كتمان الأسرار الشخصية
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
كتمان الأسرار الشخصيةإفشاء السر ينقسم إلى قسمين:
الأول: إفشاء سر النفس.
والثاني: إفشاء سر الغير، وكلاهما مذموم، والأول أهون من الثاني.
أولاً: إفشاء سر الإنسان نفسه:
على الإنسان أن يستعين على قضاء حوائجه بالكتمان، ولا يفشي سره لأحدٍ؛ لأنه ربما يكون ذلك سببًا من أسباب فشله، أضف إلى هذا أنه ربما كان سببًا في ذله لمن أفشى له سرًّا.
• يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "سرك أسيرك؛ فإن تكلمت به صِرتَ أسيره"؛ (المستطرف: 1/ 296)، (أدب الدنيا والدين للماوردي: ص295).
• وقال أيضًا:
ولا تُفْشِ سرَّك إلا إليك
فإنَّ لكلِّ نصيح نصيحَا
فإني رأيتُ غُواةَ الرجا
لِ لا يتركون أديمًا صحيحَا
(كتاب الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: ص451).
• يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما وضعت سري عند أحدٍ أفشاه عليَّ فلُمتُه؛ أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه"؛ (الصمت وآداب اللسان: ص451).
• وورد هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب "المستطرف" (1/ 297) بلفظ: "ما أفشيت سري إلى أحدٍ قط فأفشاه فلمتُه؛ إذ كان صدري به أضيقَ".
• وصدق القائل حيث قال:
إذا ما ضاق صدرُك عن حديثٍ
وأَفْشَتْه الرجالُ، فمَن تلوم؟
وإن عاتَبْتُ مَن أفشى حديثي
وسِرِّي عنده فأنا الملوم
(المستطرف: 1/ 298).
• وقال بعضهم:
فلا تنطِقْ بسرِّك، كلُّ سرٍّ ♦♦♦ إذا ما جاوز الإثنينِ فاشي
(أدب الدنيا والدين للماوردي: ص295).
• وقال أحدهم:
إذا المرءُ أفشى سرَّه بلسانِه
ولام عليه غيره فَهْوَ أحمق
إذا ضاق صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسه
فصدرُ الذي يستودع السِّرَّ أضيقُ
(المستطرف: 1/ 298) (أدب الدنيا والدين للماوردي: ص296).
• وقال حكيم لابنه: "يا بني، كن جَوَادًا بالمال في موضع الحق، ضنينًا بالإسرار عن جميع الخلق؛ فإن أحمدَ جود المرء الإنفاقُ في وجه البر، والبخلُ بمكتوم السر"؛ (أدب الدنيا والدين للماوردي: ص295).
• يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله:
"القلوب أوعية، والشِّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل إنسانٍ مفتاح سره، ومن عجائب الأمور أن الأمور كلما كثرت خزانها كان أوثق لها، وأما الأسرار فإنها كلما كثرت خزائنها كان أضيع لها، وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه، ومنعه من بلوغ مآربه، ولو كتمه أمن من سطوته"؛ (المستطرف: 1/ 296).
• وكان يقال: "أحزم الناس من لا يفشي سره إلى صديقه؛ مخافة أن يقع بينهما شر فيفشيه عليه"؛ (المصدر السابق: 1/ 298).
• ومن الناس من يهتك سر نفسه، فتراه يبيت على معصية، ثم يصبح فيكشف ستر الله عليه، ويفضح سر نفسه، وهذا من الخِذلان.
• فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)).
فعلى الإنسان أن يحفظ سر نفسه، ولا يفشيه لأحد، ومن الأمور التي ينبغي أن يحفظها:
1- أعمال السر التي بينه وبين ربه:
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه[1]، قال: فنقبت أقدامنا[2]، فنقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخِرَق، فسميت غزوة ذات الرقاع[3]، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، قال: كأنه كره أن يكون شيئًا[4] من عمله أفشاه به".
• وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً رائعًا لحفظ السر بين العبد والرب:
فقد ذكر في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
((...
ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شِماله ما تنفق يمينه...))؛ (متفق عليه).
يعني: لو استطاع الإنسان أن يخفي على نفسه لفعل.
• وها هو عبدالله بن المبارك رحمه الله: "يقول عنه محمد بن أعين: "كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم، ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام، ووضعت رأسي كأني أنام كذلك، فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه، فلما طلع الفجر أيقظني، وظن أني نائم، وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنَمْ، فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني، كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنت له من العمل، ولم أرَ رجلاً أسَرَّ بالخير منه"؛ (الجرح والتعديل: 1/ 266).
• ويقول عنه أيضًا عبدة بن سليمان: "كنا في سرية مع عبدالله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفانِ، خرج رجلٌ من العدو فدعا إلى البِرَاز، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، فازدحم عليه الناس، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثِّمٌ وجهه بكمه، فأخذتُ بطرف كمِّه فإذا هو عبدالله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا"؛ (صفوة الصفوة: 4/ 119).
• وها هو داود بن أبي هند رحمه الله: "صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازًا، يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًّا فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهل البيت أنه قد أكل في السوق"؛ (صفة الصفوة: 3/ 300).
• وها هو الربيع بن خثيم رحمه الله تقول عنه ابنته سرية:
"كان عمل الربيع كله سرًّا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه"؛ (حلية الأولياء: 2/ 107).
• يقول ابن قتيبة رحمه الله: "حاصر مسلمة بن عبدالملك حصنًا، وكان في ذلك الحصن نقب - أي ثقب في الحائط - فندب الناس إلى دخوله، فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش - أي من عامته غير معروف - فدخله، ففتح الله عليهم الحصن، فنادى مسلمة: "أين صاحب النقب؟ فما جاء أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل إلى الآذن، فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: "أنت صاحب النقب؟ قال: "أنا أخبركم عنه، فأتى الآذن إلى مسلمة فأخبره، فأذن له، فقال الرجل لمسلمة: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثًا: ألا تسوِّدوا اسمه - أي: لا تكتبوه - في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو؟ - أي: من أي قبيلة هو - قال مسلمة: فذاك له، فقال الرجل: أنا صاحب النقب، فكان مسلمة بعد هذه الحادثة لا يصلي صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب".
2- الأسرار الزوجية:
أوصى رجل زوجته بحفظ السر، فقال لها: "لكل امرئٍ يا أم عمر طبيعةٌ، وتفضيل ما بين الرجال الطبائع، فلا يسمعَنَّ بسري وبسرك ثالثًا، ألا كل سر جاوز اثنين ضائع".
• وأخطر الأسرار الزوجية التي ينبغي أن تحفظ ولا تفشى هي أسرار الفراش، وقد شدد الشرع الحكيم على هذا الأمر لخطورته؛ فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: "أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعودٌ عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر ما فعلت مع زوجها))، فأرَمَّ القوم[5]، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها[6] والناس ينظرون)).
• وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته[7] وتفضي إليه ثم ينشر سرها)).
• وفي رواية عند مسلم أيضًا: ((إن من شر الناس منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)).
• وفي رواية: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)).
• وكما قيل: "أكثر ما يستنزل الإنسان عن سره في ثلاثة مواضع: عند الاضطجاع على فراشه، وعند خُلوِّه بعِرسه، وفي حال سُكره"؛ (الذريعة إلى مكارم الشريعة - الأصفهاني: ص298).
3- قضاء الحوائج:
فقد أخرج الطبراني في "معاجمه الثلاثة" من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمةٍ محسودٌ))؛ (صحيح الجامع: 943).
4- في الحرب:
فلا ينبغي للأمير أن يعلن عن وجهته أو أسراره الحربية؛ حتى لا تنتشر وتصل للأعداء ويأخذوا حذرهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد مكانًا إلا ورَّى بغيره؛ لكيلا تكتشف وجهته.
[1] نعتقبه: أي نتعاقب عليه في الركوب، بحيث يركب كل واحد نوبة، ثم ينزل فيركب الآخر...
وهكذا.
[2] نقبت: أي تقرَّحت من الحفاء وكثرة المشي.
[3] ما ذكر هنا هو الصحيح في سبب التسمية، وهناك آراء أخرى، منها: أنها سميت بذلك باسم جبل هناك، وقيل: باسم شجرة، وقيل: لأنه كانت ألويتهم رقاعًا، ويحتمل أنها سميت بمجموع ذلك؛ (انظر شرح الإمام النووي على مسلم).
[4] في رواية البخاري: "شيء" بالرفع، على أنه فاعل تكون التامة.
[5] فأرَمَّ القوم؛ أي: سكتوا، وقيل: سكتوا من خوف.
[6] فغشيها: أي واقَعها وارتكب معها الفاحشة.
[7] يفضي إلى امرأته: أي يصل إليها بالمباشرة والمجامعة.