أرشيف المقالات

رحلة الموت كيف نفهمها؟

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
رحلة الموت كيف نفهمها؟

منذ زمن ليس بالقصير وأنا أحاول دائمًا الهرب من كلمة الموت، وربما كثيرون مثلي يعانون من هذا الخوف، وهذا الخوف ليس من نهاية العمر الشخصي مع عِظَم أمره، ولكنه من القلق على فقْد الأحبة الذي لا يعدِله حزنٌ، فالموت هو الذي يجعلك تفارق من تعلَّقَتْ رُوحك به، بل الذين يمثِّلون لك الحياة، فهم رُفقاء دربك ومجلسك وهم زوَّار عقلك في غيابهم، فهم حضورٌ مع كل خفقات قلبك، ترى شبيههم في الشارع، فتتذكرهم، تتحدث مع صورهم حال بُعدك الجزئي الزماني، ويمزق هذ البعد عنهم نفسك في غربةٍ تُفرض عليك، فكيف بالموت الذي يغيِّب صورهم عنك، ويجعلك في هذه الدنيا بأكملها وحيدًا بدونهم تردد قول الشاعر:
ذهب الذين أحبَّهم *** فعليك يا دنيا السلام
 
وكلما اشتعل الشيب في رأس حبيب أو سمعت بمرض، قلقت على أحبابك، وكلما خطف الموت حبيبًا، أحرق الحزن قلبك، واغرورقت عيناك دمعًا خوفًا من مفارقة الأحباب.
 
ولكن كما يقال: إنه قطار الحياة ينقل أناسًا إلى محطتهم الفاصلة بين الدنيا والآخرة، ويُبقي آخرين بأمرٍ من رب العالمين، ولهذا فإن الحل هو عدم الاستغراق المستمر في مفهوم الفقد الذي يتشكل في أذهاننا عن الموت، وذلك بالاندماج مع يقين اللقاء بعده، وأن من سبق إن أكرمه الله برحمته وفضله، فهو منتظرٌ بشوقٍ وحزينٌ علينا نحن المتعبين بين موجات آلام الدنيا ومشكلاتها، إن هذا الاندماج مع هذا اليقين يعطيك قوة وصمودًا عندما يحلُّ الموت في ساحتك، ويخطف حبيبًا لك.
 
وأكثر ما يُنمي هذا اليقين ويغذِّيه العيش مع كلام الله خالق الإنسان، فالقرآن من معجزاته الخالدة وصف الحياة بعد الموت، فهو يعرض لنا المشاهد التي تلي هذا المشهد، ويرينا المواقف ويعرض لنا الحوارات، ويصوِّر لنا المشاهد، وكأنها تُعرض أمام العين، فتتحرك الأشواق رغبةً بالفوز ورهبة من الخسارة، ترى الجنة وزواياها، ومفارشها، ويعرض لك القرآن أحوال الذين أُكرِموا بالجنة ومدى شوقهم وانتظارهم لمن بقوا في دنيا الظِّلال الزائلة، فيتيقن من يؤمن بهذا الكلام أن الموت مجرد محطة، توصل إلى لقاء دائم، لا يخشى بعده فراق، ولا يُعرف لونُ حزنٍ وألم.
 
نعم إن من يعيش ويتدبر نصوص القرآن، ستراه يعيش ويتذوَّق حروفه، ويرى بكلماته المشاهد وكأنها أمام عينه، يألف كلماته ويجد الشفاء لآلامه فيه، القرآن رسالة اطمئنان للموقن به إنه مرشدٌ وهادٍ إلى الطريق الذي يبدد ظلمة الخوف والقلق، وينير القلب بنور سماوي تعجِز كلمات البشر ولغاتهم عن وصفه؛ لأنه يتفق مع لغة الأرواح، وهذه اللغة جمالها أن الروح تُحِسها ولا تستطيع أن تصفها بالكلمات.
 
ويزيد في اليقين الانطلاق من أسر الذات إلى فسحة الكون اللامتناهية؛ حيث يجد المرء نفسه مندمجًا مع سلاسل الأفراد المكونين معًا للحياة، وأن ذهاب فردٍ ما هو إلا جزءٌ من سُنَّة الكون التي أرادها خالقه، فتشعر أنك متمم ومكمل لمن سبقك ولمن سيبقى بعدك.
 
فالغاية في هذه الحياة للمؤمن أن يصل إلى رضا ربه، ولهذا يحرص على أن يغرس بذرةً تُنبت ثمار الذكر الحسن، فيفخر به من يأتي بعده من نسله بعد رحيله، ويشعرون بالرغبة في السير على طريقه، وهذه البذرة الحسنة يؤكدها الدين الإسلامي حتى آخر لحظة في الحياة: "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها"، في هذا الحديث النبوي تمثِّل الفسيلة المفهوم العام للأعمال الحسنة، فكل نبتٍ يفيد الناس احرص على غرسه قبل الفراق وقبل الرحيل.
 
إن الانشغال بتطبيق مفهوم غرس الحسنات وغرس المنافع، يجعل الإنسان يتعامل مع الموت على أنه محطةُ راحةٍ ومحطة التقاءٍ بمن سبق من الأحبة، ومحطة استعداد للعرض على ربٍّ رأى من رحماته ما لا يسعه العد على حصرها.
 
إن مفهوم غرس الحسنات يتحقق ويتأتَّى من خلال الحرص على الوقت واستثماره بالعمل، ففي ديننا أن الغبن يكون في الفراغ؛ قال عليه الصلاة والسلام: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
 
وإن علماء النفس يؤكدون دائمًا أن الذين تُحقَّق لهم كلُّ رغباتهم دون عناءٍ، ترى بعضهم مأسورين في زجاجة الملل القاتل، فتراهم يمارسون أشياءَ غريبة ومفزعة؛ ليتخلصوا من أسر الملل والراحة المهلكة، فمنهم من يهوى ركوب الأمواج العاتية، وآخر يصعد الجبال، وثالث يمارس صيد أشرس الحيوانات، ولهذا رأوا أن العمل يقع على رأس مسببات السعادة، فالعمل والانشغال بالمفيد والنافع يشغلك عن القلق والترقب، أما الاستسلام للدعة والفراغ، فهو موطنٌ ينتشر فيه داءُ القلق والهم، وتصبح الأمور تكبر في عين هذا المستسلم للفراغ، فلا تراه إلا في صورة الجماد المتحرك جسدًا فقط، فهو في موات مع أن قلبه ينبض وحواسه كلها تتحرك، لا يعرف إلا الكآبة واليأس والخوف والهم، تستولي هذه الجيوش على قلبه وتسيطر على عقله، فتسجنه في محبسٍ مظلم مع أن الله سخَّر له الأكوان، وأهدى له فرصةَ الحياة؛ ليستمتع بطيِّباتها ويمتنع عن محرَّماتها، وينتظر دوره في ركوب قطار الموت؛ ليصل إلى محطة البرزخ، وبعدها تكون جنة بإذن الله وفضله، فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
 
أقول لك يا صديقي القارئ: إنَّ الموت بهذا المفهوم يصبح راحةً، بل يجعلك تفقه لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، وكذلك قول من اتبعه عندما اقترب موته فقال: غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، نعم الموت يصبح هو السبيل للقاء بربِّ الأكوان وبالأحباب الذين مضوا وما زال القلب يخفق شوقًا إليهم، بهذا نفهم الموت ويخف قلقنا من هجمته، ومفتاح الفهم هو كثرة الزاد لما بعده، فهنيئًا لمن كثُر زادُه، وعمِل لما بعد الموت.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١