أرشيف المقالات

ولله مع الظالمين سنن وأيام

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
ولله مع الظالمين سنن وأيام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فقد لاقى أهل الحق في هذا الزمان غربة ما بعدها غربة، وقعت عليهم المحن والأهوال والمصائب، فهم يهانون ويتهمون، ويُخوَّف الناس بهم، ويُخوَّفون منهم، يُظلمون ويٌفترى عليهم..
في الوقت الذي انتفش فيه الباطل، وظهر بوجهه القبيح، ورائحته المنتنة، وخرج أهله على الناس بالكذب والخداع، يزخرفون الباطل بأحاديثهم، ويزينونه للناس بعباراتهم، ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]، كل همهم مصالح دنيوية دنية، ففرقوا بين العباد، ومزَّقوا البلاد..
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
كما ازداد الظلم على الضعفاء والمساكين من الناس، وغاب العدل، وصار القوي يأكل الضعيف، والغني يظلم الفقير، ورب المال يجور على الأجير، ويأكل حقه.
 
كما انتشر العداء والافتراء على أهل الحق وأنصار الشريعة في كل مكان، ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 8-9].
 
وصار السلطان لأهل المال والفساد، فتسلطوا به على الفقراء والمساكين، وأذلوا الضعفاء والمحتاجين، وأهانوا الأجراء والعاملين.
فلم يشكروا نعمة الله إذ وصلت إليهم، بل استخدموها للاستعلاء والاستكبار على الناس.
 
إنها نوازل عاثرة، وجراح غائرة، وغصص تبعث على الأسى والأحزان، وتثير في النفس كوامن الأشجان.
إنها حقائق مرة، وظلم بين، ومشاهد تسمو على التصوير والتبيين..
 
والتاريخ يخبرنا عن أمم سابقة كانت تعيش حياة السعادة والطمأنينة، تجبى إليها ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فلم يصبها خوف، ولم يغشها جوع، فعصت ربها، وكفرت بنعمته عليها، فبدلت نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار، فإذا بالنعمة ترفع، والعافية تنزع، والنقمة تحل.
 
إنها سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ﴾[فاطر: 43]، سنة لا تحابي أحدًا، ولا تجامل أحدًا، فليس هناك حصانة لفرد أو مجتمع، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران:28]، فمن أتي ما يستوجب العقوبة العامة، فلا يلومن إلا نفسه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره، ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران:137]، وليست هناك أمة بمأمن من عذاب الله إذا أتت أسبابه، أو بعيدة عن عقابه إذا أتت ما يوجبه.
 
ولقد حذر القرآن الكريم والسنة النبوية، من الاغترار بالنعم، والزهو بالملك، والتكاثر بالمال، والتباهي بالدنيا ومتاعها، ونسيان الآخرة ونعيمها، ونسيان المنعم المتفضل أولًا وآخرًا.
 
كما قص الله علينا قصص الأمم الغابرة، وحكى لنا مصارعهم، حتى لا نقتفي أثرهم، ولا نسير سيرهم، وحتى يثبت أهل الإيمان ويعلموا أن لكل ظالم نهاية، ولكل طاغية حد.
 
فأقسم سبحانه بالسماء وأبراجها، والقيامة وأهوالها على أن نهاية الظالمين بؤس شديد، وعذاب أليم، فقال: ﴿ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 1-4].
وهو تهديد لمن هم على شاكلة أصحاب الأخدود، في الظلم والجبروت والطغيان.


كما حذر سبحانه هؤلاء الظالمين، والطغاة المتجبرين، الآمنين من مكره، اللذين لا يقدرونه حق قدره، فقال: ﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل: 45-47] وقال: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 97-100].

ولله مع الظالمين سنن وأيام، جعلها الله عبرة لمن يعتبر، ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾ [إبراهيم: 5]، فكم حفظ التاريخ مصارع أمم ودول ومجتمعات، كفروا بأنعم الله، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [النحل: 113]، أرسل الله عليهم عقوبات استأصلت شأفتهم، وقضت عليهم، فها هي آثارهم باقية، ومساكنهم خاوية، لم تنفعهم قوتهم، ولم تغن عنهم كثرتهم من الله شيئًا.
 
فأين عاد ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ﴾ [الفجر: 7-8]؟!
 
وأين ثمود ﴿ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ [الفجر: 9]؟!
 
وأين الفراعنة ﴿ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾[الفجر: 10-5]؟!
 
أين من نقبوا البلاد..
وأذلوا العباد؟!، أين من نحتو الجبال واتخذوا منها بيوتا فارهين؟!
 
أين من حازوا القوة، وقالوا من أشد منا قوة؟!
 
ظنوا أنهم بمنجاة حتى فاجأهم العقاب، وأذلَّهم العذاب، وأوقع الله بهم بأسه، فلم ينفعهم الندم ولات ساعة مندم.
فصاروا بعد الوجود أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعبرًا، ﴿ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40] ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾[الشعراء: 8-9].
 
وكم قص القرآن الكريم خبر أولئك المتجبرين في الأرض، المتمردين على دعوة الله، الذين أذوا رسله وعباده المؤمنين..
 
فهؤلاء قوم نوح الذين طغوا وكذبوا وعصوا، وحاولنوح أن يردهم إلى الله، بالدعوة سرًا وجهارًا، ليلًا ونهارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، فما كان منه إلا أن قال: ﴿ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 117-118] يقول الله:﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 14-15]، السماء كانت تمطر، وعيون الأرض تفيض، حتى أهلكهم الله بهذا الطوفان..
وجعلهم آية لمن يعتبر.
 
وما قصة هلاك فرعون وجنده عنا ببعيد، بعد أن علا في الأرض، فاغتر بسلطانه، فأفسد في الأرض، وأذل بني اسرائيل، ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، بل تطاول على مقام الألوهية، ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ [النازعات: 24-26]، ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40].

كما قص الله علينا خبر قوم عاد، الذين تجبروا في الأرض، واستكبروا فيها بغير الحق، يقولون: من أشد منا قوة ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، نسوا أن الله سبحانه هو واهب القُوى والقُدَر، فأرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، جعلتهم كأعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟!
 
وبعد عاد جاءت ثمود، الذين أرسل الله عليهم صيحة قطعت قلوبهم، بعد أن حاول نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام أن يصرفهم عن اتباع سبيل المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلم يستجيبوا له، وعقروا الناقة كبرًا وعنادًا، فأخذهم العذاب، ونزل بهم العقاب، ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ [القمر: 31].

ولما كفر قوم لوط، وأفسدوا في الأرض، وابتكروا فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين، وقف لهم لوط عليه السلام ناصحًا ومحذرا من عقوبة هذا الفعل الشنيع، الذي تستقبحه الطبيعة الإنسانية، وتأباه الفطرة البشرية.
فأرادوا الاعتداء على لوط ومن أمن معه، ليخرجوهم من قريتهم ﴿ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56].
فدعا عليهم وقال: ﴿ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [العنكبوت: 30]، فعاقبهم الله بعقوبتين: قلَب القرية عليهم، ﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾، وأرسل عليهم حجارة من سجيل ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ [هود: 82-83].

والتاريخ مليء بنماذج كثيرة للظالمين المعاندين، المستكبرين في الأرض، المتجبرين على الخلق، المعارضين لكل دعوة إصلاح، والذين انقضت فترتهم، واستُؤصلت شأفتهم، وقطع دابرهم، وانتهوا عن آخرهم، ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 45].

ولقد كان الظلم من أعظم أسباب نزول العذاب العام على هذه الأمم السالفة، والقرون الماضية، وهو أيضًا سبب سقوط الدول في كل زمان، وهلاك القرى في كل أوان، ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59] ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 11] ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]، ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرً ﴾ [الطلاق: 8-9].


والله عز وجل يمهل ولا يمهل، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]"[1].

فليعتبر الطغاة والمتجبرون في الأرض، من مصارع هذه الأمم الغابرة، فـ "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ، مَعَ مَا يُؤَخَّرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ بَغْيٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ"[2].
بل إن عقوبته توشك أن تنال كل ساكت عنه، راض به، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"[3].

وكيف لأمة أن تُنصر وضعيفها يهان، وفيها من يُعامل كالحيوان؟!

كيف تنجو أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، ولفقيرها من غنيها؟!

فما أعجب حال أمتنا!! تطلب النصر ولم تحقق أسبابه، ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها.

أَما وَاللَهِ إِنَّ الظُلمَ شُؤمٌ
وَلا زالَ المُسيءُ هُوَ الظَلومُ

سَتَعلَمُ يا ظلوم إِذا الِتَقَينا
غَداً عِندَ المَليكِ مَنِ الملوم

إِلى الديّانِ يَومَ الدينِ نَمضي
وَعِندَ اللَهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ

 
فيا لله..
كم شهد الليل من بكاء للمظلومين، وأنَّاتٍ للمكلومين، وشكواتٍ للضعفاء والمساكين، ومناجاة لله رب العالمين.

ويا لله..
كم أخفى الليل في ظلامة بكاء اليتامى، وأنَّات الأرامل والثكالى، ودعوات المقهورين..

فإن كانت عين الظالمين تنام، فالمظلومون لا ينامون، فهم على جمر الألم يتقلبون..
ينادون من إذا أراد شيئًا قال: كن، فيكون.

لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً
فَالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إلى النَّدَمِ

تنامُ عَيْناك والمَظْلومُ مُنَتَبِهٌ
يدعو عليك وعين الله لم تنم

 
إنها دعوات تهز أرجاء الكون، "تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ"[4].

فيا حسرة العاصين، ويا ذل مقام المتجبرين!!

أي قوة من الله تمنعهم، وأي حصون تنفعهم، حين ينزل عليهم عذابه، ويحل بهم عقابه؟! ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165].

وفي الآخرة ويلات وويلات، وحسرات ما بعدها حسرات، حينها يبكي الظالم ألمًا، ويعض على يديه حسرة وندمًا، ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ﴾ [الفرقان: 27-28]، وهيهات ينفع الندم، وهيهات يجدي التوسل والاعتذار ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر: 52]، فقد حلَّ البأس، وتحقق الوعيد: ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44].


ذكر ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) أن طاووس اليماني دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: اتق يوم الأذان.
قال هشام: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44]، فصَعِق هشام، فقال طاوس: هذا ذل الصفة، فكيف المعاينة؟![5].

وفي النار يرى الظالمون عاقبه ظلمهم، ويتجرعون مرارة طغيانهم ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29].

فيا أيها الظالمون اعتبروا، وانتهوا، فوعد الله حق، وعقابه شديد، وعذابه أليم، وأمره كلمح البصر أو هو أقرب، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

ويا أيها المظلومون..
ثقوا بربكم، وأمِّلوا خيرا، فإن الله منجز لكم ما وعد.


وما جرى لطواغيت الأمس من عذاب، وحلول النقم والمصائب، سيجري مثله لطواغيت اليوم، وجباريه، اليوم أو غداً، فهذه سنة الله التي لا تتحول ولا تتبدل.

فلا يحملنكم استبطاء النصر على اليأس من رحمة الله، فالله لا يعجل بعجلة أحد، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].

نسأل الله أن يرفع الغمة عن أمتنا، وينزل بالظالمين بأسه، الذي لا يرد عن القوم المجرمين، إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين.

[1] رواه البخاري في تفسير القرآن (4686)، عن أبي موسى.

[2] رواه أحمد (20374)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح.
والترمذي في صفة القيامة (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5704)، عن أبي بكرة.

[3] رواه أحمد (29)، وقال مخرجوه: إسناده على شرط الشيخين.
والترمذي في الفتن (2168)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1973) عن أبي بكر.

[4] رواه أحمد (8043)، وقال مخرجوه: صحيح بطرقه وشواهده.
عن أبي هريرة.

[5] الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي، دار الفكر ببيروت، دار الفكر 1987م، (2/ 202).

شارك الخبر

المرئيات-١