد من الجهد للوصول إلى النتائج الطيبة.



[1] من عادة القرآن ذكر التخلية قبل التحلية، وفي ذكر صفات عباد الرحمن عكس الأمر، حيث ذكرت التحلية قبل التخلية، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الصفات التي قدمت في ذكر ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63] صفات جبلية فيهم غير مكتسبة، والتخلية والتحلية تكون للصفات المكتسبة.
كما أن في التواضع والحلم نوعاً من التخلية؛ فالتواضع تخلية عن الكبر، والحلم تخلية عن السفه والطيش.



[2] التحرير والتنور، لابن عاشور: 19/ 67.


[3] يقول الألوسي: وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول، للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة، وصف جليل على حياله، له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره.
وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
روح المعاني: 19/ 53.



[4] رواه الترمذي في كتاب التفسير: 5/ 9.



[5] أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 2/ 71.



[6] رواه البخاري، كتاب الديات: 8/ 34؛ ومسلم، باب كون الشرك أقبح الذنوب: 1/ 63؛ والترمذي، كتاب التفسير: 5/ 17.


[7] رواه الشيخان: انظر صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: ﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾: 8/ 38؛ وصحيح مسلم، باب ما يباح به دم المسلم: 5/ 106.



[8] أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل: 4/ 143 مختصراً؛ ومسلم، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله: 8/ 103.



[9] صحيح مسلم، باب آخر أهل النار خروجاً: 1/ 121؛ ومسند الإمام أحمد: 5/ 107.
مع اختلاف يسير بين الروايات.



[10] انظر الدر المنثور: 6/ 281 وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.



[11] أورد الرازي هذه الأقوال في تفسيره الكبير: 24/ 112.


[12] انظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب الدعوات: 7/ 146؛ وصحيح مسلم، باب في الحض على التوبة والفرح بها: 8/ 92.



[13] انظر سنن أبي داود، كتاب الأقضية، باب في شهادة الزور: 5/ 217؛ وسنن ابن ماجه كتاب الأحكام، باب شهادة الزور: 2/ 794.



[14] انظر صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور: 3/ 152؛ وصحيح مسلم، باب الكبائر وأكبرها: 1/ 64.



[15] رواه مسلم، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته: 5/ 73.


[16] المسند: 6/ 3.



[17] انظر ما تقدم حول هذه النقطة، ص 94 من الكتاب.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١