تفسير سورة البقرة [124-134]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. يقول السيوطي : ( وإذ ) واذكر إذ، ( ابتلى ) اختبر، ( إبراهيم ) إبراهيم مفعول به مقدم للاهتمام به، ( ربه بكلمات ) فالذي يبتلي هو الله سبحانه وتعالى، لكن قدم المفعول هنا للاهتمام؛ لأن المبتلى هو إبراهيم، وفي قراءة: ( إبراهام )، وكلمة إبراهيم عليه السلام فيها ست لغات: إبراهيم وهي اللغة الفاشية المشتهرة، وإبراهُم، وإبراهَم، وإبراهِم، وإبراهام، وإبرهم كما قال عبد المطلب : عذت بما عاذ به إبرهم مستقبل القبلة وهو قائم وقال أيضاً: نحن آل الله في كعبته لم يزل ذاك على عهد إبرهم فاللغة الفاشية والمشهورة في ذلك هي إبراهيم، أما إبراهام فهي اللغة التي يتعامل بها أهل اللغات الأعجمية. وإبراهيم باللغة السريانية يعني أب رحيم، وكثيراً ما يقع الاتفاق بين اللغة السريانية واللغة العربية، فإن كلمة إبراهيم تفسيرها: أب راحم لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل إبراهيم عليه السلام هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة، وقد دل على هذا ما خرجه البخاري في حديث الرؤيا الطويل عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في تلك الروضة العظيمة شيخاً كبيراً جالساً وحوله أطفال صغار كثيرون، فقال له الملكان: إن هذا إبراهيم عليه السلام، وحوله أولاد الناس الذين يموتون وهم صغار، فهو لرحمته بالأطفال كان كافلاً لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة.

اجتماع الأمم على حب إبراهيم

قوله: ( وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) يقول السيوطي : بأوامر ونواه كلفه الله سبحانه وتعالى بها، قيل: الكلمات هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق شعر الرأس، وقلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، كما جاء في بعض الأحاديث: (خمس في الرأس وخمس في الجسد) ، ومنها كما ترون خصال الفطرة. ( فأتمهن ) أي: أداهن تامات، ( قال ) الله تعالى له عليه السلام: ( إني جاعلك للناس إماماً ) أي قدوة في الدين. وهذه من دقة السيوطي رحمه الله تعالى، إمام دين لا إمام دنيا كما سيأتي، وفعلاً هذا ما كان حيث جعله الله سبحانه وتعالى محل اجتماع الأمم كلها عليه، الأمم الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون كلهم مجتمعون على حب إبراهيم عليه السلام، واتخاذه إماماً وقدوة، والجميع يدعون أنه كان على دينهم، حتى اليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يزعمون أنه كان نصرانياً، وبلا شك أن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68] كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن الخلاصة: أنه إمام وقدوة لجميع الأمم، فقد اجتمعت الأمم على محبته وإمامته، واعترف به كل أهل الأديان، سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو المسلمون، ونحن نعلم الأحداث الأخيرة التي وقعت في مسجد الخليل، والمجزرة التي حصلت للمسلمين وهم يصلون في رمضان ناشئة عن اليهود، الذين يعتبرون أن لهم حقاً في هذا المكان، حيث يزعمون أن فيه قبر الخليل عليه السلام وبعض آله، فالمسجد مبني أساساً وكان فيه المسلمون، والمسجد نفسه مقفل من الداخل، فقالوا: إبراهيم هذا أبونا، وأنتم -أيها المسلمون- تقولون هو أبوكم أنتم، فلابد لنا من نصيب في المسجد، ثم قسموا المسجد من الداخل بحبل، جزء صغير لليهود يصلون فيه، وكانوا يصلون أحياناً مع المسلمين في نفس الوقت داخل المسجد، وإذا بالحبل يتسع في نصيب اليهود، وينحاز على نصيب المسلمين إلى أن بلغ تقريباً الشطر أو أكثر من ذلك، ولما وقعت هذه الحادثة كنا نقول: كيف تمكنوا وبهذه السهولة أن يدخلوا المسجد ويقتلوا هذا العدد من المسلمين وبهذه البساطة؟! ثم بعد ذلك عرف أن هذا هو الوضع، وأن المسجد مقسم بحبل من الداخل بين اليهود وبين المسلمين، وأن اليهود يدخلون في نفس الوقت يصلون مع المسلمين اعتداداً بأبيهم إبراهيم عليه السلام. ( قال ومن ذريتي ) يعني واجعل من أولادي أئمة، وبعض العلماء قالوا: هي على الاستفهام، يعني: ومن ذريتي ماذا يكون؟ كأن إبراهيم يسأل، وهذا تفسير آخر، ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) أي: لا ينال عهدي بالإمامة الكافرين منهم، فدل على أن الإمامة تنال غير الظالم. نعود لبعض التفصيل في تفسير هذه الفقرة من الآيات، يقول تبارك وتعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم، ذكر الجميع -سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو مشركي العرب- ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام، تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالف عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هنالك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به في توحيده وحنيفيته، كذا في ذكر الإسلام والتوحيد. وهذا الربع من هذا الجزء يشتمل على معان عظيمة جداً في قضية الإسلام والتوحيد، وفي ذكر الإسلام والتوحيد. ( وإذ ابتلى ) إذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التنويه، أي: واذكر لهؤلاء جميعاً من العرب واليهود والنصارى الذين يفتخرون بإبراهيم ويعتدون به عليه السلام، اذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا؛ لما فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم عليه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا في الآية التي قبلها مباشرة: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47] أي: واذكروا -يا بني إسرائيل- إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتهون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرهم، أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فوفوا وتمسكوا بالإسلام فكونوا مثله، فما لكم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد، والثبات على الوعد؛ ليجازيكم الله على ذلك جزاء المحسنين؟

ابتلاء الله لإبراهيم وتوفيته بما ابتلي به

الابتلاء في الأصل الاختبار، ( وإذ ابتلى ) يعني اختبر، أي: تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، هذا هو تعريف كلمة الابتلاء أو الاختبار. والاختبار تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، والاختبار إذا وقع من مخلوق في حق مخلوق فإنما يختبره ليظهر له ما لا يعلمه من حاله، وهو من الله لإظهار ما قد علم، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] (لنبلوكم) أو (ليبلوكم) أو ما شابه ذلك من الكلمات فإنما المقصود من هذا الابتلاء، مثل قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] حتى نعلم علم شهادة وإظهار بعدما علمناه علم غيب، فإنه بلا شك وقطعاً أن الله سبحانه وتعالى يعلم هذه الأشياء قبل وقوعها، وإنما يبتلي العباد ليعلم علم شهادة بعد وقوعها في عالم الواقع، فالاختبار من الله لإظهار ما قد علم، وعاقبة الابتلاء: ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافة الابتلاء إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] يعني: بشرائع وأوامر ونواه، وقوله (كلمات) يرجع تحقيقها إلى كلام الباري تبارك وتعالى، يعني أن الكلمات هي كلمات الله، وكلام الله الذي تكلم الله سبحانه وتعالى به، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة؛ لأنه صدر عن كلمة (كن) فهذا من باب تسمية الشيء بمقدمته، يعني عيسى عليه السلام خلق بكلمة: ( كن ) فلما خلق بكلمة (كن) التي هي مقدمة خلقه سمي كلمة الله من باب تسمية الشيء بمقدمته، كما قال سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171] كذلك أيضاً هنا ( بكلمات ) أي: كلام الله؛ لأن تكليف إبراهيم عليه السلام إنما تم بكلام الله، فتكلم الله مكلفاً جبريل أن يبلغ إبراهيم عليه السلام أحكاماً معينة: أوامر ونواهي، وشرائع، فتكلم الله بها فأوحاها جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فلذلك سماها كلمات، وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا لحديث أو إجماع، ويرجح الفاطمي فيقول: وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام؛ فأسلم لرب العالمين، وابتلاؤه بالهجرة؛ فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار؛ فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان، فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة، ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء، وهذا معنى قوله تعالى: ( فأتمهن ) وهذا كقوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أي: بالإسلام، أسلم ووفى؛ لأن الإسلام هو التوفية، فهنا عبر بقوله: ( فأتمهن )، وفي الآية الأخرى قال: ( وإبراهيم الذي وفى )، ووفى تساوي تمام الكلمة ( فأتمهن ) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

عهد الله بالإمامة لإبراهيم ولذريته

قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]. (قال) هذه جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال مقدر بعد الكلام، يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام أتم هذه الكلمات وامتثل هذه الشرائع التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، ( فأتمهن ) كأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ ما جوزي على هذه التوفية؟ قيل: قال له ربه: ( إني جاعلك للناس إماماً )؛ فشكر الله بذلك صنيعه بإتمام هؤلاء الكلمات، ومعنى (إماماً) أي: قدوة لمن بعدك، والإمام اسم لمن يؤتم به، ولم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا كان مأموراً باتباع ملته، فهو أبو الأنبياء جميعاً، وكان هؤلاء الأنبياء جميعاً من ذريته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]. ( قال ومن ذريتي ) إما أن يكون المراد: أن إبراهيم عليه السلام قال: ( ومن ذريتي ) يعني واجعل من ذريتي أئمة، وهذا حب الإمامة، وهناك فرق بينه وبين حب الرئاسة في الدين، والزعامة والظهور، فإن حب الإمامة إنما هو لخدمة الدين وللبذل في سبيله، والتمكن من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما التنازل عن الرياسة طلباً للظهور في الدنيا فهذا من الدنيا وليس من الدين، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في دعاء عباد الرحمن: أنهم يدعون الله تبارك وتعالى بسؤال وطلب الإمامة أيضاً، قال سبحانه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] يعني: اجعلنا نأتم بمن قبلنا، فنصلح لأن يأتم بنا من بعدنا. قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة كما جعلتني إماماً، قال: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] قال: قد أجبتك وعاهدتك أن أحسن إلى ذريتك، ولكن لا ينال عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الظالمين من هذه الذرية، وهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى علم أن من ذرية إبراهيم عليه السلام ظالمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في مواضع أخر أن منهم ظالماً وغير ظالم، وذلك في قوله عز وجل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، وقال أيضاً: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]. وعلى التفسير الآخر قوله: ( ومن ذريتي ) كأنها على الاستفاهم، يعني وذريتي كيف يكون الحال منهم؟ فأتى الجواب ( لا ينال عهدي الظالمين ) ولا تعارض، فقوله: ( لا ينال عهدي ) أي: بالإمامة الظالمين. وقد اختلف العلماء في المراد بالعهد هنا، فأصح الأقوال: أن العهد هنا هو الإمامة، وقيل: الرحمة، والدين، والنبوة، والأمان، والميثاق، وأصحها: الإمامة في الدين؛ لإن هؤلاء الظالمين هم من ذريتك، وهم أبناء صلبك، ومن ذريتك من ناحية النسل، أما من ناحية الدين فإنهم بظلمهم وكفرهم وانحرافهم قد انتفت عنهم أبوتك إياهم، فليسوا أبناءك في الدين، وإن كانوا أبناءك من ذريتك، تماماً كما قال الله عز وجل في حق نوح عليه السلام: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:45-46] وفي قراءة: ( إنه ليس من أهلك إنه عَمِلَ غير صالح )، وهو قطعاً من صلبه، ولكن ليس على دينك، وليس من المؤمنين الذين وعدتك بإنجائهم، فهؤلاء -يا إبراهيم- ليسوا من أبنائك في الدين وإن كانوا من نسلك وذريتك. وفي قوله: ( لا ينال عهدي الظالمين ) إجابة خفية لدعوته عليه السلام، ووعد إجمالي منه تعالى بتشريك بعض ذريته بنيل عهد الإمامة، يفهم منها: أن من ذريته فعلاً من سينال الإمامة، أما الظالمون منهم الذين ليسوا أبناءه في الدين فلن ينالوا هذه الإمامة، كما قال تعالى: ( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب )، وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، يعني: إن كنتم يا عرب أو يا يهود أو يا نصارى تزعمون أن أباكم إبراهيم عليه السلام، فإن كنتم من الظالمين الذين انحرفوا عن ملته فلن تكونوا أئمة في الدين، فتخلقوا بأخلاقه، ووفوا بالذي وفى به حتى تكونوا على طريقته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهذه إشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، لا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون.

المراد بالإمامة في قوله: (إني جاعلك للناس إماماً)

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة، والكشاف أوسع المقال في ذلك، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم بوجوب عصمة الأئمة ظاهراً وباطناً، يقول القاسمي : (إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ، إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك)، فالعهد هنا صحيح يراد به الإمامة، لكن ليس الإمامة التي هي السلطنة والملك والمنصب السياسي، لكنها إمامة الدين، فالمراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها. قال: (وهل كانت إلا الإمامة في الدين، وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع)، لو كانت الآية بمعنى الإمامة التي هي السلطنة والملك والخلافة لا ينالها الظالم، لكان الواقع مخالفاً لذلك، لماذا؟ لأنه نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، وهذا لا يحتاج لشاهد، سواء في واقع التاريخ الماضي أو المعاصر، فقد وقعت الإمامة في أيدي الظالمين في فترات كثيرة في عهد الخلافة الأموية والعباسية وما بعدهما إلى يومنا هذا، فالواقع يشهد أن الإمامة التي لا ينالها الظالمون إنما هي إمامة الدين، مثل النبوة، أما الواقع فيشهد بأن السلطنة والخلافة والملك والحكم كثيراً ما تكون في أيدي الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة، والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم، كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلاً. وقضية الحاكم الجائر الظالم فيها تفصيل في كتب السياسة الشرعية ليس هذا أوانه وإن كنا قد فصلنا الكلام فيه في بحث: نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية.

قوله: ( وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) يقول السيوطي : بأوامر ونواه كلفه الله سبحانه وتعالى بها، قيل: الكلمات هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق شعر الرأس، وقلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، كما جاء في بعض الأحاديث: (خمس في الرأس وخمس في الجسد) ، ومنها كما ترون خصال الفطرة. ( فأتمهن ) أي: أداهن تامات، ( قال ) الله تعالى له عليه السلام: ( إني جاعلك للناس إماماً ) أي قدوة في الدين. وهذه من دقة السيوطي رحمه الله تعالى، إمام دين لا إمام دنيا كما سيأتي، وفعلاً هذا ما كان حيث جعله الله سبحانه وتعالى محل اجتماع الأمم كلها عليه، الأمم الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون كلهم مجتمعون على حب إبراهيم عليه السلام، واتخاذه إماماً وقدوة، والجميع يدعون أنه كان على دينهم، حتى اليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يزعمون أنه كان نصرانياً، وبلا شك أن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68] كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن الخلاصة: أنه إمام وقدوة لجميع الأمم، فقد اجتمعت الأمم على محبته وإمامته، واعترف به كل أهل الأديان، سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو المسلمون، ونحن نعلم الأحداث الأخيرة التي وقعت في مسجد الخليل، والمجزرة التي حصلت للمسلمين وهم يصلون في رمضان ناشئة عن اليهود، الذين يعتبرون أن لهم حقاً في هذا المكان، حيث يزعمون أن فيه قبر الخليل عليه السلام وبعض آله، فالمسجد مبني أساساً وكان فيه المسلمون، والمسجد نفسه مقفل من الداخل، فقالوا: إبراهيم هذا أبونا، وأنتم -أيها المسلمون- تقولون هو أبوكم أنتم، فلابد لنا من نصيب في المسجد، ثم قسموا المسجد من الداخل بحبل، جزء صغير لليهود يصلون فيه، وكانوا يصلون أحياناً مع المسلمين في نفس الوقت داخل المسجد، وإذا بالحبل يتسع في نصيب اليهود، وينحاز على نصيب المسلمين إلى أن بلغ تقريباً الشطر أو أكثر من ذلك، ولما وقعت هذه الحادثة كنا نقول: كيف تمكنوا وبهذه السهولة أن يدخلوا المسجد ويقتلوا هذا العدد من المسلمين وبهذه البساطة؟! ثم بعد ذلك عرف أن هذا هو الوضع، وأن المسجد مقسم بحبل من الداخل بين اليهود وبين المسلمين، وأن اليهود يدخلون في نفس الوقت يصلون مع المسلمين اعتداداً بأبيهم إبراهيم عليه السلام. ( قال ومن ذريتي ) يعني واجعل من أولادي أئمة، وبعض العلماء قالوا: هي على الاستفهام، يعني: ومن ذريتي ماذا يكون؟ كأن إبراهيم يسأل، وهذا تفسير آخر، ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) أي: لا ينال عهدي بالإمامة الكافرين منهم، فدل على أن الإمامة تنال غير الظالم. نعود لبعض التفصيل في تفسير هذه الفقرة من الآيات، يقول تبارك وتعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم، ذكر الجميع -سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو مشركي العرب- ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام، تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالف عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هنالك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به في توحيده وحنيفيته، كذا في ذكر الإسلام والتوحيد. وهذا الربع من هذا الجزء يشتمل على معان عظيمة جداً في قضية الإسلام والتوحيد، وفي ذكر الإسلام والتوحيد. ( وإذ ابتلى ) إذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التنويه، أي: واذكر لهؤلاء جميعاً من العرب واليهود والنصارى الذين يفتخرون بإبراهيم ويعتدون به عليه السلام، اذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا؛ لما فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم عليه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا في الآية التي قبلها مباشرة: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47] أي: واذكروا -يا بني إسرائيل- إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتهون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرهم، أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فوفوا وتمسكوا بالإسلام فكونوا مثله، فما لكم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد، والثبات على الوعد؛ ليجازيكم الله على ذلك جزاء المحسنين؟

الابتلاء في الأصل الاختبار، ( وإذ ابتلى ) يعني اختبر، أي: تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، هذا هو تعريف كلمة الابتلاء أو الاختبار. والاختبار تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، والاختبار إذا وقع من مخلوق في حق مخلوق فإنما يختبره ليظهر له ما لا يعلمه من حاله، وهو من الله لإظهار ما قد علم، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] (لنبلوكم) أو (ليبلوكم) أو ما شابه ذلك من الكلمات فإنما المقصود من هذا الابتلاء، مثل قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] حتى نعلم علم شهادة وإظهار بعدما علمناه علم غيب، فإنه بلا شك وقطعاً أن الله سبحانه وتعالى يعلم هذه الأشياء قبل وقوعها، وإنما يبتلي العباد ليعلم علم شهادة بعد وقوعها في عالم الواقع، فالاختبار من الله لإظهار ما قد علم، وعاقبة الابتلاء: ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافة الابتلاء إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] يعني: بشرائع وأوامر ونواه، وقوله (كلمات) يرجع تحقيقها إلى كلام الباري تبارك وتعالى، يعني أن الكلمات هي كلمات الله، وكلام الله الذي تكلم الله سبحانه وتعالى به، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة؛ لأنه صدر عن كلمة (كن) فهذا من باب تسمية الشيء بمقدمته، يعني عيسى عليه السلام خلق بكلمة: ( كن ) فلما خلق بكلمة (كن) التي هي مقدمة خلقه سمي كلمة الله من باب تسمية الشيء بمقدمته، كما قال سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171] كذلك أيضاً هنا ( بكلمات ) أي: كلام الله؛ لأن تكليف إبراهيم عليه السلام إنما تم بكلام الله، فتكلم الله مكلفاً جبريل أن يبلغ إبراهيم عليه السلام أحكاماً معينة: أوامر ونواهي، وشرائع، فتكلم الله بها فأوحاها جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فلذلك سماها كلمات، وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا لحديث أو إجماع، ويرجح الفاطمي فيقول: وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام؛ فأسلم لرب العالمين، وابتلاؤه بالهجرة؛ فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار؛ فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان، فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة، ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء، وهذا معنى قوله تعالى: ( فأتمهن ) وهذا كقوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أي: بالإسلام، أسلم ووفى؛ لأن الإسلام هو التوفية، فهنا عبر بقوله: ( فأتمهن )، وفي الآية الأخرى قال: ( وإبراهيم الذي وفى )، ووفى تساوي تمام الكلمة ( فأتمهن ) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]. (قال) هذه جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال مقدر بعد الكلام، يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام أتم هذه الكلمات وامتثل هذه الشرائع التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، ( فأتمهن ) كأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ ما جوزي على هذه التوفية؟ قيل: قال له ربه: ( إني جاعلك للناس إماماً )؛ فشكر الله بذلك صنيعه بإتمام هؤلاء الكلمات، ومعنى (إماماً) أي: قدوة لمن بعدك، والإمام اسم لمن يؤتم به، ولم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا كان مأموراً باتباع ملته، فهو أبو الأنبياء جميعاً، وكان هؤلاء الأنبياء جميعاً من ذريته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]. ( قال ومن ذريتي ) إما أن يكون المراد: أن إبراهيم عليه السلام قال: ( ومن ذريتي ) يعني واجعل من ذريتي أئمة، وهذا حب الإمامة، وهناك فرق بينه وبين حب الرئاسة في الدين، والزعامة والظهور، فإن حب الإمامة إنما هو لخدمة الدين وللبذل في سبيله، والتمكن من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما التنازل عن الرياسة طلباً للظهور في الدنيا فهذا من الدنيا وليس من الدين، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في دعاء عباد الرحمن: أنهم يدعون الله تبارك وتعالى بسؤال وطلب الإمامة أيضاً، قال سبحانه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] يعني: اجعلنا نأتم بمن قبلنا، فنصلح لأن يأتم بنا من بعدنا. قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة كما جعلتني إماماً، قال: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] قال: قد أجبتك وعاهدتك أن أحسن إلى ذريتك، ولكن لا ينال عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الظالمين من هذه الذرية، وهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى علم أن من ذرية إبراهيم عليه السلام ظالمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في مواضع أخر أن منهم ظالماً وغير ظالم، وذلك في قوله عز وجل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، وقال أيضاً: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]. وعلى التفسير الآخر قوله: ( ومن ذريتي ) كأنها على الاستفاهم، يعني وذريتي كيف يكون الحال منهم؟ فأتى الجواب ( لا ينال عهدي الظالمين ) ولا تعارض، فقوله: ( لا ينال عهدي ) أي: بالإمامة الظالمين. وقد اختلف العلماء في المراد بالعهد هنا، فأصح الأقوال: أن العهد هنا هو الإمامة، وقيل: الرحمة، والدين، والنبوة، والأمان، والميثاق، وأصحها: الإمامة في الدين؛ لإن هؤلاء الظالمين هم من ذريتك، وهم أبناء صلبك، ومن ذريتك من ناحية النسل، أما من ناحية الدين فإنهم بظلمهم وكفرهم وانحرافهم قد انتفت عنهم أبوتك إياهم، فليسوا أبناءك في الدين، وإن كانوا أبناءك من ذريتك، تماماً كما قال الله عز وجل في حق نوح عليه السلام: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:45-46] وفي قراءة: ( إنه ليس من أهلك إنه عَمِلَ غير صالح )، وهو قطعاً من صلبه، ولكن ليس على دينك، وليس من المؤمنين الذين وعدتك بإنجائهم، فهؤلاء -يا إبراهيم- ليسوا من أبنائك في الدين وإن كانوا من نسلك وذريتك. وفي قوله: ( لا ينال عهدي الظالمين ) إجابة خفية لدعوته عليه السلام، ووعد إجمالي منه تعالى بتشريك بعض ذريته بنيل عهد الإمامة، يفهم منها: أن من ذريته فعلاً من سينال الإمامة، أما الظالمون منهم الذين ليسوا أبناءه في الدين فلن ينالوا هذه الإمامة، كما قال تعالى: ( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب )، وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، يعني: إن كنتم يا عرب أو يا يهود أو يا نصارى تزعمون أن أباكم إبراهيم عليه السلام، فإن كنتم من الظالمين الذين انحرفوا عن ملته فلن تكونوا أئمة في الدين، فتخلقوا بأخلاقه، ووفوا بالذي وفى به حتى تكونوا على طريقته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهذه إشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، لا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون.

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة، والكشاف أوسع المقال في ذلك، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم بوجوب عصمة الأئمة ظاهراً وباطناً، يقول القاسمي : (إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ، إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك)، فالعهد هنا صحيح يراد به الإمامة، لكن ليس الإمامة التي هي السلطنة والملك والمنصب السياسي، لكنها إمامة الدين، فالمراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها. قال: (وهل كانت إلا الإمامة في الدين، وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع)، لو كانت الآية بمعنى الإمامة التي هي السلطنة والملك والخلافة لا ينالها الظالم، لكان الواقع مخالفاً لذلك، لماذا؟ لأنه نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، وهذا لا يحتاج لشاهد، سواء في واقع التاريخ الماضي أو المعاصر، فقد وقعت الإمامة في أيدي الظالمين في فترات كثيرة في عهد الخلافة الأموية والعباسية وما بعدهما إلى يومنا هذا، فالواقع يشهد أن الإمامة التي لا ينالها الظالمون إنما هي إمامة الدين، مثل النبوة، أما الواقع فيشهد بأن السلطنة والخلافة والملك والحكم كثيراً ما تكون في أيدي الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة، والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم، كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلاً. وقضية الحاكم الجائر الظالم فيها تفصيل في كتب السياسة الشرعية ليس هذا أوانه وإن كنا قد فصلنا الكلام فيه في بحث: نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية.

قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] ( وإذ جعلنا البيت ) يعني الكعبة. ( مثابة للناس ) يقول السيوطي : مرجعاً يثوبون إليه من كل جانب، ومأمناً لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يهيجه. ( واتخذوا من مقام إبراهيم ) اتخذوا -أيها الناس- من مقام إبراهيم عليه السلام وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت ( مصلى ) أي: مكاناً تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة: ( واتَخَذوا من مقام إبراهيم مصلى ) على الخبر. قوله تبارك وتعالى: ( وإذ جعلنا ) يعني: صيرنا، ( البيت ) يعني الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم للكعبة غالباً، كالنجم للثريا، والألف واللام تدخل للمعهود، والمخاطبون هنا في هذه الآية يعلمون أنه سبحانه وتعالى لم يرد هنا جنس البيت، وإنما يقصد بيتاً معهوداً في الأذهان، كما قال: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:16]، مع أنه لم يصرح باسم الرسول، لكن أل هنا للعهد الذهني، والرسول هو موسى عليه السلام، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود. ( مثابة للناس ) أي: مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ويحنون ويعودون ويئوبون إليه، و( مثابة ) على وزن مفعلة من الثوَب، وهو الرجوع بالكلية، وليس مجرد رجوع فقط، إنما رجوع مع انجذاب القلب كما يجذب المغناطيس الحديد، فهكذا حال القلوب مع هذا البيت المشرف، وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له، لم يقل: وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس يرجعون إليه، لكن استعمل كلمة مثابة، لأنه رجوع مع انجذاب شديد، فالقلوب ترتمي وتنجذب إليه انجذاباً قوياً؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل: محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال الهيولى بضم الياء مخففة أو مشددة، مادة الشيء التي يصنع منها، فهيولى الكرسي الخشب، أو هيولى المسمار الحديد، أو هيولى الملابس القطنية القطن، وهكذا. والقائل هنا يمدح أحد المخلوقين ويذكر محاسنه، وبلا شك فإن الكعبة المشرفة أولى بهذا الثناء وهذا المديح؛ فهم يثوبون إلى البيت على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، وكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقاً، بل بالعكس تجد الذي يزور البيت الحرام ويشرفه الله سبحانه وتعالى بذلك لا يكون كمن لم يزره في شدة الشوق إليه، فإن من ذاق وعرف ليس كمن لم يذق ولم يعرف، فتجد من زاره لا يقضي منه وطراً، ولا يشبع أبداً من مجاورة هذا البيت والحج إليه، يقول: فكلما ازدادوا له زيارة ازدادت قلوبهم به تعلقاً، وازدادوا له تعطشاً واشتياقاً. جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ويقول آخر واصفاً الكعبة المشرفة: لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً فالإنسان إذا نظر من بعيد عنها ينجذب من جديد إلى النظر إليها كي يملأ عينه منها، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ويقول آخر: سل الله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يبذل الآلاف؟ تجد شركات الطيران والسفارات يصعبون على الناس الحصول على تأشيرات الحج والعمرة، ومع ذلك هل يتوقف الناس؟! لا، بل يثوبون إلى البيت، ويضحي المسلم بكل شيء، بالمال الذي يدخره، وبفراق أهله وأولاده، بترك عمله، بمفارقة وطنه، بكل هذه التضحيات! هل سيجد هناك منصباً دنيوياً فيعطيه أحد مالاً؟ هل سيجد جنات وبساتين ومناظر جميلة وجبال تكسوها الثلوج كما يجد الذين يحجون إلى سويسرا وأوروبا؟! لا يجد إلا الحر الشديد، وقد يجد المعاملة الغليظة من بعض أهل تلك البلاد، فلا شيء من أمور الدنيا يجذبه، وليس إلا هذا المغناطيس الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في هذا البيت المشرف، زاده الله تشريفاً وتكريماً. فقد رضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمصاعب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه. فهذا معنى مثابة للناس، يثوبون إليه لايشبعون منه، إذا ذهبوا إليه يعودون منه من كل حدب وصوب، ومن كل جهة منجذبين إليه، هذا معنى قوله: (مثابة للناس).

معنى وصف البيت بالأمن

قوله تعالى: ( وأمناً ) أي: موضع أمن، وهنا أطلق اللفظ لكن المقصود به الموضع، كقوله تعالى: حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وكقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وأمناً ) يريد أمن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة ألا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يئووه، ولا يكلم حتى يخرج، فإن خرج أقيم عليه الحد. يعني من أحدث حدثاً خارج الحرم ثم أوى إلى الحرم؛ يترك ولا يقرب منه أحد، حتى في الجاهلية كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم -مع أنهم كانوا مشركين- فيتورع عن أن يناله بسوء إلى أن يخرج من الحرم فيقتله، لكن ما دام أنه داخل الحرم فهو آمن. قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم، ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً )، فالبيت المقصود به الكعبة المشرفة، لكن المراد من قوله: ( وأمناً ) كل الحرم، كما قال تعالى: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] فهنا صرح بالكعبة، لكن هل المقصود الكعبة ذاتها؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يذبح أحد الهدي داخل الكعبة؛ فالمراد: هدياً بالغ الحرم؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط. فقوله: ( مثابة للناس وأمناً ) ليس فقط خبراً أنه آمن، لكنه فيه تكليف، بمعنى: أمِّنوا من يدخله، ولا تروعوا من يدخله، فهو خبر ومقصود منه أيضاً الأمر والإنشاء والتسلية، وهذا ظاهره خبر، والمراد منه الإنشاء وإصدار الحكم الشرعي لتأمين من يدخل البيت الحرام، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون، أهل مكة بالذات لا يقترب أحد منهم، ولا يؤذيهم ولا يروعهم أحد، اعتداداً بحرمة البيت، وهذا الأمان الذي شرعه الله لهم، وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.

البيت الحرام مهوى أفئدة الناس

البيت الحرام تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37] وهذه آية من آيات الله سبحانه تعالى، إذ تجد القلوب تنجذب إليه مهما كانت التضحية، ومهما كانت الأموال، ومهما كانت المشقة، ومع ذلك فألذ شيء عنده أن يرحل، خصوصاً الذين يأتون من الباكستان والهند، تجد علامات الفقر الشديد بادية ظاهرة عليه، وتجد الرجل قد أتى بزوجته، وربما بأبيه وجده ونسائه وأولاده، تمشي قافلة أسرة واحدة في حالة من الفقر البادي والظاهر عليهم، ومع ذلك يأتون وهم أشد الناس فرحاً بوصولهم إلى هذا البيت الحرام، فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي ظهور أثر استجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام. جماعة من المنصرين في أندونيسيا ظنوا أنهم أفلحوا في استعباد واستغلال الفقر والجهل والمرض عند المسلمين هناك، فأقنعوهم في الظاهر، وانقاد لهم العشرات مقابل الأدوية والأموال والملابس والإعانة؛ لأنهم في حالة فقر شديد، فاستطاعوا أن يغرروا ببعض المسلمين الجهلة، واستجابوا في الظاهر لهؤلاء المنصرين المكفرين المبشرين بالنار، حتى أفلحوا وأخذوهم إلى الكنيسة وعمدوهم في الكنيسة، فقال لهم القسيس بعدما فرغ من تعميدهم: الآن نريد أن نكافئكم على دخولكم في النصرانية، كل واحد يطلب الأمنية التي يحبها، ونحن ننفذها له مهما كانت، فبصوت واحد أجابوا جميعاً وقالوا: الحج إلى مكة! ونسوا كل شيء، لماذا؟ لأن القلوب تهوي إلى هذا البيت الحرام، وكل مؤمن في قلبه إيمان وحب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يجد هذا الانجذاب، وهذا أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: (إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار)، والحرم المكي حرمه إبراهيم عليه السلام، والمدينة جعلها حرماً النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشرعه وشريعته، وما عدا ذلك فكل الأرض حلال، فليس في الأرض حرم إلا مكة والمدينة، وهناك خلاف في واد في الطائف، لكن الظاهر والمشهور أن الحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، والمسجد الأقصى لا دليل على أنه حرم، وكذا الحرم الخليلي، فليسا بحرم، ولا تنطبق عليهما أحكام الحرم، صحيح أن المسجد الأقصى من المواضع الشريفة، لكنه ليس حرماً؛ لأن كلمة حرم كلمة لها حدود وأحكام تخالف بها سائر أرجاء الأرض، فمثلاً: لا يدخلها الكافر، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، وغير ذلك من الأحكام، فلا يوجد حرم خليلي أو حرم إبراهيمي، فضلاً عن حرم الجامعة وحرم كذا وكذا، فكل هذا الكلام لا يجوز، فلا يطلق على هذه المواضع هذا اللفظ الشريف؛ لأن فيه تسوية لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى في غير هذين البلدين.

الصلاة في المقام الإبراهيمي

قوله تبارك وتعالى: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قرئ بكسر الخاء وقرئ بفتحها، إما أنه أمر معترض بين الجملتين الخبريتين أو بتقدير ( واتخذوا )، أي: وقلنا اتخذوا، وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا، فتكون ( واتخذوا ) معطوفاً على جعلنا، أي: اتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله كما ورد عن مجاهد، وعنه قال: جمع (مزدلفة) ومنى ومكة، ويقال: مقامه الذي هو في المسجد الحرام، فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة، يقول القاسمي : أقول كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، ذكرنا من قبل أن البيت المقصود به الكعبة، وهو يطلق على الكعبة، لكن المقصود الأمن داخل الحرم كله، فالمصلي في الحرم كله آمن، إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، فلم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، مع أن هذا هو المعنى، لكنه عدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب الحكيم في قوله تعالى: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ولم يقل: واتخذوا منه مصلى، لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها، حيث أفرده للعناية بها جملة على حدة. ثانيها: التذكير؛ لأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير بأن يحترم ويعظم. ثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، ولم يقل: ومصلى، وإنما قال: ( واتخذوا )، فعدل عن الخبر إلى الأمر، إظهاراً أن هذا تشريع من الله سبحانه وتعالى، فالتنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر تمهيداً للأمر باستقباله، لأن هذه الأجزاء في الآيات كلها فيها إرهاصات بين يدي أمر خطير سيحصل قريباً، وهو تحويل القبلة، فالتنويه بقصة بناء البيت وتشريفه وجعله مثابة للناس وأمناً، ثم الأمر باتخاذه مصلى، إرهاص وتقديم وتوطئة وتمهيد بين يدي الأمر الذي سيأتي قريباً بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فهذا تمهيد للأمر باستقباله، وإلزام لمن جادل فيه وهم اليهود، فإن اليهود جادلوا في تحويل القبلة، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم شرف هذه القبلة الجديدة، وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )) والحديث نصه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية). قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت. ومن ذهب إلى هناك تمكن من أن يراه، وهم يضعونه داخل تلك القبة النحاسية، ويضعون عليه حراسة، لأن كثيراً من الجهلة يعمدون إليه ويتمسحون به، وهذا من البدع والضلال، ومن دقق النظر داخل هذه القبة الزجاجية رأى الحجر بالفعل، وعليه موضع قدمي إبراهيم عليه السلام كالحفر، وموضع القدمين واضح جداً في الحجر نفسه.

تاريخ مقام إبراهيم

يقول ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، فلما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار، وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليه، وهكذا حتى أتم بناء جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري. قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً. ومن تأمل في الجهة الشرقية من الكعبة يجد مكان المقام ما زال واضحاً، يقول ابن كثير : ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمين الداخل من الباب. والحرم كان ضيقاً جداً من قبل، وكأن الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا -والله أعلم- أمر عند الفراغ من الطواف بصلاة سنة الطواف هناك، وناسب أن تكون الصلاة عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، فالذي حوله من المكان اللصيق بالكعبة إلى المكان الموجود الآن هو عمر رضي الله تعالى، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه). قيل: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه.

قوله تعالى: ( وأمناً ) أي: موضع أمن، وهنا أطلق اللفظ لكن المقصود به الموضع، كقوله تعالى: حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وكقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وأمناً ) يريد أمن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة ألا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يئووه، ولا يكلم حتى يخرج، فإن خرج أقيم عليه الحد. يعني من أحدث حدثاً خارج الحرم ثم أوى إلى الحرم؛ يترك ولا يقرب منه أحد، حتى في الجاهلية كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم -مع أنهم كانوا مشركين- فيتورع عن أن يناله بسوء إلى أن يخرج من الحرم فيقتله، لكن ما دام أنه داخل الحرم فهو آمن. قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم، ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً )، فالبيت المقصود به الكعبة المشرفة، لكن المراد من قوله: ( وأمناً ) كل الحرم، كما قال تعالى: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] فهنا صرح بالكعبة، لكن هل المقصود الكعبة ذاتها؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يذبح أحد الهدي داخل الكعبة؛ فالمراد: هدياً بالغ الحرم؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط. فقوله: ( مثابة للناس وأمناً ) ليس فقط خبراً أنه آمن، لكنه فيه تكليف، بمعنى: أمِّنوا من يدخله، ولا تروعوا من يدخله، فهو خبر ومقصود منه أيضاً الأمر والإنشاء والتسلية، وهذا ظاهره خبر، والمراد منه الإنشاء وإصدار الحكم الشرعي لتأمين من يدخل البيت الحرام، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون، أهل مكة بالذات لا يقترب أحد منهم، ولا يؤذيهم ولا يروعهم أحد، اعتداداً بحرمة البيت، وهذا الأمان الذي شرعه الله لهم، وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.

البيت الحرام تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37] وهذه آية من آيات الله سبحانه تعالى، إذ تجد القلوب تنجذب إليه مهما كانت التضحية، ومهما كانت الأموال، ومهما كانت المشقة، ومع ذلك فألذ شيء عنده أن يرحل، خصوصاً الذين يأتون من الباكستان والهند، تجد علامات الفقر الشديد بادية ظاهرة عليه، وتجد الرجل قد أتى بزوجته، وربما بأبيه وجده ونسائه وأولاده، تمشي قافلة أسرة واحدة في حالة من الفقر البادي والظاهر عليهم، ومع ذلك يأتون وهم أشد الناس فرحاً بوصولهم إلى هذا البيت الحرام، فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي ظهور أثر استجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام. جماعة من المنصرين في أندونيسيا ظنوا أنهم أفلحوا في استعباد واستغلال الفقر والجهل والمرض عند المسلمين هناك، فأقنعوهم في الظاهر، وانقاد لهم العشرات مقابل الأدوية والأموال والملابس والإعانة؛ لأنهم في حالة فقر شديد، فاستطاعوا أن يغرروا ببعض المسلمين الجهلة، واستجابوا في الظاهر لهؤلاء المنصرين المكفرين المبشرين بالنار، حتى أفلحوا وأخذوهم إلى الكنيسة وعمدوهم في الكنيسة، فقال لهم القسيس بعدما فرغ من تعميدهم: الآن نريد أن نكافئكم على دخولكم في النصرانية، كل واحد يطلب الأمنية التي يحبها، ونحن ننفذها له مهما كانت، فبصوت واحد أجابوا جميعاً وقالوا: الحج إلى مكة! ونسوا كل شيء، لماذا؟ لأن القلوب تهوي إلى هذا البيت الحرام، وكل مؤمن في قلبه إيمان وحب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يجد هذا الانجذاب، وهذا أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: (إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار)، والحرم المكي حرمه إبراهيم عليه السلام، والمدينة جعلها حرماً النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشرعه وشريعته، وما عدا ذلك فكل الأرض حلال، فليس في الأرض حرم إلا مكة والمدينة، وهناك خلاف في واد في الطائف، لكن الظاهر والمشهور أن الحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، والمسجد الأقصى لا دليل على أنه حرم، وكذا الحرم الخليلي، فليسا بحرم، ولا تنطبق عليهما أحكام الحرم، صحيح أن المسجد الأقصى من المواضع الشريفة، لكنه ليس حرماً؛ لأن كلمة حرم كلمة لها حدود وأحكام تخالف بها سائر أرجاء الأرض، فمثلاً: لا يدخلها الكافر، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، وغير ذلك من الأحكام، فلا يوجد حرم خليلي أو حرم إبراهيمي، فضلاً عن حرم الجامعة وحرم كذا وكذا، فكل هذا الكلام لا يجوز، فلا يطلق على هذه المواضع هذا اللفظ الشريف؛ لأن فيه تسوية لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى في غير هذين البلدين.

قوله تبارك وتعالى: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قرئ بكسر الخاء وقرئ بفتحها، إما أنه أمر معترض بين الجملتين الخبريتين أو بتقدير ( واتخذوا )، أي: وقلنا اتخذوا، وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا، فتكون ( واتخذوا ) معطوفاً على جعلنا، أي: اتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله كما ورد عن مجاهد، وعنه قال: جمع (مزدلفة) ومنى ومكة، ويقال: مقامه الذي هو في المسجد الحرام، فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة، يقول القاسمي : أقول كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، ذكرنا من قبل أن البيت المقصود به الكعبة، وهو يطلق على الكعبة، لكن المقصود الأمن داخل الحرم كله، فالمصلي في الحرم كله آمن، إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، فلم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، مع أن هذا هو المعنى، لكنه عدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب الحكيم في قوله تعالى: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ولم يقل: واتخذوا منه مصلى، لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها، حيث أفرده للعناية بها جملة على حدة. ثانيها: التذكير؛ لأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير بأن يحترم ويعظم. ثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، ولم يقل: ومصلى، وإنما قال: ( واتخذوا )، فعدل عن الخبر إلى الأمر، إظهاراً أن هذا تشريع من الله سبحانه وتعالى، فالتنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر تمهيداً للأمر باستقباله، لأن هذه الأجزاء في الآيات كلها فيها إرهاصات بين يدي أمر خطير سيحصل قريباً، وهو تحويل القبلة، فالتنويه بقصة بناء البيت وتشريفه وجعله مثابة للناس وأمناً، ثم الأمر باتخاذه مصلى، إرهاص وتقديم وتوطئة وتمهيد بين يدي الأمر الذي سيأتي قريباً بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فهذا تمهيد للأمر باستقباله، وإلزام لمن جادل فيه وهم اليهود، فإن اليهود جادلوا في تحويل القبلة، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم شرف هذه القبلة الجديدة، وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )) والحديث نصه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية). قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت. ومن ذهب إلى هناك تمكن من أن يراه، وهم يضعونه داخل تلك القبة النحاسية، ويضعون عليه حراسة، لأن كثيراً من الجهلة يعمدون إليه ويتمسحون به، وهذا من البدع والضلال، ومن دقق النظر داخل هذه القبة الزجاجية رأى الحجر بالفعل، وعليه موضع قدمي إبراهيم عليه السلام كالحفر، وموضع القدمين واضح جداً في الحجر نفسه.

يقول ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، فلما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار، وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليه، وهكذا حتى أتم بناء جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري. قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً. ومن تأمل في الجهة الشرقية من الكعبة يجد مكان المقام ما زال واضحاً، يقول ابن كثير : ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمين الداخل من الباب. والحرم كان ضيقاً جداً من قبل، وكأن الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا -والله أعلم- أمر عند الفراغ من الطواف بصلاة سنة الطواف هناك، وناسب أن تكون الصلاة عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، فالذي حوله من المكان اللصيق بالكعبة إلى المكان الموجود الآن هو عمر رضي الله تعالى، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه). قيل: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه.