أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في صلاة الخوف.

حدثنا محمد بن الصباح أخبرنا جرير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: أن يكون الإمام يصلي بطائفة معه، فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو، ثم ينصرف الذين سجدوا السجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلوا مع أميرهم سجدة واحدة، ثم ينصرف أميرهم وقد صلى صلاته، ويصلي كل واحد من الطائفتين بصلاته سجدة لنفسه، فإن كان خوف أشد من ذلك، فرجالاً أو ركباناً ).

قال: يعني بالسجدة الركعة.

حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة: ( أنه قال في صلاة الخوف، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، ووجوههم إلى الصف، فيركع بهم ركعة، ويركعون لأنفسهم، ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم، ثم يذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة، ويسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين ).

قال محمد بن بشار: فسألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد.

قال: قال لي يحيى: اكتبه إلى جنبه، ولست أحفظ الحديث، ولكن مثل حديث يحيى.

حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عبد الوارث بن سعيد حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف، فركع بهم جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذين يلونه، والآخرون قيام، حتى إذا نهض سجد أولئك بأنفسهم سجدتين، ثم تأخر الصف المقدم، حتى قاموا مقام أولئك، وتخلل أولئك حتى قاموا مقام الصف المقدم، فركع بهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يلونه، فلما رفعوا رءوسهم سجد أولئك سجدتين، فكلهم قد ركع مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد طائفة بأنفسهم سجدتين، وكان العدو مما يلي القبلة ) ].

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في صلاة الكسوف.

حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتموه فقوموا فصلوا ).

حدثنا محمد بن المثنى، وأحمد بن ثابت، وجميل بن الحسن، قالوا: حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير، قال: ( انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعاً يجر ثوبه حتى أتى المسجد، فلم يزل يصلي حتى انجلت، ثم قال: إن أناساً يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك، إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له ).

حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة، قالت: ( كسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام فكبر، فصف الناس وراءه، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة، هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة ).

حدثنا علي بن محمد ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد عن سمرة بن جندب، قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف، فلا نسمع له صوتاً ).

حدثنا محرز بن سلمة العدني حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكسوف، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف، فقال: لقد دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حتى قلت: أي رب! وأنا فيهم؟ ).

قال نافع: حسبت أنه قال: ( ورأيت امرأة تخدشها هرة لها، فقلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض ) ].

صلاة الكسوف شرعت كما لا يخفى إما لخسوف القمر أو كسوف الشمس، والكسوف لا يكون سببه غضب الله سبحانه وتعالى، وإنما تخويف من الله لعباده.

ويظهر والله أعلم! أن من الحكم في ذلك: أن الله جل وعلا يخوف العباد بهذه العلامة، ويشعرهم أن الذي يغير حال الكون بعد انتظام على نسق معين، ويخفي الشمس أو القمر لساعات، قادر على أن يخفيها بالكلية، وأن هذا ضرب من ضروب المشاهدات يوم القيامة من اختلال الكون، وهو ذهاب الكواكب والنجوم، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح من حديث أبي موسى: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماء ما توعد )، (ذهبت النجوم): يعني اختفت عن الرؤية، ولهذا من أمارات الساعة: كثرة سقوط النجوم في آخر الزمان.

فالله سبحانه وتعالى يخوف العباد بضرب مثال أمام الأعين: أن الله جل وعلا ماذا يفعل بالكواكب والأجرام والنجوم، فيرى الإنسان مثالاً لساعات، وهذا من تخويف الله عز وجل لعباده بقدرته، وتذكيرهم بجميل صنعه سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في صلاة الاستسقاء.

حدثنا علي بن محمد، ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة عن أبيه قال: ( أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الصلاة في الاستسقاء، فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد، ولم يخطب خطبكم هذه ).

حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر، قال: سمعت عباد بن تميم يحدث أبي عن عمه: ( أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة، وقلب رداءه وصلى ركعتين ).

حدثنا محمد بن الصباح أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عمه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.

قال سفيان عن المسعودي قال: سألت أبا بكر بن محمد بن عمرو: أجعل أعلاه أسفله، أو اليمين على الشمال؟ قال: لا بل اليمين على الشمال.

حدثنا أحمد بن الأزهر، والحسن بن أبي الربيع قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت النعمان يحدث عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن ) ].

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن شرحبيل بن السمط أنه قال لـكعب: يا كعب بن مرة حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحذر! قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم اسقنا غيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضار. قال: فما جمعوا حتى أحيوا. قال: فأتوه فشكوا إليه المطر، فقالوا: يا رسول الله! تهدمت البيوت. فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، قال: فجعل السحاب يتقطع يميناً وشمالاً ) ].

ولهذا نقول: إن الخطيب في يوم الجمعة يرفع يديه في حالين:

الحالة الأولى: الاستسقاء.

الحالة الثانية: الاستصحاء. يعني: أنه يرفع يديه يريد صحواً بعد غيث.

وذلك للتخفيف عن المسلمين، وهل يلحق في ذلك النوازل والمدلهمات التي تصيب الأمة، كما رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه بالدعاء لتخفيف الغيث، وذلك بورود نازلة؟ الذي يظهر والله أعلم! أنه إذا نزلت نازلة بالمسلمين، من زلازل أو غرق أو جدب أو فقر أو غير ذلك، نقول: إنه يشرع للخطيب أن يرفع يديه، إلحاقاً لها بذلك الأصل، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه في الموضعين، في الاستسقاء وفي الاستصحاء أيضاً، والاشتراك في العلة هو رفع نازلة، فالأولى لرفع القحط، والثانية لرفع الغرق، فكل نازلة يشرع لها رفع اليدين على الصحيح.

قال: [ حدثنا محمد بن أبي القاسم أبو الأحوص قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثنا حصين عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس، قال: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل. فصعد المنبر فحمد الله، ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً غير رائث، ثم نزل، فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا: قد أحيينا ).

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عفان قال: حدثنا معتمر عن أبيه عن بركة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى حتى رأيت -أو رئي- بياض إبطيه ).

قال معتمر: أراه في الاستسقاء.

حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا أبو النضر قال: حدثنا أبو عقيل عن عمر بن حمزة قال: حدثنا سالم عن أبيه، قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فما نزل حتى جيش كل ميزاب بالمدينة، فأذكر قول الشاعر:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وهو قول أبي طالب ].

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في صلاة العيدين.

حدثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن أيوب عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: ( أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الخطبة، ثم خطب، فرأى أنه لم يسمع النساء، فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة. وبلال قائل بيديه هكذا، فجعلت المرأة تلقي الخرص والخاتم والشيء ).

حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد بغير أذان ولا إقامة ).

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد، قال: ( أخرج مروان المنبر يوم العيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان! خالفت السنة، أخرجت المنبر يوم عيد ولم يكن يخرج به، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يبدأ بها. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكراً فاستطاع أن يغير بيده فليغير بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) ].

وهذا دليل على أن الإنكار على الوالي يكون على حالين:

الحالة الأولى: أن يكون ذلك المنكر يصدر من الوالي في خاصة نفسه، أو فعله في بيئة أو دائرة ضيقة فينكر عليه بمثل ذلك أو دونه، ولا يشهر به، فإن هذا يكون من إذاعة الشر المنهي عنه، وهو أيضاً مجلبة للفتنة.

الحالة الثانية: أن يقع منه شيء من التشريع والمخالفة العلنية في الناس، وهذا أيضاً على حالين:

الحالة الأولى: أن يقتدي به الناس، ويظن أن يؤخذ قوله بالاتساء والاقتداء، فيقال حينئذ: ينكر عليه ذلك علانية، بما يبين الحق ويعيد الأمور إلى نصابها.

الحالة الثاني: إذا غلب على الظن أن الناس لا تقتدي به ولا تشرع قوله، وإنما هي من الزلة العابرة التي ظهرت منه، حينئذ تقدر بقدرها وينكر بينه وبينه، حتى لا يكون ذلك مدعاة إلى التمسك والعناد، فإن من الحكم الشرعية في ذلك أن يجعل الأمر في دائرة ضيقة، وهذا من مقاصد الشريعة.

قال: [ حدثنا حوثرة بن محمد قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، وعمر، يصلون العيد قبل الخطبة ) ].

ولا خلاف بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في أن الصلاة تكون قبل الخطبة، ثم تكون بعدها الخطبة، وقد حكى السمرقندي في كتابه تحفة الفقهاء: أن الصحابة أجمعوا على ذلك، ولا يعرف فيهم مخالف، وأن أول من بدأ ذلك هو من طبقة التابعين.

وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن الكبر ربما يدفع الإنسان إلى شيء من الإحداث والابتداع، ولو في الأزمنة الفاضلة، ومخالفة هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما حمل مروان على هذه المخالفة أنه إذا صلى وجعل الخطبة بعد الصلاة فإن الناس ينصرفون، باعتبار أن السماع مستحب، والواجب في ذلك هو أداء الصلاة لمن حضرها، على خلاف في المسير إليها ابتداءً، فرأى أن يجعل الخطبة قبل الصلاة ليضطر من حضر لانتظار الصلاة، للأنفة من انصراف الناس من بين يديه.

وبهذا نعلم أيضاً: أنه ما من أحد يخالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام إلا وله تعليل ونظر وتأويل، وتأويله في ذلك أنه يريد إسماع الناس الخير، وأنه يريد حبسهم للانتفاع، وهذا لا شك أنه في معارضة ومقابل الوحي والنص الثابت المتقرر، وليس للإنسان أن يقدم أو يؤخر، أو يزيد أو ينقص في شيء من أحكام الشريعة، لعلل في مثل ذلك، وأولى ما يكون فيه التغيير، وحفظ المقام في مثل هذا، هو للنبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك أثبتها النبي عليه الصلاة والسلام.

كذلك الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وبقوا على ذلك، ولا شك أنه كان يوجد أفراد يخرجون ولو لم يكونوا كثراً، ومع ذلك التزم الخلفاء ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدي.

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين.

حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين، في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة ).

حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يعلى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة العيد سبعاً وخمساً ).]

وهذه التكبيرات بينها سكتة، وليست متوالية، وقد حكي الإجماع على هذا، وبقي عليه العمل، وحكى أبو المعالي برهان الدين الحنفي ومحقق الحنفية إجماع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى واتفاقهم على أن التكبيرات لا تكون متوالية، يعني: لا يقول إنسان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا، وإنما يكبر ثم يصمت، ويأخذ هنيهة ثم يكبر.

قال: [ حدثنا أبو مسعود محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة ).

حدثنا حرملة بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن خالد بن يزيد وعقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في الفطر والأضحى سبعاً وخمساً، سوى تكبيرتي الركوع ) ].

وثمة خلاف فيما يتعلق بالتكبيرات، هل يدخل في تعدادها تكبيرة الركوع، وكذلك تكبيرة الإحرام؟ والخلاف في تكبيرة الإحرام أقوى من الخلاف في تكبيرة الركوع، وذلك أن الجماهير على أن تكبيرة الركوع داخلة ضمن التكبيرات، جاء هذا عن جماعة من الفقهاء، بل حكاه الكاساني أنه مما أجمع عليه الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف في هذا، وهي أيضاً من المسائل التي وقع فيها خلاف عند المتأخرين، وذلك لوجود الأحاديث المتعارضة في هذا الباب.

قال المصنف رحمه الله: [ باب ما جاء في الخطبة في العيدين.

حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت أبا كاهل-وكانت له صحبة-فحدثني أخي عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة، وحبشي آخذ بخطامها).

حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن عائذ-هو أبو كاهل- قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة حسناء، وحبشي آخذ بخطامها ).

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن سلمة بن نبيط عن أبيه: ( أنه حج، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بعيره ).

حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده، قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين ) ].

جاء في التكبير جملة من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، في التكبير في ثنايا الخطبة وتضاعيفها، وكل ما جاء في هذا الباب فهو معلول.

قال: [ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله قال: أخبرني أبو سعيد الخدري، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد، فيصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم، فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس، فيقول: تصدقوا تصدقوا، فأكثر من يتصدق النساء، بالقرط والخاتم والشيء، فإن كانت حاجة يريد أن يبعث بعثاً ذكره لهم، وإلا انصرف ).

حدثنا يحيى بن حكيم قال: حدثنا أبو بحر قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: حدثنا أبو الزبير عن جابر، قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام ) ].

والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته للعيدين أنه خطب الرجال، ثم ذهب إلى النساء عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه غلب على ظنه أنهن لم يسمعن، فانصرف إليهن.

وفي هذا: أن خطبة العيد واحدة إذا انفصل الرجال عن النساء، وإذا كان الرجال مع النساء فهو على حالين، إما أن يخطب خطبتين ويوجه الرجال في الأولى والنساء في الثانية، أو تكون خطبة واحد يوجه الرجال ويوجه الخطاب عموماً للرجال والنساء في شطرها الأولى، ويجعل شطرها الأخير للنساء، ويجزئ عنه.