حلم الدولة اليهودية والوطن القومي اليهودي
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
لمؤرخ كبير
مضى اليوم أكثر من شهرين مذ بدأت فلسطين ثورتها القومية المضطرمة؛ وقد حسب الاستعمار يوم نشوبها أنه أمام حركة تذمر عادية يسهل قمعها بالوسائل المعتادة فإذا به أمام ثورة قومية عامة، وعزم راسخ على النضال، ومعركة حياة أو موت من شعب يؤثر السقوط في ميدان الكفاح الشريف، على الإعدام البطيء المنظم.
ولقد بسطت (الرسالة) قضية فلسطين في مقال سابق، بين فيه كاتبه مبلغ ما ترزح تحته هذه الأمة الصغيرة الباسلة من صنوف الاستعباد المرهق، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سواء من جانب السياسة البريطانية التي قضت باختيار فلسطين منزلاً للوطن القومي اليهودي أو من جانب الصهيونية التي تعمل لتوطيد دعائم هذا الوطن اليهودي بكل ما وسعت من وسائل الضغط المالي والثقافي متمتعة في جهودها برعاية السياسة البريطانية ومؤازرتها.
وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نتنبأ بما تفيده السياسة البريطانية من هذا الدرس، أو بما تزمع أن تتخذه من الخطط الجديدة في المستقبل نحو فلسطين، فأنا نستطيع من جهة أخرى أن نقول إن هذه الفورة العنيفة التي قامت بها فلسطين سيكون لها أثرها العميق في صدع أركان الوطن القومي اليهودي، وفي التدليل على ما في صياغته وتكوينه من أوجه الخيال والعوامل المصطنعة التي تتعارض مع الحقائق التاريخية والعلمية.
إن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، هو الخطوة العملية الأولى في برنامج الصهيونية الحديثة؛ وهو التمهيد لإنشاء الدولة اليهودية التي هي غاية الصهيونية الحقيقية؛ واليهودية تحلم بإنشاء هذا الوطن القومي وتعمل له منذ أكثر من قرن؛ ولكن برنامج اليهودية النهائي لإنشاء الوطن القومي لم يوضع إلا في أواخر القرن الماضي، حيث بدأ زعماء اليهودية يجمعون المال لإنشاء المستعمرات في فلسطين ويبذلون جهودهم لدى الباب العالي، وحيث أذاع تيودور هرتسل، رسول الصهيونية الحديثة وروحها المضطرم، رسالته الشهيرة عن الدولة اليهودية: وهرتسل كاتب وصحفي يهودي نمسوي، ظهر في أواخر القرن الماضي في فينا بكتاباته الملتهبة في سبيل القضية اليهودية، فالفت صيحته أفقاً صالحاً لأن معظم الدول الأوربية كانت تجيش يومئذ بعوامل الخصومة السامية، وتلقى اليهودية الاضطهاد المنظم في كل مكان. وفي كتاب (الدولة اليهودية) يعرض هرتسل فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي، وتؤدى له الجزية، وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص؛ فصادفت الدعوة نجاحاً عظيما بين أقطاب اليهودية في أنحاء العالم كله، وانتظمت الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته.
وفي أغسطس سنة 1897، عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برياسة هرتسل، ووضع فيه برنامج الصهيونية الرسمي، وعرفت غاياتها ووسائلها على النحو الآتي: (تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن قومي في فلسطين يتمتع بالضمانات التي يقررها القانون العام، ويرى المؤتمر أن يتذرع بالوسائل الآتية لتحقيق هذه الغاية: (1) أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع. (2) أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في الجماعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة. (3) أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس. (4) أن تبذل المساعي اللازمة للحصول على التصريحات الرسمية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية. هذا هو هيكل الصهيونية وبرنامجها العملي؛ وقد تطورت ظروف العالم السياسية منذ عصر هرتسل ومؤتمر بازل، واستطاعت الصهيونية بعد جهود ومحاولات عديدة أن تلقى فرصتها في الحرب الكبرى، وأن تظفر بتحقيق الشطر الأول من برنامجها بإنشاء الوطن القومي في فلسطين، ولكن لا تحت سيادة الباب العإلي، وانما تحت السيادة البريطانية، وذلك بمقتضى عهد بلفور الذي قطعته الحكومة البريطانية على نفسها في نوفمبر سنة 1917. وقد مضى على قيام الوطن القومي اليهودي في فلسطين زهاء تسعة عشر عاماً، وأصبح في ظل الانتداب البريطاني، وطبقاً لنصوص الانتداب ذاته، من الوجهة الدولية، نظاماً شرعياً معترفاً به من جميع الدول الكبرى؛ وفي هذه الفترة بذلت اليهودية جهوداً جبارة لإقامة هذا الصرح القومي الذي تحلم به منذ الآماد، فتدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى أصبح عدد اليهود فبها زهاء نصف مليون، وأقيمت المستعمرات والمشاريع اليهودية الضخمة في جميع أنحاء البلاد، وأنشئت مدينة تل أبيب لتكون عاصمة الوطن الجديد، وأقيمة جامعة عبرية لتعمل لأحياء التراث اليهودي الروحي والفكري؛ وعلى الجملة فقد استطاعت اليهودية أن تحقق في فلسطين كثيراً من المظاهر المادية والاقتصادية والاجتماعية للوطن القومي اليهودي. ولكن هذه المظاهر على ضخامتها وقوتها تبدو اليوم ضئيلة واهنة أمام ثورة الشعب الذي يقام هذا الوطن في أرضه، وعلى أنقاض حقوقه وموارده؛ فاليوم يهاجم الوطن اليهودي، ويطعن من كل صوب، وتقوض مستعمراته ومنشآته، وتعطل جميع مرافقه ومصالحه، وتشل جميع حركاته ومعاملاته، ويكاد يغدو في حالة حصار مطبق؛ كل ذلك تحت بصر القوى الاستعمارية التي هرعت إلى فلسطين لحمايته.
وقد شعرت الصهيونية من قبل غير مرة بخطر الفورات القومية الفلسطينية على صرحها، ولكنها لم تكن تتصور أن الخطر قد يبلغ هذا المدى من الروعة، أو أن هذه الأمة العربية الصغيرة يمكن أن تضطلع بمثل هذا الكفاح الشاق الجلد؛ وإذا لم يكن ثمة ريب في أن القوى الاستعمارية الغاشمة ستتغلب في النهاية على الكفاح القومي الباسل، فانه لا ريب أيضاً في الوطن القومي اليهودي سيخرج من المعركة مثخناً بالجراح، وقد وهنت قواه المادية والمعنوية، وزادت شكوك الصهيونية وهواجسها نحو المستقبل الغامض. والواقع أن فكرة الوطن القومي اليهودي لم تكن بنت القرن التاسع عشر فقط، ولكنها ترجع إلى أقدم العصور؛ فمذ حطمت مملكة أورشليم اليهودية منذ نحو ألفي عام، وشتت اليهود في أنحاء الأرض، تحلم اليهودية بالعود إلى أرض إسرائيل؛ ومع أن الجماعات اليهودية قد استقرت في الأراضي التي استوطنتها مدى القرون، غير أنها لم تندمج قط في الشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، ولبثت تكون دائماً مجتمعات مستقلة.
وترجع اليهودية تلك الظاهرة إلى نظم الاضطهاد والعزلة التي كانت تفرض على اليهود، وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية طوال القرون، حتى أنهم كانوا يرغمون على السكن والاحتشاد في أماكن خاصة تسمى (الجيتوّ).
ولكن الحقيقة أن اليهودية هي التي اختارت لنفسها هذه العزلة، وهذا الاستقلال الخالد عند الشعوب التي استقرت فيها.
ذلك أن اليهودية كانت وما زالت تعتبر دائماً أن الدين هو جامعة الجنس بين اليهود، وأن اليهودية هي ملاذ الشعب اليهودي أينما حل، وبعبارة أخرى إن الدين والجنسية بالنسبة لليهود هما وحدة لا تتجزأ.
وهذا هو الخطأ الخالد الذي وقعت فيه اليهودية، والذي أثار عليها في كل العصور ريب الشعوب وحقدها، والذي هو في الواقع أكبر عامل في تحريك الخصومة السامية.
وهذا هو الأساس الخاطئ الذي تبنى عليه فكرة الوطن القومي الذي يجتمع فيه اليهود من جميع الجنسيات واللغات. وقد فطن إلى هذا الخطأ الذي هو عنوان التعصب الخالد بعض أقطاب اليهودية، وحاولوا أن يدعوا إلى فصل الدين عن الجنسية، وإلى تشبه اليهود بسائر الشعوب في اعتبار الدين مسألة روحية محضة لا علاقة لها بالجنسية؛ دعا إلى ذلك الفيلسوف الألماني اليهودي موسى مندلزون في القرن الثامن عشر، ورأي أن تتخذ القومية اليهودية صبغة محلية، فينعدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروحي؛ وآزر مندلزون في هذه الدعوة بعض أكابر المفكرين الألمان من غير اليهود مثل الكاتب الشهير لسنج وغيره؛ ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة الدينية القديمة على قوتها وحدتها. والوطن القومي اليهودي يقوم كما قدمنا على نفس هذا الأساس، أي على جامعة الدين؛ وهذه أكبر نقط الضعف المعنوي في بنائه، فالقوميات والشعوب الحديثة لا تقام باسم الدين؛ ولم يبق الدين في بلد من بلاد العالم المتمدين أساساً للدولة؛ ثم إن هذا الضعف المعنوي في الوطن اليهودي يتخذ مظاهره المادية، ففي فلسطين يجتمع الآن يهود من جميع الجنسيات والثقافات واللغات والنزعات السياسية، ومن المحقق أن العمل الإجماعي المتناسق بين هذه العقليات والبيئات المتباينة صعب التحقيق.
والواقع أن معظم اليهود المهاجرين يفدون على فلسطين لبواعث اقتصادية قبل كل شئ، ولكي يحققوا لأنفسهم بعض وسائل العيش التي يفتقدونها في بلادهم الأصيلة؛ ومنهم من يفد قراراً من الاضطهاد الذي يفرض عليه؛ وهنا نستطيع أن نقول إن الوطن القومي الحديث كان وليد الخصومة السامية (حركة العداء ضد اليهود) أكثر من أي عامل آخر؛ وهذا أيضاً عامل مصطنع في بنائه؛ وإذا كان الوطن القومي قد أحرز في فلسطيني شيئاً من النجاح والتوسع من حيث الاحتشاد والاستثمار الاقتصادي، فذلك يرجع قبل كل شيء إلى الأموال الطائلة التي تستثمرها الرأسمالية اليهودية؛ والرأسمالية لا تعرف وطناً ولا ديناً، ولا تعرف إلا الفوائد والمغانم المادية. والخلاصة أن الوطن القومي اليهودي يقوم على عوامل وأسس مصطنعة يكشف الزمن عن ضعفها شيئا فشيئا؛ والزمن وحده كفيل بأن يبين لليهودية أن مشروع الوطن القومي والدولة اليهودية إنما هو حلم عظيم جاشت به أذهان بعض المتعصبين من أقطاب اليهودية ومفكريها، وأنه لا يمكن أن يعتبر بوضعه الحاضر أكثر من مشروع اقتصادي تؤيده الحراب البريطانية، فكل ما يحرزه من نجاح أو يصيبه من فشل يرجع إلى قواعد الاقتصاد العادية دون غيرها؛ وما جامعة الدين التي تستظل بها اليهودية، إلا طلاء السياسة، وهي أضعف من أن تقيم في عصرنا دولة أو وطنا. مؤرخ